أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع عشر















المزيد.....

سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع عشر


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 6467 - 2020 / 1 / 17 - 22:11
المحور: الادب والفن
    


1
في ذلك الصيف العاصف، من عام 1909، عندما أشرفت سارة على ولادة كنّة جارتها، امرأة بدوي، كانت في مستهل أشهر حملها. سرعان ما عرفت القابلة من ملامح امرأة النفاس أنها لن تعيش طويلاً، برغم أن ولادتها ما كانت متعسرة. استدلت على ذلك بنزف المرأة الكثير من الدم، ما يعني أن ثمة تهتكاً في الرحم. خبرة امرأة الزعيم، الطويلة نسبياً، جعلتها تحتفظ احتياطاً بأعشاب مفيدة لوقف النزف، وبالطبع، مع عدد من الفوط النظيفة. عقبَ ولادة الصبيّ، استمرت سارة تتطلع في المرأة شبه الغائبة عن الوعي: كانت قريبة للزوج عمر؛ صورة عن فتيات عشيرته، المتصفات بالملامح الرائعة والقامة الطويلة، فضلاً عن اللطف والظرف والذكاء.
قبل حلول ربيع العام التالي، شعرت سارة بأوان ميعاد قدوم الجنين. على غير العادة، عانت كثيراً حتى أمكنها إخراج طفلتها إلى نور الحياة. أثناء الولادة، تخيّل لوهمها أنّ امرأة عمر كانت إحدى النساء، اللواتي اجتمعن حول سريرها. المرأة المسكينة تلك، كانت قد توفيت عقب ولادتها ابنها الأول بأسبوع واحد، دونَ أن تنفعها علاجات الأعشاب. من غرائب القدَر، أن زَري ـ وكنا علمنا حكاية حبها الصامت لعمر وما تبعها من الخطبة غير الموفقة ـ ولدت ابنتها البكر في نفس الفترة تقريباً، التي شهدت ولادة ابنه. حينَ قدمت مع ابنتها إلى الشام غبَّ انتهاء الموسم الزراعيّ في مقر إقامتها بمنطقة حوران، أعلمتها زوجة شقيقها بتلك التفاصيل، الغريبة والمأسوية في آن معاً. في المقابل، لم يشع النورُ في عينيّ زَري الجميلتين، شأنها لما تسمع اسمَ مَن عشقته في أيام الصبا. كان واضحاً من تعبير عينيها، مدى تعاسة عيشتها مع شخصٍ بمثل طبع شيخي، لدرجة أن تتجرد حتى من سلاح الذكرى.

***
الابنة الأخرى، عائشة، بلغت في ذلك العام الخامسة عشرة. حضور زَري، وما قلّبه من مواجع حبّها القديم التعس ـ مع أنها كبتته في داخلها ـ شاء أن يقلق سارة بخصوص ابنتها الكبيرة. حقاً إن الحاج حسن لم يحالفه بُعد النظر في شأن زواج شقيقته، إلا أنّ طبعه العنيد في حالات أخرى أخاف الآنَ امرأته وجعلها في خشيةٍ على مستقبل ابنتهما. لكنها في مقابل ذلك، ما اشتكت من حياتها معه، وكانت منذ ربع قرنٍ قائمة على الود والتفاهم. كذلك مع تقدم كلاهما في العمر، أضحيا أكثر تسامحاً تجاه بعضهما البعض. فإنه أذنَ لامرأته بزيارة والدتها، وأبدى ترحيبه بمرافقة زَري لها. كانت سارة قد قالت له: " ربما ينفع هواءُ الريف بتغيير مزاجها، على الأقل لبضعة أيام "
" لكن زَري تعيش في الريف للسنة الثالثة، أليسَ كذلك؟ "، رد بنبرة حزينة. ثم استدرك، مغيّراً اتجاه الحديث: " سيكون وجودك مع الأولاد عبئاً على السيدة أديبة، بله وشقيقتي مع طفلتها ". أجابت سارة: " بل ستكون سعيدة للغاية، كوننا لم نلتقِ منذ الصيف المنصرم ". كان قد كفّ من زمن بعيد عن الشكوى لامرأته من حماقات والدتها، بما كان من تقدم هذه في السن. بيد أنه كتم في قلبه ألمَ تبديدها لثروةٍ كبيرة، كان من الممكن أن يؤولَ قسمٌ كبير منها لأولاده. الزوج الأخير، استغل وكالة عامة وضعتها السيدة أديبة في يده كي يموّل مدرسة حديثة في جنوب الصالحية، وما لبثَ مع اكتشافها للأمر وثورتها عليه أن عجّلَ بنطق كلمة الطلاق. منذئذٍ تعيشُ على دخلٍ متواضع، تحصل عليه بمشقة من محصول قطعة أرض بقيت بمنجى من عبث الأزواج الجشعين.

