أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني محمد ناصر - رواية سطوة الألم















المزيد.....



رواية سطوة الألم


أماني محمد ناصر

الحوار المتمدن-العدد: 1567 - 2006 / 5 / 31 - 10:04
المحور: الادب والفن
    


الفصل الأول
تداعيات

إن نسيتُ .. فلا أنسى تلك البحيرة التي كانت هادئة هذا الصباح كهدوء حبِّك لي .. والتي أبدعتها اليد الإلهية، وكان لنا فيها لقاءات لا تُنسى ...
فهنا ... تنهد الصباح بأجمل إشراقة للشمس وأبدعها منظراً ..
وهنا ... اغتسلت أرواحنا بدموع من اللهفة والحنين ... ولثم خدودنا نسيم قادم من وراء هذه البحيرة ليضفي على دموعنا الصفاء والنقاء ...
وهنا تحادثت العصافير عن قصة مارغريت الذائبة العاشقة لفاوست...
ومرَّ الغروب ملامساً أمواج البحيرة الصافية وحوّلها لمرآة سحرية تعكس لون الأفق الأرجواني فتضفي على أفئدتنا سحراً ما بعده سحر ...
وهنا ... تناثر الشوق عطراً ففاح عبير الربيع منه ياسميناً وارتعش الياسمين من عطر الشوق...

