أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: بقية الفصل الأول















المزيد.....

حديث عن عائشة: بقية الفصل الأول


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6473 - 2020 / 1 / 26 - 02:11
المحور: الادب والفن
    


4
اتفقَ أن وصل خلّو إلى منزل امرأته، خفيةً، قبل قليلٍ من بلوغ جدّتها مدخل الشام مع ضوضاء قعقعة العربة على الطريق المعبّد بأحجار الغرزة. صورة الغروب، كانت قد اكتملت مع انسحاب الشمس الربيعية باكراً إلى ما وراء الجبل، مخلّفة لون الأرجوان على الغيوم الغزيرة، المتزاحمة في السماء مثل خرفانٍ تتسابق إلى المرعى. بعد بضع خطواتٍ متعجلة، ترك الشابُ الملثم بالكوفيّة العطفةَ المؤدية لرأس الزقاق المجاور، وكانت آمنة من أيّ عدو متربّص. عند ذلك حَسْب، انتبه خلّو لمنظر السماء فوقه: قطيع الغيوم، كان قد انتشرَ في الصفحة الرمادية، المزرقّة ـ كما لو أنه فقد نظامه مع اختفاء الراعي، الشمس، وراء قمم قاسيون، الجاثمة فوق صدر المدينة، المتنفسة هواءً ثقيلاً، موبوءاً.
واصلت عربة السيدة أديبة سيرها في مساءٍ بلون الحبر الأزرق، مخترقة طريق سوق الجمعة إلى آخره. رأت السوقَ مجرّداً من صفته، على خلاف ما وجدته قبل الحرب؛ وكان آنذاك حافلاً بالبضائع المتنوعة والغلال الوفيرة، يغشاه المتسوقون القادمون من مختلف الأحياء. هنا أيضاً، أعترض العربة أناسٌ محتاجين، لاحوا كالهياكل العظمية نتيجة الجوع والمرض، وكانوا يصرخون باكين معولين وعلى لسانهم مفردة واحدة، " الخبز.. ". أخذوا يبتعدون عن العربة، منسحبين إلى الزوايا الغارقة بالقذارة، ممتثلين لسوط الحوذيّ وصيحاته المنذرة. ودت السيدة لو تتنازل لهم عن صناديقها، لكن ما منعها كان تذكّر الحكمة الإلهية: " الأقرباء أولى بالمعروف ". مع علمها بمركز صهرها، زعيم الحي، لكنها لم تستبعد احتمال نفاد المؤن في منزله وأن أفراد العائلة يضغطون على معدتهم الفارغة.

***
لحسن الحظ كانت أحوال العائلة مطمئنة نوعاً ما، لا يعاني أفرادها من الجوع، على الأقل. كذلك لاحظت والدة سارة، من أول نظرة ألقتها على ابنتها، وكانت هذه تحمل طفلها المكمّل عاماً من عُمره. أما أحفاد الضيفة الذكور، الأكبر سناً، وكانوا ثلاثة، فإنهم بادروا لجلب الصناديق من العربة، المنتظرة عند باب الدار. في الأثناء كان الزعيم في المضافة، ولا بد أنه لحظ وقوف العربة ثمة. عدم تحركه من مكانه وراء مكتب العمل، كان على الأرجح بسبب انشغاله مع أعضاء مجلس الحي في مناقشة الأمور العامة. إذ سر لاحقاً، حينَ علم بنيّة حماته العيش في منزله، وقال مُشهّداً امرأته: " كان في نيتي المجيء بنفسي إلى الزبداني، لحثك على مغادرتها والانتقال إلينا "
" نعم، بارك الله بك. لقد سبقَ أن أخبرني بكر بقلقك على أحوالنا هناك "، ردت جدة الأولاد وكانت السعادة بادية على ملامحها. كانت إذاك ما تزال معتنقة عائشة، عندما ظهرَ عند عتبة الإيوان شابٌ ذو وجه جاف، وكان قصير القامة نوعاً، نحيلها. أدركت للفور أنه صهرُ الحاج حسن، وعليها كان من ثمّ أن تتأمله ملياً. بادر الزعيمُ عندئذٍ لتقديم الصهر إلى السيدة أديبة، قائلاً باقتضاب: " هذا خلّو، رجل عائشة ". برغم أن الشاب كان خارجاً من الحمّام نظيفاً، بملابس جديدة أيضاً، إلا أن النفور بدا واضحاً على سحنة جدة زوجته. عائشة من ناحيتها، لحظت التعبير السلبيّ ذاك، حامدة الرب أن الجدة تأخرت قبل وصول خلّو مع رائحة جسده، المثيرة للغثيان. متظاهرة بالمرح، عقّبت عائشة على كلمة والدها بالقول للزوج: " جدتي ستقيم معنا، وقد جلبت لي ثوباً من صناعة أجنبية مخصصاً للمرأة الحامل ". أومأ خلّو رأسه مرة أخرى، وهوَ ينظر إلى المرأة المسنّة، ولم يكن الحَرَجُ قد زايله بعدُ.