***
منزل السيدة أديبة، كان ما زال معدوداً من دور الأعيان في بلدة الاصطياف الأشهر. إنه من الأملاك القليلة، التي لم تفرط بها في زيجاتها الثلاث، وكانت أصلاً قد انتزعته بالقوة والحيلة من أرملة أبيها. هذه الأخيرة، كانت آثارها قد اختفت أبداً عقبَ هروبها مع الشاب النصرانيّ. غير أنها بقيت في ذاكرة غريمة أيام زمان، ولو أنها مشمولة بمشاعر الشفقة والعطف منذ أمد اختفائها. لعل والدة سارة كانت تفكّر بالأرملة، لما جاءت المربية وهيَ تسحب رجلها اليمنى بمعونة العكاز، وكانت ملامحها مستبشرة. آمنة، صار يسبق اسمها لقبُ " الحاجّة "، وذلك على أثر عودتها من أرض الحجاز قبل نحو ثلاثة أعوام. سافرت بمعونة سيدتها، مستعملةً خط السكة الحديدية.
" أتانا ضيوفٌ أعزاء، نادرين! "، قالتها الحاجة مبتسمة عن فم يحيطه تجاعيدُ الزمن. حالاً أدركت السيدة أديبة أن الأمر يتعلق بابنتها، فما كان منها إلا أن هبت من مجلسها على الترّاس، لتتجه نحوَ مدخل المنزل. سبقَ حركتها ضوضاءُ القادمين باللغة الكردية، بالأخص الأولاد والبنات. أسعد الجدة كثيراً رؤية حفيدتها الجديدة، ولم تكن قد رأتها بعدُ. عقبَ تقبيلها الابنة والضيفة، حملت الحفيدة وهيَ ننطق اسمَ الجلالة: " رابعة؛ كم هو اسمٌ جميل بمثل جمال صاحبته "، قالتها بلهجة بلدتها غامرةً وجهها في أعطاف الطفلة. بعدئذٍ تعددت اللهجات واللغات، واختلطت إلى حدٍّ جعل سارة أكثر من مرة تخاطبُ سهواً مربيتها بالكردية!

2
حقاً كانت السيدة أديبة سعيدة بقدوم ابنتها وأحفادها الصغار، مع أنها بدت لاحقاً شاردة الذهن، كئيبة الملامح، ما أوحى بثقل الهموم على قلبها. برغم معرفة سارة لعدم جدوى صرف والدتها عن الذكريات المؤلمة، لكنها فكّرت مع ذلك بسؤالها عما يشغل خاطرها. من ناحيتها، كانت الأم تشكو من أشياء ليسَ لها علاقة مباشرة بالذكريات؛ أشياء من قبيل الخشيَة من الشيخوخة الزاحفة حثيثاً ـ كأفعى تسعى لقنص الفريسة. كذلك الأمر فيما يتعلق بعيشتها المتواضعة، بحيث اضطرت لتأجير الطابق العلويّ والكوخ للمصطافين القادمين من دمشق. إنها تعلم مدى ذنبها في هذا الحال من الضنك والمهانة، ولو أنها تحيله إلى جشع الأزواج وغدرهم. كان من الممكن ألا تستسلم للحال، هيَ المعروفة بقوة الشكيمة وشدة المراس، لولا أن الجسدَ ما عاد كما في السابق، مفعماً بالحيوية والنشاط.
" أشعر الآنَ بحجم خسارة العم عمر، رحمه الله، لأنني لا أجد رجلاً أهلاً للاعتماد عليه في أمور الأرض "، قالت لابنتها رداً على سؤالٍ عما يصرفها عن التمتع بهذه الصُحبة الجميلة. كن قد انتقلن إلى الصالة على أثر تناول الغداء، وقد شرعن بشرب الشاي. بذكرها اسمَ المعنيّ، لم تنتبه المضيفة بالطبع لما دهمَ ملامح الضيفة من تبدّل. لاحَ أن ابتعاد زَري عن شيخي، الشبيه بشبح الحكايات الشرير، قرّبها من ذكريات الزمن الآفل، الجميلة.
" لِمَ لا تؤجرين الأرضَ أيضاً، مثلما يفعل العديد من الملّاكين؟ "، تساءلت سارة. رسمت الأم بسمة مريرة على فمها، مكررة المفردة الأخيرة من جملة الابنة: " الملّاكين..! ". أدركت الأخيرة وقع المفردة على الوالدة، وأنها تذكّرها بماضي مجدها المنقضي والمندثر. فحولت الحديث إلى السؤال عن شقيقها الوحيد، وما إذا كان من المؤمل الاعتماد عليه في تأجير الأرض لأحد معارفه. أجابتها السيدة أديبة بنفس النبرة المرّة: " إبراهيم الذي تعرفينه تغيّرَ، بسبب شحن امرأته اللعينة. كان قدَراً مشئوماً زواجُهُ من عشيرة أبيه، وكنتُ توقعت ذلك منذ البداية لو تذكرين. إنها تغذّي لديه شعورَ العقوق والجحود، بحجّة أنني أضعتُ ميراثَ أبيه. لقد ردد أمامي هذا الهراء مؤخراً، مع علمه بأن والده عندما مات كنتُ مطلقة منه، ولم يكن يملك على أي حال سوى قطعة أرض صغيرة "
" أنا آسفة، أماه، لفتح الحديث عن أمور منغّصة "، قالتها سارة وهيَ تلمس في حنان كفَ المرأة الملولة. ثم استدركت، وهيَ تلقي نظرة سريعة على شقيقة رجلها: " سأكلّم الحاج حسن حول موضوع الأرض، ربما يجد لك حلاً بالإيجار أو البيع ".