كنتُ جالسة قبالة هذه البحيرة أفكر بالألم الذي خلّفه غيابكَ عني ...
رحتُ أنعم النظر فيها ... شاردة في أيامٍ كنتَ فيها الأكثر جمالاً والأكثر عذاباً ...
ولولا شعوري بالألم في هذه اللحظات ... لكنتُ استمتعتُ بمنظر هذه البحيرة وذكرياتي معها ...
ولكن الجرح الذي حَفَرْتَهُ في قلبي ... عاد ينزف !!!
كنتُ أتناول فنجان قهوتي الصباحي على ضفاف هذه البحيرة ... وأذكر جلساتنا وحبكَ للقهوة وولعكَ بها ...
كانت قهوتك مُرَّة كمرارة الحرمان الذي أشعرتني به منذ اللحظة الأولى التي اعترفتَ لي فيها بحبك، وكشفت أمامي أوراق قلبك ...
كنتُ أدرك بشعور الأنثى وحدْسها أن الطريق بيننا مسدود ... وأنني في النهاية سأعود وحدي محمّلة بآلامي وأحزاني ودموع يأسي ...
ولكم أحرقتني تلك الدموع ... !!
كنتُ في إجازة قصيرة بعد أن شاركتُ في مؤتمر للمكفوفين ... قيل إنني: قد أبدعتُ فيه ... وحينما تسلمتُ شهادة التقدير من قبل رئيس المؤتمر ... لم أكن سعيدة بها كغيري ... بل كنتُ حينها أفكر بك وأنا في قاعة التكريم وأضع يدي على قلبٍ قد انفطر لشدة ما أحبكَ، وسط تصفيق جمهور أعتقد أنني أضع يدي على صدري شاكرة له ...
ويا لشقاء صدرٍ أحبكَ لحدّ الألم !!!
عدتُ إلى مقعدي وكلي شوق إليكَ ... أوّاه منها لوعة المشتاق !!!
كنتُ أتمنى أن تكون معي في هذه اللحظات التي أحنّ فيها إلى وجهكَ الملائكي ... ويدك الذهبية وعينيك اللوزيتين..!!
إلى كل ما فيك ...
دمعتكَ التي لم أرها آخر لقاء بيننا ... ولكنني شعرتُ بها ...
صفاء عينيكَ واخضرار قلبك ...
ضجيج غضبكَ ... وكل شيء.. كل شيء.. كل شيء!!!
وما زلتُ أذكر كل كلماتك ... وكل الجراح التي غرستَها في صدري ...
كمْ يحلو لكمْ معشر الرجال أن تجرحوا الأنثى التي تهواكم ...!!!
أَتَعْلَمْ ؟! …
حتى تلك الجراح أفتقدها وأتوق إليها ...
وما بين جرح وآخر يموت أمل فيّ، ويحيا يأس ، وما بين الأمل واليأس ألف عبارة " ابقَ معي " ...
يدمرني نزيف حبي الدامي لك ... نزيف من القلب إلى القلب!!!...
يأخذني إليكَ حنيني المجروح ... فتعيده إليَّ دماءً مبعثرة ...!!!
وعدتُ بذاكرتي إلى ما قلتَهُ لي :
" أستأذنكِ... أريد أن أغسل وجهي من حرِّ الصيفِ"..
ولم يخفَ عني كعاشقةٍ أنكَ تريد أن تغسلَ الدموع التي خلَّفتْها لك لحظات صمتي وغضبي !!!
قلتَ لي: إنّ آخر لقاء بيننا قد أراك أشياء لم ترها من قبل لشدَّ ما آمل أن يكون ذلك حقاً.
فهمتُ قصدك … ولكنني اتخذتُ له بكبرياء الأنثى المجروحة منحىً آخراً…
فأنتم معشر الرجال لكم يحلو لكم أن تروا دمعة الأنثى التي لملمت ما تبقى من عمرها لتضعه أمانة بين أيديكم …
لشدَّ ما أتمنى أن يكون آخر لقاء بيننا قد أراكَ حقاً ما لم تره من قبل...!!!
لشدَّ ما أتمنى أن يكون قد أراكَ خوفي من مستقبلي معكَ...
مستقبلي الذي تريده كما تريده أنتَ وحدك وليس كما نريده نحن الاثنان معاً!!
ولشدَّ ما أتمنى أن يكون قد أراكَ رغبتي الجامحة بك وبأن يحتويني صدركَ ... وشوقي إليكَ ونيراني التي تحاوطها بمائك، تنثر عليها بضع قطرات حتى لا تنطفئ !!!
لعلّكَ رأيتَ ... من الأشياء التي لم ترها من قبل.. مقدار الألم الذي سَبَّبْتَهُ لي طوال سنة ونصف السنة ... ومدى ألم احتضار الهوى حينما كنتُ أمامك أنثى تتفتّحُ لك، ولك وحدك وروداً، ولكنك ويا للأسف نسيتَ أن تسقي ورود الحديقة !!!
ولعلك رأيت أيضاً كيف كنتُ نبضات قلب يموت بك ويحيا لك !!! ... ويعشقُ موته لأجلك ... ويكره حياته بعيداً عنكَ!!!
كنتُ أحاول الاستشفاء من حالة العشقِ التي راودتني طيلة هذه المدة ... فأنا وفي اللحظة التي كنتُ أتسلّم فيها شهادة التقدير والجمهور يصفق لي ...كنتُ أسلّّمكَ شهادة فشلي في تجربتي معكَ وقلبي يقطر دماً ...
ولتشفى من حالة عشقية ـ كما تقول أحلام مستغانمي في روايتها عابر سرير ـ يلزمك رفاة حبٍّ ، لا تمثالاً لحبيب تواصل تلميعه بعد الفراق ، مصرّاً على ذيّاكَ البريق الذي انْخطفْتَ به يوماً . يلزمك قبر ورخام وشجاعة لدفن من كان أقرب الناس إليكَ ...
أنت من يتأمل جثة حبٍّ في طور التعفن ، لا تحتفظ بحبٍّ ميت في براد الذاكرة ، اُكتُبْ ، لمثل هذا خُلِقَتِ الرواياتُ ... "
لكأنَّ أحلام كانت تعيش بقلبي ... تّطلِعُ على تمزقي بعشقي ... لتكتب بذكائها العاطفي إحساسي الممزق وإحساس كل عاشقة مثلي .
كنتُ شاردةً بكل آمالي بكَ التي استحالت منك آلاماً ... ومنظر البحيرة يأسر قلبي... وكنتُ حينها أهيم حزناً على ضفافها ... أنظر إليها فلا أرى إلاّ وجهكَ يتراقص على صفحة مائها ...
أغرف قليلاً من مائها بيدي ... فأرى وجهك من جديد في يدي ...
تتسارع نبضات قلبي ... ويخفق فؤادي ألماً لفراق فؤاد هذه البحيرة!!!...
فعلى هذه الصخرة شربنا معاً من نقائها !!!
وتحت هذه الشجرة جلسنا نستظل من حرِّ الهوى، ونستخرج خمراً يُسكر أفئدتنا ...
وهنا كانت لنا بصمة أبدية لأروع حكايا الحب ...
وهنا ... وتحديداً في هذا المكان ... وعلى هذه الصخرة البيضاء ... وقرب هذه الشجرة ... قدّمتَ لي دون أن تدري أيقونة سُكٍر ... أولها سُكّر وآخرها علقم ... وقدمتُ لكَ وليتك كنتَ تدري أيقونة عشق أبدية.. أولها عشق وآخرها هذيان!!
فكوني اليوم لي خمراً أيتها البحيرة ... أسكر به لأنسى آلامي وأحزاني... كوني نبيذاً أحمر يرِّطبُ وحدتي ويؤنس وحشتي ...
كوني صرخة ألم من هوى يكاد يفتك بفؤادي ... علَّ الصوت يصل إلى الحبيب فينتزعني من صمتي ويأسي..
كوني راوية ... تروي قصة ألمي مع حبيب تركني ... أهذي وحدي على شاطئك اللازوردي أزرع أحلاماً وأجني أوهاماً ...
كوني اليوم لي صديقة أيتها البحيرة ... أبثّها أشجاني ...
اجمعي ما تبقى من أشلاء حبي وانثريه وروداً على وسادة حبيبي..
كوني ترنيمة سحرٍ أتغنى بها لمن تركني وحدي، أعاني سطوة الألم!!!
ودعيني أنهل من أعماقك عبراتٍ أبكيها حزناً على فراق أجمل لياليكِ !!!
كنتُ كاتبة مقالات عاطفية ... أكتبُ بضعاً من أحاسيسي وأحاسيس غيري وأنشره في بعض المجلات والصحف..
وكنتَ بعد كل لحظة نشوة تجمعنا تسائلني :
- أكتبتِ شيئاً ؟!
أقول لك :
- ليس بعدُ ...
فتعود لتسألني مازحاً :
- هل تنتظرين أن آتي لَكِ بدفتر وأقلام ؟
أجيبك على رأي أحلام مستغانمي :
- " لتكتب ، لا يكفي أن يهديكَ أحد دفتراً وأقلاماً ، بل لا بد أن يؤذيكَ أحدٌ إلى حدّ الكتابة " ...
ولهذا تراني الآن أكتب قصتي معكَ !!!
قصتي التي ابتدأتَها بحب هادئ عميق ... وأنهيتَها بسطوة الألم ...
قصتي التي ابتدأتَها بالحب الذي أهداني وروداً ... وما أسرع ما تذبل الورود !!!
الحب الذي سألني يوماً : من أنتِ ؟!
من أنا !!! ؟!
أنا الغريبة التائهة بلا عنوان !!!
أنا الوجود الضائع بين أشلاء الأماني !!!
أنا المتهمة بحبي !!! وما ذنب المحب حبيبي ؟!!!…
وهاأنا ذا في المكان نفسه … وحيدة… أشيدّ ممالك الذكرى … ذكرى الأحبة الذين رحلوا … أضيء ماضي الليالي المطفأة ...
أنا !!! ... أنا التي تحترق جمراً لتصبح رماداً خامداً بعد ليل غريب طويل ...
أنا !!! أنا التي تصرخ الآه منكِ يا ليالي الشوق ... يا مساءات الحريق...
كم مضى من الوقت على فراقنا ؟ لست أدري !!
وإذا سألتني يوماً أيها القارئ: هل من نصيحة تزجيها لعاشق يرتاد الهوى؟.
أجيبكَ:
ألاّ يهوى من أول نظرة ... وإن فعل فليترو كثيراً وليفكر قبل البوح لمحبوبه ... تلك النظرة التي أهدتني عمراً حينما التقيتك أول مرة ... وأهدتني رفاتاً حينما ودّعُتكَ آخر مرة...
رفاتي التي حملتها وحدي ومضيتُ إليكِ أيتها البحيرة... أناجي نوارس روحي ...
أسائلها: إلى أين تمضين بي؟! إلى أين الرحيل !! ؟!..
أللبحيرة عائد أنتَ ... أم آتٍ من حلمِ المستحيل ؟!! …
أسمع همهمة الرياح ونمنمة النسيم على شطِّ البحيرة ...
هي ذي وشوشات الحصى تحدثني هامسة عن حلم المستحيل ...
رحماكَ ربي ... إلى أين هو ماضٍ نورس الروحِ ؟!!
خوف الأمس ما زال يتغلغل بأعماقي ... ويملأ بالدمع أحداقي ...
عدتُ في ذاكرتي وأنا أرشف آخر رشفة من فنجان القهوة إلى اللحظة الأولى التي أحببتك فيها ... وهي اللحظة الأولى التي رأيتك فيها ... وليت تلك اللحظة كانت قد ألغيت من سنوات عمري ...
تذكرتُ حينها الحوار الذي دار بيني وبين الأستاذ عبد المعطي صديق العائلة الذي تكفَّلَ بي بعد رحيل والدي ... إذ كان يحاول جاهداً إقناعي بالعدول عن رأيي فيما يخص التدريس في مدرسة المكفوفين ...
وليته لم يفعل ذلك ... لأنه من دون أن يدري ... خطّ بيديه جرح عمري!!!
وعدتُ أذكر حينما قلتُ له :
أرجوكَ أيها الأستاذ عبد المعطي ... أرجوكَ اقبل اعتذاري ... فالعمل هنا متعبٌ ومضنٍ...
أُقدّرُ أنك تذكرّتني وحدي دون سواي في هذا العمل ولكنه لا يناسبني ...
ألا ترى معي أن هذا النوع من العمل سيسرق عمري ويشغلني عن عملي ككاتبة مقالات.
ثم لا تنسى أنني عما قريب ربما أسافر للعمل في الخارج، فما فائدة أن أضيع وقتي هنا ؟
قال الأستاذ عبد المعطي :
ـ لتجربي مرة واحدة؛ يوماً فقط أو يومين، فإذا ما تأقلمت استمري وإلاّ فلكِ حرية الاختيار !
ـ لا أستطيع ذلك يا أستاذ وأنت تدرك ذلك جيداً فما الرابط بين كتابة الشعر والتدريس؟؟! ثم إنه تدريس فريد من نوعه، وأنا لا أعرف شيئاً عن المكفوفين… ولا عنْ طرائق تدريسهم إلاّ الشيء اليسير ... وربما لن يعينني ذلك في شيء ... أستأذنك بالانصراف الآن ولنبقَ على اتصال ...
انصرفتُ عنه متوجهة لمنزلي فناداني ثانية :
ـ وفاء اسمعيني !!!
التفتُّ إليه ... فرأيتكَ !! يا مهجة الروح ... يا نبع الحنان ومنبتَ الحبِّ...
هناك في المكان الراسخ أبداً بذاكرتي ... في تلك الزاوية تسمّرت عينايَ على قامتك... أتعبني حضورُك المفاجئ المليء بالقوةِ والمفعم بالرجولة ... وغمرني ما يشبه سطوة الألم ...
سطوة الألم التي اعترتني حينما رأيتك …
سطوة الألم التي انتشرت بأعماقي حينما وقعت عيناي عليكَ لأول مرة...
سطوة الألم التي جرت بجسدي مجرى الروح فيه ...
كان الأستاذ عبد المعطي ما زال يحاول جاهداً إقناعي بالبقاء والعودة غداً كي أستمر في عملي ...
كنتُ أسمعه وأنصت إليكَ …وكنتُ أراه وصورتك ماثلة أمامي ... أسرق النظر إليها بين حين وآخر ... رحتُ في دوامة غريبة لم أعهدها من قبل وبدأتُ أتساءل : هل هذا إعجاب بك ؟! هل هو حب لك، من أول نظرة ؟! لستُ قادرة على تحديد تلك المشاعر التي اعترتني في تلك اللحظة !!!
استيقظتُ من تساؤلاتي على صوت الأستاذ عبد المعطي قائلاً:
ـ ما بكِ يا وفاء ؟!! لماذا لا تجيبيني ؟
قلتُ له بصوت متهدج ...
ـ كما تريد يا أستاذ !!!
كاد يطير من الفرح وهو يعتقد أنه أقنعني أخيراً ...
لكنه لم يدرك أنني لم أبقَ هنا لأجله هو ... وإنما لأجلكَ أنتَ ...
لم يعد يهمني العمر الذي يمضي ألماً طالما أنتَ فيه تداويه…
ألغيتُ لحظتها قرار السفر ... وقررتُ السفر إليكَ مهما كانت النتائج ...
شعرتُ حينها بتناقضات في داخلي ...
مشاعر غريبة تعتريني لأول مرة ... بعد زمن طويل ... طويل ...
أي نوع من الرجال أنتَ ؟!
كنتُ أعتقد أنه لا يوجد رجل في العالم أجمع يستطيع التسلل إلى قلبي ...
وكنتُ أعتقد بكبرياء الأنثى أنني لن أسلّم قلبي لأحد لا من أول نظرة ولا من ألف نظرة...
فأي كبرياء ذاك الذي حطمته ؟!
يا لأحاسيسي التي استيقظت في اللحظة التي التقيتكَ فيها … ويا لروعة لقياكَ ...
أردتُ أن أعترف لنفسي بأشياء وأشياء ولكن ... خانتني اللغة، وتكشفت عجمة الكلمات ...
أردتُ أن أصرخَ بأعلى صوتي ببضعة كلمات ولكن ... ماذا أقول وأنا بعد لا أعرف من أنتَ ولا كيف أتيتَ ؟…
صرتُ أحدث نفسي: لعلّه سحر اللحظة الأولى التي تومض حالما تلتقي الأنثى برجل يشبه فتى أحلامها ... وسرعان ما تنطفئ ...
ربما هي الحاجة لملء الفراغ العاطفي الذي أعيش فيه..
هل شعوري تجاهك نزوة ؟!! …
لا … لا أعتقد ذلك … فكل ما بأحلامي يناديك … يناجيك …
يا روعة الأحلام !!!
كانت هواجس عدة تدور في مخيلتي وأنا في طريقي إلى المنزل ... وأسئلة كثيرة لا أجد لها أي جواب ...
* * *
أيقظني من هواجسي تلك وأنا على ضفاف البحيرة صوت من ورائي :
- صورة يا آنسة ؟
سألته :
- وحدي ؟!
أجاب :
- ولكن لا أحد معكِ !!! ... انظري إلى روعة البحيرة وصفاء السماء... ما رأيك بصورة في هذا المنظر الخلاّب؟
أعدتُ السؤال :
- وحدي ؟!
نظر إليَّ بجزع ثم ولّى عني ظانا أنه يكلم امرأة فقدتْ عقلها … ولكنه لم يفطن إلى ما رميت … فكيف لي أن آخذ صورة، أنتَ لستَ فيها ؟!
طلبتُ فنجاناً آخر من القهوة ...
جاءني فنجان القهوة محملاً بأنغام أغنية عبد الحليم حافظ " أي دمعة حزن لا" ...
لكأن البحيرة كانت تحدثني ... لكأن الشاهد الوحيد على عمق حبنا يخفف بعض آلامي ...
كنتُ أعشق تلك الأغنية :
" أي دمعة حزن لا ...
أي جرح في قلب لا ...
أي لحظة حيرة لا ...
حتى نار الغيرة لا ..."
أين أنتَ الآن ؟! وهل تذكرني كما تسيطر عليّ ذكراكَ؟!
"عايشين سنين أحلام ...
دايبين في أحلى كلام..
لا عرفنا لحظة ندم ...
ولا خوف من الأيام ..."
مع أني كنتُ أستشعر الخوف منذ بدء قصتي معك !!!
وها أنت يا عمري تتركني وحيدة لا حول لي أو قوة...
وبيني وبينك جبال شاهقة ... ومسافات واسعة ... وبحيرة سرمدية...!!!
أشتاق إليك ... فبُعدك أذبل رائعات الزهور ...
كنتَ الزمان الذي أعيش له ... وكنتُ المنسيةُ في ذاك الزمانِ ...
آهٍ منك ما أقساكَ وألف آهٍ من قلبٍ ليس ينساكَ!! ...
رشفتُ أول رشفة من فنجان القهوة الثاني وعدتُ ثالثة بذاكرتي إلى اليوم الذي فكرتُ فيه بنوعية العمل الجديد ... وهل سأنجح فيه ؟!
هل ستصادفني أية صعوبات ؟! ...
إنه أول عمل من هذا النوع أقوم به ...
مهنة تدريس المكفوفين ...
كان لدي فكرة سابقة عن التعامل معهم ولكني لم أشأ أن أعترف بها للأستاذ عبد المعطي ... فقد كنتُ ملمة إلى حدًّ ما ببعض الكتب المؤلفة عنهم... وطالما تساءلتُ بيني وبين نفسي :
لماذا لا يؤهَّل المكفوفون ... من خريجي الجامعات لتدريس المكفوفين ؟!
أليس من الواجب على السلطة التعليمية أن تنتقي بعض المكفوفين الذين تخرجوا في الجامعات بأقسامها المختلفة وتؤهلهم تأهيلاً تربوياً لكي تستفيد منهم المدارس التي تخرجوا فيها ؟!
أوَليس من الأَوْلى أن يُدرِّسَ المكفوفون في المدارس التي دَرَسُوا وتعلموا فيها؟!
كنتُ قلقة للغاية تلك الليلة ...
أفكار تأخذني وأخرى تعيدني ... وألف ألف سؤال ... وبين كل فكرة وسؤال يمر طيفك الغالي ... حارماً عينيَّ لذة النوم ... حتى تواطأتُ معه على حلمٍ لذيذ.
وما بين صحوي ونومي ، رنَّ جرس المنبه ... أقفلته لأبدأ بتجهيز نفسي...
لبستُ أجمل ما عندي ولم أكن أدري أذاهبة أنا إلى عملي أم إلى حبي!!!
مشاعر متناقضة تعترينا نحن بنات حواء حينما لا ندرك حقيقة مشاعرنا...
وأنا لم أكن أدرك بعد أمعجبةٌ بكَ أم بالهالة التي انطبعت بذهني عنك لأول مرة ...
فالأنثى تكابر وتخاف وتخشى ... ويغلبها حياؤها حينما تباغتها أحاسيس جديدة ... تفرح كفرح أم بطفلها الأول ...
وتحزن خوفاً من فقدان تلك المشاعر كحزن أم فارقت طفلها ... فلذة كبدها..
وتسعد وتأمل ويغلبها الحياء كسعادة وأمل وحياء عروس في ليلة زفافها...
ورأيتكَ ثانية حينها ... ولكن بطريقة مغايرة ...
من خلف الباب الموارب رأيتك تجلس خلف مكتبك ... واضعاً يدك خلف رأسك نافثاً دخاناً من لفافة تبغك ... شارداً في زمان ما أو مكان ما !!!
لم أجرؤ على إلقاء التحية ... وعدتُ أدراجي إلى مكتبي الذي دلّني عليه الأستاذ عبد المعطي والذي كان مواجهاً لمكتبك ...
عدتُ إلى المكتب متسائلة ... ما اسمكَ؟ … كم هو عمرك ؟ ... ما هي طبيعة عملك هنا ؟؟ ...
أين تسكن ؟ … هل قلبك مشغول بإحداهنَّ؟
بداية لم أتأقلم مع عملي الجديد ... تعبتُ كثيراً حتى عرفتُ ماهيته ...
فالتعامل مع ذوي الحاجات الخاصة له خصوصيته، فكيف إن كانوا مكفوفين ...
«إن فقدان البصر يؤثر في الأمن الشخصي عند الكفيف وفي ثقته بنفسه مما ينعكس على علاقته بالمحيط الاجتماعي، وبالمقابل فإن الاتجاهات الاجتماعية السلبية نحو الكفيف تزيد من عدم تكيفه وشعوره بالقلق . وهنا علينا نحن القائمين على تربيتهم و تدريسهم مراعاة ذلك ...
فالأشخاص المكفوفون غالباً ما يُنْظر إليهم على أنهم أشخاص عاجزون لا حول لهم ولا قوة، يعتمدون على غيرهم وغالباً ما يوضعون في مواقف اجتماعية لا تمنحهم أية سلطة أو امتياز... وهذا يضعهم في حالة قلق مستمرة من المستقبل...
ويختلف حال الأطفال المعوقين بصرياً في إطار أسرهم باختلاف ثقافة الأسرة ومدى تقبلها لطفلها ، ويختلف أيضاً باختلاف طبيعة الإعاقة وشدتها وزمن حدوثها ...
إلاّ أن الوالدين بردود أفعالهما يحددان الطريق المتبع مع طفلهما، فردود الأفعال القائمة على الرفض أو التقدير المبالغ فيه لكف البصر تؤدي إلى أخطاء في النمو ويؤدي إلى مظاهر غير مرغوب فيها لدى سلوك الطفل، أما ردود الأفعال القائمة على التقبل الموضوعي للأمر الواقع والدراية الصحيحة والمعاملة المعتدلة فإنها تقود إلى نمو طبيعي قدر الإمكان ...
ولا بد للأسرة كما لا بد للمعلم أو المربي أن يتعاملوا مع الطفل الكفيف كما يتعاملوا مع الطفل العادي، فلا حماية زائدة ولا رفض، بل ينبغي العمل على تعزيز الأفعال الصحيحة التي يقوم بها، وإطفاء الأفعال الخاطئة بالأسلوب التربوي القائم على الفهم والدراية».
لقد عاهدت نفسي على أن أتخذ من هذه المقولة صراطاً أمشي عليه مع طلابي لعلي أكون عيوناً لهم يرون بها العالم وقد ازداد روعةً وجمالاً..
دخلتُ مكتب المدير ... فأعلمني أنني مسؤولة عن ستة تلاميذ في الصف الثالث الإعدادي وأعلمني أيضاً أنني مسؤولة عن تسعة آخرين من الصف الثالث الثانوي... وسألني إن كان لدي أي مانع بأن أدرس تلاميذ الصف الثالث الإعدادي بعض موادهم... ترددت في البداية ، فهذا شاقٌ ومضنٍ ...
تصورتُ وجودي معهم لمدة ساعتين أو ثلاث في اليوم الواحد وعلى مدار سنة كاملة .. تصوّر لو أنك تتحدث مع شخص كفيف لمدة ساعة ... ربما ستُذهل لأنك تنظر إليه وتكلمه بينما هو لا يراك ... فكيف وأنت تجلس مع عدة تلاميذ قد حُرِموا نعمة البصر.. وتعلمهم وتشرح لهم الدروس وتجيب على أسئلتهم ...
هذا ما قلته للسيد المدير وأنا أناقشه في هذا الموضوع.
فقال لي باسماً :
- صدّقيني ... ستشعرين أنهم يلاحقونك بنظراتهم كل لحظة رغم أنهم لا يبصرون ... أنتِ لا تعرفين بصيرتهم وحدسهم ولا تشعرين بأحاسيسهم الأخرى ...
ثم أنتِ قلتِ أنك ستجربين ... وهي عدة أشهر ريثما تعود مدرِّستهم من إجازتها ... فلتكن تجربة لمدة أسبوع وبعدها تقررين ما تريدين ...
كان يتكلم معي وأنا أفكر في حديثه... وهل هو على صواب فيما قاله لي؟! ولم لا وهو المسؤول عن مدرسة كاملة للمكفوفين… ثم هي تجربة لمدة أيام قليلة قبل اتخاذ القرار… فلأجرب فربما عجّلَ ذلك في اتخاذ القرار المناسب...
وافقت على اقتراحه ... وقررتُ خوض التجربة ... تجربة تدريسهم جميع موادهم ... وهنا استوقفني سؤال فسارعت بطرحه على المدير.
- ولكن يا حضرة المدير، لم يتبقَ لي وقت لتدريس طلاب الصف الثالث الثانوي!!!
فأجابني وهو ينظر في برنامج موضوع أمامه :
- يوم السبت الحصة السادسة لديك ساعة ... ويوم الأحد الحصة السادسة أيضاً لديكِ ساعة أخرى...
سألته :
- وماذا سأدرسهم ؟
أجابني:
- مادة التربية الرياضية…
قلتُ له باندهاش :
- ماذا ؟ مادة التربية الرياضية ؟ لم يقل لي الأستاذ عبد المعطي أنني سأدرس مادة بعيدة عن تخصصي إلى هذه الدرجة ، فأنت تعرف أنني تخرجت في كلية الآداب قسم علم الاجتماع وما طلبته مني يحتاج لمتخصص في التربية الرياضية ... ثمَّ ...
قاطعني قائلاً :
- على رسلكِ ... لماذا كل هذه العصبية ؟!
قلتُ له :
ماذا تريد مني ؟ وأنا أرى أنني أعمل بغير تخصصي … لا يا سيدي … أنا لا أشاطرك الرأي من هذا الموضوع.. ولتتقبل رفضي برحابة صدر ...
قال لي :
- انتظري قليلاً ... أرجوكِ اهدئي ... فلن نستطيع التفاهم وأنت بهذه الحالة ...
أجبته قائلة :
- اسمع يا سيدي ... بالمختصر المفيد سأبدأ التجربة مع تلاميذ الصف الثالث الإعدادي . وبالنسبة لطلاب الصف الثالث الثانوي تستطيع أن تقترح على أستاذ غيري أن يُعطيهم هذه المادة ... وتستطيع أيضاً أن توكلها لمتخصص فيها ... أما الآن فأستأذنك في الانصراف ..
خرجتُ من مكتب المدير مضطربة .. هل سأنجح في هذا العمل ؟! أشك في ذلك … فأنا أكره أن أَزُجَّ نفسي أو أُزَجُّ في عمل ما وأفشل به..
عدتُ أدراجي إلى مكتبي شاردة تائهة وأنا أفكر بتلاميذي ووضعي معهم ووضعهم معي...
لم يوقظني من أفكاري هذه إلاّ سماعي عبارة " أهلاً وسهلاً بالمدُرِّسة الجديدة "
رفعتُ نظري منشرحة الصدر بهذه العبارة في مجتمع جديد غريب علي...
ورأيتك ثانية ... وقابلت عينايَ عينيكَ ... كان فيهما حنان غريب يشدني إليهما ... وبريق يأسر كل من يراه ...
تسمرّتُ في مكاني ... أخمدتُ أنفاسي ... وتأملتكَ كثيراً قبل أن أردَّ عليك بصوتٍ هامس يكاد لا يُسمع :
ـ " أهلاً بكَ "
أعترفُ أنني كنتُ في مثل هذه المواقف أجهل التصرف...
استأذنتَ دون أن تضيف كلمة أخرى ... حرفاً آخراً ... ومضيتَ ...
ومضت إليكَ عيوني ...
راقبتك وأنت ترحل ... وعاد السؤال يلح من جديد ...
وعادت اللهفة لمعرفة من أنتَ ...
وسيطرت علي سطوة الألم من جديد ...
قارنتُ بين سلامكَ القصير واستئذانكَ مني وذهابك السريع بعد رؤيتك لي... وبين إبصاري اللامتناهي لكَ وقراري بالبقاء الطويل الأمد حينما رأيتكَ...
دنيا غريبة …
قارنتُ بين سرعة انتقاء كلماتكَ وسلامكَ الهادئ المتزّن عليَّ ... وبين بعثرة كلماتي وردّي السريع المتلعثم عليك...
غريبة هي الدنيا !!! ...
عرفتُ بطريق المصادفة أن نساء كثيرات أحببنك ... بل وأنك محبوب جداً من معشر النساء ...
الشقراء والسمراء والمثقفة والأمية والقريبة والبعيدة ... كل أولئك أحببنك حتى الثمالة ... قررتُ حينها أن أبتر غصن المشاعر الذي بدأ ينمو ويكبر بأعماقي ... لأنني لا أحب أن أكون إحدى النساء اللواتي يدرن في فلكك، ويحرقن أجنحتهن حول مصباح حبك ... ولكنني خطوت بالرغم عني كي أكون كل هؤلاء النساء مجسدات بواحدة فقط .
دخلتُ إلى قاعة التدريس، حيث تلاميذي من الصف الثالث الإعدادي. وبادرتهم قائلة:
ـ صباح الخير..
وبلمح البصر وقف الجميع احتراماً لمُدرِّستهم الجديدة قائلين بصوت واحد:
ـ صباح الخير آنسة..
بدأت بالتعريف عن نفسي بشكل مختصر.. وعندما انتهيتُ.. اقتربتُ من أول تلميذ ووضعتُ يدي على كتفه فانتفض كالعصفور واقفاً قبل أن أسأله عن اسمه ...
قال بصوت واثق :
ـ اسمي جهاد ...
أحسست بأنّي أعرف هذا الوجه…
سألته :
ـ كم عمرك يا جهاد ؟
أجابني :
ـ خمسة عشر عاماً
سألته ثانية :
ـ هل تحب المَدْرسة يا جهاد ؟
أجابني مباشرة :
ـ نعم أحبها كثيراً ... أحبها مثلما أحب والدي ...
قلتُ له :
ـ ألا تحبها أيضاً بقدر ما تحب والدتك ؟
أجابني بحزن :
ـ أمي ليست على قيد الحياة ...
لم أشأ أن أسأله كيف ومتى توفيت والدته إذ كنتُ حريصة جداً على مشاعره .
قلتُ له :
ـ اجلس يا جهاد.. شكراً لك ...
كان جهاد تلميذاً هادئاً تسطع جبهته بإشراقةٍ وردية وتنم شفتاه عن ابتسامة حزينة .ببساطة يستطيع أن يحتل زاوية في قلب محدثه منذ الجملة الأولى ...
ويحافظ على مكانه حتى نهاية الحوار بل إلى ما بعد ذلك ...
تابعتُ التعرف على التلاميذ واحداً تلو الآخر.
سألني جهاد :
ـ آنسة هل سمعتِ آخر الأخبار ؟
أجبته :
ـ أي أخبار تقصد يا جهاد ؟!
ـ يقولون إن بغداد ستسقط بيد الجيش الأمريكي !!
ذُهِلتُ لاهتمام تلميذ بعمره بأخبار كهذه ...
قلتُ له :
ـ بغداد لن تسقط يا جهاد ... وستقاوم حتى آخر قطرة من دم أبنائها لو هُدِّدت لا قدَّر الله
قال عبد الرحمن (الجالس بجوار جهاد) :
ـ أبي يقول إنهم ربما يحتلون بغداد ... ولكن المعركة الحقيقية ستكون معركة ما بعد الاحتلال ...
ويقول إن الشعب العراقي شعب مثقف له كرامة وكبرياء ولا يمكن أن يسكت على انتهاك حرماته وتدنيس مقدساته.
بادرته قائلة :
ـ نعم ... إن الشعب العراقي ذو ثقافة عالية ولديه من الكرامة وإباء الضيم ما لا يستهان بهما ... ليحمه الله وليحرس بغداد …
قاطعني هيثم، وهو تلميذ ذكي سريع البديهة حاضر الجواب، قائلاً :
ـ نحن نحب الشعب العراقي يا آنسة وندعو له في صلواتنا أنا وأهلي...
كانوا واثقين وهم يتحدثون إلي ... ممتلئين حباً وصدقاً وتهذيباً ... وأعجبتُ كثيراً بطريقة تفكيرهم ... ووعيهم العفوي البريء .
أخذوا يحدثونني عن المُدرّسة التي أتيتُ مكانها ...
كان حديثهم يدل على أنها كانت ترعاهم إلى أقصى الحدود وأنهم كانوا يحبونها حباً جماً ما بعده حب ... إذاً، لقد صعبت مهمتي أكثر فأكثر ...
ولكن كان عليَّ إثبات وجودي ... وأن أحبهم مثلما أحبَّتهم ... لا بل أكثر من ذلك بكثير ...
كان التلاميذ من النوع الذي تألفه بسرعة ... رغم غرابة أطوار بعضهم ... ولقد تمكن حبهم في قلبي وتفشى في مسام روحي بأسرع مما تصورتُ.
لم أشأ في البداية أن أبدأ معهم بشرح الدروس ... وإنما أردتُ أن أتعرف عليهم وأن يتعرفوا علي ... وهي فرصة لي لأقرر مقدار نجاحي معهم ، ولكي أطوّر نفسي بما يتناسب مع هذه الفئة الرائعة ...
فَهُمْ على الرغم من فقدانهم لبصرهم إلاّ أنهم لم يفقدوا بصيرتهم ... كانت كل حاسة فيهم تعمل وكأنها تبصر أمامها...
كنتُ أشعر أحياناً أنهم يراقبونني ويراقبون طريقة حديثي معهم وملامح وجهي وأنا أتحدث إليهم ، بأسئلتهم الذكية وتعليقاتهم البريئة .
حتى أن أحدهم قال لي حينما احتك ثوبي بيده وأنا أقترب منه :
- ثوبك رائع يا آنسة ...!!!
هذا الشقي !!! فعلاً لقد كان ثوبي الأرجواني ناعماً...
تذكرتُ بحثاً قرأته يوماً عن التصور البصري عند الكفيف حيث الصور عنده ليست أكثر من تركيب لفظي لعب فيه الاقتران دوراً كبيراً ، إلاّ أن هذا الاقتران قد يكون اقتراناً بين إحساسين :
أحدهما بصري ، حيث ينشئ الكفيف الصورة البصرية مستعيناً بالإحساس الآخر الذي يتلقاه فعلاً ...
ويمكن توضيح ذلك بما قد يجري على لسان الكفيف حين يقول :
- " إن السماء زرقاء أو السماء غائمة "
وقد تكون فعلاً السماء زرقاء أو غائمة، وكأنه يصفها كما يصفها المبصر ...
لكن مع ذلك، لا يدرك الكفيف هذا الإحساس البصري إلاّ من خلال الإحساس الآخر الذي يصاحبه، وهو الإحساس بهدوء الجو الذي لا يوجد فيه المطر أو الرعد أو الرياح وغير ذلك من الإحساسات التي يمكنه بحواسه الأخرى أن يعرف أن الجو مضطرب ممطر ، فيقول إن السماء غائمة وغير صافية، وتفسير ذلك أن الكفيف قد يكوِّن أفكاراً بديلة عن الألوان عن طريق الترابطات بينها وبين الألفاظ ومختلف الإحساسات والانفعالات .
ويصبح كثير من الارتباطات الاقترانية اللفظية لديه مادة لصياغة هذه الصور كالدم الأحمر مثلاً والثلج الأبيض ، أما المعنى الحقيقي للون الدم الأحمر ولون السماء الزرقاء والثلج الأبيض فمعنى غامض لا يمكن للكفيف أن يلمسه إلاّ من خلال الإحساسات الأخرى المقترنة به .
فقد تنشأ لدى الطفل فكرة بديلة عن اللون الأحمر بالربط بينه وبين انفعالات الألم التي يشعر بها ...
وقد يؤخذ عن اللون الواحد أكثر من فكرة بديلة تختلف باختلاف المكفوفين، وقد تؤخذ عنه عدة أفكار بديلة لدى الكفيف الواحد، تختلف باختلاف المواقف، وتكون هذه الأفكار البديلة للألوان جزءاً من حياة الفرد التصورية كما تكون جزءاً آخراً من ذخيرته اللغوية التي يستخدمها في حياته العامة.
فمثلاً يستطيع كفيف ما أن يربط بين اللون الأحمر وبين رداء يلبسه أعجب به زملاؤه المبصرون، فيتحسس الطفل رداءه الذي يقال عنه أنه أحمر اللون فيشعر بأنه ناعم رقيق فتنشأ عنه فكرة بديلة عن هذا اللون بالربط بين اللون الأحمر وملمس الرداء وثمة طفل آخر قد يتكون لديه ارتباط بين اللون الأحمر والدم الذي نزف منه جرحه فيبدأ في الربط بين اللون الأحمر وانفعالات الألم التي شعر بها ...
عدتُ إلى المنزل وفكري منشغل بتلاميذي الجدد ... يبدو أن العمل معهم شاق وممتع بالوقتِ نفسه، فهم مهذبون وأذكياء وقابلون للتطور ...
فكرتُ كثيراً بوالد جهاد وكفاحه مع ابنه ... فمن الواضح من خلال جواب جهاد :
- " أحبها مثلما أحب والدي" أنه أب متفانٍ وصبور ويحب ابنه ويرعاه كثيراً ...
أدرتُ المذياع وبدأتُ أقلّب محطاته إلى أن استوقفني صوت عبد الحليم حافظ وهو يغني:
" يا راميني في سحر عينيك التنين ... ورحتُ أدندن معه :
مَ تقولي وخدني ورايح فين
على جرح جديد ولاّ التنهيد
ولاّ عالفرح موديني
أنا بسأل ليه
ومحتار كده ليه
بكرة الأيام حَتوريني ... ..."
ولا أدري لماذا شعرتُ حينها بدفء يغمرني ؟
أتراني ذكرتك لحظتها ؟
أتراك عدتَ لتسكن فيّ من جديد بعد أن قررتُ أن أبتر غصن المشاعر الذي بدأ ينمو ويبرعم بداخلي وأنا لا أعرف بعد ماهيته ؟!
تذكرتُ بيت شعر للمتنبي في هذه اللحظة :
يراد من القلب نسيانكم
وتأبى الطباع على الناقل

