|
سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 4
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 6458 - 2020 / 1 / 7 - 14:40
المحور:
الادب والفن
حال القسم السفليّ من الدار، كان العلويّ من طابق واحد، عمارته خالية من الزخارف الخارجية. أرض الديار، أينَ وقفت نورا لتستقبل صديقتها القابلة، كانت مغطاة بطبقة من الحجر المنحوت الشاحب، ممتدة إلى الإيوان، الفاصل بين الحجرتين الوحيدتين. كانت نوافذ الحجرتين مدعمة بقضبان من الحديد المشغول، مُتقاطعة، رؤوسها كالحراب. فيما القسم الأعلى من النوافذ، المقوّس، كان من الزجاج الملون وبأشكال هندسية. كون النهار دافئاً ومشمساً بشيء من الخجل، دعت سيدة الدار ضيفتها إلى الجلوس في الإيوان، المفروش ببذخ وذوق رفيع. " سنشرب القهوة معاً، أليسَ كذلك؟ "، قالت لسارة ثم ألقت نظرةً ذات معنى على الخادمة المنتظرة الأوامر. غادرت هذه موقفها، بعدما أومأت برأسها، لتعود وتدلف عبرَ الدرج إلى القسم السفليّ من الدار، المنفرد بوجود المطبخ. لاحت المضيفة بحالة صحية غير جيدة، مع تكلفها الابتسام وما في حركاتها من حيوية. هذا لحظته القابلة، الخبيرة بمهنتها، لكنها استهلت الكلام بالإشارة إلى الحديقة: " ما شاء الله، كأنها في عز الربيع. إنها تحتاج لثلاثة رجال، بحجمها الكبير وكثرة أشجارها وأحواضها وفسحها الخضراء " " أنا أتعهد بكل الأعمال فيها، وأحياناً تساعدني الخادمة. أما رجال المنزل، فيكتفون بأكل الثمار وتشمم الورود "، قالت نورا مبتسمة بإعياء. اهتبلت ذلك القابلة، لتطرح ملاحظةً: " لكنك حامل، والعمل المجهد ضار بك وبجنينك ". بقيت المضيفة ملتزمة الصمت، وكانت أقرب إلى العبوس. لما فتحت فاها لتتكلم، لاحت دمعة في عينها: " ليرحم الله الجنين، الذي لحق بأخوة له لم يرَ أحد منهم نورَ الحياة ". أسرعت سارة، تسأل بصوت مذعور، " ماذا؟ هل أسقطتِ الجنين حقاً؟ يا إلهي! " " لا تهتمي، يا صديقتي، إنه لم يكن سوى سقطاً "، ردت نورا وهيَ تمسح العبرة بظاهر كفها. هيمن الوجوم على الجلسة، وفي الأثناء انسابت ذكرى مشئومة إلى ذهن القابلة، بعثها ما في اللحظة الآنية من خطبٍ جلل: فاتي، الشقيقة الكبيرة لسيدة الدار، وكانت قد أضحت طيفاً بلون الكفن، عقبَ ولادتها بأيام؛ طيفاً، يهيم ليلاً في الكرم المنعوت بلقب صاحبته، مثيراً فزع المارين بإزائه كباراً وصغاراً. " مع الأسف، ليسَ في وسعي فعل شيء لحالتك وقد تكررت مرات في خلال السنين الأخيرة "، قالت سارة للمرأة الملولة وكان الحزن فاضَ بها. ثم استدركت: " سبقَ أن نصحتك بمراجعة طبيب أو مستشفى الطليان، لأن حالتك ربما تحتاج لعمل جراحيّ ". كانت الخادمة قد قدمت مع عدة القهوة وطبق من حلوى المنزل، فطفقت سيدتها ساكتة عن الجواب. حينَ غادرت الخادمة إلى مشاغل البيت، وضعت نورا فنجان القهوة بقرب شفتيها، وراحت تنفخ على محتواه بحركة تعبّر عن الشرود. انتبهت لنظرات ضيفتها، المنتظرة جواباً، وما كان منها إلا إعادة الفنجان لموضعه. قالت بنبرة أسف، " ابن عمي رفض آنذاك فكرة الكشف عليّ من قبل طبيب، ولم أعد أطرح عليه الأمر " " لكن في وسعك طلبَ الإذن من أبيك، وهوَ رجلٌ منفتح التفكير؟ " " أخشى أن يُحدث ذلك شقاقاً بيني وبين زوجي " " عجبي من هذا الصنف من الرجال، يستميتون من أجل الذريّة؛ فيطلقون ويتزوجون مجدداً، ثم يتبجحون برفضهم عرض المرأة أمام طبيب " " وإنني أُكْبر فيك العقلَ المستنير، يا عزيزتي، برغم ما يقال عن رجلك من تحريضه رجال الحارة على مقاطعة أطباء المدينة " " نعم، ولا أستطيعُ شيئاً سوى طلب الهداية له " " تطلبين الهداية لعالم دين! "، قالتها نورا مطلقةً ضحكة مقتضبة. شاركتها الضيفة شعورَ المرح، ثم ما لبثت أن أمسكت فنجان القهوة وارتشفت منه بهدوء.
