الرسالة

محمد أبو قمر

الحوار المتمدن-العدد: 6504 - 2020 / 3 / 2 - 20:33
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

قرأت نعي الأزهر في وفاة محمد عمارة ، وحين تتأمل في صيغة النعي تكتشف أنه رسالة أكثر منه نعيا ، رسالة موجهة إلي القيادة السياسية وإلي الشعب المصري وإلي كافة مفكري ومثقفي التنوير في مصر وربما إلي علماء الأمة العربية ومفكريها ، إذ يذكرنا النعي بوجود ما يسمي هيئة كبار العلماء ، ويقول النعي نصا في إحدي فقراته ( إن رحيل الدكتور محمد عمارة ترك فراغا يصعب ملؤه في صفوف كبار العلماء الذين يحملون أمانة العلم ) ، وكأن العلم موقوف ومقصور علي أعضاء هذه الهيئة ، وأن ما عداهم من العلماء في كافة مناحي العلوم يفتقدون هذه الأمانة أو أنهم مجرد هواة أو حفنة من المراهقين وربما مجرد بياعين بطاطا.
ثم ما هو هذا العلم الذي يعيد تدوير معارف الماضي والذي يتجاهل تاريخ الإنسانية ويعتبر أن الكون لم يبدأ حياته إلا مع ظهور الاسلام ولم تكن هناك حضارت وشعوب أنجزت علوما وفنونا وفكرا وفلسفة مازالت تلعب أدوارا مهمة في التطور الحضاري والتقني والفني والانساني في مختلف أنحاء العالم.
ما أعرفه أن العلم هو الذي يطور الحياة ، هو الذي يغير أنماطها ، وينتج طرقا أخري أكثر رقيا للعيش ، وهو الذي يحرر الإنسان من مخاوفه ويطلق العنان لقدراته الإبداعية ويجعله أكثر فهما لنفسه وأكثر وعيا بوظيفته كمخلوق عليه أن يجمل الحياة في وجه خالقه ويملأها بالحب والألفة والطمأنينة.
التكفير والكراهية والطائفية وادعاءات التميز والاصرار علي إجازة نكاح الصغيرة واحتقار المرأة وإعادة تدوير معارف الماضي ليس علما ، فعلي سبيل المثال ليس تاجر المصابيح الكهربائية كمخترعها ، تاجر المصابيح مجرد تاجر يقوم فقط بتداول المصابيح بيعا وشراء كي يربح لكن من اخترعها عالم غيّر وجه الحياة وطورها ومن ثم غيّر مفاهيم البشرية عن الضوء وفتح المجال واسعا ليتغير نمط الحياة تغيرا شاملا ومستمرا ولا حد لتطوراته.
إن ذلك يدفعني إلي التساؤل عن ماهية هذا العلم الذي تلقاه شخص مثل عبدالله رشدي أو سالم عبد الجليل وكثير من أمثالهما ، كيف يمكن تسمية ما تلقاه شخص علما وهو كلما تحدث حدث خلل ما في تركيبة المجتمع وشاعت الكراهية وانتشرت حالات اليأس من تعديل صورة المرأة في ذهن الرجل ، ما هو العلم في الحديث عن ضرب المرأة مهما كانت الوسيلة المستخدمة في ضربها ، ما هو العلم في قتل تارك الصلاة أو في التحديد القاطع لمصير خلق الله سواء في الجنة أو النار ؟؟!!

أي فراغ إذن يتحدث عنه النعي ، فإن ماكتبه محمد عمارة في مرحلتيه الماركسية والاسلامية متناثر في كتب من سبقوه وفي كتب معاصريه ولم يلحظ المهتمون بالفكر والثقافة فيما أداه الرجل في مرحلتيه أي تجاوز معرفي لما أداه السابقون سواء مغكري الماركسية أو فقهاء الاسلام.
وحين أعود لمثال الفرق بين تاجر المصابيح الكهربائية ومخترعها فإن تاجر المصابيح يذهب فيحل مكانه ألف تاجر آخر ، لكن مخترع المصباح يحتاج تعويضه إلي قواعد أخري لتشكيل هذه العقلية الفذة المبدعة التي تقوم بدور فعال في تغيير وجه الحياة.
قلت إنني أعتقد أن نعي الأزهر للدكتور محمد عمارة كان بمثابة رسالة أكثر منه نعيا ذلك أن صيغة النعي توحي بقطع الطريق أمام هذا النقاش الدائر بصدد إعادة النظر في الخطاب الديني ، إذ يتحدث النعي عن مصنفات الرجل الملوءة حكمة وعلما ومعرفة وعن إسهاماته الكبري في إثراء الفكر الإسلامي ، ثم يقول النعي نصا عن هذه الإسهامات ( التي ملأت الدنيا وغطت كل القضايا الفكرية "العامة" و " المعاصرة" ) ، فإذا راجعنا آراء الرجل فيما يتعلق بالدولة الاسلامية ، أو استعدنا مواقفه من الغرب الصليبي كما يسميه دائما ومن المنجزات العلمية للغرب عموما ، أو مواقفه المؤيدة للإخوان ، أو إفراده عددا خاصا من مجلة الأزهر للحديث عن الإمام الشهيد حسن البنا كما يسميه ، أو بيانه الشهير بخصوص فض اعتصام رابعة ، أو تشدده وتصلب أطروحاته في المناظرة التي كانت سببا مباشرا لمقتل فرج فوده ، إذا راجعنا دوره عموما في إعادة تدوير معارف الماضي فإن العبارة التي تتحدث في النعي عن إسهاماته والتي تقول إنها ملأت الدنيا وغطت كل القضايا الفكرية العامة والمعاصرة تعني بوضوح أنه قد رفعت الأقلام وجفت الصحف ، فلا فكر علي وجه العموم بعد ذلك ، وأن أي حديث عن تجديد الفكر أو إصلاحه أو تغيير دفته أو أي محاولة لإعمال العقل هي من قبيل التجديف وتعتبر حربا معلنة علي الاسلام ، فما الذي يمكن لأي مفكر آخر فعله بعد أن ملأت إسهامات واحد فقط من أعضاء هيئة كبار العلماء الدنيا وغطت تماما كل القضايا الفكرية العامة والمعاصرة؟؟!!!!.
وفي الحقيقة فأنا لا أعرف عن أي دنيا يشير النعي إلي امتلائها بإسهامات الرجل ، ولا أعرف كيف غطت إسهاماته كل القضايا الفكرية العامة والمعاصرة ، فالمبالغة أحيانا تحمل في طياتها قدرا لا بأس به من القهر والتغييب والتسلط ، فالدنيا واسعة وهائلة وشديدة التنوع ، والقضايا الفكرية متجددة دوما وكل يوم تبرز قضية أخري تحتاج إلي معالجة وإلا تعفن العالم.
الرسالة إذن التي جاءت علي صورة النعي تؤكد السلطة الفكرية والثقافية لرجل الدين وتقطع الطريق تماما علي أي محاولة لنقد الخطاب الديني .

#محمد_أبو_قمر (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات