طوني سماحة
الحوار المتمدن-العدد: 6535 - 2020 / 4 / 12 - 03:30
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"القبر فارغ، القبر فارغ"، هتفت المريمات حائرات بعدما أتين لتحنيط جسد الرب. الحجر كان مدحرجا وجسد المسيح قد اختفى. كانت الدموع تنهمر على وجه مريم المجدلية، فآمالها قد تحطمت نهائيا. الرجل الذي أخرج الشياطين منها انتهى على الصليب كمجرم. كانت مريم في تلك اللحظة تريد ان تحنط جسده اعترافا منها بفضله عليها وحبها له. شاهدت رجلا خارج القبر، ظنت انه البستاني ولم تكن تعلم انه يسوع المقام، فقالت له " يا سيد، إن كنت انت قد حملته فقل لي اين وضعته وانا آخذه". قال لها يسوع "يا مريم". نفذ الصوت الى أعماق المرأة الباكية كالصاعقة. لم يكن صوت الرجل مألوفا فقط، بل أكثر من ذلك، كان يحيا معها في داخلها، حتى بعدما صلب صاحبه. هذا الصوت لازمها كروحها. التفتت تلك (أي مريم) وقالت له "ربوني" الذي تفسيره يا معلم. قال لها يسوع لا تلمسيني...لكن اذهبي الى اخوتي وقولي لهم اني اصعد الى ابي وابيكم والهي والهكم". فجاءت مريم المجدلية واخبرت التلاميذ انها رات الرب وانه قال لها هذا. (مقتبس من انجيل لوقا 20).
لم يحظ حدث تاريخي بالاهتمام الذي حصل عليه صلب المسيح وقيامته. أرّخ تلاميذ المسيح الاربعة متى، مرقس، لوقا ويوحنا الحدث. متى ويوحنا عاشا مع المسيح منذ بداية دعوته وحتى صلبه وقيامته، وكانا شاهدي عيان على كل ما صنعه يسوع. مرقس هو تلميذ بطرس ومدوّن انجيله وهو على الارجح كان شاهدا على حياة يسوع وصلبه، إذ ان الكنيسة الاولى كانت تجتمع في بيت امه. لوقا هو طبيب أممي تتلمذ على يدي بولس الرسول، وكتب انجيله بناء على شهادات ومقابلات أجراها مع الذين عايشوا المسيح مثل الرسل ومريم العذراء، وذلك واضح في بداية انجيله الذي كتبه ليوثق الاحداث لرجل نبيل اسمه ثاوفيلوس "رأيت انا اذ قد تتبعت كل شيء من الاول بتدقيق ان اكتب على التوالي اليك ايها العزيز ثيوفيلوس، لتعرف صحة الكلام الذي عُلِّمت به" (لوقا 1). كان لوقا طبيبا صاحب ثقافة عالية كما يستدل من اسلوبه في الكتابة وسرده وتأريخه وحرصه على الدقة في اختياره للحدث. تخلى لوقا عن ممارسة الطب بعدما تعرف على بولس ولازمه خادما للكلمة. من الغرابة بشيء ان يؤمن رجل مثل لوقا بقيامة المسيح وهو اليوناني الثقافة، السوري الجنسية من مدينة انطاكية كما نستدل من كتاب القديس ايرانيوس (Irenaeus )، "ضد الهرطقات" العائد الى النصف الثاني من القرن الثاني (نقلا عن موسوعة بريتانيكا).
كان المثقف اليوناني، في عهد لوقا الانجيلي، يؤمن بالحياة بعد الموت، لكنه لم يكن يتقبل فكرة قيامة انسان من الموت وعودته للحياة. تخبرنا الاساطير اليونانية عن بعض الناس الذين ماتوا ليصبحوا في مصاف الآلهة مثل آخيل (إلياذة هوميروس). لكن هذا الامتياز ما كان ليحصل الا لمن هم ابطال حرب او انصاف آلهة، مثل هركوليس الذي كان والده زوس رئيس الآلهة وامه بشرية. لكن ان يؤمن مثقف يوناني مثل لوقا بقيامة رجل يهودي مثل يسوع من الموت، هو شيء مستغرب، خاصة ان الامم كانوا ينظرون للديانة اليهودية بازدراء وان يسوع لم يكن نبيلا او بطل حرب. وتزداد الغرابة عندما ندرك ان عددا هائلا من الامم، نبلاء وعامة، انكبوا على الايمان الجديد وعلى التعليم الجديد بالقيامة من الموت، وقد دفعوا في سبيل هذا الايمان سجنا وعذابا واضطهادا ورفضا ونبذا وتخلٍّ وتجريدا من الوظائف، وفقرا، وصلبا او قطعا للرأس. من المؤكد ان لوقا شاهد او على الاقل ادرك، أن أباه الروحي بولس فضل وضع عنقه تحت سيف الجلاد على ان ينكر معلمه، وان بطرس أنهى حياته معلقا على الصليب (حسب التقليد رأسه الى الاسفل ورجلاه الى الاعلى) في سبيل سيده. سؤال هنا يطرح ذاته لماذا يصر لوقا الاممي على الايمان بالمسيح بعدما شاهد بطرس وبولس يدفعان حياتهما ثمنا لايمانهما؟ ولماذا ارتضى بولس المفكر والفيلسوف والمثقف حامل الجنسية الرومانية ان يفقد رأسه؟ ما الذي جناه من ايمانه؟ بولس، ليس فقط لم يجن شيئا من ايمانه، بل اكثر من ذلك، كتب في رسالته الى أهل فيليبي "لكن ما كان لي ربحا، فهذا قد حسبته من اجل المسيح خسارة". وفي رسالة بولس الثانية الى اهل كورنثوس نقرأ "ثلاث مرات ضربت بالعصي، مرة رجمت، ثلاث مرات انكسرت بي السفينة، ليلا ونهارا قضيت في العمق". لقد خسر بولس مكانته الاجتماعية وهو الذي كان قبل ايمانه بيسوع مقربا من رئيس الكهنة، وله مستقبل واعد كونه تتلمذ على يدي غمالائيل. لا تتوقف القائمة عند بطرس وبولس، انما نرى الاثني عشر تلميذا، باستثناء يوحنا الحبيب، قدموا اجسادهم للسيف والصلب والنار والرجم. وحده يوحنا الحبيب لم يمت بالسيف او الصلب انما قضى منفيا على جزيرة بطمس. ومن بعد الرسل، يجري نهر الشهادة المسيحية، فيواجه المؤمنون سيف روما بالكلمة ويهبون انفسهم لانياب الاسود شهادة لسيدهم ويلفظون النفس الاخير من حياتهم وهم يباركون قاتليهم وراجميهم.
في لحظة ما، بدا للاثني عشر ان اللعبة انتهت. خاضوا معركة انتهت بهزيمة نكراء. يسوع الذي عقدوا الآمال عليه، اقتيد الى بيلاطس وتم الحكم عليه بالموت. معظمهم هربوا والآخرون تتبعوه بخوف على طريق الجلجثة. شاهدوا المعلم مهانا ومذلولا على الصليب. لم يجرؤوا على مرافقة يوسف الرامي ونيقوديمس ليدفنوا سيدهم. هربوا واختبأوا في علية. اغلقوا الابواب خوفا من هجوم اليهود عليهم. لا شك انهم كانوا ينتظرون هدؤ العاصفة قبل ان يعود كل منهم الى بيته وقريته وعمله. لكن وفي لحظة يتيمة، علا صراخ نسوة من الخارج يقول "القبر فارغ. السيد ليس في القبر. هو قد قام". في هذه اللحظة الفريدة عاشوا مزيجا من مشاعر الخوف والامل والاحباط. في هذه اللحظة ابتدأت الروح تعود اليهم. العقل يقول ان السيد قد مات وان الكل قد انتهى، والقلب يقول ان السيد غلب الموت بالموت وقام. في هذه اللحظة، تحرر بطرس ويوحنا من عقدة والخوف و ركضا الى القبر وهما يصارعان الضياع والشك والريبة واليقين. وصلا، دخل بطرس اولا. كانت الاكفان ملفوفة وموضوعة في مكان وحده. وكان القبر فارغا. السيد قد قام.
مع القبر الفارغ اخذت الحكاية مسارا جديدا. الهزيمة تحولت نصرا. الكآبة تبدلت احتفالا وفرحا. الاحباط صارعزيمة واصرارا. السكوت صار صياحا والخوف صار شجاعة. مع القبر الفارغ يأخذ التاريخ منحا جديدا. روما الامبراطورية الحديدية، عدوة المسيحية الاولى، تحولت فيما بعد مركزا للاسقف المسيحي الاول. فلسفة اثينا تعثرت امام حكمة المصلوب. ظنت روما انها بسيفها تستطيع ان تخرس الالسنة، لكن كلما كانت تسيل نقطة دم على الارض كانت العشرات والمئات والآلاف من الالسنة ترتفع تشهد للسيد المسيح.
ألفا سنة مضت على اكتشاف القبر الفارغ. تبدلت دول وحكومات وامبراطوريات. الكثير منها استخدم السيف او المدفع والبارود ليسكت صوت هذا الرجل الذي عاش وضيعا، ومات مصلوبا. لكن وفي كل مرة كان السيف يضرب يمينا او شمالا كان القبر الفارغ يقف شامخا، علامة على مدى الدهور، تردد حيطانه اصداء قول الملاك للمريمات " لماذا تطلبن الحي بين الاموات؟ ليس هو ههنا، لكنه قام".
#طوني_سماحة (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