*** نورا، أنجبتها فوزية خانم بعد فاتي بفاصل كبير من السنين. كانت الأقرب إلى الأم في الشبه؛ جميلة، رشيقة القوام مع طوله الملحوظ. على عكس والدتها وشقيقتها في حياتهما، تخلت عن الملابس الكردية، مستبدلة إياها بهيئة أقرب لبنات النصارى مع منديل خفيف للرأس، يكشف وجهها الناصع البياض وجانباً من خصلات شعرها الأسود. تأثرت فعلياً بأولئك البنات، في أوان أصياف الزبداني، واتخذت بعضهن صديقات مقربات. دأبت على غبطهن حينَ كن يتبادلن القصص الرومانسية باللغة الفرنسية؛ هيَ التي لم تكن تجيد حتى العربية قراءة وكتابة مثل حال النساء المسلمات عموماً. إحدى الصديقات النصرانيات، اقترحت أن تعلّمها العربية، وقد قبلت هيَ العرضَ بحماسة. في خلال ثلاث عطل صيفية، أثبتت ابنة الآغا ما تتميز به من ذكاء، وذلك بتمكنها من القراءة والكتابة بشكلٍ أوليّ. كان من المأمول أن تواصل دراساتها، بل والانتقال لاحقاً للغة الفرنسية، لولا أن الزوجَ كان بالمرصاد. " الرجل يحتاج للعلم في سبيل الحصول على وظيفة، بينما المرأة مهمتها البيت وتربية الأولاد "، قال لها في حينه مشدداً على الكلمات الأخيرة. فهمت حينئذٍ أنه يعيّرها، كونها لم تستطع الاحتفاظ بالجنين المرة تلو الأخرى. إجمالاً، ما كانت تشعر نحوه بالحب، تراه صورة طبق الأصل عن والدها بضيق تفكيره وشحّه. لكن الأب كان عقله متفتحاً أكثر، وفي التالي، على شيء من التسامح مع مظهرها الخارجيّ وصداقاتها. قالت ذات مرة لصديقتها سارة، متنهدة: " إذا لم يكن والدي موجوداً، ويحسب له حساباً كبيراً، لتزوج عليّ مستخدماً حجّة الأولاد. هكذا هم رجال وسطنا، وأيضاً أولئك المغتنين بالتجارة فجأةً. أشكري ربك، يا صديقتي، أنّ زوجك الزعيمَ له الوجاهة دونَ المال! ". ضحكت سارة عند ذلك. وكانت تُدرك، من ناحية أخرى، أن القصد من الأثرياء الجدد إنما يتجه سهمه نحو ابنيّ السيد نيّو. والد نورا، المعتد بنسبه ووجاهته، لم يدخر مناسبة للتعريض بالأخوين، ساخراً من حمل كل منهما لقبَ " الآغا ".
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 3
-
سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 1
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل العاشر
-
سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 3
-
سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 1
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل التاسع
-
سارة في توراة السفح: الفصل التاسع/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل التاسع/ 1
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثامن
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثامن/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل الثامن/ 1
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل السابع
-
سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 2
-
سارة في توراة السفح: الفصل السابع/ 1
-
سارة في توراة السفح: بقية الفصل السادس
-
سارة في توراة السفح: مستهل الفصل السادس
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 5
-
سارة في توراة السفح: الفصل الخامس/ 4
المزيد.....
-
ترامب يدعو في العشاء الملكي إلى الدفاع عن قيم -العالم الناطق
...
-
رواية -الحرّاني- تعيد إحياء مدينة حرّان بجدلها الفلسفي والدي
...
-
ضجة في إسرائيل بعد فوز فيلم عن طفل فلسطيني بجائزة كبيرة.. و
...
-
كيت بلانشيت ضيفة شرف الدورة الـ8 من مهرجان الجونة السينمائي
...
-
رائحة الزينكو.. شهادة إنسانية عن حياة المخيمات الفلسطينية
-
لحظة انتصار على السردية الصهيونية في السينما: فيلم صوت هند ر
...
-
-أتذوق، اسمع، أرى- كتاب جديد لعبد الصمد الكباص حول فلسفة الح
...
-
“انثى فرس النبي- للسورية مناهل السهوي تفوز بجائزة “خالد خليف
...
-
وفاة الممثل والمخرج الأمريكي روبرت ريدفورد عن عمر ناهز 89 عا
...
-
الشلوخ في مجتمعات جنوب السودان.. طقوس جمالية تواجه الاندثار
...
المزيد.....
-
الرملة 4000
/ رانية مرجية
-
هبنّقة
/ كمال التاغوتي
-
يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025
/ السيد حافظ
-
للجرح شكل الوتر
/ د. خالد زغريت
-
الثريا في ليالينا نائمة
/ د. خالد زغريت
-
حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول
/ السيد حافظ
-
يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر
/ السيد حافظ
-
نقوش على الجدار الحزين
/ مأمون أحمد مصطفى زيدان
-
مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس
...
/ ريمة بن عيسى
-
يوميات رجل مهزوم - عما يشبه الشعر - رواية شعرية مكثفة - ج1-ط
...
/ السيد حافظ
المزيد.....
|