|
نصوص لم تكتمل
هاشم عبدالله الزبن
كاتب وباحث
(Hashem Abdallah Alzben)
الحوار المتمدن-العدد: 6495 - 2020 / 2 / 20 - 20:00
المحور:
الادب والفن
تحذير-إذا مزاجك سعيد لا تقرأ
/* مجموعة نصوص، كتبتها خلال الفترة من تشرين الأول/أكتوبر عام2019، حتى شباط/فبراير من هذا العام.
إهداء: إلى فتاة تُبثُّ السرور في حياتي، وإسمها سارة.
كنتُ دائمًا ألوذُ بي-أحتمي عن الخارج بكُتلتي الضئيلة. والخارج مليء.. واضح وغريب ومألوف... الخارج متاهة واسعة ونفق ضيّق طويل ومكان بلا معالم ومعالم-ملامح كثيرة... جدًا كثيرة. أكثر مما يُحتمل... كنت دائمًا أبحث عن نصر حتميّ... عن حقيقة غائبة.... عن واقع لطيف... عن سبب/مُبرر لكل شيء. لا أحتملُ الخطأ... كنت واهمًا بشأني، بأني لن أكون إلا بطلًا... إلا حقيقيًا. صحيحًا... وخانتني الفكرة/أو توقعاتي بشأن كل شيء كانت خيالية، وفجأة وبشكل تدريجي خفي وجدتني كأنني مهزوم بلا سبب للهزيمة... أو بسبب لم أتوقعه، كأنني إمتداد لهزائم أمتي... كأنني جزء من كلٍّ مهزوم بشكل كان محتوم، وما زال. المؤلم هو اللافهم... أن لا تستطيع تحليل الأحداث ومعرفة أين الخلل؟ من هذا المأزق يولد شيء ما محسوس... شيءٌ ما يُشبه الموت أو البلوغ العقلي بعد عُمر طفولة عقلية لا تعرف الكثير عن الحياة. كان وجه الحياة شيء وصار شيءٌ آخر، مُختلف تمامًا. كأنه إنسلخ بكليّته عن ما كانه، وفي هذا الأمر شيءٌ من اللامعقول.
اللامعقول، بعد اللافهم... بعد ذلك وبسرعة تغرق في الإرتياب وبأن كل شيء له وجهٌ آخر مُختلف تمامًا. بأن ثمة خديعة حتمية ومستمرة. أنت مخدوع بشكل أو بآخر، واهم أو غارق في وهمك. كأنك في دائرة ضمن دوائر لا نهائية... وبالتالي تلعن عقلك ودوائرك، تبدأ بلعن كل شيء وتكفر بكل شيء. الخواء القويّ يبتلعك دون مُقاومة. كمهزوم لا يملك من أمره شيئًا... بعد هزيمته... بعد أن ألقى سلاحه وأقتنع بالهزيمة. بعد أن حاول سواء بإصرار أو فقط كواجب. مهزومٌ ولاجدوى قوية/عظيمة تُحاصرك. أفكارك مبتورة ولا تصلُ بك لفكرة إنما ترميك في وهاد الظلمة واللامعنى... والموت/الفناء في آخر الأفكار، ورؤيتك للأمام. كأنك اليوم إمتداد لفكرة موت أمسية... كأنك اليوم في آخر رؤية الأمس.
الأشياء تنسابُ منك كقطرة ماء في كفك. كقطرةٍ تجفُّ بسرعة، وككف لا تحتفظ بشيء، ترتخي بسرعة. تتسارع الأشياء. تتجاوزك. لن تلحق بها... لن تُدركها. وأنت الآن. ألفُ أنت... وغدًا أنت جديد. أنت القُدماء تعرفهم... ليس جميعهم، لكنهم لم يغادروك كمدينة تاريخية، إكتست بألوان عصريّة، أنت مدينة من الأشباه/المُختلفين. تحنُّ لأنت... أنت القديم في وقت ما. كيف سأبتكرُ شيء جديد؟ مللتُ/متُّ من البديهي والمفروض. لماذا لا أختلقُ واقعي؟
***
أنا مَن أنا؟ ومَن هُم؟ جميعهم لا يعنون لي شيئًا. ليس لأنهم كذا وكذا... بل لا أدري. لا أفهم عدم إستقراري معهم. كأنني محكوم بقوة لا رادّ لها، هذه القوة... هذا الشيء يبدو كأنه جدارٌ كبير يحول بيني وبين خارجي، كأنني بئر عميق مُظلم تُغطيه قشور برّاقة... بسرعة تزول القشور، وتَظهر البئر. الفراغ المُعتم الواسع بلا حدود. ربما هذه طبيعة بشرية لم يدركها إلا قلّة... لكنها تتناقض وطبيعة الإنسان الإجتماعي. هل هو صِدام ما بين جوهر وقشور؟ هل هي أخطاء مُقابل صِحاح أو العكس؟ هل هي معركة مُستمرة تنتهي بإستسلام ذات أمام... كل شيء؟! وإستسلام هذه الذات هل لأنها ضعيفة كونها جزء ضد كل؟ لا أدري أكتب وأنا مليء جداً بفوضى عارمة.
هل سأحتمل هذا الكم الهائل من اللاشيء الكثير؟ نعم ربما سأحتمل، لأنني سأعيش. لن أستسلم على الأقل في المرحلة الراهنة. ربما سأبلغ من العمر عتيًا... هل مرور الوقت والعمر سيُحطم غروري الذاتي؟ وسأمتنع عن رؤيتي في مرآتي... وسأغضُ طرفي وسيُعمى بصري عن رؤية التفاصيل؟ وسأقبل الهزائم وأستسلم للحياة وأنتظر وفاتي بخوف ونُكران!
الذي أعرفه هو بأن القوة تحدث بعد مرور الضعف الكثير، والمعرفة تُفضي إلى الحكمة والحياة ليست سوى لحظات من عمر الكون الكهل الأبديّ. والإرادة هي الشيء الذي نفتقده ونملأ مكانه بالأوهام والخِداع الكثير... إرادة تعني قوة!
والتغيير للأحسن لا يحدث إلا بإرادة، والإرادة ثمرة الإصرار والرغبة. واقعنا رديء... رديء بصوت يملأ الأماكن ويتساقط على الرؤوس النائمة والهائمة. والحماقة واللاشعور باتت أنماط حياة والجماعة باتت إله ونهج حياة! أصبح الفرد آلة واهمة مليئة بالإدّعاء والسطحية. والجميع فوق خشبة مسرح يقومون بأدوارهم بإتقان وداخلهم وهم شاسع... فراغ كبير. ولادات وحياة رتيبة وتكرار وخوف وسير حثيث وراء-على خُطى قديمة وجديدة، نحو موت. أثناء السير العبثي لا ندري متى نُعدم!، وهكذا نُمعن في غيّنا وشقائنا.
***
ساحة وطلاب وطالبات كثيرون... يجيئون ويذهبون. كل شيء أنيق ويكاد يلمع. تكاد الأجساد تتطاير من زهوها وشعورها بالتفوق... هكذا أرى المشهد أمامي: ساحة مليئة بالأناقة والشباب، وعامل النظافة/رجل مُسن يرتدي روب أزرق شاحب ووجههُ شاحب. كلّهُ شاحب.
لا أستطيع مُساعدتك، وآسف لأنني أجلس وأنت تعمل ويبدو قهرك واضحًا على مُحياك... أعقاب السجائر على الأرض كثيرة ولا تنتهي. يُدّخنها الشباب المكبوت واللاهث بأنظاره نحو الأجساد الأنثوية... أنا يا رفيق - ولا أدري هل يحق لي أن أقول عنك رفيق - أنا من هؤلاء الشباب للأسف... وألعن هذا الإنتماء وأكفرُ به.
نفاياتنا كثيرة... لأننا حيوانات. تنظر إليّ بعين كسيرة كأنك تعتذر عن شيء ما. أكتفي بإبتسامة أدري باهته، وأنطق ببلاهة: يعطيك العافية.
*** "فاقدُ الشيء يُعطيه"
بين الناس الغُربة الكثيفة والهشّةُ تملأني. بين الناس تندثر البساطة... يختفي الحُب... وعلى الوجوه ترتسم ملامح البؤس/الشقاء... على الملامح تُشاهد الواقع... ترى بوضوح الموت الحيّ. كل شيء يدعو للموت... للنهاية.
***
عبثًا تقاوم. عندما تجد نفسك في خضم واقع رديء، نعم رديء وجدًا رديء. عند ذلك الإدراك تبدأ تُقاوم. لكن عبثًا... مُجرد فشل يتكرر بإستمرار. أنت تقاوم لحماية "جماليات" نَمت في داخلك وأجتاحتها عواصف الرداءة الخارجية. وفجأة رأيتَ "جمالياتك" في خطر بل بدأتْ تنهار وتتدمر... ماذا لو أنك واهمٌ جدًا؟
"ماذا لو؟" جُملة تُعيد ترتيب فوضى أو تُقوّض نظام كان يبدو ثابتًا. وكل شيء مُختلف وسيختلف، والثبات أمر يعني الذاكرة الملعونة. والوهم بحر كبير وعميق، ونحنُ فوق هذا البحر أو غرقى، والغريب هو أن الغريق لا يُدرك غرقهُ عادةً!
أتوقُ لشيء بعيد أو مُستحيل أو مُمكن لكنه صعب. دائمًا ما تُعيقني محدوديتي الجسدية، ومزاجي الكئيب يلوّن أيامي بلون واحد، دائمًا أرى الأشياء بشكل آخر. أراها من زاويتي ومعرفتي بأن ثمة زوايا أخرى... مشهد آخر أو مشاهد لا أدركها... هذه الحقيقة تُغرقني بالشك واللايقين. دائمًا لا أكون راضيًا. في داخلي يضطربُ غضبي.. رفضي... وأنفجرُ بشكل داخلي، وتظهر على ملامحي دموية ما يحدث في داخلي. أتوقُ لحياة تمامًا تختلف عن هذه الحياة. ولموت كريم وشريف... حياتنا هذه تتجسد فيها معاني الهوان والذُل والعبودية. كل شيء باهت وبلا معنى وغبي. ثمة لا معنى كبير يبتلعنا ويلفظنا في كل يوم على شكل مُضغ مُشوهة.