أقفلتُ المذياع ... ولسان حالي يردد موشحاً أندلسياً :
ما احتيالي يا رفاقي
في غزالْ

علّم الغصن التثني
حين مالْ

ذبتُ شوقاً
وهو عني معرض

لستُ أدري
أهو بخلٌ أم دلالْ ؟…


لم أعلم كم من الساعات مرَّ وأنا على هذه الحالة؟
كنتُ أحسب الوقت وأنا في طريقي إلى المدرسة ...
وصلتُ مبكرة بعض الوقت ... ورأيت الأستاذ عبد المعطي جالساً في غرفة المدرسين، وكنتَ حين تراه لا تعرف إن كان جالساً أم هو واقف، إلاّ إذا أمعنت النظر فيه وذلك لفرط قصر قامته، وكان يتحدث مع رجل مسترخ كل الاسترخاء على كرسي أمامه، تلامس أنامله كرشه الكبير وتعبث به، وتتدلى لحيته حتى صدره، عرفت فيما بعد أنه الأستاذ كامل أبو طبلة … مدرس الكتابة على آلة برايل، وثمة امرأة تتوسطهما، كانت واقفة بينهما وقد عقدت أصابعها الخشنة على أرنبة أنفها الطويل تنظر إليهما بعينين جاحظتين نظرة حمّلتها كل معاني الاستخفاف، ربما بحديثهما أو بعقد مقارنة بين قصر وضآلة هذا ، وطول وضخامة ذاك ... وكانا يناديانها بالسيدة فصيحة ، ربما لأنها كانت تحشر أنفها في حديثهما بين الحين والآخر .
وفي هذا الوقت تقدَّم منهم رجل مسنّ أبيض الشعر، طيب الملامح، ترتسم على وجهه مسحة من الحزن ... تحكي قصة الزمن الذي جار عليه، وقلب له ظهر المجن ... وقدّم لهم ثلاثة فناجين من القهوة المرة ... كان قد أعدّها للتو ... فالبخار ما يزال يتصاعد منها ... ورائحتها تتضوع في أرجاء الغرفة كما تتضوع رائحة الأرض الزكية في الشتاءات الماطرة ...
اتجهت نحو مكتبي ... وجلستُ أفكر بقضايا كثيرة ...
لم أدرِ كم من الوقت انقضى وأنا رهينة أفكاري المشتتة.
مرَّ الأستاذ عبد المعطي رافعاً يده بالتحية ... فرددتُها عليه وعدتُ إلى أفكاري ...
صوت طرقات خفيفة على باب المكتب ...
وهالني وجهك القمري ... واضطرَبتْ أعماقي حينما حاصرت كفك كفي بالسلام وأنت المقبل بالبشاشة كلها، ولسان حالي يقول :
حينما تلامس يداك يدي ... تتوه بك الأعماق ولا تهتدي...
أخال نفسي حين تراكَ ... تمشي الهوينى بلا مرشدِ ...
دفءُ يديكَ سرى بدمي ... تغلغل بأعماقي وأضنى مرقدي ...
لو تشعر بروحي كيف تهيم ... كلما لامَسَتْ يداك يدي...
للهِ درّك لو أنني ... إلى سماء عينيك أرتقي ...
ما في العيون يناجيك ... ومن دفء يديك يستقي...
أيقظني سحر صوتكَ :
ـ صباح الخير آنستي ...
ـ صباح الخير ... ( لم أدرِ كيف قلتُها !!!)
سألتني :
ـ هل من متاعب ؟
أجبتك :
ـ حتى الآن لا ... ولكني أعتقد أن العمل هنا متعب وشاق ...
كنتُ أنظر إليكَ وشيء ما بعينيك لا يخفى علي ... كنتُ أرى فيهما حناناً عجيباً ... وأستشف من مجيئك وتحيتك شيئاً غير اعتيادي ...
هل تراكَ أنتَ أيضاً ؟؟!! ... هل تراك؟؟!!...
يا إلهي ماذا دهاني ؟ ... هل جننتُ ؟!...
أيقظتني من تساؤلاتي باقتراحك :
ـ إن أردت أية مساعدة فلا تترددي ... نحن زملاء .
أجبتك بكلمتين لا ثالث لهما :
ـ شكراً لك .
ومثلما حييتني بتلك الابتسامة ... ودّعتني بأخرى لا تقل عنها حناناً ودفئاً ...
كالدهشة جئتَ !!!
وكالدهشة مضيتَ !!!
وما بين دهشة وأخرى ألف سؤال !!!
وما بين السؤال والسؤال دمعة وهذيان ... وحزن... و ... سطوة ألم!!!
لم أدرِ لماذا تراءى لي ميشيل ساردو يشدو بأعذب الأغاني الفرنسية :
Elle court, elle court
La maladie d’amour
Dans le coeur des enfants
De sept a soiscante – dix sept ans .

"مرض الحب يجري في قلوب الأطفال ...
من سبعة أعوام وحتى سبعة وستون عاماً ..."
عدتُ لهذياني ببعض المقاطع التي كنتُ أرددها في طفولتي ...
يا من نشا حبه في الحشا
فاق الظبي قده إذ مشا
وبحسنهِ
وبسحره
في القلب يفعل ما يشا ...
لا تنأى عني
بل أدنُ مني
ودعِ الواشي وما وشى
* * *

عدتُ إلى المنزل محملة بتناقضات غريبة ...
ما الذي أشعره نحوك يا رجلاً زرع بداخلي أجمل الورود ؟!
ما هذا الذي بدأ ينبت بأعماقي ويتجذر حارماً عيني من رقادها ؟!!!
بدأتُ بتحضير فنجان من القهوة لعلّي أصحو به من سكرتي وتأملاتي..
وضعتُ الماء على الموقد ... ثم أضفتُ ملعقة كاملة من القهوة وقليلاً من السكر ...
أشعلتُ النار وبدأت أراقب المزيج ...
رائحة القهوة تتغلغل في أعماقي ... ولون سوادها يخيفني من الآتي...
وما هو الأتي ؟!!
أشعر باهتزاز في العمق يجتاح كل جوارحي ... نارٌ بين الضلوع وأمطار غزيرة في الفؤاد ...
كيف اقتحمتَ هكذا حرمة روحي؟!! ألا يقولون أن الهوى يمر بمراحل عدة :
يولد طفلاً ثم ينمو وينمو …
لماذا بدأ عندي وهو في أتم نضوجه؟!!
صحوتُ من تأملاتي على منظر القهوة التي لم يعد لها أثر … فقد طافت وأطفأت النار … لأعود من جديد إلى أسئلتي التي لا تنتهي ... وكنتُ في الوقت نفسه أذكر أبي الذي خطفته الأيام مني وكان كل شيء في حياتي ...
وكنتُ أخشى أن تكون تلك المشاعر المفاجئة التي اعترتني تجاهك هي مجرد حنيني وشوقي لوالدي … كنتُ وحيدته بعد أن انفصل عن أمي التي تزوجت غيره وسافرت معه إلى فرنسا مع أختي التي كانت تكبرني بأعوام ...
أنتَ تشبهه في كل شيء ...
بقامتك المربوعة ... وسواد عينيك ... بذراعيك المفتولتين ... وشفاهك الخمرية ... ونظرتك الحنون ... بتسريحة شعرك الكستنائي المتماوج بالرمادي… وبحضورك الأخاذ… وصوتك الرجولي… ولفافة التبغ حينما تزم عليها شفتيك وتشرد في الأفق البعيد…
كان أكثر ما يسحرني فيك، شعرك المخلمي ... كيف حاكته أنامل الزمان؟!!…
بل كيف رُسِمَتْ تلك العيون الواسعة الجريئة؟!!
وكان أكثر ما يميز وجهك … تلك الغمازة التي تبدى إذا ما ابتسمت أو ضحكت فتأسر كل من حولك...
ولكن الشبه الأكبر بينك وبين والدي كان في تلك الكلمات المختصرة التي تحمل فيها كل ما تريد قوله ... وفي تلك الثقة الكبيرة والرجولة الساحرة الآسرة ...
ولعل أكثر ما يجذبني إليك رائحة عطرك التي تنبعث في كل مكان تطوف فيه …
كنتُ بقرارة نفسي أشعر أنني لا أستطيع أن أفرّقَ بين حنيني لوالدي الذي أراك فيه ومشاعري تجاهك ...
هل كان شوقي لك يعادل حنيني لوالدي ؟!! …

في صباح اليوم التالي وصلتُ متأخرة بعض الوقت ... فاتجهتُ مباشرة إلى الصف ... فوجئتُ به فارغاً ... أين تلاميذي ؟!
اتجهتُ مباشرة إلى غرفة المدير ... فرأيته في ممر المدرسة مقبلاً نحوي قائلاً :
- يا ليت كل المدرسين يبكرون مثلك بالمجيء هكذا ... بعد أن ينتهي درس التربية الرياضية وقبل أن تبدأي بدرسك ... أرجو أن تأتي إلى مكتبي ، فثمة تعديل طفيف طرأ على برنامج الدروس وأرى من الواجب إطلاعك عليه.
قلتُ له :
- كما تريد …
إذاً ، المسألة أنني لم أكن متأخرة مثلما اعتقدتُ...
كيف لم أنتبه إلى أن دروسي تبدأ اليوم من الجلسة الثانية ؟
ما الذي كنتُ أستعجله ؟
هل كنت أستعجل رؤيتكَ ؟!!!
عدتُ أدراجي إلى مكتبي محملة بالدهشة … لم أشعر بالأستاذ عبد المعطي إلا وهو يصطدم بي قائلاً :
ـ ما بكِ ... شاردة يا وفاء ؟!
ـ أستاذ !! … ما اسم الأستاذ الذي يقع مكتبه قبالة مكتبي ؟!
ـ اسمه محمد ... وهو خريج كلية الآداب قسم التاريخ ... ولكن لماذا تسألين ؟!
ـ لا لشيء ... فقط للتعرف على أسماء زملائي ...
دخلتُ مكتبي ... كانت هناك آلة تَقْبَعْ في الزاوية اليسرى منه ... لعلَّها الآلة الكاتبة لأبجدية برايل ...
لم أنتبه لوجودها حتى هذه اللحظة ... ولم أكن قد عرفت عنها بعد إلاّ الشيء النظري.. اقتربتُ منها وبدأتُ أتفحصها ...
ثلاثة أزرار على اليمين ... وواحد في المنتصف ... وثلاثة على اليسار...
مددتُ يدي أجربها ... وقع خطوات خلفي ... لم أكترث ... ضغطتُ على أول زر من جهة اليمين ... ثم أتبعتُ ذلك بضغطة من الجهة اليسارية، وبدأتُ أضغط بشكل عشوائي…
غمرني إحساس غريب ... التفتُّ فجأة لأراك ماثلاً أمامي ولتتسمر عيوني في بحر عينيك، ولأشعر أني ماعدتُ أرى أو أسمع غيرك ... مثل كفيف تسمر أمام حورية حسناء ... لا يراها وإنما يسمع عذب ألحانها ... ورقيق كلماتها... وبليغ تعابيرها ...
قلتَ بكل ثقة :
- صباح الخير
أجبتكَ بكثير من التردد :
- صـ...بـ...ا...ح... الخير !! ...
سألتني :
- هل تعرفين الكتابة على آلة برايل ؟...
- لا...ولـ...كن...كنتُ أجربها فقط ...
كانت عيونك تحادثني بأشياء لا أعيها ... كنتُ أراها بعكس شفاهك ... فشفاهك واثقة ... قوية... كلماتها موزونة ... أما تلك العيون فكانت مضطربة ... ضعيفة ... تحمل بين طياتها كلمات مبعثرة ومشتتة ...
عاد صوتك الساحر يقول لي :
- هل تعرفين إلى من يرجع الفضل في اختراع هذه الآلة ؟!
قلتُ بصوت يكاد لا يسمع :
- نعم ... إلى لويس برايل ...
أجبتني :
- بالضبط، فإليه يرجع الفضل في تعليم أبنائنا المكفوفين القراءة والكتابة عن طريق الآلة التي اخترعها عام /1824م/ ولم يكن قد بلغ من العمر إلاّ خمسة عشر عاماً.
وقد كان يعزف على آلة الأورجون الموسيقية ، مع أنَّ أسرته اعتقدت أنه فقد كل شيء في حياته بعد ما فقد بصره وهو لا يتجاوز الثالثة من عمره عندما كان يلعب في حانوت والده بالسكين فأفلتت منه وأصابت إحدى عينيه فأعطبتها وفقد بصرها ، وبعد زمن قليل فقد بصر الأخرى ...
- ما شاء الله يا أستاذ ... يبدو أنني سأجد من أنافسه في هذه المدرسة…
- ولم لا ؟! … أتريدين أن أدربك على هذه الآلة ؟!
غافلتني الكلمات وانسكبت لتكشف أوراق قلبي:
- لَكَمْ أتمنى ذلك ...
نظرتَ إليَّ نظرةً حمّلتَها كل معاني الدفء والحنان وقلتَ لي :
- لنبدأ من الغد ...
- ولكن غداً عطلتي الأسبوعية ... ليكن بعد غدِ ...
- آسف بعد غدٍ عطلتي الأسبوعية ...
- إذاً لنؤجل ذلك إلى ما بعد عطلتينا ...
- أليس ذلك بكثير!!!؟
شعرتُ لحظتها أن تدريبك لي هذا النوع من الكتابة ليس هو الذي سيتأخر … وإنما رؤيتك لي … ولا أدري كيف خرجت الكلمات ثانية ودونما تفكير :
- إذاً ليكن في الغد ...
- ولكن ألم تقولي أن غداً هو يوم عطلتك الأسبوعية !!
- نعم ... إذن ... ليكن في يوم آخر ... سنتفق على ذلك فيما بعد ...
- كما تشائين ...
- شكراً لكَ.
لملمتَ أوراقك وكتبك المرتبة وخرجتَ ... ولململتُ أجزائي المبعثرة وجلستُ متعبة...
يا لمأساة الروح إذا تبعثرت أجزاؤها في الفضاء ... من ذا الذي يضمها ويعيدها نضرة كما كانت ؟!
هل تُستعاد وريقات الزهر يوماً إذا تبعثرت ؟!!!
لماذا تجاهلتَ رغبتي برؤيتك والتعرف عليك أكثر ... أم أنك لم تفهم مطلبي ؟!!! أم تراك الآن فهمته وندمتَ عليه ... ولماذا تندم ؟!
هل أعني لكَ مثلما تعني لي كل المعاني الجميلة والبريئة ؟!!
ما بال قلبي يحدثني عنك هكذا ؟!
أفق أيها القلب من أحلامك الوردية.. أفق من شعورك العارم بالفرح القادم … أنتَ الذي عاش طيلة عمره كليلَ الفرحِ ضعيفَ الحظِّ كفيفَ السعادةِ...
أفق أيها القلب من هذا الشعور الفجائي ... واستفق إلى الضعف الذي يخامرك وأنت معه ... قد ينكرك وينكر مشاعركَ يوماً فتخرج منها وحيداً يائساً متألماً ...
وأي مشاعر تلك وقلبي بعد لم يتجاوز حدود الإعجاب به ... تراني أكذّب قلبي ؟!
يقولون: هناك أشخاص نعرفهم ونعاشرهم لمدة سنين وسنين .. ولكن من دون أن نشعر بأية عاطفة نحوهم ... وهناك أناس أول ما تقع عليهم عيوننا ... نشعر وكأننا نعرفهم من سنين طويلة ... وكان محمد منهم...
لملمتُ أغراضي وذهبتُ باتجاه الصف ... دخلته فوقف الجميع قائلين بصوت واحد :
- صباح الخير آنسة ...
- صباح الخير ... تفضلوا بالجلوس ... أرجو أن تفتحوا كتاب القراءة على الدرس الثالث .
أخرج الجميع كتباً لم أرَ مثلها من قبل ... وبكل ثقة قلبوا الصفحات إلى أن وصلوا إلى الدرس المطلوب ...
كانت عيونهم مصوبة تجاهي ... وكانت عيوني مصوبة تجاه كتبهم ...
اقتربتُ منها ... يا إلهي ماذا أرى ؟ الصفحات كلها بيضاء … اقتربتُ ثانية من كتاب جهاد ونظرتُ إليه … لمِ أرَ إلاّ نتوءات صغيرة لم أعهدها من قبل ... لعلَّ هذه النتوءات هي ما يقال لها أبجدية برايل ...
يا إلهي ... كيف غاب عن ذهني أن أسأل الأستاذ محمد عن أحرف هذه الأبجدية ؟
طلبتُ من جهاد أن يقرأ بصوت عالٍ ...
وضع يديه الاثنتين على رأس الصفحة وقرأ العنوان، ثم انتقل بكل ثقة إلى أسفل العنوان ووضع إبهام يده اليسرى أول السطر ثم لصق به إبهامه الأيمن وبدأ يقرأ من اليسار إلى اليمين.
كنت شاردة واجمة ... إنه يقرأ وكأنه يبصر الحروف ... يقرأ بلا تلكؤ أو خطأ ... دون أن يغفل عن التشكيل ... يا إلهي ... حقاً إن عالمكم لمليء بالأسرار الوديعة ...
أيقظني من شرودي هذا صوت زاهر عذباً ندياً يريد أن يعيد القراءة ... قلت له باندهاش :
- أعِدْ ! ...
رأيتُ ابتسامة خبيثة ارتسمت على وجه ماهر ذاك الشقي الذي أعجبه لون ثوبي ... لقد أحسَّ بالفطرة أنَّ شيئاً ما قد أحرجني ...
أعاد زاهر قراءة النص كما قرأه جهاد ... وكان كمن يعزف بأنامله على البيانو فتتصعد أنغام ملائكية كأنها تراتيل تتلى في معابد السماء ...
أردتُ أن أباغت ماهر الذي يولي عينيه شطري أنّى اتجهتُ وكأنه يراقبني ...
فقلتُ له :
- تابع يا ماهر !
فقرأ بصوت لا يقل ثقة عن زميليه ... وببراعة مدهشة ... إلى أن انتهى من النص ...
انتقلتُ منه إلى بقية زملائه ... واحداً تلو الآخر ...
شرحتُ لهم ما قرأوه شرحاً مفصلاً ... ومثلما بدأنا بدرس القراءة ... انتهينا من درس العلوم ...
كانوا رائعين ومرحين ... ومجدين للغاية ...
قُرع الجرس فودّعني الجميع بابتسامة ساحرة وكلمات مرهفة ...
لم أكن أعلم إن كانوا يجاملونني أم أنهم فعلاً تأقلموا معي ... ولكن هل تكفي هذه المدة التي قضيتها معهم لينسجموا معي ؟!
ما يدريني ؟؟
تذكرتُ فجأة أنه يتوجب علي التعريج على مكتب المدير.