***
منذ نعومة أظفاره، اعتاد بكر على العمل في الأرض حتى لقد غدت قطعة من روحه. في الشام، أينَ استقر أخيراً، لم يشعر بالراحة في عمله كناطور. مع أنه يسهر الليل بطوله في المناوبات الليلية، إلا أنه كان يُدهش المزارعين ببقائه صباحاً لساعات وهوَ يناقشهم بما لديه من خبرة في أمور الحرث والبذر والأسمدة وما إلى ذلك. في المنزل، كان يقول لابن خالته: " لن يهدأ لي بال إلا بامتلاك قطعة أرض، ولو في أبعد مكان ببر الشام ". كان يدرك أن مسئولياته ستزداد مع مجيء أسرته، بالأخص لأنه لا يملك سقفاً لهم. كان قد بعث رسالة شفوية لأحد أشقائه عن طريق رفيق الحج، يطلب منه اصطحابَ الأسرة إلى دمشق قبل حلول الشتاء. ثم امتلأ بكر بالأمل، حينَ أعرب صديقه حمّوكي عن استعداده إيواءَ الأسرة لديه في المنزل ما طابت الإقامة لهم.
لم يكن غريباً، إذاً، أن يفكّر الزعيمُ بقريبه عندما حدثته سارة عن هموم والدتها مع الأرض. أرسل أحد الأولاد إلى بكر، طالباً أن يوافيه إلى المضافة قبل ذهابه للعمل الليليّ. هذا الأخير، كان يمر على المضافة كل بضعة أيام، يمتّع قريبَهُ عالي المقام بالمزيد من قصص العشيرة في الوطن. أسعده بوجه خاص، لما قفزت إلى ذهنه في العام المنصرم فكرةَ الذهاب إلى ذلك الخان، الذي يتجمع فيه العائدون من رحلة الحج، كي يحمّل أحدهم الرسالة الموجهة لعليكي آغا الصغير. إنه نفس مواطنه الماردينيّ، مَن أخذَ على عاتقه أمر الرسالة الشفهية تلك، وكان قد تأخر في دمشق بعدما طابت له هوَ الآخر الإقامة فيها. آنذاك وجدَ الرجلَ يشعر بالملالة والضجر، يمضه الحنين إلى الموطن. لم يكن ذلك بالمستغرب بالنسبة لبكر؛ لأنه مع تآلفه على الشام، كان يراها مدينة كبيرة عصية على الترويض، يحس بالضياع في متاهة مسالكها وأزقتها وأسواقها: هذه الحالة، في الوسع تبينها بزمننا المعاصر مع الطلبة الكرد، القادمين من أرياف الشمال، حيث يحبسون أنفسهم في غرف الإيجار ولا يكادون يعرفون شيئاً عن المدينة!

* مستهل الفصل الرابع عشر/ الكتاب الثالث، من سيرة سلالية ـ روائية، بعنوان " أسكي شام "



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثالث عشر
- سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الثالث عشر
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ الحلقة 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الثاني عشر/ 1
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 5
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 4
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 3
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل الحادي عشر/ 1
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل العاشر
- سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 3
- سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل العاشر/ 1
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل التاسع
- سارة في توراة السفح: الفصل التاسع/ 2
- سارة في توراة السفح: الفصل التاسع/ 1
- سارة في توراة السفح: بقية الفصل الثامن


المزيد.....




- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...
- -الضربة المصرية لداعش في ليبيا-.. الإعلان عن موعد عرض فيلم - ...
- أردوغان يشكك بالروايات الإسرائيلية والإيرانية والأمريكية لهج ...
- الموت يغيب الفنان المصري صلاح السعدني


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - دلور ميقري - سارة في توراة السفح: مستهل الفصل الرابع عشر