***
أظن بأن تلف ما حدث في دماغي... تلوُث عكّر صفوي أو تغيُّر طرأ وقلب كل شيء رأسًا على عقب... لا أدري، لكنني أشعر بأنني "بلا توازن". ثمة إهتزاز عنيف يحدث في أعماقي... في عُمقي شيء ما مات أو تغيّر تمامًا... لا أدري، لستُ خائف... تجاوزتُ الخوف والآن أنا بحاجة وضوح فقط. أرغب بإنقطاع عن الخارج، وبأن أنطوي عليّ، لا لأستغرق في مأساتي التافهة ولو عظمت... بل لأرتاح من بلادة الخارج وسخريته... لأن الشعور الشخصي لابدّ يُعمم، فأنا حزين لا أفهم سعادة الخارج وفرحه، تشرين الأول، خريف وبقايا صيف وجو غير مُستقر. رائحة الهواء لذيذة والبرد يُفاجئ الجسد ليمرض ويُعاني الحُمّى والزكام وإلتهاب الحلق... الصيف مضى وشتاء العام الماضي كذلك والعمر يمضي ليترك وراءه لحظات أبدية وحياة قائمة نهرب إليها أو منها... نفهمها بعد مُضيّها. تلك اللحظات تُصبح كصورة أمامنا، نُمعن النظر إليها نرى التفاصيل بشكل أوضح، ولكن ما الفائدة؟ إلا الغرق في الأمنيات المُستحيلة وقد نندم إزاء بعض الأمور ونشتاق ونرتطم بحاضرنا الذي هو إمتداد للماضي... الحاضر دائماً كريه أو غير مرغوب، والماضي سجن والمُستقبل لا جدوى منه... مع ذلك لن نموت قبل الأوان، وثمة خطر أن نموت فجأة، وهو موت إجراميّ عبثي.
***
بلادي مليئة بالحجارة والأشجار المُرهقة والأحلام التي تتبخر والرغبات التي تموت شابة وبلا سبب وجيه لموتها المُفاجئ. حتمية موتها-الرغبات وبأنها كانت حقيقية وتبدو مشروعة مُمكنة، لابد منها لتكون الحياة بأقل الأوصاف تستحق أن تُعاش... لكنها تنطحن وتبيد تلك الرغبات تحت تدمير مُستمر ومحتوم... نحن نعيش حياتنا اليومية وفق "إعتباط" الأقدار وتحت رحمة الحوادث والمُمكنات وحتى المُستحيلات، جُثث هامدة لرغبات لم تتحقق. تعب كبير له صوت واضح ومسموع في كل الزوايا. حياة مهدورة بلا تفسير. هزائم حتمية/مفروضة، أرواح لا تحتملها الأجساد، ربما الروح وهم؟ والجسد الثقيل هو حقيقتنا المُرعبة!
***
تُغادرني ببُطئ، تنسابُ نحو الإضمحلال كجدول يسيلُ من قمة جبل... الأشياء والأشخاص واللحظات فجأة تتغير، تُصبح ثقيلة وغير مُحتملة، ببُطئ ولكن بإستمرار، بدأتُ أفقد إحترامي وتقديري وحتى تعاطفي للناس. لا أدري كيف ولماذا؟ كل الذي أعرفه هو أنني صرتُ كارهًا للناس وحتى هيئاتهم باتت تُثير إشمئزازي وقرفي! ربما يعود هذا الشعور لأسباب كثيرة منها أنني أتعامل مع الحياة الاجتماعية بصورة شخصية، وأيضًا نظرتي/كراهيتي للخارج تنعكس من داخلي، أنا إنسان فقدتُ إيماني وإنتمائي. أنا بسيط جداً... لم أطلب من الله وبعد كفري به لم أعد أُريد شيئًا سوى أن أعيش كأنسان... ربما إرادتي هذه مُستحيلة/مجنونة. إذ ينبغي علي أن أعيش كما يُراد لي، لا كما أُريد... فثمن الإرادة باهض، بكل الأحوال لن تموت إرادتي مُؤمنٌ بذلك جدًا،
***
في هذا الصباح أنا حزين وحُزني هذا ليس جديد أعلم، لكنه ثقيل وأبيض جدًا بلا ملامح...
أرى الأشياء بوضوح، وأعيشُ أيامي حزينًا لأن الوضوح يُؤذيني... يُدينني وأحزن لأنني أعيني وأعي المآسي التي حدثت والتي تحدث والمُمكنة وحتى المُستحيلة.
الأفكار تلتهم خلايا رأسي وموقعي أمام الأخطاء يُربكني... فهل أستطيع أن لا أُخطئ؟ سأقتل نفسي إن بقيت هكذا!
***
مُعضلة الوجود
حادثة إنتحار كل ثلاثة أيام في الأردن
أشعر بعقلي وكأنه ذرات تتناثر في صحراء واسعة. هذه الذرات تتلاعب بها هبات الهواء. هواء الصحراء عنيف.
معضلة الوجود تتجسد في واقعي اليومي، أنا فعلاً في معضلة... بين الحائرين والهاربين والخائفين. مجهود ضائع ونزيف مُستمر وتوجس يُمعن في اللاشيء. ثمة زيف كبير ووهم ضخم وروح هزيمة ثقيلة. اللاشيء والأشياء جميعها، تتجمع وتسقط إلى قعر مُظلم. تبقى الخيالات والكلمات والصور، تبقى كصور جامدة مُعلّقة على جدران الذاكرة. جدران قديمة. جدران كثيرة ومُتشابهة وكلها شقوق. هل تنهار الجدران؟ أقصد جدران الذاكرة؟ هذه الكتابة باهتة، هذا البوح يفتقد للحقيقة. الحقيقي كأنه مُستحيل، شيء تراه واضح، لكنه ليس موجود، لا تستطيع إمساكه!
***
ذات مساء تشريني تعودُ وحدك وحدك تماماً، وبين الناس، في مكان عام أو في باص، وحدك وتشعر بإمتلائك. بأنك كأنك وأنت الآن وحدك قد نجوت من غرق فظيع، من موت كُنت فيه. أنت الآن وحدك والضجيج ورائك وفي داخلك بقايا ضجيج..
***
ليلةٌ تشرينيةٌ أخرى، منذ يومين بدأ البرد بعدما أمطرت السماء. قبل اليومين كان الجو مُعتدل. الآن أنا أرتدي ملابسي الشتوية وصوبة الكهرباء قُربي، تفتعل القليل من الدفئ... الدفئ الخجول، مُقابل وقاحة البرد الخارجي والصقيع الصحراوي. ماذا عن هذا البرد الذي أشعرُ به، في داخلي في أعماقي! لا أدري... كيف لي أن أواجه هذا الكم الهائل من... كل الأشياء! أدري بأني لن أطمئن بالًا، ولن أرتاح أبداً، ستبقى حياتي دائماً رفض وتمرد وفشل وكُفر! ولكن إلى أين أمضي؟ إلى أين أمضي بهذا الجسد الثقيل والروح المُرهقة؟ بلا جدوى تُحاصرني، بكثير من الوحشة والخوف والإشمئزاز... أسيرُ قُدماً في طريق اللاعودة... أظنني لن أقتل نفسي... ولن أكره الحياة، سأكره فقط شعوري العميق، لن أكرهه إلا لأنني أحبه جداً... لأنني أرى بوضوح زيف الواقع ورداءته... لو أنني فقط أملك جناحيّن لأطير فوق الأرض وأهلها، وأصير طائر خفيف لا إنسان مُثقل بوعيه ومحدوديته...
***
الحب، هذا المفهوم الذي أجدني مأخوذًا به، ولديّ نظرة خاصة لهُ، رغم أن نظرتي عامة أو كأن الحب شعور إنساني له شكل خاص مُحدد. نعم، هو من الإحتياجات الأساسية للإنسان وفقاً لهرم ماسلو، وأعتقد بأن كل شيء في هذا الوجود يحتاج للحب. "التوق إلى الحب" من أهواء أو غايات برتراند راسل الثلاثة، ويُزعم بأن فان جوخ إنتحر لأنه لم يجد الحُب الذي يُعطي لحياته معنى وقيمة، يتوق الإنسان إلى الحب والمحبة ليتزن في حياة تمتلأ بالكراهية والقسوة والموت، فالحب يقف في وسط الحياة، بينما الموت يتفق مع كل أشكال الفُراق والوداع والحزن. الحب سعادة غامرة، في بحر واسع من الأسى والحُزن. والمحبة لغة تتجاوز الألفاظ والحواس، لتُصبح جناحيّن تحمل صاحبهما فوق أرضه... الأرض المليئة بالطين والتعب والبرد والحر والأوساخ، وأيضاً تصير المحبة عينيّن وأُذنين وأنف... حواس جميعها تحس الجمال وتبحث عنه لتجده. هو شعورٌ داخلي، يتفجر بغتةً، ويتصارع صاحبه مع خارج مليء باللاحُب... باللاشعور، وعادةً يستسلم الإنسان للخارج، ويحزن كثيراً لأنه لم يستطع أن يعيش بحب لا يُشبه هذه الحياة الرتيبة والباهتة في شيء. إذن فالحُب حياة لا واقعية، ويُمضي الإنسان حياته يُحاول جعلهُ مُمكناً وهو ربما مُستحيل... لماذا؟ أعجب من السؤال ومن كل ما كتبت وأعجز عن الإجابة.
***
أحنُّ من الآن لي اليوم، كما أحنُّ لأنا أمس وقبل أمس
***
المساء طويل وثقيل. الظلام كثيف. تعرف بأن التوقيت الشتويّ يجعل الليل أكثر ظلامًا... وكأن الليل أبديّ، لم يكن هناك نهار ولن يكون أبداً. وكلّ ذلك شعورٌ داخليّ، يتضخم أو يتضائل بحسب المزاج ونوعية الأفكار. هذا المساء الذي بدأ من زمان وما زال في أوله وأعلم بأنه سينتهي بسرعة، مع أنه ثقيل وواسع...هذا المساء النوفمبريّ، بدأ بسماء نصفها الغربي، مُلبد بغيوم ضخمة زرقاء... المطر قادم، كُنا ننتظر المطر بترقب وأشتياق، وجاء... بسرعة هطلت الأمطار الغزيرة، وكلّ حين يلمع البرق بالقُرب أو في الجوار أو بعيداً... وينفجر الرعد، إنفجار في سكون الليل، إنفجار مُدوي في عزّ الهدوء المسائي. الأرض تسيلُ بجداول الماء. تلتمع البرك والجداول، بأضواء الإنارة، الهواء يُحرك الهطول الذي يبدو شديدًا، عند النظر لإنارة الشارع، وأسفل الإنارة تتراقص أغصان الزيتون، الأغصان لامعة. والشجرة قديمة... زُرعت في العقد الثامن من القرن العشرين، وإن أردت ُالشرح: زرعها جدي قرب بيته المُؤلف من غرفتين ومطبخ خارجي، وبالطبع كان ذلك حول العام 1980. البيت الآن كبير، يتألف من طابقين الطابق العلوي لم يكتمل تماماً، والبيت مهجور مُعظم الوقت. كانت أرضنا، بستان زيتون. تحوّطها أشجار البلوط والصنوبر... واليوم أرضنا تحتوي كم شجرة زيتون. أشجار اليوم تبدو إما مريضة أو هَرمة.
هذا مساء موسيقيّ بشكل خاص، ألحانهُ صوت المطر والرعود، وإنهمار الماء من المزاريب.
الخامس عشر من نوفمبر/تشرين الثاني، في مثل هذا المساء، إنتحر تيسير السبول. في مكان ما. في شقة ما. قبل سنوات طويلة، قبل 46 عام، قام الشاعر بإطلاق الرصاص على رأسه. في الشهر الماضي، قرأت كل أعمال السبول، ديوان أحزان صحراوية، ورواية أنت منذ اليوم، ومجموعة مقالات عن الأدب والشعر، ودراسة سياسية لم يُكملها السبول... كان بدأ كتابتها في نفس العام الذي رحل به... قاتلًا نفسه، مُعلنًا نهايته... أو مُستعجلًا إياها. في هذا العام (2019)، في شهر فبراير الماضي عرفت تيسير السبول كروائي أردني مجهول بشكل عام. كان موقع "حبر" ومن خلال صفحتهم على تويتر قد نشروا تقرير يتناول رواية السبول "أنت منذ اليوم" وشدّني التقرير وقرأته بدهشة بالغة... دهشة المعرفة لأول مرة... الآن عرفت السبول، تيسير الفكرة والبطل الذي سار مع الوهم وأنتحر! وقد تغلغلت كلماته في وجداني، وإنغرست في ذهني مقطوعة تقول:"أنا يا صديقي أسيرُ مع الوهم، أدري أُيمم نحو تخوم النهاية نبيّاً غريب الملامح أمضي إلى غير غاية"، وقبل قليل، وبعد عودتي من مشوار لغاية الحلاقة وشراء علبة سكائر دون أن أنسى القهوة رفيقة الصباح والمساء الدائمة والمُستمرة منذ ثلاثة أعوام، بعد عودتي مُثقلًا بالأفكار والهواجس كالعادة. في وجداني ظلام، ومشاهد كئيبة. رغبتي كانت جامحة لقراءة "الشياطين" لديستويفسكي من حيثُ توقفت؛ جلستُ في مكاني المألوف. المطر في الخارج بدأ يتساقط، وبسرعة وجدتني في التفاصيل، أُشاهد: شاتوف الذي عادت زوجته الحامل، وهي تُعاني مخاض الولادة، زوجته هجرته منذ ثلاث سنين. لم يعيشا معا إلا إسبوعين. وبقيت زوجته في الأوراق الحكومية. ها هي تعود ماريا لتلد وليدها، تعرف أبوه. وشاتوف يبدو وكأنه لا يُصدق عودتها. ها هو كالذي عادت الدماء لعروقه، كميت عاد لحياة، يُسرع في مُساعدة ماريا... ماريا التي تحتقر شاتوف ظاهريًا، وهي إن لم تحبه أو تثق بحبه لها، هل كانت ستأتي إليه؟ نعم، هي تدّعي عودتها لتعمل وتعتمد على نفسها... ويتضح من سيناريو الرواية، بأنها "مُتمردة" على واقعها كأنثى روسية في القرن التاسع عشر. لا يعرف شاتوف بأنها حامل. كان حائرًا، أمام هذه المرأة التي تتألم وهي تتلوى فوق فراشه... لتخبره أخيراً بذلك، وليُسرع في إستدعاء مُولدة... كيريلوف، كان صديق لشاتوف. لكنهما منذ مدة لا يُطيق أحدهما الآخر. كيريلوف جار شاتوف. يهرع إليه الأخير لنجدته في ما قدّ جدّ عليه، والأول "مهووس" يُمضي ليلهُ يُفكر ويشرب الشاي. كيريلوف يُعطي شاتوف الشاي والسماور والأكل والمال. شاتوف محكوم عليه بالموت، والتنفيذ في ليلة الغد. بطرس ستيفانوفيتش وجماعته التي تتألف من فرجنسكي، ليبوتين، إركل، ليامشين، وآخر أسمه صعب الحفظ. شاتوف عضو في الجماعة التي يقودها بطرس لكنه تمرد. وكيريلوف عضو غير فعال.
ولدت ماريا صبيًا.
تم إستدراج شاتوف لمكان الإغتيال. وكان قد وعد زوجته بالعودة في تمام التاسعة، زوجته التي أخبرته بشكل مُضمر، بأن ستافروجين هو أب الطفل. وستافروجين احد أعضاء جماعة بطرس، لكنه شخصية جدلية وغامضة. كان شاتوف في صفحات سابقة من الرواية قد صفع ستافروجين على وجهة، في توقيت ومكان وموقف لا يستدعي الصفعة. كانوا جماعة جالسين، وفجأة نهض شاتوف وصفع ستافروجين وغادر، ولم يضطرب الأخير، بل كأنه لم يُصفع أبدا!
قتلوه. وألقوا جثته في غدير ماء، وكان قد أتى يستعجل العودة لزوجته والطفل الوليد، ليخبر الجماعة عن مكان طابعة دفنها هُنا في آخر حديقة منزل بيت ستافروجين. وفي نفس الليلة إنتحر كيريلوف. إنتحار كيريلوف كان تجسيد للإرادة الخاصة بحسب فلسفة المُنتحر، فهو بهذا الموت الإختياري يُعلن نفسه إلهاً... وإنتحاره، كان حتمي، لذلك إتفقت الجماعة معه، على تبنيه أفعال إجرامية حدثت في المدينة، ليكتب إعترافه بإقترافها... كمقتل فدكا، وحريق الضاحية، ومقتل ليبدوكين وأخته التي كانت زوجة لستافروجين... وأخيرًا قتلهُ لشاتوف...!
جاء بطرس لكيريلوف في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وأخبره بآخر الجرائم(مقتل شاتوف) . وصُعق المُهندس... ودار بينه وبين بطرس أو فخروفنسكي، حديث طويل، تناول شتائم وتحقير وإشمئزاز شديد من طرف كيريلوف، وتحدث الأخير عن فلسفته بالإنتحار وبأنه لا يُمانع أن يكتب ما يُملى عليه لأنه يحتقر كل ذلك... وانتهى الأمر بإنتحار كيريلوف.
لم أنتهي من الرواية بعد، وهي تقع في مُجلدين، المجلد الأول مُمل، أما المجلد الثاني والذي بدأت قرآءته منذ أسبوع فهو مليء بالتفاصيل والمشاهد والأحداث التي أبدعها فيودور ديستويفسكي وصاغها سامي الدروبي بإسلوب روائي عظيم. هذه المرة الثالثة التي اقرأ بها الشياطين، تحديدًا المُجلد الثاني.
***
لا أدري ما هو الدافع الذي يجعل إنسان ما يقوم في كل صباح بالتأنق قدر الإمكان والخروج للشارع، وهكذا لمدة خمسة أعوام أو عشرين، ولكن إذا لم أنتحر أو أموت لسبب ما، سأقوم بهذا الشيء دون أن أشعر بغرابته. للحياة وجوه مُتعددة وللمشهد أمامك أكثر من زاوية. في قرارة نفسي فوضى عارمة وصخب عنيف. في داخلي ثمة بركان لا يهدأ. بركان ثائر من الأفكار والتناقضات والمشاهد والصور والكلمات. لم يأتي بُكرا... بُكرا أو بالعربية الصحيحة:بُكرةٌ. غدًا الذي ننتظره لم يأتي. جاء صوتها صارماً باعثاً لليأس، لبُكرا... هكذا جاءه الجواب على توسله بأن تشتري له أمه من محل الحلويات، له ولأخوته طبعاً. لم يأتي بُكرا... حيث تشتري الأم "المُطلقة" أو المَنسية، لأطفالها؛ مثلاً كنافة خشنة... لم يأتي غداً، كانا سيتعانقان بقوة لو جاء الغد. كانا سيجلسان قريبيّن. يُصبح وجهها مرآة ووجهه يرى في المرآة إنعكاس اللهفة والشهوة، ستتفق نبضات قلبيهما، ستتداعى الكلمات من الأفواه دون رقابة... سيأتي الغد أو كان سيأتي، ليُزيح عن اليوم رتابتهُ ومللهُ ورداءته... لكن حياتنا دائماً اليوم... اليوم الناقص، والذي لا يشبه الغد... الغد أجمل... دائماً الغد أجمل، ودائماً غداً لا يأتي، نحن في سرمدية اليوم غارقين... وننجو بالموت، ربما بُكرة.
***
في العُمق حيث الظلام الدامس والنور الساطع، هُناك في العُمق مرايا كثيرة تعكس الواقف أمامها بأحجام مُختلفة، لكنها لا تعكس الظلام أو النور... تعكس بياض، يحتوي الواقف أمامها. على موعد مع الأمس والغد... أنتظر، شخصٌ ما لا يأتي إلا بعد فوات الأوان، بعد موت الكلمات وتعب الإنتظار. أحياناً أتسائل، كيف سأحتمل هذا الواقع الكريه؟ كيف سأنجو من أن أكون جزء ولو بسيط من هذا القطيع الجبان والسخيف؟ كيف سأحيا بإرادتي دون أن أعيش لأنني لم أمت؟ كيف سأبقى أو أكون إنساناً في مُستنقع من الوحشية والبربرية؟ كيف لن أسقط في الصُدف؟ كيف سأكون شُجاعاً بين جُبن عارم وروتينيّ؟ كيف لن أُجن وأبقى حُراً من عبودية العقل؟ كيف سأختلقُ الكلمة تلو الأخرى لأصنع نصاً، أعيشُ من خلاله لحظةً أخرى... لأنني أعيشُ بالكتابة، بخلق الكلمات وأبتداعها. وكم هي صعبة حياةٌ بكلمات...
أستغرب لماذا الآن أشعر بإشمئزاز عنيف تجاه الناس... كل الناس، لماذا أصبحتُ أرى بوضوح مكامن الخلل في وجودنا البشريّ؟ ولماذا كل الأسئلة تقف في رأسي صارخة تُريد أجوبة... لا جواب سيأتي، ستتابع الأسئلة وستتكاثر، وتزدحم في فوضى عارمة تملأ رأسي... إلى أن، ربما يتفجر أو يموت! أعي ضآلتي مُقابل هذا العالم الفسيح... أُدرك بأن وجودنا باهت ونمطيّ ومُبتذل وسخيف جدًا... وهذه الأمور مفروضة وعالمنا اليوميّ قائمٌ عليها... كأن أحدنا مسجونٌ في عالم من الطاعة والتبعية يُصطلح عليه بالعيش الطبيعي والعادي... ورفض هذا العالم هو بداية الجنون والمُعاناة هذه الحياة كأنها تصلح لأولئك الأموات الأحياء فقط، ربما أُبالغ ولكن أشعر بإغتراب شديد وحُزن أشدّ، وأنا سجين محدوديتي وبشريتي....
***
يا صاحبي، عالمنا الشخصي اليوم مليء بالوحيدين، والأقوياء، والمُتعبين، والقادة، لكنهُ عالم زائف ويفتقد للمعنى والقيمة، هُنا يعيشُ أحدنا دون أن يعرف كيف ولماذا يعيش؟ حياة كاملة قائمة على الأحتمالات والتوقعات والمُمكن الضبابيّ، حياة من الخوف والنجاة بعد فوات الأوان والحسرات، والأخطاء الفادحة، لذلك يا صاحبي أعيشُ غُربتي هُنا، وفي كل مكان سأعيشها أعلم ذلك، وأتألم كثيراً لذلك.
***
أنت بحاجة شخص ما لتخبره: بأن صوت المطر في الخارج جميل... وبأنك قبل قليل إكتشفت كاتب جديد وأدهشتك أعماله، أنت بحاجة شخص ما تخبره عن تعاستك دون أن تتردد في طرح أسبابك "التافهة" عليه... أنت بحاجة شخص واحد فقط لتتخلص من عبئ وجودك، العبئ الذي يتلخص في حاجتك اللحظية لوجود آخر، مع حقيقة عدم وجوده.
***
أنا أنتمي لهذا العالم وللمكان الذي أعيشُ فيه. الإنتماء هُنا لا إراديًا، يعني أنت تُولد ودون إختيار ذاتي تنتمي... كما وُلدتْ وكما وكما... وفجأةً بعد خبراتٍ قليلة، وإدراك بسيط، تجد نفسك غريبًا، أنت لست سوى "أداة" في يد تتحكم بمجموع الناس من حولك. لست سوى شيء تم تشكيله وتحديد أدواره، وما عليه فعله... مُجرد شبيه للآخرين، وفي مجتمع الأشباه هذا، لن تجد المعنى والقيمة، فكل شيء خاضع للخارج، ليس هُناك حرارة... إندفاع... إنبثاق، كل ما هُنالك، خمول، وكسل وتكرار و... لا حياة، الحياة هُنا، خرافة أو شيء رائع جداً لكنه خارج دائرة المُمكن. لحياتنا هذه لونٌ قاتم ورائحةٌ كريهة. في كل شروق للشمس وغروب جديد، ترى حياتنا تُمعن في الرداءة والتهتك... اللامعنى يتسع، ويبتلع المزيد من الأموات-الأحياء، الحي-الميت، تتشابه لياليه وأيامه، ويعيش على حافة الأيام، وينظر بهلع لعُمق اللحظات، يرى في العُمق الظلام... والظلام مُرعب جدًا، والمرعوب ميت بشكل آخر، الموت... الولادة... الحُب... القُبلة... الوداع... اللقاء... الغد وبقايا الأماسي... وحياة يومية، بليدة ومُبتذلة وسخيفة. التفاهة باتت بطولة، والجُبن عقلانية، والكذب دبلوماسية، والسعادة مُرعبة، والتعاسة لذيذة... وماذا بعد؟ هل غريبٌ شعوري بالغُربة؟ هل مرضي هُنا يُمكن علاجه؟ بحيث أتعافى من رفضي العميق، وشكّي المُستمر وإنعزالي وإشمئزازي، أنا أرفض علاجي ولن أنتمي لهذا المكان، وإن كان عالمي هكذا... فأنا أبصق عليه في كل مرة تراودني هذه الفكرة... أبصق عليه كعبادة، كعمل عظيم أقوم به، ديني هو الرفض وكتابي هو عقلي المجنون ربما من فرط العقلانية التي أغرق فيها... وإلى حين نجاتي من غرقي، سأبصق وأبصق...
***
"لن تستطيع تغيير العالم"، هذه الجُملة "الواقعية جدًا" مُرعبة كأقل وصف، بل وكأنها صفعة للعقل الذي يُفكر كثيرًا... للعقل المشغول بالمعنى والقيمة والجدوى، بإختصار تلك العبارة سرطان للعقل الجدلي والفاحص، لأنها أولًا واقعية. وثانيًا، وبسبب واقعيتها، تُصبح سبب للبلادة الإجتماعية إزاء الواقع الخارجي، وقبول الأشياء اليومية كأنها حتمية وطبيعة، وثالثًا، تُؤدي بصاحب العقل ذاك، للإضطراب وإدراك الخلل، والعلاج الأولي يكون بمُحاكاة السائد والطبيعي، أيّ بإنكار "الإنكار" وكبته وطمسه... ولكن... وسيحدث الإعتياد أو التآلف والتكيّف. سيُصبح التفكير "الغير عقلاني" بحد ذاته شيء مُؤلم وكريه، وبالتالي ولأن الإنسان بطبيعته يتحاشى قدر الإمكان الآلام، سيعمل على أن يُصبح "مثل الآخرين"، ولكن..
***
كان يُمضي وقته "خفيًا". يُحاكي ما يرى ويسمع فهو في حياته الإجتماعية ليس لديه أفكار ومبادئ خاصة. إنما يعيش كما يعيش الآخرين، وهو ينعكس عن الخارج، كما تعكس المرآة الواقف أمامها... هكذا عاش سنواته الماضية، والآن هو في عمر الرابعة والعشرين، بالطبع لم يزل "خفيًا"... لكنه يشعر بمرارة داخلية تتسع كثقب أسود في أعماقه... هذا الثُقب الأسود يبتلعه، ويبدو مألوفًا... لكنه في هذه المرحلة صار مرعوبًا من شعوره هذا، شعوره بأنه ينزلق بشكل كامل في ثقب داخلي... دعونا من الثقب، ولنبحث موضوع "الخفاء"، الخفاء يا أصدقائي الأعزاء بشكل عام، هو حالة شخصية، إجتماعية ونفسية، تكون إرادية بالتحديد في مرحلة المراهقة ومن ثم تُصبح حتمية... أو واقع لا مَناص منه! وهي حالة يُعاني منها معظم الناس، وسببها التنشئة والنمو الإجتماعي النمطي... المبني على "وهم الشعور بالأهمية"، كأن صاحبنا هذا وهو مثال حيّ... كأنه مُراقب من الناس الذين يعرفونه بشكل أكيد وربما من الذين لا يعرفونه ورقباء غير بشريين، يحسبون عليه كل حركة ونأمة! فعليه أن لا... المُهم عليه أن يكون "خفيًا" ولا يظهر إلا بمظهر خاص، مظهر لا يُثير الشكوك وما إلى ذلك... وهكذا عاش ويعيش وسيعيش صاحبنا، إلى أن يموت لسبب ما، ويُنسى...
***
كان دائمًا يعثرُ على نفسه، ليس لأنه "ضائع" فعليًا أو شعوريًا، بل عندما يكون مُستغرقًا في أمرٍ ما، وفجأةً يُداهمهُ الإحساسُ الخارق بالعثور على نفسه... مثلًا، في هذا اليوم كانَ في صُحبةِ عددٍ من زملاءه في الدراسة، وهو في صُحبة هؤلاء الزملاء الكثيرون عادةً ما يكونُ مُنفعلًا جدًا، ويشعر بهذا الإنفعال وبالتالي يكره وجوده معهم، ويحسُّ بذلك "العثور"، وينتابه إذ ذاك، شعورٌ جارح ومرير بالإغتراب، وبالحاجة المُلحة للهرب أو الإمّحاء! حياةُ صاحبنا المدعو بصخر عادية جدًا، وهو طالب بكالوريوس في جامعة حكومية، وعمرهُ لم يتجاوز العشرين عاماً بعد، وهو لا يفهم الكثير من مُجريات حياته... كدوامه في هذه الجامعة منذ عامين ودراسته لتخصص تربوي مُمل جدًا.
إلى الآن أمضى عامين دراسيين، بكل ما فيهما من روعة البدايات والعناء الدراسي والحياتي(أبرز مُعاناته الحياتية تتمثل في المواصلات والإستيقاظ الباكر)، وها هو في هذه الأيام الأخيرة من الفصل الثاني... يرتطم بالعثور على نفسه بشكل عام، والعثور هُنا ظَهر من وراء تساؤلات راح صاحبنا يطرحها على نفسه تتعلق بوضعه الدراسي... نعم إرتطم وتعثّر، كان كأنه غافل ويسير ليرتطم بحائط أو كان يسير بسلام وطمأنينة ليتعثر بحفرة شوّهت شارع ما، جميل وعصريّ!
***
(دائرة)
صفحة بيضاء ويدٌ تُمسك قلم رصاص، يخط القلم دائرة بادئًا من نقطة لينتهي عند نقطة...
عند ذلك تُصبح هذا الدائرة شيء بلا بداية ولا نهاية... دائرة فقط.
إنبثقت فكرة الدائرة في ذهني قبل يومين، في إتصال مع حبيبتي(سارّة)، الإتصال أَعقبَ "حالة سوء فهم عنيفة" بيننا، ففي الإتصال وبعد الإنهاك الذي شلّ أذهاننا... لا أدري لماذا حدثتها عن إمكانية أن يكون الإنسان دائريًا؟!
وفي صباح هذا اليوم في منشور على صفحتي "الفيسبوكية" تطرقت لموضوع الدائرة الإنسانية: الإنسان الدائري
نامَ كعادته، وبطبيعة الحال كان جسمهُ طبيعيّ، له رقبة تحمل رأسه، ولهُ يدين وأقدام وكل شيء عادي... ولكنهُ لم يستيقظ! أقصد هو أدرك بأنه "عَلق" بحلمه! يعلم بأنه يحلم، ويُدرك بأنه عالقٌ في الحلم!
كان أو ما زال، كأنهُ في دائرة - ولابُد هنا من وصف دائرة -، هو في دائرة خارج الزمان والمكان! ولا يعلمُ إلا الله، كيف آمن بيقين عنيد بأنه تحوّل لدائرة؟، يعني كتلتهُ الجسدية صارت عبارة عن "دائرة"! "،
الدائرة ليست مُجرد شكل هندسي أو رسمة رديئة لوجه أو شمس أو قمر... الدائرة ليست شيء عادي أبدًا، هكذا بَدت الدائرة لي فكرة عظيمة، وُلدت في زواية من ذهني في تلك الليلة التعيسة!