طرقتُ بابه ودخلتُ بعد أن أذن لي قائلاَ:
- أهلاً وسهلاً ، تفضلي بالجلوس.
اعتذرتُ عن التأخير وجلستُ واجمة بعض الشيء ... أنتظر ما سيقوله لي ... ولم يطل انتظاري، إذ جاء صوته مباغتاً:
- آنستي ... لقد طُلب منا تقسيم المواد بينك وبين أستاذ آخر، وقد كنا البارحة في اجتماع لمجلس المدرسة واقترحتُ هذا الموضوع على بقية الأساتذة فتحمس أغلبهم للفكرة، وكان الأكثر حماساً الأستاذ عصام، هل تعرفينه ؟
- لا أبداً ... لم أتعرف بعد على زملائي كما يجب ...
تابع قوله :
- إنه إنسان عصامي ... قال إنه تعب من العمل الإداري وهو يريد خوض تجربة التدريس لأنه يرى في هذه المهنة كلّ العطاء والتضحية ... وهو بطبعه يحب العطاء جداً ... فهل تمانعين في ذلك؟
أجبته مستغربة:
- ولماذا أمانع؟ ما زلت في طور التجربة ... أليس كذلك ؟!
قال لي :
- أتمنى أن تستمري معنا ... على كل حال سنبدأ بتقسيم العمل بدءاً من الأسبوع القادم ... و...
قاطعته قائلة :
- هذا حسن ، هل بقي شيء آخر ؟!
أجابني مستغرباً :
- لا شكراً لكِ !!!...
خرجتُ متألمة ... لا أدري لماذا ... ألأنَّ الأستاذ عصام تحمس للفكرة ولم تتحمس لها أنت؟!
ربما لم تكن في الاجتماع البارحة … وربما كنتَ ولم تعجبكَ الفكرة ... بل لعلك لم تبدِ أي رأي فيها ...
ولماذا أتساءل ؟! وماذا تعني لي أنت ؟! هل يكفي أن أُعجب بقامتكَ ولون شعركَ وسحر عينيكَ وتلك الغمازة الآسرة ؟!
ثم لعلكَ متزوج … ولعل لديك أطفالاً ينعمون بظلك … بل لعل قلبكَ مرتبط بأجمل النساء وأروعها … يحق لكَ ذلك...
لماذا أشعر بأن كياني كله متألم ؟! وأنا بعد لم اجتمع بكَ إلاّ لحظات قصيرة… ولكنها كافية لأعرف مقدار صدقك وروعتك ومدى ثقافتك..
لا، لا … بل ربما نحتاج إلى سنين طويلة لنعرف ماهية الشخص..
لماذا لم تبد رأيك البارحة ... ربما لم تتذكر اسمي ... أو ربما اعتذرت حالما طُرح الموضوع ...
آهٍ من سطوة الألم التي عادت تسيطر علي ...
كدتُ أبكي ... وتساءلت لماذا لا أغني متناسية تجاهلك لي ؟!
وما بين البكاء والغناء صمتٌ أستوحي منه نداءاتي لك...
أشعر بحنين إلى ماضٍ أجهله ...
تراه حنيني لوالدي ؟!
كنتَ تذكّرني به كثيراً … عيناه سوداوان.. وإني لأغرق في سواد عينيك...
وجهه كطلة القمر في ليالي الصيف ... وإني لألوذ في فضاءات وجهك القمري ...
حديثه عذب مختصر ... وأتقوقع في عذب كلماتك وسحر أحاديثك ...
نعم ... نعم ... ربما ما أُحسّه تجاهك هو ما أشعره من حنين لوالدي...
لا ... لا... بل ما أشعره نحوك شعورٌ مليء بالسعادة يغمره القلق ... ومبطن بالحزن... والخوف من الغد الآتي ومن استبداد سطوة الألم !!!
لم أعد إلى المنزل مباشرة ... وإنما تمشيتُ قليلاً في شوارع دمشق باتجاه منطقة الحلبوني في البرامكة ... فهناك تجمع ضخم للمكتبات ... دخلتُ إحداها... واشتريتُ عدة كتب عن المكفوفين .
" الخصائص النفسية والاجتماعية للمكفوفين "
" علم نفس المكفوفين "
" التربية الخاصة للمكفوفين "
" أبجدية برايل"
" حياة لويس برايل "
" تعليم الصم المكفوفين " ...
إذ إنني قررتُ أن ألم بهذه الفئة المتميزة وأن أثقف نفسي بكل ما أجهله عنهم.
وصلتُ المنزل الذي كنتُ أسكنه أنا وأختي ... آه كم أفتقدها الآن وكم أتوق إلى وجودها معي في هذه اللحظات...
كانت أختي مرح مرحة للغاية ... باختصار كانت اسماً على مسمى ...
تغديتُ وحضّرتُ كوباً من الشاي وبدأتُ أقرأ كتاب التربية الخاصة للمكفوفين.
إلى أن غلبني النعاس ...
في الثامنة صباحاً ... كالمعتاد ... كان جميع التلاميذ يقولون بصوت واحد:
- صباح الخير.
- صباح الخير... تفضلوا بالجلوس .
طلبتُ منهم أن يفتحوا كتب اللغة الفرنسية ...
كان درسنا يتحدث عن قصيدة قصيرة كُتبت باللغة الروسية وترجمت إلى عدة لغات ومنها الفرنسية، ولكنني لم أشأ أن أبدأ بشرحها قبل أن أعطيهم فكرة عامة عن كاتبتها "أولغا سكوروكودوفا ". سُرّ الجميع بذلك لأنهم كما أخبروني كانوا يسمعون عنها من دون أن يعرفون أي شيء عن حياتها...
قلت لهم أن يسألوا ما شاؤوا عنها .
سألني جهاد:
- متى ولدت أولغا سكوروكودوفا يا آنسة وأين ؟
أجبته:
- ولدت عام 1914 في قرية في أوكرانيا من أهل فقراء فلاحين وكانت أمها تعمل خادمة عند كاهن القرية.
- وكيف فقدت بصرها ؟ سألني ماهر .
قلتُ له :
- لقد أصابتها حمى شديدة في صيف عام 1919 وكانت آنذاك في الخامسة من عمرها.
كانت تتخيل أنها ترى حرائقَ وكلاباً مسعورة من لهب تلاحقها وتخيفها وهي تحاول الخلاص منها .
ومن ذكرياتها أن أمها كانت قد قدّمت لها يوماً الشاي مع مربى المشمش حينما كانت تشعر بالوهن الشديد وبعجزها عن فتح عينيها لترى ما حولها .
وذات يوم أرادت أن تعرف مكان المربى وما لونه ، ففتحت عينيها فما رأت شيئاً لا المربى ولا لونه .
سألني زاهر بشيء من القلق :
- وكيف استطاعت أن تتابع حياتها ؟
أجبته :
- في خريف عام 1922 أدخلها المسؤولون عن التربية الوطنية في مدينة اسمها نرمسون إلى مدرسة المكفوفين في أوديسا، وقد مكثت فيها حتى عام 1924.
وفي بداية عام 1925 أُرسلت إلى مدينة تُدعى خاركوف لتقيم في مشفى خاص بالصم والبكم .
سألني وسام مندهشاً :
- وكيف استطاعت متابعة حياتها وهي لا تسمع ولا ترى ؟!
أجبته :
- عن طريق حاسة اللمس والشم .
سألني الجميع بصوت واحد:
- كيف؟!
قلتُ :
تقول أولغا سكوروكودوفا في كتابها " كيف أدركُ العالم":
ـ في الصباح الباكر وبينما كنتُ مستغرقة في نومي ، جاءت إحدى صديقاتي لتوقظني، دخَلَتْ بهدوء من دون أن أشعر بوقع خطاها، لكنني أحسستُ بحركة الهواء الذي أثاره تنقّلها تلامس وجهي .
فبادرتها بمدِّ يدي إليها قبل أن تصل إلي .
وتقول أيضاً:
- ذات يومٍ، حينما كنتُ أصعد الدرج في قصر الطلائع، أحسستُ بوجود سجادة تحت قدمي، وكان السجاد يغطي كل الممرات والقاعات، لكن حينما دخلنا إحدى القاعات، لاحظتُ أن الأرض رخامية .
وتضيف:
- بينما كنتُ اقترب من الطاولة في غرفة الطعام ، أحسستُ أن شيئاً ما على الأرض، سألت إحدى زميلاتي :
- ماذا على الأرض ؟
أجابتني :
- قليل من الملح .
سألني جهاد :
- ولكن يا آنسة أولغا كفيفة البصر. فكيف تقول عن نفسها :
" لاحظتُ أنّ الأرض رخامية "؟!
أجبته :
- لاحظتُ يعني هنا أدركتُ ببصيرتي .
تابع جهاد سؤاله :
- هذا عن حاسة اللمس . ماذا عن حاسة الشم يا آنسة؟
قلتُ له :
تقول أولغا سكوروكودوفا:
- خلال مروري بجانب الصيدلية شعرتُ من رائحتها أننا اقتربنا من المنزل ، فالصيدلية ليست بعيدة من بيتنا .
وتتابع :
- بينما كنتُ أقرأ مع إحدى زميلاتي ، شعرتُ برائحة أحذية جديدة فسألتها :
- هل اشتريت حذاءً جديداً ؟
أجابتني :
- نعم
عدتُ وسألتها :
- متى لبسته ؟
قالت :
- هذا اليوم .
لقد وضح الأمر لي ، فأنا أشم رائحة جلود طازجة .
وتضيف أولغا قائلة :
- لدى دخولي إلى غرفتي أدركتُ أنَّ أرضها الخشبية قد غُسلتْ، وحينما لمستها كانت فعلاً ما تزال مغسولة.
سألني جهاد مقاطعاً بأدب :
- ولكن يا آنسة، أنتِ تقولين أنها لا تسمع ولا تتكلم . فكيف تتحدث هكذا مع زملائها ؟!
أجبته :
- عن طريق لغة إشارة الصم والبكم واستخدامها لأبجدية الأصابع.
قال هيثم :
- وهل كانت تمارس نوعاً من الهوايات ؟
أجبته :
- نعم لقد كانت تكتب الشعر .
سُرَّ الجميع بذلك وطلبوا مني أن أُسمعهم شيئاً من أشعارها .
فقلت لهم بفرح:
- إليكم إحدى قصائدها :
ويتساءل الناس من ذوي الآذان المرهفة
القادرين على تأمل ضوء القمر وشعاع الشمس
ماذا يمكن أن تقوله عن هذه الروائع ؟
ماذا يمكن لصَمّاء أن تسمعه من نداءاتها ؟
* *