***
ثلاث نساء غريبات، أضحينَ من ساكني منزل الزعيم. غير والدة سارة ووالدة خلّو، كان ثمة امرأة أخرى، هيَ " سعدى "، من آل الشيخ عيسى نقشبندي، التي اقترنَ بها سلو في عام أسبق. بينما " سلطانة "، امرأة الابن البكر موسي، وكانت من العشيرة الآشيتية، أقامت في منزلهما بزقاق الكيكان، المجاور. كنّتا سارة، كانتا على تباين ملحوظ إن لناحية الشكل أو الطبع. الأولى، كانت ذات قسمات منتظمة، وبشرة ناصعة ينهمر عليها شعرٌ بلون البلح الناضج. طبعها الهادئ والرزين، كان يُماثل ما في هيئتها من حُسن. الأخرى، كانت شبيهة بالغجر، مع أن طبع هؤلاء الناس يتسم عموماً بالظرف والميل للمرح ومباهج الحياة. وقد أنجبت هذه في العام المنصرم صبياً، سيُعزى إليها مستقبلاً ما فيه من جنون ولؤم وشح وشراسة.
الزعيم، كان ينتظرُ أيضاً امرأة رابعة ربما تحل في ضيافته في وقت قريب. إنها شقيقته الوحيدة، " زَري "، المقدر لها التغرب في حوران، كون رجلها يعمل هناك مراقباً على مزارعي أرض كبيرة تخص آل شمدين. في العام المنصرم، رزقت وهي على حدود الخمسين بابن آخر. خمسة أعوام، مضت على آخر مرة كانت فيها شقيقته بمسقط رأسها. آنذاك، رُسِمَ على ملامحها ما تلقاه من سوء معاملة على يد رجلها. نوبات الصرع، في المقابل، لم تأتِها في تلك الزيارة. كذلك، أخفت وقتئذٍ عن الجميع حقيقة مؤلمة: كانت هيَ مَن تعيل أسرتها، لأن شيخي طرد من عمله بسبب سوء أخلاقه وتصرفاته وإدمانه على الكيف. شقيقة زعيم الحي، ارتضت لنفسها أن تشتغل بالأجرة في أرض الآخرين كيلا تموت مع أسرتها من الجوع.

5
بينما كان الزعيمُ ينتظر وصول شقيقته من حوران، إذا بالشيخ البوطاني، إمام مسجد سعيد باشا، يدخل المضافة مع هذا الخبر: " قافلة كاملة، تضم عائلات من عدة ولايات كردستانية، حطت قبل قليل أمام المسجد ". انشغل عندئذٍ فكر الرجل الجالس خلف طاولة العمل، فيما يده تتلهى بغمس الريشة في المحبرة. على حد علمه، كان قريبه بكر آخر المهاجرين من الوطن وذلك قبل نحو خمس سنين. مع دخول الحرب العظمى عامها الثاني، كان الزعيم يمنّي النفسَ بأنها انتصارات العثمانيين على الكفار الروس مَن جعلت أبناء جلدته يتمسكون بأرضهم: " فماذا دهى الآنَ، حقاً، كي ينزاح هذا العدد من الناس عن مواطنهم؟ "، أطلق الجملة الأخيرة في داخله. ثم ما عتمَ أن نهض من وراء المكتب وأصلحَ عمامته. خاطب هذه المرة عضوَ الشرف في المجلس، وكان بالكاد قد أخذ مكانه على الكرسيّ المزخرف بالصدف: " هيا بنا، يا صديقي، لنسمع منهم حقيقة ما يجري في الوطن ".
ليلة الربيع المبكر هذه، كانت باردة بسبب غياب الشمس عن معظم ساعات النهار. لكن القمر أطل بوجهه الضاحك خِلَل السحاب، وكأنما ليواسي بضع عشرات من أسر اللاجئين، وكان قد تم إدخالها إلى صحن المسجد قبل قليلٍ من مجيء زعيم الحي. كونهم من كرد الأرياف، مثلما نم من مظهرهم، لم يتحرج الحاج حسن من إلقاء نظرة شاملة عليهم. أقلقته أصوات السعال، المتصاعدة من بعضهم. السيدة أديبة، أعلمته بالأمس عن احتمال انتشار وباء الطاعون الأسود في بر الشام. مع كراهيته للطب الإفرنجيّ، لم يرَ مناصاً من استدعاء دكتور القشلة العسكرية، الجاثمة وراء المسجد مباشرةً، كي يتولى فحص هؤلاء اللاجئين. في الأثناء، كان عدد من الشبان المتطوعين يجلبون الفرش والبطانيات والوسائد، لتهيئة منامة العائلات تحت سقف المسجد. العبق الزكي لأزهار الليمون، المغروس في الصحن، غطت قليلاً على الرائحة المنفّرة، الملتصقة بأجساد ضيوف الله.

***
في حين سرى عنه قليلاً استنشاق عبق أزهار الليمون، المشبع به جو المسجد، راحَ الزعيم يتخيل دخان المعارك، المحتدمة على أرض الأسلاف. كان يرغب بزيارة لتلك الأرض لو حانَ أوان تقاعده، وإذا بالحرب العظمى تشتعل؛ والخالق، وحده، العليم متى ستخمد. البعض من هذا الجمع، حكى له عن ويلاتٍ حصلت في كردستان، إبّان اختراق الجيش الروسي للجبهة، وزحفه على الربوع الخضراء بعرباته الآلية، مع صيحات طلب الثأر باللغة الكردية، التي كان يُطلقها حلفاؤه الأرمن، المسلح أغلبهم بالقربينة القديمة. في حفلة الثأر، بينما القوزاق يتسلون بصيد الأطفال والنساء، الهاربين من المذبحة، راحَ أولئك المتطوعون يحرقون ويدمرون كل ما يصادفهم بما في ذلك مراقد الأولياء وشيوخ الطرق الصوفية. الانتقام من المدنيين، كان عبثياً ومجانياً: المذابح الأرمنية في الأعوام الماضية، جرت في أضنة ومرسين بإقليم كيليكية، وليسَ على أرض كردستان. كذلك الأمر بخصوص فرمان طرد الأرمن من اسطنبول ومدن الغرب، ما أدى لموت عشرات الآلاف على طريق المنفى، المتصل بدير الزور في الولاية السورية.
" لقد عشنا في وئام مع جيراننا النصارى، وكذلك كان حال أسلافنا "، قالها أحد الرجال للزعيم وكان يقف إلى جانبه في صحن المسجد. ثم أشارَ إلى ناحيةٍ من الحديقة، تجمّعَ فيها بعضُ مواطنيه، مستطرداً: " بل إن أحد الأرمن، وكان كريفَ جاره المسلم في قريتنا، آثرَ الهروبَ معنا بعدما فقد بيته ودكان رزقه ". اشتعل على الأثر فضولُ الحاج حسن، ورغب في التعرّف على ذلك النصرانيّ. سرعان ما مثل الرجل بين يديه، وكان يبدو في أواسط أعوامه العشرين. فكم كانت دهشة الحاج عظيمة، عندما علم أن هذا النصرانيّ ولد ونشأ في ديريك مازيداغ، ثم انتقل إلى ولاية وان على أثر زواجه بإحدى قريباته، وكانت تقيم في قرية يغلب عليها العنصر الكردي المسلم. حيرة الزعيم، وكانت لا تقل عن دهشته، جسّدها بسؤال الرجل عما دفعه للهرب وكان في وسعه الانتقال بأمان إلى مسقط رأسه. وكان الجواب، إشارة خرساء باتجاه مواطنيه القرويين؛ وكأنه يقول، ألا حياة له بعيداً عنهم.
في طفولتي، وأعتذر للقارئ من إقحام هذه الملاحظة على السيرة ـ كنا معتادين على شراء السكاكر من الرجل العجوز، المعروف بلقبه " أبي كَاسم ديركي "، الكائن دكانه في زقاق آله رشي، المجاور. كان يسبق لقبَهُ تعريفُ " الحاج "، الدال على زيارته أرضَ الحرمين: علمتُ في الكبر من والدي، أن الرجلَ من أصل أرمنيّ. ابنه البكر، كان أيضاً في ستينات القرن المنصرم من الناشطين في حزبٍ قوميّ كرديّ!



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حديث عن عائشة: مستهل الفصل الأول
- سارة في توراة السفح: الخاتمة
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع عشر/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع عشر/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الرابع عشر/ 3
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع عشر
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثالث عشر
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الثالث عشر
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ الحلقة 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 1
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 1
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل العاشر
- سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 3


المزيد.....




- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...
- -بنات ألفة- و-رحلة 404? أبرز الفائزين في مهرجان أسوان لأفلام ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - حديث عن عائشة: بقية الفصل الأول