الدائرة كفكرة هي حالة "التحرر" من الزمان والمكان. التحرر من الزمان لأن البداية والنهاية كانتا ولادة لشيء لن ينتهي ولن يبدأ مُجددًا... وهذا الشيء لا يحمل شكل أو ذاكرة أو معرفة بدايته، عند أكتماله-ولادته تشكّل ككُل، وهو منذ تلك اللحظة (لحظة التشكّل) التي لم تتجاوز الخمسة ثوانٍ ربما، صار كيانًا كاملًا، وناضجًا. ... "السعي نحو البطولة" عنوان حياتنا اليومية. هذا السعي يكون "نمط حياة" يعيشه الأفراد بلا وعي منهم... وهذا السعي يُصبح دائرة. .... دائرة الهزيمة... هي دائرة واسعة، وهي ثُقب يبتلع الكثير في إثناء توسعه المُستمر والبطيء... دائرة الهزيمة حالة تبدأ ولا تنتهي إلا عندما تبدو بلا نهاية... كأنها وبعد إكتمالها، تتفكك فجأة وتضيع حدودها، تذوب تلك الحدود... ربما حدودها، أو خطّها الملتوي يُشكّل دوائر صغيرة مُتباعدة... لماذا أكتبُ هذه الرموز؟ لماذا أكتب عن الهزيمة وكأنها شيء خيالي يُمكن وضعه في قالب فلسفي؟ الأسوأ من الهزيمة هو تغلغلها ورسوخها في وجدان الإنسان، بحيث تُصبح حياته سلسلة من الهزائم... الهزيمة حدث مفصلي/لحظيّ، ما بعده ليس إلا إستمرار في الهزيمة أو وضع حد لها...
والشرق الأوسط اليوم بأزاماته ليس إلا شرق أوسط هُزم ذات لحظة، ولم يضع حدًا لهزيمته تلك. والإنسان الشرق أوسطي يُعاني من تلك الهزيمة التي جرّت وراءها هزائم، وستجرّ ما لم نستوعب ما حدث وما الذي يحدث وما قد يحدث ما هو إلا إستمرار، للحظة الهزيمة الأولى... ونحن اليوم في بلادنا أصابتنا جرثومة الشلل الفكري والمعنوي، بتنا كائنات مقموعة ومُسيّرة بشكل آلي، ولا نعيش دورنا الإنساني... لا نعي هويتنا، وإرادتنا كشعوب أصابها الشلل، ولا نحاول تغيير الأشياء البسيطة لتتغير الأشياء المُعقدة، ما حدث أشبه بخلية سرطانية لم تجد إلا جسدًا بلا مناعة ولا علاج ولا قوة... فنمت تلك الخلية وتفرعت عنها خلايا إستفحلت في الجسم وهي تهلكه ببطئ وهدوء... واضح هو الماضي الذي أنجب الحاضر، ومخاض حاضرنا الذي يلد مستقبلنا عسير لكنه سيُولد مُستقبل مُشوه أو ميت...
في هذه الليلة إمتلئتُ شعورًا بالعار والهزيمة والعجز، وللحظة كرهتُ وجودي وكلُّ كياني أهتز وهوى بي للجةٍ عميقة ومُظلمة من الحزن الطيني الثقيل... وتسائلت ما جدوى حياتي في هكذا بلاد؟ بلاد مُشبعة بالزيف والنمطية والجُبن والتخلّف والرجعية، بلاد الأموات منذ الولادة، بلاد الجوع والعطش والرغبات المكبوتة في الصدور المريضة... بلاد الإستهلاك والإدّعاء والرداءة... بلادي يا بلادي، اللعنة عليك... ولكن، كيف سأعيشُ بعد أن تشوّهت بلادي في نظري؟ أو كيف سأشعر بالحب والطمأنينة وأضحك ملئ صدري بعد كُرهي لبلادي؟! وأيُّ بلاد ستعوضني عن بلادي؟؟ لكم أتمنى لو أنني كنت وردة في بستان فلاح عجلوني أو شجرة بطم في قاع صحراوي شرق الزرقاء... ولم أكن إنسانًا مفجوع في وطنه وبلاده. .... القشرة أيضًا دائرية. لا أقصد بـ"القشرة" تلك الطبقة الرقيقة التي تُغطي الأشياء، بل أقصد حالة سلوكية ظاهرية - إنسانية بالمقام الأول.
يختفي الإنسان وراء قشرته. والقشرة خُدعة أو زيف. عادةً يكون الوعي "قشريّ" وهُنا تكون الدائرة، أيّ يُصبح الإنسان قشرته-ظاهرهْ. والدائرة مثلما بيّنت هي حالة دائمة. والوعي القشريّ هو وعي الإنسان في واقع العبودية واللاقيمة واللامعنى. عندما يكون الإنسان رهنًا للوقائع والأشياء الخارجية يُصبح كائنًا قشريًا-دائريًا، ويكون "مرضه العُضال" في مُحاولة التحرر من القشرة-الدائرة! وهو لا يدري بأنه فَقد جوهره أو مُنع عنه، عندما ألِف القشرة ومُنع من رؤية الجوهر العميق، جوهره هو، ولأنه لا يُدرك جوهره لن يُدرك جوهر الأشياء من حوله، وبالتالي تُصبح الحياة العامة قشرية تمامًا، تُفهم الأشياء/الحوادث من قشرتها، وتمتد حالة "القشرية" لكل ما هو إنساني... حتى تقتل المعنى وتضيع القيم وتختلط، وتنهار العقول في مُستنقع السُخف والبلادة والتفاهة. .... تسللتُ للخارج، خارج غرفة الدوائر الدائرية.. غادرتها، تلك الدوائر الخانقة... دوائر التصنيف، أنا الآن حُرٌ من التصنيف... ولكن، هُنا خارج التصنيف بردٌ مُوحش... فراغٌ كبير... وشيءٌ واسع ومُظلم بلا ملامح ولا معالم! لابدّ بأن قوالب التصنيف دافئة... تُشبه حالة النوم الهادئ والمُطمئن... وبالطبع ليس كل التصنيفات كذلك، ثمة تصنيف يُشبه السجن والحكم بالإعدام أو النفي... لكن يبدو بأن الخروج من دائرة التصنيف مُغامرة شاقّة وخطيرة... لماذا علينا أن نُصنَف؟ أن نكون شيء ما يفترضه الناظر إلينا ليصفنا بوصف ما؟؟
***
مُلاحظة أو إدراك: إنني لا أملك جسارة عالمي هذا على الإبتذال والوضاعة وبلادة الشعور. لا أستسيغُ التكرار... لا أطمئن في حالة السلامة أو الإستسلام، إنني أرى عالمي غريبًا، غارقٌ تمامًا في التناقضات. جماعات وحشية وأفراد وحشيون، جماعات من السخافة والتفاهة والتنافس الثعلبي، وأفراد خائفون وتُؤلمهم وحدتهم. تكرار... كل شيء يتكرر بصورة مُقرفة وعليك أن تعيش صُلبًا، مالكًا أو مملوكًا. جلادًا أو ضحية، نحنُ غارقون في العبودية والسخافة... حياتنا اليوم تُقدّس الجُبن والإذلال واللامعنى والموت والمظاهر! وهذه الحياة إمتداد لإنسانية أوغلت في الكبرياء والتعقّل، حتى أصبح العقل مرضًا والكبرياء سجن مُرعب مفروض ومحتوم.
***
"كأنك ما حدا... ضايع بهالمدى..." منذ الصباح تتردد هذه الكلمات من أغنية فيروز "بناديلك يا حبيبي" تتردد في رأسي، وتسبح في عقلي وترتطم بجُدران رأسي، لترتد سابحة نحو الوسط في موجٍ لا يهدأ ... وأشعرُ بها، بـ"كأنك ما حدا"... وأُفكر كيف يُمكن للإنسان أن يكون "لا شيء... ما حدا! "؟ وهل "الضياع" في هذا العالم قد يحدث بسبب تلك الحالة من "اللاشيء"؟ يبدو بأنني "حرّفت" معنى أو حكاية الأغنية التي تتناول نداء حبيبةٌ هجرها حبيبها، والذي صار كأنهُ ليس موجود وضائع! المعذرة لفيروز، ولتلك الحبيبة، لكنني ولأن الفكرة مُلحة، لن أتجاوز العبارة وأعتبرها مُجرد مقطع من أغنية فيروزية... بل هي حالة وجودية يُعاني منها الإنسان كثيرًا... تتلخص في الشعور بفقدان القيمة الذاتية!
***
أن تقف على الحافة؛ حافة الشعور... حافة الحقيقة... حافة الواقع... حافة الوضوح... حافة الوقت... حافة الظلام... الحافة تعني: نهاية وبداية، نهاية حدثتْ عند يقينك بأنك تقف على الحافة، وبداية تبدو مُستحيلة، إذ ما بعد الحافة لا يوجد إلا الهاوية... كيف ستبدأ بعد الحافّة؟ هل ستجرؤ على التقدم للإمام حيث الهاوية المُظلمة والسحيقة؟!
***
أنت تعرف الحكاية جيدًا، كلُّ فصولها مألوفة بالنسبة لك... في أثناء الحكاية تضيع في متاهات المعرفة وتُدرك فائدة الجهل، تَعي بأنك لم تعد كائنًا بشريًا، أنت تناولت قطعة صغيرة من فاكهة المعرفة التي أخافت الله إحتمالية تناول آدم وحواء لها، فأسقطهم إلى الأرض!
تعرف أيضًا بأنك لم ولن تعرف الكثير، وبأن معرفتك دائمًا قاصرة، وهذا الشيء كما يُريحك يُزعجك... تبدأ برؤية الأشياء بطريقة مُختلفة، وغالبًا ما ترى الخلل والخطأ! تراهما يملآن عالمك... تُدرك أيضًا بأن ليس ثمة وجود لعالم صحيح وكامل، ولكن عالمك هذا غير معقول، ومن هُنا تتسلل الغُربة لوعيك... تجد نفسك غريبًا، وكل الذي تراه غريب وكريه! ربما إرتكبت خطيئة وجودية تتلخص في مُحاولة المعرفة، وها أنت تدفع ثمن محاولتك الجنونية! ما الذي تريده أيها العابث؟ لماذا لا ترضى وتؤمن وتعيش كما يُؤمن ويعيش ويرضى الجميع؟ لماذا تبحث عن المعاني؟ وتنتبه للتفاصيل؟ لماذا تتسائل عن الجدوى والقيمة؟ وتفقد السيطرة على أفكارك. تندلع الحرائق في رأسك... وتشتبك مع الخارج البليد، حريقك لا ينطفأ بفعل الصقيع، إنما تنمو جدران بينك وبين الخارج... خارجك مشوّه ومُرعب، أنت ترى ذلك بوضوح، وتعرف بأن الصورة ترتسم في داخلك، التشوّه والرُعب داخلك، كل شيء خارجك قديم جديد مُستمر، نعم الخارج رديء وبحاجة ترميم أو إعادة بناء، ولكن كيف يحدث ذلك؟ وكيف حدث؟ أنت غرقت تمامًا في النظرية والمثالية، لم تعد تتفهم الخطأ، أنت تحولت لإله لا تستطيع تقبّل عجزه وقلة حيلته، وجدت نفسك بين الإنسان العاجز وبين الإنسان الخارق...