آه... بلى ... أنا أدري بشذا الربيع
وأناملي تترجم حفيف السنديان
والحديقة الندية تبرج لي على الدوام
وتدعوني إلى أن أحلم وأترنح بحبها .
* *
قاطعني عبد الرحمن قائلاً :
- آنسة !!
- نعم يا عبد الرحمن!
- آنستي ، هل من الممكن أن أسألك سؤالاً ؟!
- تفضل اسأل ما بدا لك !!...
- هل صحيح أنك ستتركينا وسيحل أحد الأساتذة مكانك؟
- ومن قال لك ذلك ؟!
- سمعته بطريق المصادفة ...
- أيها الأشقياء الصغار ما أوسع حيلتكم، ألا يخفى عنكم أي شيء؟!..
ثم أردفت قائلة:
- بل سنتقاسم الدروس أنا والأستاذ الجديد...
قال بفرح بادٍ على وجهه:
- الحمد لله فقد أحببناكِ للغاية .
ردّد زملاؤه من ورائه:
- الحمد لله.
- شكراً لكم ... ولنعود الآن إلى أشعار أولغا سكوروكودوفا.
تقول أيضاً:
- وأنا بالعقل أرى وبالقلب أصغي .
وأحلامي تجوب العالم .
ترى هل يحسنُ المبصرون دائماً
التعبير عن الجمال والابتسام في حضرة الصفاء ؟!!…
* *
وعندي محل السمع والبصر
ما شئت من صادق العواطف
وما زال فكري المتقد المرن المتفائل
يغمس ريشته في ألوان الحياة الزاخرة ...
* *
وإذا ما فُتنت لشعر أو نغم
فلا ... ...
وهنا قُرع الباب ودخل العم أبو عبده آذن المدرسة حاملاً فنجاناً من القهوة :
- صباح الخير ...
- صباح الخير ... ولكنني لا أتناول القهوة في الساعة الدرسية .
- ولكنه من الأستاذ عصام!! ... لقد أوصاني بذلك البارحة وألح عليَّ كيلا أنسى…
- شكراً لكما ... ضعه على الطاولة.
وضع فنجان القهوة على طاولتي وانصرف ... لم أتذوقها أو حتى ألمسها ... من هو هذا الأستاذ عصام الواثق جداً من نفسه ؟!
يا له من رجل ثقيل الدمِ ... يبدو أنني سأدخل في متاعب معه .
أيقظني من هواجسي تلك صوت أحمد قائلاً :
- آنسة . ماذا بعد : وإذا ما فُتنتَ لشعر أو نغمٍ ؟!
أتممتُ قوله :
- فلا تزْهُ بذلك علي ...
وخيرٌ للأعمى ألف مرة
أن تمدّ له يداً دافئة
تعتقه من قفصه
دونما شفقة مزيفة ...
* *
عندما انتهيت ... رأيتُ وجوههم كلها مهللة فرحة...
لقد أغدقوا علي الشكر ... وقالوا إن هذا أجمل درسٍ أخذوه في حياتهم ... وتمنّوا جميعاً أن يصبحوا شعراء في المستقبل ...
خرجوا إلى استراحتهم وذهبتُ لمكتبي ...
جلستُ متجهمة بعض الشيء وهواجس عدة تدور في مخيلتي ...
كنتُ قد قرأتُ يوماً أن فنجان القهوة يعني الترحيب الشديد والفرح الكبير بالضيف...
نحن بنات حواء ننزعج كثيراً من أي رجل لا يروق لنا، أو نراه يلاحقنا و يبادر بأية مبادرة مهما كانت لطيفة...؟
ونُسَرُّ من أية لفتة صغيرة معبّرة من الذي نُعجبُ به أو نهواه ... بل إننا نؤلف من حرف همس به أو كلمة قالها لنا قصيدة شعر ... ومن القصيدة ديواناً ... ومن الديوان أعمالاً كاملة ...
وعدتُ أفكر بجملة قالها عبد الرحمن، وردّدها زملاؤه وراءه :
"الحمد لله فقد أحببناكِ للغاية "...
" الحمد لله " ... هاهو أول امتحان قد اجتزته بنجاح...
فقد جعلتُ المحبة تدخل إلى قلوب تلاميذي لتألفني وتودّني ...
الحمد لله ...
"سنتقاسم الدروس أنا والأستاذ عصام "
"ليتنا نتقاسم الدروس أنا وأنتَ "
تراك تسائل نفسك عني كما أسائلها عنكَ ؟!
ربما ... ربما تفكر بي ...
تراك تتقاسم معي المشاعر التي نبتت بأعماقي تجاهك؟!
كدتُ أصرخ بما يجول في أعماقي تجاهك ... ولكني آثرت الصمت ...
وقفتُ على نافذة المكتب أنظر من خلف الزجاج إلى حبات المطر التي بدأت تنقر زجاج النافذة …كان صوتها الشجي ذو الإيقاعات المتناغمة يشبه سحر صوتك الآسر حينما تتحدث ...
وكان منظرها النقي وهي على زجاج النافذة ... يشبه نقاء سريرتك وصفاء قلبك ...
كانت السماء متلبدة كتلبد مشاعري وأحاسيسي ... مغطاة بالسحب التي تنذر بيوم ماطر طويل ...
ورأيتك تسير بثقة بالغة تحت المطر ... بمعطفك الأسود الجميل ... تفتح علبة سجائر وتتناول منها سيجارة تضعها في فمك ثمَّ تحاول أن تشعلها... متجهاً نحو بوابة المدرسة لتتقي هبوب الريح ...
عدتُ إلى تأمل حبات المطر وسماع صوت نقراته الخفيفة على زجاج النافذة ...
كنتُ أتساءل... أين مقصدك الآن بعد أن دخلتَ المدرسة ؟!
وكأنك كنتَ تسمعني ... أطللتَ عليَّ بوجهك الملائكي قائلاً :
- كيف حالكِ ؟
- الحمد لله.
- وكيف حال تلاميذكِ الجدد؟
- يا لروعتهم … لا تصدق كم أحبهم وكم يحبونني … و...
- تليق بكِ المحبة.
- شكراً... لكَ !
- هل من متاعب ؟
- لا... ولكني أحياناً أشعر بحاجة لفنجان قهوة أو كوب من العصير ... ولكن لا أستطيع تناولهما في المدرسة.
- ومن قال لكِ ذلك ؟ يوجد في المدرسة مطعم صغير خاص بالمدرسين والمدرسات... تستطيعين الجلوس فيه وتناول ما تريدين وقتما تشائين ...
- لا أدري كيف أفلتت الكلمات مني :
- الحمد لله ... وأخلص بذلك من ثقل دم الأستاذ عصام!! وفنجان قهوته ...
لم أستطع تفسير الابتسامة التي ارتسمت على وجهك حينما أفلتت تلك العبارة مني!!!
قلتَ لي :
- أتسمحين لي بأن أدعوكِ إلى فنجان قهوة ؟
- الآن ؟! ولكن لم يتبقَ سوى عشر دقائق وتبدأ الساعة الدرسية الثالثة ... كنتُ... أقصد ... أردتُ أن أقول أنني سأتناول كوباً من الماء وأذهب لدرسي ... إن أحببتَ ... أقصد إن أردتَ ... فمن الممكن ... أن ...
- ستنظم المدرسة رحلة إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي. هل ستذهبين ؟
- ولكنني لا أعرف أحداً !! ...
- ولكنني موجود!!!
- لا ... بأس ... يا ... أستاذ محمد ...
- عصام ... اسمي عصام يا آنسة وفاء ...
- ولكن ... و ... ولكن ... لقد ... لقد قيل لي أنّ اسمكَ الأستاذ محمد!!!!؟؟…
- نعم … اسمي محمد عصام الفارس … ينادونني عصام والوحيد الذي يناديني محمد هو الأستاذ عبد المعطي المرشد الطلابي في المدرسة ...
- فهمت ... فهمت !!!
- إلى اللقاء يا آنسة وفاء ...
- إلى اللقاء !!!
خرجتَ من دون أن تضيف أية كلمة أخرى ... وجلستُ ومئة عبارة تلج في فكري...
محمد !!!؟ عصام !!!؟؟ محمد عصام !!!؟ محمد عصام الفارس ...
" ينادونني عصام ... والوحيد الذي يناديني محمد هو الأستاذ عبد المعطي ...
أنتَ هكذا دائماً يا أستاذ عبد المعطي تضعني في مواقف حرجة ...
" الحمد لله وأخلص بذلك من ثقل دم الأستاذ عصام " ... " وفنجان قهوته "...
ليتَ الأرض انشقت وابتلعتني قبل أن أتفوه بهذه العبارة ... أي جنيّ هذا الذي سكن لساني وربطه في الوقت الذي يتوجب عليه الرد والحديث ... وأفلته في الوقت الذي يتوجب عليه السكوت ؟!
إذاً … أنت هو الأستاذ عصام الذي تحمس للفكرة بل وكان الأكثر حماسة!!!
أنت الذي بعث لي بفنجان القهوة ترحيباً بي ؟
أنتَ الذي عرف اسمي من قبل أن أعرف اسمه ؟!…
ومثلما قدمتَ بثقة عمياء ... رحلتَ عني بثقة عمياء ...
عصام!!؟
هي ذي نفسها كلماتك الهادئة وذكاؤك اللامحدود ...
كيف شعرتَ بترددي في تناول القهوة معك ... لا بل انتزعتني من حيرتي بكلمتين اثنتين ...
" إلى اللقاء " ...
عصام !! لله ما أروع اسمكَ ... اسم على مسمى...
عصام!!
يا أحلى كلمة نطقتها شفاهي وضمها قلبي بحنين ما بعده حنين ...
ويزداد حنيني إليك ...
إلى صفوك ... وهدوئك ... وكبريائك ...
عصام !!
يا أغلى من عمري كله ... آهٍ لو يمد الله بعمري ... لكنتُ وهبتكَ إياه وفاءً وصدقاً وإخلاصاً وعطاء ...
عصام...
يا كل العمر وعمر العمر ... وما هو عمري إن لم يكن عنوانه عصام ؟!
يا من جعلتُ اسمه محفوراًَ في قلبي … على جدرانه … في شرايينه … في كل قطرة من دمائه وكل نبضة من نبضاته أهتف " عصام".
عصام !!!
كنتَ اليوم أجمل من كل يوم ... أبهى وأروع من كل عصام على الأرض... كنت كالبدر في الليلة الظلماء ...كالزهر في فصل الربيع ... كالوردة الجورية في أوان التفتح ...
سحر عينيك يكبلني ... يقيدني ... يلعثم شفاهي ويبعثر أفكاري ... فما أشعر بنفسي إلا وقد غدوت طفلةً تودُّ لو أنها تركض إليك لتضمها بين ذراعيك وتدخلها عالمكَ المسحور...
وآهٍ من عالمك المسحور ...
زرعتَ فيَّ حنين المشتاق في الغربة إلى وطنه ... ومنْ إلاَّك لي وطن؟!!
عصام !!!
يا عمري ... يا كل العمر وعمر العمر وأجمل ما في هذا العمر …
عمري هو "عصام"…
عصام الذي يدرك متى يدنو مني ومتى ينأى عني ...
عصام... ذاك الملاك الهائم في فضاءات أحلامي ...
عصام الذي دغدغ كل ذرة من مشاعري...
عصام الذي أضحكني وأبكاني ...
لماذا ترددتُ معك ... وأنا التي كنتُ أتمنى معرفتك أكثر؟!
عصام!!! ...لماذا لم أقبل بعشر دقائق وأنا التي كانت بحاجة لدقيقة بل لثانية معك ؟!
يا الله … متى يأتي موعد الرحلة ؟!!
* *
كان منظر غروب الشمس على أطراف بحيرة زرزر لا يضاهيه أي
منظر ...
وكانت كل ذكرياتي تلك تتوالى الذكرى تلو الأخرى وأنا جالسة على شاطئ تلك البحيرة ...
شاردة ... لا أعي كيف يمر الوقت في هذا اليوم ... تارةً أذكر تلاميذي... وطوراً أذكركَ ...
وكان منظر البحيرة في لحظات الغروب تلك هائجاً ثائراً كثورة حبي لك في بعض الأوقات ...
لم يعكر صفو ذكرياتي تلك أي شيء سوى ذكرى اللقاء الأخير ...
وهنا ... عادت دموعي تنهمر من جديد ... وتزايدت ثانية دقات قلبي... ولكنَّ فصاحة البحيرة وجمالها ردَّ إلى الروح بعضاً من الروح ...
لستُ مادية يا عصام كما هُيِّأ لكَ أو كما صارحتني بكلامك المبطَّنْ:
"لقد رأيتُ الآن أشياء لم أرها من قبل يا وفاء"...
لستُ مادية يا عصام وأنتَ تدرك ذلك أكثر مني ... ولكن اقتراحك الأخير هدَّني وجعلني أفقد صوابي ...
وتدرك أيضاً أنني لأجل حبكَ أهجر كل شيء ... لكن على ألا يكون جزائي وعاقبة حبي لك ذلك الإهمال الكبير وتلك الكلمات المؤلمة التي وجهتها لي آنذاك ...
كان هناك الكثير من الحلول لإنقاذ حبنا من الضياع ... ولكنك لم ترها... أو بالأحرى لم تشأ رؤيتها ...
شيء غريب لمسته من وراء اقتراحك ... لم أستطع اكتشاف ماهيته.. واستجلاء كنهه..
أردتُ أن أناقشك به فسحبت اقتراحك... لماذا؟! ألم تكن مقتنعاً به ؟!
هل صمتي طوال هذه المدة عن الجراح التي سببتها لي جعلك تطمع في إيلامي أكثر؟!!
يقولون إن معشر الرجال لا يؤمن لهم … ولا أدري لماذا بقلبي الصافي أمنت لك ...
"لقد رأيتُ الآن أشياء لم أرها من قبل يا وفاء "
أتراك رأيتَ أيضاً مقدار حبي لكَ ؟!
هل استخرجت من ركام آلامي التي نفخت في رمادها آنذاك ألف.. ألف كلمة أحبكَ؟!
هل أسعفكَ حدسكَ كرجل تجاه الأنثى التي تهواه فجعلك تغوص في حنايا روحي لترى ما حُفِرَ على قلبي وقتها" كيف السبيل إلى اقتلاع جذور هواك من الأعماق ؟!..."
رأيتَ ما رأيته ... وتركتكَ تحلّل على سجيتكَ ...
ولكني أرى ... وما عادَ يهمني أن ترى معي ... أنني أحببتكَ بقلب استثنائي ، لن تصادف ما حييت قلباً مثله ... فقد أحببتكَ حباً جاوز الحبّ بعضه وفي طول عمري ليس يمكن عرضه!!! ...
وأرى ... وما عاد يهمني أن ترى معي ... أنك لن تستطيع العيش من دون أن يكون طيفي رفيق حياتك ... يملؤها ضحكاً كما ملأت لي حياتي دموعاً ...
ويملؤها أملاً ... كما ملأتَ حياتي يأساً ...
وأرى أيضاً ... وما عاد يهمني أن ترى معي ... أنني بصدقي معك وحبي الشديد لك وكبريائي الذي طالما جرحته ... وأنوثتي التي طالما آذيتها... أرى أنك لن تقابل قلباً بريئاً كقلبي، وحباً نقياً كحبي ... وأنّ أحلامي معكَ وأحلامي بكَ ولك قد دفنتَها بيديكَ وهي تكبر شوقاً إليكَ ...
وأرى !!!! وهنا يهمني أن ترى معي ... أنني ألّفتُ من حبك رواية هي كل ما استطعتَ أن تقدمه لي ... مع بعض الأحلام المسفوكة على مذبح الغرام حينما كنتُ أحرق نفسي شوقاً إليكَ ...طيلة سنة ونصف السنة ...
وماذا جنيتُ من احتراقي شوقاً إليكَ إلاَّ وحدتي ؟ واحتراق أوراقي ؟ وذوبان أقلامي؟!…
هاأنا ذا اليوم أعود من رحلة حب مريرة مريرة … لأجلس وحدي بين جدران الأسى … مُكسَّرة ضلوعي … مغلولة شفاهي … محطماً قلبي.. يمشي في درب الليل الطويل ... يمنح نبضه من يحب ... يتوسد ظلّ هواه ويفترش عبير خطاه ويمشي ...
يمشي وحيداً في درب الليل الطويل ... حتى إذا عاد، أدمته مرارة الحرمان ... وأقعدته لوعة القلب والروح ... وشلّه سرُّ ما بأعماق الوجه الصبوح ... ليجلس كما يمشي وحيداً ... بين جدران الضلوع المطلة على الأسى ... أساي أنا..
ويل قلبي من سطوة الألم التي اعترته حينما رحلتَ !!!
وارحمتاه لقلبٍ نأى الأحباب عنه …
جريحٌ أنت يا قلبي ... تتأبط حزنك وتمشي ... تمشي في وحدة الليل الموحش ...
وحيدة أنا أكفن دموع وجداني ... أسافر في بحر الجرح العميق ... أحمل بين أضلعي قلباً مخموراً بألمه لا يستفيق ... يجدفُ وحده في خضم البحيرة اللازوردية وسط أمواجها العاتية … لتتكسر أحلامه على صخرتك أنت يا من تركتني لمصيري السيزيفي.
يتشقق ليلي الثائر ليطلع النهار ويعود إليّ هدوء الياسمين ...
يرتجف قلبي من ذكريات أمس الفراق الرهيب ... أستيقظ من حلمٍ غامضٍ أليم !!
كم إغفاءة سرقتُها في يوم الفراق لأنسى أحزاني الأليمة ؟! أحاولُ أن أدفن حنيني …
يغادرني ما تبقى من بقايا الحب والهوى ... أُبعثُ من أحلامي ركاماً ورماداً ...
أحاولُ أن أسرّجَ الهدوء في كل مكان من روحي ... من قلبي ...
نيرانٌ تمور في أعماقي ... وأخرى خامدة هنا وهناك...
أفضي للسماء ما تبقى من أناشيدي القديمة ... من أبجدية الهوى وآلامه التي لا تجفٌّ...
من تراتيل الجراح والأحلام الليلية والخوف المباغت من الغد المجهول!!
من ذا الذي يعيد إليَّ قلبي لأبدأ حياتي من جديد ... دون حب ... دون جراح ... ودون سطوة الألم !!!
يلاحقني ليل غربتي في كل مكان ... يلاحقني غدر الزمان ...
هو ذا قلبي ...
قمر الليل ما تبقى منه ... يضيء لي ذكريات الحنين...
يحترق قلبي شوقاً إليك ... لعبق الياسمين !!!
أنا !!! من أنا ؟!!
أنا التي قضت عمرها هاربةً من شراك الهوى فكانت أتعس طرائده !!!
وارحمتاه لقلبٍ أضناه البعاد وهدّه الرحيل !!! وا… رحمت… آه…‍‍!!
طلبتُ من مضيف المقهى الذي أجلس فيه أن يدير المذياع ...
صوت المطرب السعودي محمد عبده يغني :
" بعاد كنتم ولا قريبين ... المراد أنتم دايم سالمين ... وما قول غير الله... الله يكون في عون كل العاشقين ..."
كم اشتقتُ لصدى ضحكاتك يتردد في أفق أعماقي ... يرنّ في أذنيّ..
كنتَ تحتج حينما كنتُ أنشد لك بيتاً من إحدى القصائد العصماء ... وما زلتُ أذكر آخر بيت أنشدته لك:
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا

وكنتَ تقول لي :
ـ أنا أحب كتاباتك أكثر ... لأني أشعر أنها من صميم أعماقك أنت لا من صميم أعماق الآخرين ...
صوت زلزل المقهى:
- "سقطت بغداد "...
بهاتين الكلمتين ... قطع المذيع برامج الإذاعة ليعلن على الملأ أن بغداد قد سقطت ... وأن آخر معاقل الكرامة قد دكت حصونها وتهاوت عروشها..
سقطت بغداد؟!!… سقط الحق والخير والجمال.. وشرّع المجهول أبوابه على الهاوية!!
ما ذنبنا ؟! فكرنا ؟! أشلاؤنا ؟! أمتنا ؟! هاروننا؟! مرواننا ؟! مأموننا؟!
وامعتصماه ...
سقطت بغداد !!!
ما ذنبنا ؟!
ذنبنا أننا وجدنا في زمن الرشوة والخداع … في زمن الضآلة والضياع... بغداد لم تسقط وإنما أُسقطت ... ولتسألوا الذين قبضوا الثمن!!!
ذنبنا أننا وجدنا في زمن القشور والبيع والشراء والأبطال المقنعة ...
سقطت الأقنعة ... سقطت كل الأقنعة..
فسقطت بغداد !!!
إرث بغداد بعثرته الأيادي الغريبة ...
مساجدها ... مآذنها ... سيوفها ...قمحها … مصانعها ... منازلها أشلاء مبعثرة...
سقطت بغداد !!!
آباؤها... أجدادها ... نساؤها... أطفالها... شيوخها أشلاء مبعثرة ...
سقطت بغداد !!!
جيوشها ... حرسها ... أبطالها ... أبناؤها أشلاء مبعثرة ...
سقطت بغداد !!!
وأنا اليوم مثلكِ يا بغداد ... أشلاء مبعثرة ...!!!
* * *