"مقاومة العبث" فكرة إنبثقت في ذهني قبل ليلتين. الفكرة تتجسد في فعل يومي مُقاوم للعبث... ما هو العبث؟ أعتقد بأنه الحياة التي يفتقد فيها الإنسان المعنى والقيمة والجدوى، هو هذه الأيام الضائعة والمهدورة من العُمر، وهو الشعور الجمعي بالضياع والخوف... هو تلك الأشياء التي ذكرتها في الأعلى وغيرها الكثير، بالطبع لا أقصد الفلسفة العبثية حتى لا تختلط المفاهيم، أقصد بالعبث هُنا هو الشعور الشخصي بالفراغ والحيرة وكأنه الإنسان تائه وضائع وبحاجة مكان آمن بعيد ومُستحيل، يرتبط العبث بالثقافة العامة السائدة الرديئة غالباً والتي تُقدّس اللاشيء والإيمان واليقين الإعتباطي والسلامة الفردية والشعور الذاتي بالأهمية، أنظر لحياتنا الإجتماعية التي تحولت لحياة مُوحشة ومليئة بالزيف والوهم المُستساغ، أنظر للموت المجاني والحياة في الهوامش والأحلام الطفلية والواقع الرديء، بلا تركيز إنظر من حولك، سترى خوف عظيم يحكم الناس ويُوجههم، سترى قُطعان من العبيد والغوغاء الجاهزة لكل فعل قد يخطر على البال!
مجتمعاتنا اليوم مُتهالكة بالمعنى الحرفي للكلمة مجموعات بشرية بائسة وغاضبة بصمت وبكبرياء أخرق تُعاني وتستمر... يستمر الأفراد بحياة مُجملها إنتظار غريزي للنهاية، وبأحلام النعيم الأبدي في جنة الفردوس أو على الأقل في الجنة العادية، ربما نظرتي قاصرة أو تحليلي نابع من سخط شخصي، وكم أتمنى لو تصبح حياتنا قيّمة وحقيقية فقط، نحن بحاجة مُقاومة فعلية للعبث... بحاجة إعادة رسم صورة الواقع في أذهاننا، لا نُريد صورة خيالية وردية، بل صورة حيّة، أن يكون الإنسان حُر وحيّ فعلًا، أن لا يكون الموت مُجرد حفل كئيب... بل أن يعيش الإنسان ويموت بكرامة وعزة ومعنى.
***
*الوعي مفهوم فضفاض، وهُنا المقصود بالوعي هو إعمال العقل والبحث والشك والتعطش الدائم للمعرفة. ... في داخلي ضجيج، هل يهدأ؟ متى وكيف؟ هل الهدوء يعني الموت؟ الضجيج الداخلي هو حركة الأفكار، يحدث عند إزدحامها وغليانها. والأفكار هي براعم أو مكونات الوعي الذاتي، واليوم تسائلتُ هل للوعي حدّ أقصى؟ أم أنه حالة مُستمرة تتطور وتنمو بمرور العمر، حتى عند الإحتضار ثمة وعيٌ يتشكل، وعي جديد هو إمتداد لأول ومضة وعي لمعت في ذهن المُحتضر الآن، ها هو المُحتضر يموت، هُنا مات وعيٌ شخصي، هل وعي الإنسان هو وجوده؟ الوعي هو الإدراك، والإدراك هو حالة إشتباك مُستمر مع الواقع، قد يموت الوعي باكرًا، بطمس الأفكار وقتلها وخنقها، لأجل السلامة الوهمية أو بسبب الخوف.
***
أحياناً تتجسد البطولة في أبسط الأفعال وفي التفاصيل اليومية المُهملة والضائعة في رُكام الإنشغال المُستمر؛
***
العالم لم يتغير كثيرًا... كل شيء كما هو، وهُناك الكثير من الأشياء تحدث في كل لحظة. في كل صباح ومع غروب الشمس وفي منتصف الليل ثمة حيوات... مليارات منها، لن تُدرك حتى القليل منها.. العالم هو داخلنا... نرى العالم.. والأشياء من حولنا من منظورنا الداخلي... العالم ليس حزين ولا فَرِح ولا غاضب... العالم هو إنعكاس ما في داخلنا، توقف عن لعن العالم، عن مُطالبته بأشياء لا تليق به... توقف عن مُحاكمته عن مُحاولة تغييره لتنسجم معه... العالم بريء... هذه هي الحقيقة، ونحنُ المُدانون دائمًا...
أنا لا أكره عالمي لكنني لا أنتمي إليه... وعدم الإنتماء هذا لم يأتي كرد فعل أو كشعور شخصي، إنما في داخلي تبلور هذا الأمر وأتضح؛ في داخلي وُلد شعوري بالإغتراب اليومي... بالغضب بالخوف وبالحُزن، كان الحزن فرح وكان الخوف شجاعة وكان الغضب رغبة جامحة... حياتي لم تتغير، ولكن في داخلي شيء ما غالبًا تحطم أو تشوه... لا أدري تحديدًا، كيف أصبحت أرى الوجوه كريهة ومُعتمة؟ وكيف أصبحت السلوكيات الإنسانية جميعها تنطوي على شيء من الخساسة والوضاعة والجُبن؟ وكيف أدركتُ بأنني أعيشُ في مُستنقع من... حسنًا، يُمكن وصف كل شيء بأنه مُلوث وركيك... والإنسان في هذه الأماكن مُشوه جدًا، وحزين أكثر ورخيص وبلا قيمة... مع إدراكي لعدم إدراكي... بأنني أرى جزء بسيط... أرى من خلال أفكاري وتحيزاتي... أرى من زاويتي الضيقة...
***
"أنا آسف" على درب الدموع قُلتها، عندما أدركتُ بأنني على دروب الدموع أسير.
وأستحقُ "الأسف"، أن يُقال لي:"آسف".
السماء تُمطر بغزارة، قطراتٌ حمراء لوّنت الدرب الطويل بلونٍ أحمر قاني... على الدرب الأحمر تسيرُ الجموع ببطئ وتَردُد، والدموع/الأمطار غزيرة لا تخفّ ولا تتوقف. لأيام ليلية إستمر المسير، وبمُحاذاة الدرب سيولٌ حمراء تنحدر للأسفل... الدرب يسيرُ للأسفل الضبابيّ، والدموع الحمراء تنهمر. لا يوجد في الأفق إلا الضباب الأحمر أيضًا...
السماء تبكي بذات الوتيرة، منذُ تم إعلان المسير نحو المنفى.
***
مرحبًا أو السلام عليكم أو بلا تحيات
أحدّثكم أنا المدعو... ماذا كان أسمي؟ أُحدّثكم من مكان مجهول عبرتُ إليه فجأة... من مكان بلا معنى... ليس لديّ الآن شيء لأكتبه لكم... لديّ فقط أمنيات، ورغبات تتعلق بكم... بالأشياء التي تركتها ورائي وبالأشخاص الذين أعرفهم ويعرفونني... كم أتمنى العودة للحظاتي السابقة؟ لي عندما كنت أعيش!
***
خيبتك ثقيلة، تتراص بعدما تراكمت الخيبات الصغيرة والحقيرة... ببطئ وبتواتر تحدث، الخيبة تلو الأخرى، وهكذا تُصبح أخيرًا شيئًا هائلًا لا يُطاق، الأمنيات البيضاء والوردية تتضائل... تبهت... تموت أو هكذا تبدو، أحلام بسيطة جدًا، خابت ولم تتحقق ليس لأن الأحلام عادةً لا تتحقق... بل لأن ثمة أشياء كثيرة تحولُ دونها، هي (الأمنيات) قريبة واضحة، ولكن أمامها يتراكم ضباب ويُبنى سدٌ منيع، تُغرقك التفاصيل والمشاعر المُتناقضة، والخوف يمتدُّ بسرعة... يملأ الأماكن ويمنع عنك الهواء والنور والرغبة، حتى الضحكة المُنبسطة والخجولة تختنق بفعل ذلك الخوف الذي إستقرّ في الأعماق بكامل كتلته الكثيفة واللزجة،
هُناك أشياء لا يُمكن إصلاحها، كشعور تلوّث أو تَحطُّم حدث في الداخل، هُناك في الداخل حيث الأشياء هشّة جدًا... ويستحيل إصلاحها، وتفادي إصابتها، والشعور لا يموت لكنه يصل حدّ الإحتضار للأبد...
***
"نهر الحُب" فيلم مصري من "الزمن الجميل" تم عرضه في عام 1960، قد يكون وصف "الزمن الجميل" مُبالغ فيه يحلو لأولئك الذين يُعانون من لعنة "الحنين للماضي وتقديسه".... والفيلم الذي يَحكي قصة فتاة أسمها نوال تزوجت بشكل مُفاجئ من رجل الدولة طاهر، وأنجبت منه هاني... يبدأ الفيلم من النهاية، من كابوس... نوال ترى نفسها تقود مركبة، المركبة تتوقف أو تتعطل على سكة قطار، تحاول إعادة تشغيلها وتفشل... تفشل حتى في فتح بابها، يصرخ الإنذار... تَجزع تسمع صوت القطار، وتنتبه لقفل الباب ترفعه... تفتح الباب وتنزل... تُغلق الباب، ويعلق فستانها به، تحاول فتح الباب لتحرير ثوبها... تسمع صوت طفلها، تراه يُناديها.. "ماما ماما..." يقترب القطار بسرعة، تصرخ... تستيقظ... وتنهض، تمشي نحو النافذة المُشرعة ترى من خلالها نهر النيل... وتبدأ في سرد الحكاية....
حكاية الزوجة/ الأم، التي لا يحبها زوجها الذي يكبرها بأجيال... وفجأة ومن صدفة تلتقي خالد، ليكون خالد حبيبها... كانت الأقدار أو الصدف كفيلة ببناء وترسيخ ذلك الحب.. وفي الواقع فاتن حمامة وعمر الشريف زوجين، وفي الفيلم عشيقين، وكالعادة يصطدم العشق بالواقع البائس والرديء ويسرق العشاق لحظاتهم الأبدية ليعيشا تلك اللحظات السماوية من عُمر الحياة... ويجري النهر، نهر الحب للأبد هكذا تقول الأسطورة، نوال الزوجة الزانية تخون زوجها... نوال ميتة بحكم الزوج، ميتة لأنها تجاوزت الحدود والأعراف والشرائع، لذلك بات قبرها مزارًا لإبنها هاني... لم يُطلقها طاهر إلا عندما إستشهد خالد في حرب فلسطين. نوال كانت تنتظره لثمانية أشهر، ولم يعود في عيد ميلادها جاء أخوها ممدوح المُحامي سابقاً والمُتطوع في الجيش المصري حالياً، عاد من الجبهة ليُخبرها نبأ إستشهاد حبيبها خالد... لتبدأ النهاية، تُحاول نوال العودة لإبنها، حتى ولو كخادمة... يرفض الزوج لتخبره بموت خالد، ليُطلقها ويطردها... تذهب للمكان ذاته، حيث سكة القطار... يأتي القطار ويدهسها لتموت... *الفيلم تجسيد لرواية آنا كارنينا للروائي الروسي تولستوي.
*** -شِبه دراسة...
علينا أن نتوقف تمامًا عن السيلان، عن التجمّع الغوغائي
عن الإحتجاج والتظاهر الشعبي هُنا في الأردن أتحدث... عن الهبّات السلمية في طابعها العام، والتي تتحرك عند كل غضب شعبي من قرار حكومي... لماذا؟ الجواب بسيط: لأن ذلك لن يُجدي نفعًا.
شرح مُفصل: سأتناول في شرحي فئة الطلاب وقضاياهم، ويُمكن تعميم حال الطلاب على كل الشعب؛ قبل أيام صدرت قوائم الطلاب الذين تم إختيارهم للحصول على منح وقروض يُقدمها صندوق دعم الطالب الجامعي، وجائت النتائج ليحصل 35 ألف طالب على منحة أو قرض من أصل 59 ألف طالب تقدّموا للدعم...! عدا عن أخطاء يدّعيها الطلاب، كآلية إحتساب النقاط وتغيّر في بعض المعلومات كراتب الأسرة وصحة الوالدين.. الخ وبسرعة تم تداول الأخبار والمعلومات "المأساوية" عن: طالب معدله التراكمي 3.94 ولم يحصل حتى على قرض، وثلاث أخوة طلاب لم يحصلوا على أي دعم! وصرّح وزير التعليم العالي تصريحات متناقضة، وتناولت حملة "ذبحتونا" معلومات عن "سياسة ما" أفضت إلى هذه النتيجة التي ستزداد سوءاً في الأعوام القادمة...
وجاء دور الطلاب... ولكن ما هو دورهم؟ ظَهر "الناشطين الطلابيين" وبدأت "المعركة" الخاسرة وهذه النتيجة لا أدعيها تشاؤمًا إنما واقعًا ملموسًا، فاليوم كانت هُناك وقفة طلابية دعى إليها منذ يومين ناشط طلابي "مشهور" أمام وزارة التعليم العالي في تمام الساعة 11، وكذلك دعت "ذبحتونا" لوقفة إحتجاجية عند الساعة 12... لم يأتي للوقفة (لا أدري أي وقفة) إلا عشرات الطلاب وبالطبع لم يحدث شيء، وهذا حال كل وقفاتنا وإحتجاجتنا كشعب يُريد حقّه وإنصافه... وهذه ظاهرة يُجب أن تُدرس بإمعان وهذا ما أحاول فعله الآن، لماذا إرادتنا الشعبية كسولة وبلا تأثير؟ لا أملك علمًا-سياسيًا، إجتماعيًا، نفسياً أو خبرة تخولني لتفسير أو تحليل الحالة، لكنني سأبدي رأيي وتفسيري الشخصي، بسبب حيرتي وإنتباهي لهذه الحالة... مشكلتنا هي: "الوعي"، وعينا الشعبي هشّ جدًا، ولا نُحاول فهم، تفكيك الأسباب والجذور، للمشكلات التي تواجهنا، نحن ننجرف تلقائيًا مع السيل العارم والمُفاجئ... ولأن الوعي فكرة لها فروعها وجذورها الراسخة، هو فقط ما نحتاجه لجعل حياتنا الإجتماعية صالحة وقيّمة... أن يَعي الجمهور المُشكلة وأسبابها، وبأن ليس ثمة "مُخلص" لهم إلا وعيهم وتجمعهم... من هُنا تُصبح الإرادة الشعبية مُؤثرة وقادرة على تحقيق أهدافها، لأنها تحولت لجسم واحد... لا مجرد غوغاء حركتها العاطفة والحماسة اللحظية والغضب اللحظي والشخصي أيضًا... لا مُجرد أتباع لأفراد تحوطهم هالة الكلمة الصاخبة والشكل الظاهر... وأولئك الأفراد "الناشطين" هم غالبًا أصحاب رغبات شخصية وشعور داخلي بالعظمة يُفرز من كثرة الأتباع والمُريدين الذين يَطمحون لولا الظروف والخوف بأن يصبحون مثلهم... "قادة"! هكذا يتحول "الشعب-الجماعة" لفُتات... لشيء فارغ... لآلة تتحرك بلا روح وإرادة، تحركها العاصفة وتستكين عند مرور العاصفة...
***
أنا أفتقد لليقين. لرؤية واضحة. لأشياء مفهومة. قَلقي يتضاعف، ويزداد شعوري بالإغتراب كلّما أستغرقتُ في التفكير والنظر لما يدورُ في حياتي...
***
عندما أتذكر حقيقة عمري القصير وبأن موتي قد يتغلب على حياتي في أية لحظة، وأعلم بأن اللحظة تفوت وتنتهي، هذه اللحظات التي أعيشها ما هي إلا لحظات أخيرة تتسرب بإستمرار لتنتهي فجأة... عندما أتذكر هذا أحزن، وأضطرب جدًا، وتُصيبني حُمّى السباق والتسارع... تنتابني مشاعر متناقضة، تتداخل أفكاري، ورغباتي، ومخاوفي... تمتزج لتصنع شعورًا فظيعًا وحارقًا، وأتوهُ في واقعي... أتسائلُ كم هي حياتنا مُهمة، وكم هي اللحظة ثمينة؟؟
***
المهووس بتاريخ أجداده وسابقيه، أشبه بمُدمن لمُخدّر أو عادة تُخفف أو تقضي على توتره وقلقه اللحظي، فما فائدة التاريخ وأمجاده وشخوصه العظام اليوم وغدًا؟ وما الذي يُضاف إليّ كقارئ أو مُشاهد لحلقات مليئة بمظاهر العظمة عن خلفاء وقادة رحلوا منذ مئات وآلاف السنين؟! أعتقد بأن هذا "الهوس" يرتبط بواقع الحال الشعبي والشخصي، فالعربي-المسلم اليوم يعيش في واقع مأزوم وفارغ ومُتخلف... الأمة الإسلامية تحولت لأمم أو لشراذم وإقطاعات مُستعمَرة وبلا سيادة، يحكمها الغربي والشرقي بل ويستعبدها، فترتد الشعوب للوراء لتلتمس السلوى من ماضٍ عظيم ومُقدس، كأن هذا الإرتداد حالة من الثمالة التي تنزع الثمل من واقعه وتُعطيه نشوة وشعور زائف يزول ليصحو "الثمل" مرعوبًا من هذا الواقع. إن المُسلم العربي تحديدًا، يُعاني اليوم من شعور شديد بالعار، كانَ وصار... وهذه الصيرورة عصية عن الفهم والإدراك، بالرغم من أنها صيرورة طبيعية مرت بمراحل كثيرة، وهذا الحال خطير جدًا... فقراءة التاريخ ليست للسلوى بل للوعي والفهم، والحل لا يكون بحلم الرجوع للماضي الجميل، والتاريخ أصلًا ما هو إلا جزء بسيط من كل لا يُذكر... وحتى هذا الجزء قد لا يكون حقيقي!
من الخلافة الراشدة والفتوحات الإسلامية، إلى الأمويين والعباسيين وفتح الأندلس وحقيقة إكتشاف أمريكا بجهد إسلامي، وصولًا إلى المماليك والعثمانيين والدويلات الإسلامية التي مهدت لغروب شمس الأمة الإسلامية الواحدة... ما ذلك إلا ماضٍ يُدرس لا يُقرأ، يُفهم لا يُعاش خياليًا... اليوم لدينا مُشكلات لا تُعالج بوصفات تاريخية جاهزة.. "عودتنا إلى الحكم السلطاني/الخليفي الديني هو الحل"، وهذا حل لمشكلة مُعقدة بفعل الكثير من الإسباب، من الإستعمار وقهر الشعوب وإستنزافها، إلى الخمول الشعبي وتغلغل الأصولية في المجتمعات، وتجهيل الناس وتسطيح وعيهم، وحتى الإستعمار ليس سببًا أساسيًا لواقعنا العربي الإسلامي... إن الإستعمار لم يكن إلا كتلة صغيرة ملئت جزء صغير من فراغ كبير، العربي اليوم مُشتت، ومحدود، ومحكوم بحدود غليظة، قاسية، تائه في متاهات الطائفية والمناطقية والأيديولوجية، وتلتف حول عنقه سياسات الدولة، المحكومة بالأزمة، سواء إقتصادية أو سياسية أو إجتماعية أو ثقافية، وبعض الأرض مُحتل، والمُحتل مُتغطرس فَرض على العربي الفاتح تحت راية الدين قديمًا، شروطه وإملاءاته، وتحت راية التقسيم الإستعماري والنكبة والنكسة، سَقط العربي المهزوم جديدًا... ومنذ ذاك لم ينهض العربي ولم يحاول كثيرًا النهوض... ربما لأن الإرادة لم تكن أقوى من الهزائم، وبدأ صراع "الهوية" إسلامي أم عربي؟ وكانت الأسئلة كلها تتعلق بلماذا هُزمنا؟ والحل ليس إلا رغبة تبدو مستحيلة... لو أننا لم نُحارب العثمانيين، ولم نستعين بالفرنسي والبريطاني... وننظر لتركيا اليوم ولسلطانها "رجب" ونلعن سرًا سلاطيننا... نُحالف روسيا، نتوسل الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي، نكره الإيراني الفارسي، ونُحاكم العالم وفق منظورنا القديم، وتُصيبنا لوثةٌ من جنون الإرتياب الجَمعية، ونصل لقناعة أخيرة بأن العالم تآمر ويتآمر وسيتآمر علينا، ونحن لم نزل ساقطين لا نعرف كيف نوازن إرادتنا لتُصبح أقوى من هزائمنا...