الفصل الثاني
رحلة العمر


نظمت المدرسة رحلتها إلى قلعة صلاح الدين الأيوبي... هذا البطل الذي استقبله أهل الشام أجمل استقبال حينما قصدها وهزم الفرنجة في حطين وأعاد القدس لأهلها عربية الوجه واليد واللسان ...
وما زلتُ أذكر ... كيف جئتني قبل يوم من الرحلة ... وحدّثتني عن أشياء كثيرة ...
منها حبك للشاعر الدمشقي نزار قباني وولعك بشعره ... وأذكر حينما سألتك أن تقرأ لي شيئاً مما تحفظه من شعر نزار ... وبدأت شفاهك الخمرية تدندن أجمل الكلمات :
" يبعثرني الحبُّ مثل السحابة ... يلغي مكان الولادة .
يلغي سنين الدراسة ... يلغي الإقامة ... يلغي الديانة ... يلغي الزواج ، الطلاق ، المحاكم ، الشهود .
يسحب مني جواز السفر ...
ويغسل كلّ غبار القبيلة عني ويجعلني :
من رعايا القمر ...
"يفاجئني الحب مثل النبوءة حين أنامْ
ويرسم فوق جبيني ... هلالاً مضيئاً وزوج حمامْ
يقول : تكلم ... فتجري دموعي ولا أستطيع الكلام ...
يقول : تألم ... أجيب : وهل ظلّ في الصدر غير العظام ...
يقول تعلّم ... أجاوب : يا سيدي وشفيعي
أنا منذ عشرين عاماً أحاول تصريف فعل الغرام ...
ولكنني في دروسي جميعاً رسبتُ
فلا في الحروب ربحتُ ... ولا في السلام .
لو لم تكوني أنتِ في حياتي … كنت اخترعتُ امرأة مثلك يا حبيبتي …
لو لم تكوني أنتِ في لوح القدر ... لكنتُ كوّنتكِ يا حبيبتي ...
بصورة من الصور.
كنتُ استعرتُ قطعة من القمر ... وحفنة من صدف البحر ... وأضواء السحر ...
كنتَ استعرتُ البحر والمسافرين والسفر .
كنتُ اخترعتُ الغيم يا حبيبتي
من أجل عينيك ... وأنزلت المطر ...
لو لم تكوني أنتِ في حياتي
ما كان في الأرضِ هواء ... أو مياه ... أو شجر...
ما كان في الأرضِ بشر ..."
تراكَ كنت تقصدني بهذه الكلمات ؟!!
آهٍ من حيرتي وشكي وخوفي ونداءاتي !!!
كنتَ تحدثني بلغة شعراء الجاهلية ... بلغة شعراء هذا العصر ... بلغة شعراء الغزل وبلغة شعراء الفوضى والجنون ...
ولكن أكنتَ تقصد ما تقول ؟!
الله يا عصام ما أروع كلماتك … ما أروع أحاديثك … لكم أود أن أراك كل يوم وكل ليلة ولكن ... يقتلني الانتظار ... يقتلني صمت الأيام ...
وحينما ألتقيك ... يحل شكي مكان إيماني ... أشك أني على قيد الحياة... أشك أنني أنا ...
يا أنا ... أشك أنني يقظة... وأؤمن أنني أحلم ... وأؤمن أني سأصبح بعد لحظات شعوراً ستأخذه الغيبوبة إليك!!!
عدتُ بذاكرتي إلى أول يوم رأيتك فيه ...
إلى أول ما رأت عيناي عينيك ...
وتذكرتُ سطوة الألم التي اعترتني ...
سطوة الألم التي أسكنتك أعماقي دون أن تدري...
سطوة الألم التي جعلتني أذوب فيكَ قبل أن أعرف من أنتَ...
سطوة الألم التي انتزعتِ أناي مني كما تُنتزعُ الروح من الجسدِ لأذوبَ فيك أنت ... في أناك روحاً وجسداً ...
حضرتني هنا عبارة قرأتها يوماً لمريم نور في كتابها (فنجان قوة بألم الإنسان من ركوة مريم نور ) :
" موت الأنا أصعب من موت الجسد "
الأنا التي لم تهدأ بداخلي كل تلك السنين والتي كنتُ أستصعب كثيراً بُعدها عني لحظة واحدة ، ذابت حينما رأيتك أول مرة ...
قضيتُ ليلتي مثقلة بالآلام والمشاعر الغريبة ...
ما الذي جرى لي لأقضي الوقت كله أفكر بحضوركَ الساحر ؟!...
ما الذي جرى لي لأشعر أن الليل يمضي وكأنه ألف ألف ليل ؟!...
أقضيه بالتقلب على فراشي أسائل روحي من أنتَ؟... وكيف أتيتَ بكل هذه المصادفات الغريبة ؟!...
كنتُ في المنزل ... أعيد ما تلته لي شفاهك السحرية من قصائد نزار... وأسأل نفسي : هل كنت تقصدني بتلك الكلمات؟!
ولماذا اخترت هذا الشاعر بالذات ... شاعر المرأة والغزل ؟!
لعلك كنتَ تودّ أن تلمحّ لي ببعض المشاعر التي اعترتك تجاهي ؟!
أتراك الآن شعرت بدفء مشاعري ؟! أتراك؟!!
كيف بدأتُ أحسب حينها كم سنة مرت على عمري قبل أن ألتقيكَ ... ولماذا؟!…
لماذا كل هذه التغيرات التي طرأت عليّ ولم أرك إلا قليلاً ...
انتظرتُ يومها مرور الليل بفارغ الصبر وأسئلة كثيرة تلج على فكري من دون أن ألقى لها جواباً شافياً ... وبدأتُ أتأكد أن ما بداخلي تجاهك ليس إعجاباً فقط يا عصام... وإنما حباً عميقاً عميقاً…
نعم ...
لقد أحببتك يا عصام ... بكل جوارحي ... بكل كياني...
لأول مرة بدأتُ أراقب القمر في دورته ... وأراك فيه ... بسحركَ ... بقامتكَ ... بأناقتك بكل شيء فيك ... من مفرق شعرك حتى أخمص قدميك.
كم ازداد شوقي لك يا عصام وإعجابي بك ...
وكم فكرتُ بسحر كلماتك في تلك الليلة ...
أُرهقتُ كثيراً من ليلي هذا الذي لا ينتهي ... كل لحظة أتساءل فيها متى يطلع النهار يا قمري ؟
أتراك أحببتني ؟…
أحاول بكل جهدي أن أغفو لحظات … يداعب طيفك الغالي جفوني … أغمض عيوني لعلّها تنام ... فيتراءى بين المآقي سحر عينيك وبريقها ...
أحادثك قليلاً ... أسائلك ... أناجيك ... أبوح لطيفك بما يساور قلبي تجاهك ... أكلمه عن تلك المشاعر التي تكاد تنتزع روحي وقلبي من بين ضلوعي ...
أعود وأغمض العيون كي يتسنى لها أن ترتاح قليلاً قبل طلوع الصباح... وأية راحة تلك التي أنشدها وأنت ساكن أفكاري وأعماقي ؟!
أتقلب على جانبي الأيمن … فيترجع في هذا الجانب صدى ضحكاتك الرنانة ...
أكاد أفقد صوابي !!! ...
أعود لجانبي الأيسر ... لأقابل وجهك الملائكي بشفاهك الوردية التي تحادثني عن أشياء لا أعيها ...
أمدُّ يدي أحاول الوصول إليه ... لأدرك أن قدري يسخر مني ... وأن ما أمامي ليس إلاّ أضغاث أحلام ...
أغادر فراشي ... أقف قليلاً على شرفة النافذة ... أراك من خلف السحاب مبتسماً... أعود إلى هذيان الروح التي تناجيك ... أحادثك يا قمري... وأسائلك ... لِمَ شددتني ؟!
كان قلبي ميتاً لسنين خلت، فلماذا أحييته وأيقظتَ فيه الشوق من بعد الموات؟!
أعود لفراشي والدمع يجرّحُ خدّي … أراك بالقرب مني تمسح دمع العين...
أقترب منك أحاول أن أضمك ... فلا ألقى إلا سراباً...
أعود لبكائي واكتئابي ...
ما سرّ تلك المشاعر الدفينة التي أكنها لك ؟... ما سرّ السحر الكامن في عينيك ؟... ما سرُّ اهتزازي واضطرابي كلما رأيتك ؟!
أعود وأحاول بكل جهدي أن أغفو إغفاءة قصيرة لأكتشف حينها أنه قد طلع الصباح...
وهكذا أقضي الليالي ...
وكأن حدسي كان يقول لي مسبقاً أنني سأعيش أروع وأجمل قصة حب معك ...
وكأنني كنتُ أشعر من خلال سطوة الألم التي اعترتني أن حبك سيؤلمني ويبكيني كثيراً...
ما الذي يجري لنا نحن بنات حواء حينما نهوى ؟!…
يقال إن الحب بالنسبة للمرأة هو كل حياتها … وإنها حين تحبُّ تقول: لقد اكتمل العالم …
هو تنفسها وظمؤها وماؤها وغذاؤها وروحها وخلجات قلبها ودمها الذي يجري ...
يا كل حياتي ...
لماذا أشعر بأني أكاد أفقد صوابي ... ما الذي يشدني إليك أيها الرجل ؟! ما سر تلك الاضطرابات التي تعتريني كلما رأيتك ؟!
كان الباص يشق طريقه بنا باتجاه مدينة حمص … كان الطريق جميلاً. كنتُ في مقعدي شاردة في تلك المناظر ... وإذ بإحدى المدرسات تقترب مني هي وزميل لها قائلة :
- أين أنتِ شاردة ؟!
- في هذه المناظر الخلابة ...
- اسمي فادية ... مدرّسة في المرحلة الابتدائية ... وهذا زميلي ناجي من فلسطين ... مدرس مادة القومية العربية لتلاميذ المرحلتين الاعدادية والثانوية ...
- أهلاً وسهلاً بكما ...
كانت فادية ذات وجه صبوح وابتسامة مشرقة وقامة هيفاء ... وكان أكثر ما يميزها لون عينيها الخضراوين وشعرها الذهبي الذي يتمايل على كتفيها، ويلهث خلفها كسنابل تُركت بغير حصاد ...
مدّ ناجي يده مسلماً علي ... وحينما لامست يده يدي شعرتُ بقشعريرة سرت بجسدي واهتزت لها أطرافي ...
سحب ناجي يده مضطرباً ... لأكتشف متأخرة أنَّ يده تلك ... اصطناعية!!!
خففت فادية من حراجة الموقف بقولها :
- وهذه يا ناجي المدرِّسة الجديدة وفاء ... والتي تدرّس الشعبة الأولى من تلاميذ الصف الثالث الإعدادي .
قال ناجي :
- أهلاً وسهلاً بكِ يا آنسة وفاء .
- إنه كاتب سياسي أيضاً يا آنسة وفاء . قالت فادية .
قلتُ له :
- من المؤكد أنك تكتب عن فلسطين.
- وعن بغداد يا آنسة وفاء!!!
- بغداد!!!
بغداد الصامدة الآن في وجه الاحتلال الأمريكي ...
بغداد حلمنا بالصمود في وجه الأجنبي ...
بغداد التي وحدت مشاعر كل العرب ...
بغداد... إرثنا الباقي إلى الأبد ...
إرثنا ... أرضنا ... شعبنا بغداد ...
بغداد المجروحة بالآلات المستوردة ...
بخيانات كالوباء تتفشى بين المتآمرين …
بالسحب التي تلد قنابلاً وآهات مجروحة ...
بالغريب الذي جاء ليقتل الحب ... ليقتل البراءة والصدق ... ويمسح ذاكرة العاشقين ويأكل أدمغة العلماء ... ويشلّ ضمائر المدافعين ويحولهم لمتواطئين ينادون بالشرف وهم أبعد ما يكونوا عنه ...
بغداد...
يا عروساً كانت ستزفُّ للعرب ...
فقتلوا عريسها ليلة الزفاف ...
سألتُ الأستاذ ناجي عما يكتبه عن فلسطين فأجابني :
- عن حق العودة يا آنسة .
- حق العودة ؟! وهل تؤمن يا أستاذ ناجي بأن العدو الصهيوني سيترككم تعودون لدياركم ؟
- ولمَ لا ؟ فحق العودة مكفول يا آنسة وفاء ، أولاً بالميثاق العالمي لحقوق الإنسان...وثانياً لا يسقط حق الفلسطينيين في أرضهم وأملاكهم وديارهم ...
- ولكنهم احتلوا أرضكم وهدموا دياركم يا أستاذ ناجي ... فكيف تتوقع منهم أن يعترفوا بحق العودة ؟!
- الاحتلال أصلاً غير مشروع في القانون الدولي، وحق العودة لا يزول بالاحتلال ، فلا يجوز انتزاع ملكية شخص من قبل سلطة الاحتلال.
- وهل ينطبق ذلك على إخواننا العراقيين الذين خرجوا من ديارهم هرباً من شبح الحرب؟!
- أولاً بغداد لم تسقط ... ثانياً بغداد لن تسقط ... وثالثاَ بغداد لن تسقط ...
إن سقطت بغداد سقط العرب ... وسقطت كرامة العرب ... وسقطت حرية العرب ... وسقط الضمير العربي ... أليس كذلك يا فادية ؟!!
قالت له فادية :
- الله الله يا ناجي ... لقد انسجمتَ أنت والآنسة وفاء ... ونسيتما أنني هنا ...
قلتُ لها :
- اعذرينا يا فادية ... فأنت تعرفين أننا كلنا هنا نحب إخوتنا الفلسطينيين ... وناجي أحدهم .
قال ناجي مبتسماً :
- شكراً لك يا آنسة وفاء ... وفرصة سعيدة .
- فرصة سعيدة يا أستاذ ناجي .
تابعتُ ابتعاد فادية وناجي ... فالتقت عينايَ عينيكَ ... كان في نظرتكَ سؤال لم أدرِ معناه ... ومسحة حزن سررتُ بها ...
علَّكَ بدأت تغار عليّ ؟!
سررتُ جداً وأنا أراكَ تقترب مني قائلاً :
- هل تسمحين لي بالجلوس ؟
- تفضل .
- بقي قرابة الساعة ونصل القلعة...
- أظن ذلك .
- أتعرفين فادية من قبل ؟
أجبتك بابتسامة لم تخف عليك :
- لا ... ولكنها هي التي عرّفتني عن نفسها ...
- وهي التي عرفتك على الأستاذ ناجي ؟
- نعم ... وقد وجدتُ من حديثه أنه مؤمن بحق العودة لدياره... ومؤمن بـ…
- هل راقَ لكِ ؟!
- إنـ...ـه ...شخـ...صيـ... واثقة ... و ... صادقة ... إنه ... !! ... تصور أنه ...
- نعم نعم ... فهو فلسطيني ... وأنت تدركين أننا نحب الفلسطينيين ... أستأذنك يا آنسة وفاء بالانصراف ...
وانصرفتَ عني من دون أن تسألني حتى عن أحوالي وصحتي . وابتعدت شيئاً فشيئاً لأعود وأشرد بك وبتلك المناظر الخلابة ...
رحتُ أتساءل ... لماذا لقاءاتنا هكذا دائماً قصيرة ؟!!! وأحاديثنا كل مرة نبدأها من دون أن نكملها ... وهل ما لمسته منك مجرد فضول لا أكثر ؟!
ما الذي جعلك تنهي الحديث هكذا ؟! لماذا لم تشعرني بقيمة وجودي معك هنا ... وأنت الذي اقترحت علي الذهاب في هذه الرحلة ...
وعندما قلتُ لك أنني لا أعرف أحداً من أساتذة المدرسة ... طمأنتني بأنك موجود... فهمتُ من قصدك أنك ستتكفل بي طيلة فترة الرحلة ...
هل من اللائق أن تتركني هكذا وتمضي ؟!
رأيتُ سيدة تقترب مني باسمة ولكنها بدت كأنها مكشرة وبدا وجهها وكأن تضاريس الأرض قد رسمت عليه..
شعرت وكأنني رأيتُ ذاك الوجه سابقاً، وتلك العينين الجاحظتين.. ولكن أين؟ ومتى؟ لست أدري..
قالت لي باسمة، وظلال عبوسها لا تزال تغلف صفحة وجهها:
ـ كيف حالك؟
ـ الحمد لله!!..
ـ جئت لأسلم على المدرِّسة الجديدة.. اسمي فصيحة على اسم جدتي.. وأنا مديرة المكتبة في المدرسة.
ـ أهلاً وسهلاً .. تشرّفنا..
ـ لقد رأيت الأستاذ عصام يتحدث معك.. إنه شخصية طيبة وودودة.. ولكن احذري صنف الرجال يا آنسة.. إنهم غدارون مكارون. اسأليني أنا عن الرجال.. فزوجي كان يظهر لي الحب الشديد، ولكنه طلقني لسبب تافه.. تصوري أننا تشاجرنا يوماً لأنني تأخرت في إعداد الطعام له.. فبدا يكيل لي الشتائم ويُعَيِّرني بقلة اهتمامي بترتيب المنزل وتحضير الطعام.. وصار يشبهني بكائن غريب متحرك مع أنني والله أتعب في عملي.. والحمد الله أننا لم نكن قد رزقنا بأطفال وإلا لكانت الطامة الكبرى..
ـ الحمد لله..
ابتعدتُ عنها شيئاً فشيئاً هرباً من حديثها الغريب الذي أسرى القشعريرة في جسدي.
وقف الباص بنا قبالة البوابة الرئيسية للقلعة ... وأقبلت الشمس ضاحكة لنا تنبئنا بصفاء الطقس وروعته ... وصفت السماء من آثار السحاب إلاّ من قلة تسير ببطء ووقار ... ودغدغ وجوهنا نسيم عليل ...
اتجهنا بأعيننا نحو القلعة ... فهالنا حسن منظرها وبراعة بنائها ... وَسُحِرنا بثبات هذا البناء بعد تلك القرون الطويلة الأمد ... وشدت أفواهنا بآهات الإعجاب ...
وكأن صلاح الدين قد سمع تلك الآهات فأمرنا بدخول القلعة لنرى مشاهداً أكثر إثارة وإبداعاً ...
كان عددنا يقارب العشرة أشخاص...
بدأتُ أشعر بأنفاس عدة قرون مضت... وأعيش لحظات هذا التاريخ العظيم ...
كان جميع الزملاء منشغلين بالمناظر الآسرة ... يتحادثون ويتناقشون حولها ... وكنتُ واجمة شريدة الفكر في هذا الصرح العظيم ...
إلى أن أيقظني من شرودي صوتك يا عصام، الذي باغتني بالسؤال:
- هل أعجبكِ هذا الصرح ؟
- نعم ، بالتأكيد … إنه من الأوابد والصور التي تحتل لنفسها مكاناً عزيزاً في الذاكرة ...
- وهناك بعض الصور التي لا تعشش بذاكرتنا فقط، وإنما تنحفر على جدرانها حتى لا تُمحى آثارها مهما حصل!!!
تجاهلتُ مقصدكَ وسألتك:
- أي نوع من الصور تلك ؟!
أجبتني بثقتك المعتادة :
- صورة إنسان غالٍ علينا مثلاً...
جمد الدم في عروقي ... هل كنتَ تقصدني أنا أم رميتَ هذا الكلام جزافاًً؟!!!
أردتُ المراوغة معك :
- كصورة والد أو أخ عزيز ؟!
قلتَ لي :
- أو غير ذلك أيضاً.
صمتُّ لا أدري بماذا أرد عليك ... كانت أعماقي تناديك لتُوَضِّحَ أكثر ...
كنتُ أكره الكلام المبطّن بالزهور ...
لماذا لا تنثر علي أزهار حديقتك بشكل واضح ؟!…
- ما لكِ تصمتين يا وفاء ؟!
- لا للشيء ... أستمتع بمن ... بما حولي ...
- بمن حولك أم بما حولك ؟!!
صمتُّ ثانية ...
لا أدري لماذا كنتُ أستشعر الضعف في لحظات وجودي معك ...
تلك اللحظات التي كنتَ تملؤها كلاماً وأملؤها صمتاً ودموعاً ...
أيقظني من ورطتي تلك قدوم ناجي نحونا وتحيته لنا وسؤاله لعصام عن أسماء قلعة الحصن السابقة فما كان من عصام إلا أن أجاب وكأنه يقرأ من كتاب:
- قلعة الحصن يا ناجي هي من أعظم القلاع وأشهرها في العالم كله... وهي فريدة بهندستها الرائعة التي تحمل مزيجاً من حضارات الشرق والغرب في تناسق يبرز بوجه خاص تلك المبادلات المهمة في الأسلوب بين الفن في الغرب والفن في المشرق العربي وبخاصة في الأزمنة المتأخرة من العهد الروماني وأوائل العصور الوسطى عندما كان الفن الإسلامي يمارس نفوذه على فنون أوروبا المطلة على البحر المتوسط قاطبةً . وقد حافظت على هيئتها وتماسكها أكثر من أي حصن آخر رغم مضي أكثر من تسعة قرون على إنشائها ورغم ما تعرضت له من هجمات وزلازل ونكبات ... وتدعى قلعة الحصن أيضاً بقلعة الأكراد.
سأله ناجي قائلاً في الوقت الذي اقترب منه جميع الزملاء :
- ومن أين أتى هذا الاسم يا عصام ؟
أجابه عصام :
- حكى منتخب الدين يحيى بن أبي طيّ النجار الحلبي في تأريخه في سبب نسبة حصن الأكراد إلى الأكراد، أن شبل الدولة نصر بن مرداس صاحب حمص ، أسكن فيه قوماً من الأكراد في عام اثنتين وعشرين وأربعمئة ، فنُسِبَ إليهم وكان من قبل يسمى حصن الصفْح .
ولهذه القلعة أسماء كثيرة يا ناجي ، حيث يطلق الغربيون عليها اسم " حصن الفرسان" وتدعى باللغة الفرنسية
Krak (crac) des chavaliers وباللغة الإنكليزية
Castle of the knights
وهي تسمية حديثة أطلقها على القلعة البارون غليوم راي في القرن التاسع عشر ، وقصد بها فرسان القديس يوحنا المعرفون بالأسبتارية . وهؤلاء هم الذين شغلوها وتولوا شؤونها قرابة قرن ونصف قرن من الزمن أي من 537-670هـ/1142-1271م، حتى استردها منهم الملك الظاهر بيبرس.
وهنا سأله الأستاذ عبد المعطي:
- إذاً نسبة إلى هؤلاء الفرسان عرفت القلعة باسم حصن الأسبتار؟
أجابه عصام :
- نعم، وهو اسم أطلقه مؤرخو الحروب الصليبية من الفرنجة المعاصرين لها ، كذلك أورد ذكرها المؤرخون من (البيزنطيين) ومن اللاتين باسم كراتوم أو كاستروم كراتي ، وأطلق عليها البنادقة اسم لوكرات "le crat" وأسماها الفرنجة كراك دومونتريال .