***
إنني أوغلتُ بالشعور أو بعبارة أخرى تورطتُ في المعاني. إجتزتُ عتبة ما، عندها أصبحت لا أرى الأشياء بشكلها العادي... الخوف الممزوج بالشك والغضب هو إنفعالي المُستمر، إن الجمال يتضائل من عالمي وينسحب نحو ظلام بعيد، وأرى القُبح بوضوح... في التفاصيل وفي الوجوه، أُدرك بأنني أصبحت أشمئز وأحتقر الناس من حولي، وأنعكس ذلك عليّ... لا أبرر ولا ألوم حتى أنني أعجز عن التفكير بشكل عادي أو منطقي وأعلم لا عقلانية أفكاري وإنفعالي الداخلي وربما في هذه الفترة أنا أفضل من حالي قبل أشهر قليلة.. إستطعت السيطرة على أفكاري وبدأت ألحظُ الجمال في كل شيء وفي التفاصيل وألاحق الجمال وأبحثُ عنه لا هربًا من القُبح، إنما سَعيًا للحقيقة والمعنى. إن حياتنا مُرهقة ومليئة بالحرمان والخوف... ومن العار علينا الإستسلام، هي ليست معركة واضحة، إنها نضالٌ مُستمر من أجل الأشياء التي نستحقها.. إننا مقهورين بقسوة، ومحرومين من أبسط حقوقنا الإنسانية، إننا مهدورين بشكل طبيعي وهو ليس كذلك، ووعينا العام مُعطّل ومُشوّه... لذلك علينا أن نُقاتل من أجل خلاصنا هُنا في أثناء حياتنا هذه، لا في مُستقبل لن يأتي أفضل من الآن ولا في نعيم أخروي يُخدرنا ويجعلنا نستكين ونرضى... إن إحتقاري لحياتنا هذه وللناس وصولًا لإحتقاري الذاتي ما هو إلا إشفاق وحزن وتعاطف لا إرادي... لا أتلاعب بالمفاهيم، فالإحتقار ليس له علاقة بالتعاطف والإشفاق، ولكن العاجز يتعاطف بالإحتقار والإشمئزاز، وهذا العجز هو التشوّه الذي حوّل حياتنا للحظات من الفراغ والألم والتعاسة...
***
إن نفسي تذبل، تسودُّ رويداً رويداً... إنني كلما أمعنت النظر في حياتي الإجتماعية إزداد كُرهًا لي... وهو كرهٌ ينعكس عن كُرهي لمعظم الأشياء التي تُصادفني في يومي، لستُ أدري لماذا لا أرى إلا التفاصيل الحزينة؟ ربما هذا يعود لهواجسي وأفكاري، لكنني أرى الأشياء الكريهة بوضوح، ألمسها، وأتنفسها... وأتسممُ بها...
أحاول الإستغراق في الجوانب اللطيفة من حياتي، أن لا أسيلَ نحو القُبح وتجلياته، وأقصد في ذلك وجودي مع الآخرين في مكان عام... أجزم بأن الناس وأنا أولهم نلوّث الطاهر، ونُقبّح الجميل، وبهمجيتنا الشرسّة ندوسُ الأشياء التي نُصادفها ونشوهها، إن حياتنا تنحدر نحو "الوحشية" الأنيقة والعصرية بمظهرها الخارجي... حياتنا هذه نتنة جدًا، ولستُ هُنا ناقمًا أو أصدرُ حُكمًا ينبع من نظرتي المُنفعلة والقاصرة، بل لأنني أرى حياتنا اليومية تتغلف بالزيف والكذب والنفاق، وتحمل في جوفها الفراغ والعطالة والجُبن... إننا كُتل كسولة وعاجزة ومحصورة، وتسيرُ نحو اللاشيء، والأجساد تتآكل وتذوي، والأرواح تشرّبت الهزائم والعجز، وتنتظر المُستحيل...
***
اليوم حدثت مُشاجرة غريبة في جامعة هـ، حوالي الساعة الواحدة ظهرًا، وعلى الباب الشمالي لكلية الإقتصاد إندفع سيل بشري من فتيات بإتجاه سيل آخر أقل حجم من فتيات أيضًا... تراجع السيل القليل، تحت ضغط إندفاع السيل الكثير نحوه... وكان صوت الصراخ والعويل يبدو كأنه شيء ليس حقيقي، صوت عنيف لو انه ارتطم بحائط لدمّرهُ تماماً..!
صوت الضرب كان واضحًا، والإشتباك مُعقد جداً... وكانوا الشباب ينظرون من بعيد بإندهاش وخوف يتخفى تحت ضحكات هستيرية هُنا وهُناك! البعض يُصوّر، وبعضهم يُؤشرون بإيديهم لبعض اللقطات المُثيرة! والأمن الجامعي أيضاً إكتفى بمراقبة هذا الحدث الغريب جدًا عن بُعد، وكانوا يُحاولون بتردد منع الطلبة الذكور من الإقتراب والتصوير بل وحتى النظر، وكاد رجل أمن أن يُضرب من مجموعة طلاب كانوا يُشاهدون المشاجرة من مسافة بعيدة جداً..! أما نساء الأمن الجامعي فكأنهن تبخرن، لا وجود لهن إطلاقاً...!
إستغرقت المُشاجرة رُبع ساعة، والغريب بأنه لم يكن هُناك أي أثر لمُشاجرة... ولا يعلم إلا الله كيف ظهرت نساء الأمن في الساحة أمام القاعات الصفية غ! وكانت كل واحدة تتشبث بطالبة، وتتحرك بصعوبة، والطالبة تحاول التملص والهرب! لا أثر لدماء، لأشياء، لا أثر حتى لبُصاق... وأنتهى اليوم الدراسي، بفصل طالب من كلية العلوم، لأنه نشر وقائع المشاجرة في مواقع التواصل الإجتماعي... والحقيقة هي أنه تم بث المشاجرة مباشرة على موقع فيسبوك من عدد ليس قليل من الطلاب المُشاهدين...! نُقطة تحول... بعد المُشاجرة إنقلبت الآية في جامعة هـ... تغيّرن الطالبات لم يعدن كما كُن... صرن يجلسن على الأبواب وفي كل الأماكن المفتوحة ويُصدرن ضجيج يبدو غريباً للوهلة الأولى! وتتحرش مجموعة طالبات بطالب يصفنه بـ"القطاعة" ، وآخر كان يمشي لوحده، وأضطرب الطلاب وسيطر عليهم إحساس غامض بالخوف والرهبة! وصاروا لا يمشون إلا جماعات، وبعد عام تقريباً صار واقع كل الجامعات كجامعة هـ، خصوصاً بعد إختيار السيدة م.ن رئيسة للوزراء، وتعيين عدد من السيدات في مناصب قيادية وحكومية حساسة...
***
ألوان الصباح تحكي، تُخبر عن أشياء ماتت-تموت بعد إنتهاء كل صباح. صوت الصباح قريب بلا أصداء، أحيانًا يتردد في حكاياته، ويتحدث بتكلّف وصعوبة... كأنه في هذا اليوم ليس على ما يُرام. للصباح نشوة عنيفة تتوقد وتضطرب، لكنها ليست عامّة ومفهومة، إلا لإولئك الذين يعرفونه جيدًا، فهو صديق وعدو... مُتطرف في كل أحواله، ويبدو هادئًا مُسالمًا، وتلك خديعته الأبدية والمحتومة. وأنا والصباح أقلُّ من رِفاق وأكثر من أصدقاء، أعرفه جيدًا ولا أعرف عنه شيئًا، وأحيانًا أكرهه، في حين أنني وبشكل مُفاجئ قد أقع في عشقه بشكل عنيف وفظيع، تعلمتُ منه الكثير وعلّمتهُ كثيرًا، ويأبى دائمًا أفكاري... دائمًا يُخالفني ويصفعني برأيه.
منذُ أسبوع والصباح لونه واحد، رماديّ، وبارد. الخميس الماضي بدأت الكتابة عنه، واليوم الخميس عاد الصباح بطوره المُطمئن... لذا عُدت لأكتب عنه، وأفتقدُ التعبير عن هذا الذي لهُ ثلاثمائة وخمس وستون وجه، وأحيانًا يزيدُ لها وجهًا واحد.
#هاشم_عبدالله_الزبن (هاشتاغ)
Hashem_Abdallah_Alzben#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
-المُثقف والسُلطة-
-
ما قبل الهروب...
-
عن التنمية المُجتمعية
-
مُلاحظة...
-
من طفلة لاجئة (قصة قصيرة)
-
عن الحُب...
-
-حين تركنا الجسر-
-
رغد (قصة قصيرة)
-
تصدّقوا...
-
الصحة النفسية... الأهمية مُقابل الإهمال!
-
إطلاق طاقات الحياة (قراءة في علم النفس الإيجابي)
-
الإرهاب الصهيوني
-
مقتل البغدادي ونظرية الوحش الكامن
-
عن الإنسان المهدور
-
عن رداءة الواقع
-
عن الهروب من السجن الكبير
-
عن كتاب الشهيد ناهض حتّر -الخاسرون، هل يُمكن تغيير شروط اللع
...
المزيد.....
-
مهاتير: طوفان الأقصى نسف الرواية الإسرائيلية وجدد وعي الأمة
...
-
باللغة العربية.. تعليق -هزلي- من جيرونا على تصدي حارسه لثلاث
...
-
ميكروفون في وجه مأساة.. فيلم يوثق التحول الصوتي في غزة
-
عبد اللطيف الواصل: تجربة الزائر أساس نجاح معرض الرياض للكتاب
...
-
أرقام قياسية في أول معرض دولي للكتاب في الموصل
-
” أفلام كارتون لا مثيل لها” استقبل تردد قناة MBC 3 على الناي
...
-
جواهر بنت عبدالله القاسمي: -الشارقة السينمائي- مساحة تعليمية
...
-
لم تحضر ولم تعتذر.. منة شلبي تربك مهرجان الإسكندرية السينمائ
...
-
بقفزات على المسرح.. ماسك يظهر بتجمع انتخابي لترامب في -موقع
...
-
مسرحان في موسكو يقدمان مسرحية وطنية عن العملية العسكرية الخا
...
المزيد.....
-
جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل مسرحية "سندريلا و ال
...
/ مفيدةبودهوس - ريما بلفريطس
-
المهاجـــر إلــى الــغــد السيد حافظ خمسون عاما من التجر
...
/ أحمد محمد الشريف
-
مختارات أنخيل غونزاليس مونييز الشعرية
/ أكد الجبوري
-
هندسة الشخصيات في رواية "وهمت به" للسيد حافظ
/ آيةسلي - نُسيبة بربيش لجنة المناقشة
-
توظيف التراث في مسرحيات السيد حافظ
/ وحيدة بلقفصي - إيمان عبد لاوي
-
مذكرات السيد حافظ الجزء الرابع بين عبقرية الإبداع وتهمي
...
/ د. ياسر جابر الجمال
-
الحبكة الفنية و الدرامية في المسرحية العربية " الخادمة وال
...
/ إيـــمـــان جــبــــــارى
-
ظروف استثنائية
/ عبد الباقي يوسف
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
سيمياء بناء الشخصية في رواية ليالي دبي "شاي بالياسمين" لل
...
/ رانيا سحنون - بسمة زريق
المزيد.....
|