كنتَ تتحدث وكنتُ أسمعك بأذني قلبي ...
أدهشتني ثقافتك الواسعة وإلمامك بكل هذه الأسماء .
وراعني هدوؤك وتفننك في إيصال المعلومات لنا ...
انفض الجميع من حولك ... وبقينا أنا وأنت وحدنا نسير باتجاه بوابة الحصن الرئيسية...
أردتُ أن أقطع الصمت الذي خيمّ علينا ... بادرتك قائلة:
- من أين أتيت بكل تلك المعلومات يا أستاذ عصام ؟!
- من قراءاتي المتواصلة .
سألتك:
- أفهم من ذلك أن هوايتك القراءة ؟
رددت علي غامزاً وأنت تعقد يديك فوق صدرك :
- وسبر أعماق النفس البشرية .
أدهشني جوابك وفاجأني ... تشجعت متسائلة :
- وهل سبر أعماق النفس البشرية هواية أم علم ؟
- هي علم عندما نقرأه وهواية حينما نريد ...
قلتُ لك:
- وهل تمارس هذه الهواية مع جميع من حولك ؟!
أجبتني بتهكم:
- لا ... وإنما حينما أريد فقط ...
أطربني ردك هذا ... وفي الوقت نفسه أقلقني ...
فكل كلامك مبطن ... وكله رموز وإشارات ...
لماذا لا تحادثني بشكل واضح لا لبس فيه ولا غموض؟!!
لماذا لا تعي أن أشعاري كلها كتبتها لعينيك السوداوين ؟ وضجيج اللهفة فيهما ؟
لماذا ؟! لماذا تخفي عني سرّ ما في قلبك الكبير ؟!!
صعدنا جميعاً إلى الباص ليقلنا إلى مطعم نتناول فيه طعام الغداء...
وصلنا بعد حوالي النصف ساعة إلى مطعم متواضع جميل ...
تناولنا غداءنا وسط أحاديث متنوعة ...
اقترب مني الأستاذ عبد المعطي وجلس قربي قائلاً:
ـ كيف حالك يا وفاء؟
ـ الحمد لله.. كل شيء على ما يرام.
ـ هل ثمة شيء تحتاجين إليه؟
ـ لا.. لا.. شكراً لك.
ـ أرجوكِ يا وفاء لا تترددي في طلب أي شيء مني.. فوالدك حينما كان على فراش الموت أوصاني بكِ وتركك أمانة في عنقي..
ـ والله يا أستاذ لستُ بحاجة إلى أي شيء ولله الحمد..
ـ إذاً.. عديني إذا احتجت لشيء أن تطلبيه مني.
ـ أعدك.. وأشكرك من كل قلبي..
ـ لا شكر على واجب يا وفاء..
كان ناجي كالعادة يتحدث عن حق العودة، وقد سمعته يقول لفادية :
- إن وقوف العدو الصهيوني ضد قرار عودة اللاجئين يعتبر وفق كل القوانين والمعاهدات والمواثيق وفي طليعتها ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها وميثاق حقوق الإنسان. خرقاً مستمراً للشرعية الدولية...
فقاطعه عصام قائلاً:
- وهذا الوقوف والمنع يرتب مسؤولية مادية ومعنوية على العدو الصهيوني ... وإذا ما قرر الفلسطينيون العودة فإن منعهم بالقوة أو بأية وسيلة أخرى يعتبر ضمناً ، عملاً عدوانياً . لذلك يجب أن يسمح لهم بالعودة في أول فرصة عملية ممكنة، كما حدث في البوسنة والهرسك وكوسوفو وتيمور الشرقية وراوندا ...
فقاطعه الأستاذ عبد المعطي قائلاً :
- وكما سيحدث في بغداد ...
وهنا يجيب عصام بتأن بالغ :
- بغداد لن تسقط يا أستاذ... وستقاوم حتى آخر قطرة من الدم العربي...
بغداد وحدت مشاعر الشعوب العربية من جديد...
قلوبنا مع بغداد ...
أرواحنا تتلاقى مع أرواح إخواننا في بغداد …
بغداد التي تغنى بها الشعراء … ألم تقرأ ما قاله نزار قباني عنها :
مُدِّي بساطي … واملأي أكوابي…
وانسي العتابَ ، فقد نسيتُ عتابي…
عيناكِ يا بغدادُ ، منذ طفولتي
شمسانِ نائمتانِ في أهدابي …
بغدادُ … جئتكِ كالسفينة مُتعَباً
أخفي جراحاتي وَراء ثيابي …
بغدادُ … طرتُ على حرير عباءَةٍ
وعلى ضفائر زينبٍ وربابِ …
وهبطتُ كالعصفور يقصُدُ عُشَّهُ
والفجرُ عُرْسُ مآذِنٍ وقبابِ …
حتى رأيتكِ قطعةً من جوهرٍ
ترتاحُ بين النخلِ والأعنابِ …
حيثُ ألتفتُ ، أرى ملامح موطني
وأشُمُّ في هذا التراب ترابي …
بغدادُ يا هزج الأساور والحُلَى
يا مخزنَ الأضواءِ والأطيابِ …
قبل اللقاء الحُلْو … كنت حبيبتي
وحبيبتي تبقينَ بعد ذَهابي …
ساد صمتُ مطبق علينا بعد ذكر بغداد ...
ومن ذا الذي لا يخشع بل ويركع إجلالاً في محاريب أعتابها ؟!
من ذا الذي لا يطير شوقاً إلى نهلةٍ من مائها أو حفنةٍ من ترابها؟
ثم من ذا الذي لا ينتشي قلبه طرباً لتهليل نواقيسها وتكبير قبابها؟

بغداد التي مزقتها أحقاد وأطماع العدو الجديد … وبعثرتها جحافل الغزو القادم المبطن بحقدٍ كانت تغذيه رؤوس عيونها على البترول العربي في كل مكان …
كان عصام يجلس بقربي ... يقصّ عليّ أشياء كثيرة... عن حياته التي قضاها مستقلاً عن أهله منفرداً بذاته منذ بلوغه الرابعة عشر ... ففي ذلك العمر بدأ بتأمين احتياجاته المادية عاملاً في الصيف لسد مصاريف دراسته... كان يعمل ويطالع في الوقت نفسه كتباً متنوعة ... كُتُباً عن الدين ... وعن السياسة ... والأدب ... والشعر… وكان مولعاً بنزار قباني وأشعاره ...
وحدثني عن هواياته ومنها السباحة والتصوير الضوئي والرسم ...
ولكني كنتُ أود أن أسمع منه شيئاً واحداً لم يشر إليه ولا حتى بكلمة واحدة ...
قلبه ومن ذا الذي يسكنه !!! وهل ثمة حورية تتربع عرشه أم أنه خالٍ…
كان رائعاً بكل شيء … بضحكاته وهمساته …بلفتاته ولفافات تبغه … بنظرة عينيه حينما يتحول حديثه إلي ليسألني عن نفسي … بنبرة صوته الدافئة الحنونة.
ومع كل ذلك كان هادئاً في كل شيء ...
وكنتُ أشعر أنه سيتعبني كثيراً بهدوئه هذا في مشواري معه.
سألني عن مكان مسكني فأجبته :
أسكن في منزل أختي المتزوجة في حي التجارة ... وزوجها يعمل في السلك الدبلوماسي والآن هو في مهمة رسمية في فرنسا وقد أصرت أختي على مرافقته...
سألني بدهشة :
- ألا تقيمين مع والديك إذن؟
قلتُ:
- لا ... فوالدي قد توفاه الله منذ عدة سنوات ... وتزوجت والدتي بعد انفصالها عنه وهي الآن مع زوجها في فرنسا ... مما اضطرني أن أسكن مع أختي ...
قال بحزن :
- آسف ... لأنني أثرت أشجانك وجددت أحزانك، ولأنني نكأت جرحاً قديماً لا أظنه قد اندمل ... وليرحم الله والدك ويسكنه فسيح جنانه ...
سألته بدوري :
- وأنت يا أستاذ عصام ... أين تسكن ؟
أجابني بهدوء :
كنتُ سابقاً أسكن في مدينة اللاذقية ... ولكنني عدتُ أنا وابني محمد منذ سنتين إلى مسقط رأسي دمشق... ونحن نسكن الآن في منطقة دمر و...
تسمّرت عيناي عليك ... وبَدَأَتْ تَحفُرُ في مدى أحاديثك وكلماتك ...
إذاً ... أنت متزوج ولك طفل من زوجك !!!
لماذا تلقيتَ مشاعري برحابة صدر ؟!
لماذا كنت تشعرني بمدى اهتمامك بي وخوفك علي ؟!
كانت عيوني تنظر بارتعاش إلى الكلمات التي كانت تخرج من شفاهك دون أن تدرك الألم الذي تسببه لي ...
ما هذا الدرب الذي رسمتُ عليه كل آمالي وأحلامي ؟!
هو ذا قلبي يخفق متعباً مرهقاً من هذا الحديث…
ظمآن لا ماء يرويه، ولا كلام يؤاسي عذاباته ...
تائهاً بين الممكن والمستحيل ... بين العودة لنقطة البدء أو التوقف في منتصف الطريق ...
يئنّ بصرخة مكتومة ...
يطوف في دمائي...
يتجول في أعماقي ...
يبحث عن مخرج له من سراديب الألم وأنفاق الأحزان ...
يصرخ بلهفة ... يتمرد على كل شيء حوله ...
يقاوم صداع الوجع الزاحف إليه ...
النار تفتك بما تبقى من أشلاء آلامي وجراحي ...
أغلق أسوار قلبي مرتعدة ... وأسد كل الطرقات والمنافذ إليه ...
ذبلت أزهار حبي النضرة التي زرعتها لك منذ التقينا...
- ما بكِ يا وفاء؟ لماذا صمتِّ هكذا؟!
---------------------
- ما سبب هذا الصمت المفاجئ ؟!
---------------------
- وفاء تكلمي أرجوكِ ... ما بك؟!
- لا شيء ... لا شيء يا أستاذ عصام ...
شارفت الساعة على الخامسة بعد الظهر ... انتهينا من غدائنا وعدنا أدراجنا باتجاه دمشق ...
اقترب مني ناجي وسألني إن كان لي حاجة من الأردن...
سألته باستغراب :
- ولماذا ؟!
- لأنني سأسافر لعدة أشهر ...
- ولماذا السفر يا ناجي ؟!
- لي أقارب هناك لم أرهم منذ أمد بعيد ...
- لا أريد منكَ إلاّ الانتباه لنفسك ولصحتك...
- شكراً جزيلاً ... سأهتف لك حالما أعود ..
- ومتى يكون السفر؟
- بعد غدٍ إن شاء الله .
- بالتوفيق يا ناجي ...
عدتُ للمنزل لتسيطر علي سطوة الألم من جديد...
كنتُ أشعر بتمزق في أعماقي يمنعني من الحديث ... كطفل كفيف فقد سمعه ... فلا هو قادر على رؤية ما حوله ... ولا هو قادر على سماع الأحاديث فهو أشبه بالشراع في عرض البحر يتقاذفه الموج وتمزقه الرياح...
دخلتُ غرفتي محملة باليأس ... وشعور بالحقد يملأ كياني تجاه عصام...
لماذا لم يقل لي إنه متزوج ولديه طفل؟!
هل كان يستغل مشاعري كل تلك المدة ؟!
لقد أحببته ... أحببته بكل جوارحي ... جوارحي التي تناديه في كل لحظة ... تنام على همسه و تصحو على صوته ...
لماذا ترك العنان لمشاعري ؟!
آهٍ منكِ أيتها الدنيا الغدارة … لا تعرفين معنى الصدق والبراءة … ذهب الأمان من قلوبنا وحلَّ غدرُ الزمان ...
آهٍ منك أيتها الدنيا الحمقاء ... لا تتركينا ومشاعرنا ... نخاف أن نهوى... نخاف من مصير هوانا منذ البداية ... مصير هواي السائر نحو الهلاك...
دنيا غدارة ... نشتري الحب فيها بأغلى ما لدينا ... بقلوبنا ... بأرواحنا... بحياتنا ... نغرس الورد لنجني الأشواك ...
نسقي الحبيب شهد الحب وخمرته ... فيسقينا علقم الهجر وحنظل الفراق ...
آهٍ من هذه الدنيا الغدارة ...
آهٍ من سطوة الألم حينما تكف الفؤاد عن رؤية هواه ...
لا أعلم كيف مرّت ليلتي هذه ... تلك الليلة التي سهوتُ فيها ممزقة القلب جريحة الفؤاد ... أهذي بعمري الضائع في سراب حبي ...
آهٍ من دنيا تغتال الحب في البدء والختام، وتنشب أظفارها في روحه!!
استيقظتُ من هذياني هذا على صوت جرس المنبه مذكراً بموعد العمل...
لم أتناول طعام الإفطار في هذا الصباح ... بل جهزتُ نفسي مباشرة واتجهتُ إلى المدرسة ... مررتُ بجانب مكتبكَ وأنا أنظر إليه خلسة ...
اتجهتَ مباشرة إلي قائلاً :
- وفاء ... لقد قلقتُ عليك كثيراً الليلة الماضية... ما الذي أزعجك في حديثي معكِ ؟!
صدقيني إنني حريص جداً على مشاعرك وأذكر أنني كنتُ كذلك البارحة... فما الذي أزعجكِ في حديثي ؟! هل آلمتكِ بشيء ؟!!...
أردتُ المراوغة معك فقلتُ لك :
ـ أبداً يا أستاذ عصام ... والذي رأيته لم يكن حزن وإنما اندهاش فقط...
ـ اندهاش؟!! من ماذا يا وفاء ؟!
قلتُ لك بتردد :
ـ يعني ... أن تسكن أنت وابنك في دمشق لمدة سنتين تاركاً زوجتك في اللاذقية فهذا أمر يدعو للاستغراب ... أليس كذلك ؟!
ـ ولكني أرملٌ يا وفاء!!!
فاجأني جوابك وصدمني ... فأجبتك على الفور :
ـ آسفة ... لم أكن أعلم بذلك ... ليرحمها الله ويسكنها جنات نعيمه ...
ـ لا عليكِ يا وفاء ... لا عليكِ ...
ـ وهل تترك ابنك وحده في المنزل حينما تخرج إلى العمل ؟
ـ لا … فمحمد في الصف الثالث الإعدادي … وهو طالبكِ يا وفاء … محمد جهاد الفارس.
ـ ماذا ؟!!! …نعم يا وفاء … فجهاد غدا حياتي كلها من بعد وفاة والدته … لقد فقد بصره حينما كنا في زيارة لبغداد مسقط رأس زوجتي إلهام … كان عمره حينذاك لا يتجاوز الخمس سنوات وقد وقع الحادث عندما كنا نسير في العامرية… حيث انفجر لغم أودى بحياة زوجتي وكفّ بصر ابني وأفقده إحدى ساقيه ... ونحن الآن نقيم في منزل والدتي ...آسفة ... آسفة يا أستاذ عصام لأنني عدتُ بكَ إلى تلك الذكرى المؤلمة ... أنا حقاً شديدة الأسف..
-لا عليك ...
لقد سمعتُ أننا سنتقاسم الدروس سوية ... هل هذا صحيح ؟!
- كان هذا صحيحاً … ولكن تلاميذك الأشقياء ذهبوا للسيد المدير وطلبوا منه أن لا يشارككِ أحد في إعطاء الدروس … أتعرفين … إنني أحسدكِ على محبتهم لكِ...
- شكراً لكَ ...
- بالمناسبة يا وفاء ... كيف كان مذاق فنجان القهوة الذي أرسلته إليك مع العم أبو عبده ؟
أجبتك بارتباك واضح :
- ر...ا...ئـ…ع… رائع للغاية …
- حقا؟! لقد علمتُ أنك تحبينها مع سكر قليل ... وقد أخطأتُ وأرسلتها لكِ كما أحبها ... بدون سكر ... فكيف استساغتها شفتاك ؟!
- في الحقيقة يا أستاذ ... في الواقع أنني ... لقد ...
- لقد آن الأوان للذهاب إلى عملنا … فإلى اللقاء يا وفاء.
- إلى اللقاء يا أستاذ عصام ...
قلتَ لي بشيء من العصبية :
- اسمي عصام يا وفاء وليس أستاذ عصام ... فأرجو أن تلغي هذا التكلّف فيما بيننا...
- كما تريد يا أستاذ ... كما تريد يا عصام ...
ودّعتني بابتسامة ساحرة... وتركتني أسيرة لمشاعري...
محمد عصام الفارس ...
محمد جهاد الفارس ... ما قصة هذه الأسماء وما الذي تخبؤه لي من أقدار؟!
محمد جهاد الفارس ... بُترت إحدى ساقيه ؟!
ولكنه يسير بطريقة عادية ... ولا يظهر أنه فقد إحدى ساقيه ...
لعلّه ... لعلّه أجرى عملية جراحية أعادت له قدمه المبتورة ؟!! أو لعله... يضع ساقاً اصطناعية !!!
أو... أو ...
* * *

كان تلاميذي يتسابقون في الدخول إلى الصف وهم يتضاحكون ويتدافعون بعد انتهاء ساعة التربية الرياضية ...إذ كانت لهم ساعتان في الأسبوع ... وكنتُ أطلب منهم التمهل ...
انتظرتهم عدة دقائق حتى يجهزوا تماماً ... ورأيتُ ماهر يخرج من الصف ويقبل نحوي قائلاً :
تستطيعين حضرتك البدء بالدرس فقد جهزنا جميعاً ... ثم ركض باتجاه صفه قبل أن أجيبه ...
يا إلهي ... هل يعقل أنهم يقرأون أفكاري ويبصرونها؟!… سبحان الخالق العظيم …
من بعيد رأيت السيدة فصيحة متجهة نحوي.. تعوذت بالله واستدرت باتجاه الصف.. شعرت بمطرقة وقعت على كتفي.. صرخت من شدة الألم والتفتُّ لأرى السيدة فصحة واضعة يدها على كتفي مكشرة عن أسنانها، بابتسامة مواربة وقالت لي:
ـ ما رأيك بعد أن تنتهي من دروسك أن تشاركيني تناول القهوة؟
ـ من !!؟؟.. أنا !! ولماذا !!؟؟..
ـ ما بكِ وكأن عفريتاً قد ركبك.. أولسنا من مقامك؟!
ـ وكيف لا.. بالـ.. طـ.. بع.. سأتـ.. نا.. ول في مكتبك فنجان القهوة.. من المؤكد.. أنني.. سأسعد به.
قلت ذلك ولا أدري كيف استطعت قوله.. استدرت عنها هاربة من جحوظ عينيها.. وحِدّة لسانها..
استجمعتُ قواي واسترديت أنفاسي ومضيت باتجاه تلاميذي.
دخلتُ إلى الصف ... فجأة تذكرتُ جهاد.. محمد جهاد الفارس.. ورحتُ أفتش بين الوجوه، عن وجهٍ يشبه ذاك الوجه.. عن قسمات تعبّر عن تلك القسمات..
توقفت.. اقتربت.. هو ذا جهاد..
الله أكبر.. كيف لم أنتبه، وهو لا يقل حضوراً عن أبيه..
اقتربت منه أكثر.. ووضعت يدي على كتفه، وطلبتُ منهم أن يضعوا وظائف مادة القراءة على مقاعدهم لأنني سوف أتفقدها ...
رأيتُ ابتسامة ماكرة ترتسم على ثغر ماهر ... يا إلهي ... ماذا يقصد هذا الشقي؟!...
اقتربتُ من جهاد وسألته :
- أين وظيفتك يا جهاد ؟!
أجابني مستغرباً :
- إنها هنا !!!
- أين هنا ؟! ( وغاب عن ذهني أشياء كثيرة ) …
- على المقعد آنستي … ألم تريها ؟! ومدّ يده مفتشاً عن يدي حتى أمسك بها ...
ثم وضعها على المقعد لأتلمس تلك النتوءات الغريبة ... كنتُ لا أرى قبل ذلك إلاّ صفحة بيضاء على مقعد جهاد ... تشبه صفحات كتبه...
هذه هي المرة الثانية التي يغلبني فيها جهاد بتلك النتوءات التي لم أعرفها إلا من خلاله... صدق القائل أن التلميذ قد يعلم أستاذه أحياناً...ربما تأثير مطرقة فصيحة هذه انتقل إلى دماغي وشلّها عن الحركة... وربما حدة لسانها جعلتني أنسى أشياء كثيرة...
الآن فهمتُ ماذا كان يقصد ماهر بابتسامته ... لقد غلبني هذا الشقي مرة أخرى ...
كان يدرك بذهنه المتقد أن ما أراه بعيني غير ما يلمسه بيديه ... كنتُ وللمرة الثانية أرى صفحة بيضاء في الوقت الذي كان يتلمس كلمات لها معانٍ ...
يا لذكائه الحاد ...
كانوا جميعاً قد أنجزوا وظائفهم بشكل جيد ... وكانت أغلب إجاباتهم صحيحة ...
مررّتُ الدور عليهم مبتدئة بماهر منتهية بوسام ... وصححت لهم أخطاءهم واحداً تلو الآخر ...
وطلبتُ منهم أن يخرجوا دفاترهم وأقلامهم (الخاصة بهم) ليكتبوا موضوع التعبير... وتركت لهم حرية الاختيار ... طالبة منهم التعاون مثنى مثنى... وأن لا يتجاوز موضوعهم الخمسة أسطر ...
اختار زاهر وماهر الكتابة عن الوطن ... واختار أحمد وعبد الرحمن الكتابة عن نعمة البصر ... أما جهاد ووسام فقد أرادا الكتابة عن الأب ...
أعطيتهم مهلة نصف ساعة لإنجاز مهمتهم هذه ...
أخرجوا أقلامهم وأوراقهم الخاصة بهم ... وأخرجتُ قلمي وأوراقي الخاصة بي ...
انهمكوا في كتاباتهم ... وانهمكتُ في كتابتي ... ولكنها كتابة من نوع آخر ...
ربما هي كتابة لك :
كنتُ قبلك بقايا صور ... بقايا كلمات ... وبقايا أشلاء... لملمتَ أشلائي... واجتاحتني أحاسيسك اللامحدودة...
كنتَ كحبات المطر وكنتُ أرضاً قاحلة ظامئة ...
يجتاحني حبك أحياناً كإعصار شتوي ... وأحياناً كحر الصيف وزهر الربيع ...
يهزني كالزلزال من أعماقي، ويعيد تشكيلي على هواه...
وأُبحِرُ في لجة هواك لأغرق حتى الثمالة ... فتنتشلني ذراعاك ... وتحطان بي في جزيرة آمنة دافئة… لكم صوّرتها على شاكلة قلبك..
ويداكَ بالشوق معطرة ... وتروح وتجيء ... وتجيء وتروح ... وفي يدي كتاب ... تتلعثم شفاهي ... وبين يديك لفافة تبغ تحرقها وتحرقني معها...
تكويني ... تهدني ... وتلعثم شفاهي ...
يا لتلك النظرات التي كانت لأرضي المطر ... يا لتلك العيون التي كانت بقلبي البصر… يا لتلك الابتسامة التي ساقني إليها القدر ... قدمت لي افتتاحية قصيدة و ...
تركتُ قلمي على صوت عبد الرحمن :
- آنسة لقد انتهينا أنا وأحمد .
قلتُ له :
- أسمعنا ما كتبتماه يا عبد الرحمن.
قرأ عبد الرحمن بصوت واثق :
- " الوطن ليس فقط تلك الأرض التي نعيش عليها ، وذاك المكان الذي نشغله ... وإنما هو كل شيء نحتمي به ... ونستند إليه ... ونرى الدنيا من خلاله ... "
- هل هذا كل ما كتبتماه يا عبد الله ؟
- نعم يا آنسة ...
- الأسلوب جيد ... وفقكما الله ...
- وأنت يا ماهر ... ماذا كتبت أنت وزاهر ؟
فقرأ ماهر بصوت واثق أيضاً .
- إنّ المبصرين ينظرون إلى السماء فيرونها زرقاء وإلى الطبيعة فيرونها خضراء وإلى الأرض فيرونها ترابية اللون ...
وهنا تابع زاهر ما كان يقرأه زميله :
أما نحن المكفوفين ... فبالرغم من أننا حُرمنا من نعمة البصر ... إلاّ أننا نشعر بصفاء زرقة السماء وروعة اخضرار الطبيعة ... وما زالت رائحة الأرض عالقة في نفوسنا ...
دهشتُ بتلك الكلمات التي صدرت عن شابين لا يتجاوز عمرهما الخمسة عشر عاماً ...
سألني جهاد :
- والآن يا آنسة ... ألم يأتِ دوري أنا ووسام ؟‍
- اقرأ يا جهاد ...
وبدأ جهاد يقرأ بصوت هادئ كصوت أبيه ولغة سليمة وكلمات واثقة أنشأ يقول:
- " أعتذر يا أبي عن كتابة هذا الموضوع ... لأنني مهما كتبتُ ووصفت فلن أفيكَ حقك ولن أجيد التعبير!!!...
قبلتُ كلماته تلك ضاحكة على مضض ... وأثنيت على كل ما كتبه هؤلاء الأذكياء...
ثم أتممنا دروس هذا اليوم ووظائفه ...
كنا كذلك كل يوم ... كورشة عمل لا تهدأ ... هم بأسئلتهم الذكية وأنا بشرحي المتواصل ...
مرت عدة أشهر ونحن على هذا المنوال ... وكنتُ قد اعتدتُ عليهم وكانوا قد اعتادوا علي ...
وذات يوم كنتُ في مقهى المدرسة أقرأُ مقالاً عن إمكانية تعليم الكلام للطفل الأصم الكفيف ... في مجلة منبر الأقوياء عالم الإعاقة ... وإذ بصوت عصام يباغتني :
- ماذا تقرأين يا وفاء؟
أجبته :
- مقال عن إمكانية تعليم الكلام للطفل الأصم الكفيف...
سألني باستغراب :
- ماذا ؟ وهل يمكن لذلك أن يحدث فعلاً ؟
قلتُ له :
- ولمَ لا ؟!
أعاد سؤالي باهتمام:
- وكيف ذلك ؟!
أجبته :
- لقد كتب الطبيب البريطاني جون بلوار (John Bulwar) مقالة عام 1648م، أعرب فيها عن إمكانية تعليم الكلام للطفل الأصم الكفيف و ...
قاطعني قائلاً :
- هذا كله من الناحية النظرية فقط .
- لا ... فلقد جاء التنفيذ العملي لما يشبه تلك الفكرة في فرنسا ، حيث أنشأت أول مدرسة لتعليم المكفوفين عام (1784) وكان اسمها مؤسسة المعهد الفلكي للمكفوفين ، ذلك على يد فالنتين هاواي (Valentin Haway).
قال مندهشاً :
- عظيم جداً . ولكن على ماذا اعتمدت في عمليتها التعليمية ؟
أجبته :
- اعتمدت في ذلك على نظام أحرف بارزة .
- وكم طالباً كان فيها ؟
- لقد كان أول تلامذة تلك المؤسسة طفل كفيف تم التقاطه من الشارع، وسرعان ما ارتفع العدد ليصل إلى اثني عشر طالباً .
- هذا كلام عظيم يا وفاء . ولكن مدرسة واحدة ماذا تستطيع أن تُقدّم؟
- ومن قال لكَ أنها ظلت وحدها ؟ فقد توالت المدارس ذات الطبيعة المماثلة من بعد ذلك، حيث تحمس الإنكليز وساروا على سنن الفرنسيين، فكانت هناك مدرسة في ليفربول عام (1791م)، وأخرى في بريستول عام (1793م)، وثالثة في لندن عام (1799م)، وكان بالتأكيد لكل مجتمع أو دولة دوافعهم الذاتية الخاصة للتقدم في خدمة قضية الإعاقة عموماً، وتراوحت الأسباب من اقتصادية إلى دينية .
- ها قد تقدمتِ كثيراً في جمع المعلومات عن المكفوفين يا وفاء .
- لقد أصبح ذلك جزءاً من اهتمامي يا عصام ... ولا تستغرب أن تراني يوماً في برنامج خليك بالبيت مع زاهي وهبة .
- بالمناسبة يا وفاء ... لقد اتصل بي البارحة زاهي وهبة وطلب مني أن أكون ضيفه في ذلك البرنامج فرفضتُ أتعلمين لماذا ؟
سألتكَ والابتسامة في وجهي :
- لماذا يا عصام ؟
- لأن يوم الثلاثاء هو اليوم الذي رأيتك فيه لأول مرة ولا أريد أن يراني أحد غيرك فيه يا وفاء !!
صمتُّ لا أدري ما أقول ... وكثيراً ما كان يحرجني صمتي في مثل هذه اللحظات التي من المفترض أن أتكلم فيها ...
أخرجتني من صمتي باقتراحك هذا :
- وفاء ، ما رأيك أن نتناول فنجاناً من القهوة ؟
- ولمَ لا ؟. ولكن قهوة العم أبو عبده ليست ظريفة … فهو إما أن يجعلها خفيفة كالماء أو ثقيلة كالطحينة؟ .
- لا لا يا وفاء ... أقصد ... أريد أن ... وفاء ... ما رأيك في تناول فنجان القهوة في مقهى هادئ وظريف ...
- و... لكن يا عصام ...أنت تدرك أن ... يعني...
- وفاء ...هناك أشياء كثيرة أود أن أقولها لكِ ...
- قلها الآن .
- هل تتجاهلين رغبتي ؟!
- أبداً والله ... ليكن ما تريده ... ولكن متى ؟! ...
- شكراً لقبولكِ دعوتي ... يقولون خير البرِّ عاجله ...
- أيها المحتال ... ماذا تقصد بذلك ؟
- سأقول لكِ في الطريق ...
سرنا سوية باتجاه بوابة المدرسة وإذا بالأرض تنشق عن عفريت ضخم.. صرخ بوجهي قائلاً:
ـ هيه… لماذا لم تأتِ إلى مكتبي لتتناولي فنجان القهوة الذي دعوتك إليه؟
ـ الحقيقة يا آنسة فصيحة أن الوقت قد سرقني ولم أدرِ كيف…
ـ لا تحاولي التهرب مني… هيا هيا… وبالوقت نفسه نتشرف بطلعتك البهية يا أستاذ عصام..
ـ في الحقيقة إنني مشغول الآن.. فجهاد سبقني إلى المنزل وهو وحده الآن..
أجابته وهي تنقّل عيناها الجاحظتين بيننا:
ـ ام م م م .. جهاد … قلت لي !!!
ـ نستأذنك الآن يا آنسة..
لا أدري كيف خلّصني عصام منها. قلت له:
ـ أف.. إنها سيدة غريبة الأطوار يا عصام…
ـ مسكينة هذه السيدة … رغم تصرفاتها وحدة لسانها فإني أشفق عليها…
ـ تشفق عليها؟!.. وهل هذا منظر سيدة تستدعي الشفقة؟..
ـ نعم… فهي مطلقة وزوجها لم يترك لها شيئاً يعيلها… وهو لا يصرف عليها بما فيه الكفاية… كان الله في عونها.
ـ دعنا من هذا الحديث يا عصام… إن لمجرد تخيلي هذه المرأة يصيبني بالإحباط.
ـ هيا بنا.
لم يكن مقهى وإنما كافيتريا هادئة ذات جو رومانسي ... وكنتُ أعشق الأجواء الرومانسية ...
اختار عصام طاولة وسحب كرسياً قائلاً :
- تفضلي .
ثم سحب كرسيه وجلس قبالتي ...
لأول مرة أرى ملامحه عن كثب ...
وجه ينضح بالرجولة والكبرياء ... عينان ثاقبتان تعلوهما نظرة بريئة طاهرة ... ثغر ترتسم عليه ابتسامة ندية...
سألني ضاحكاً :
- كيف حالكِ ؟
الحمد لله كما تراني ، بأجمل حال ... وأنت كيف حالكَ؟!...
- عليلُ ... سهرٌ دائمٌ وليلٌ طويلُ .
- الله الله ... هذا شعر أم ماذا ؟!
- هذه هي الحقيقة يا وفاء ...
بدأ قلبي يرقص طرباً ... وكنتُ أشعر بالأحمر القاني يصبغ خداي خجلاً ... صمتُّ في انتظار ما سيقوله لي ... وأسئلة كثيرة تتصارع في ذهني ... هل سيبدي إعجابه بي؟! هل سيعترف لي صراحة بحبه؟! هل سيشكو لي قلقه وانشغاله بي ؟! هل ... وهل...
- لماذا صمتِّ يا وفاء ؟
- لا لشيء ...
- وفاء اسمعيني ... أردتُ أن نكون سوية بعيداً عن أعين الناس ... فهناك أشياء لا نستطيع البوح بها إلاّ إذا كناّ مع من ... مع الذي ...
في الحقيقة ... أخافُ عليكِ يا وفاء ... أخاف عليكِ...
- من ماذا ؟!
- من كل شيء ...
- ولكنني لستُ صغيرة يا عصام ...ثم لماذا تخاف عليّ ؟!
- افهميني أرجوك ... إني قلق للغاية هذه الأيام ... وبالكاد تغفو عيناي...
اقتربتُ منه قائلة :
- ولماذا يا عصام ؟
- لأني أحبكِ ! ...
ابتعدتُ للخلف مندهشة من اعترافه المفاجئ السريع ... ويبدو أن شعور الدهشة المفاجئة قد انطبع على وجهي ...
سألني بحزن :
- مالكِ يا وفاء تصمتين هكذا ؟!
لم أستطع الإجابة إلاّ بنظرة عتاب ...
- لماذا لا تجيبيني ؟! إنك مقلّة دائماً في الحديث معي ومتحفّظة جداً وهذا ما يزعجني ويقلقني كثيراً … لقد كنتُ أعزو ذلك إلى وجودنا أمام الملأ … أما الآن فنحن وحدنا يا وفاء … أنتِ وأنا … وفاء وعصام فقط … فلماذا هذا الصمت الرهيب ؟...
ازددتُ صمتاً وقلقاً ...
- وفاء ... لقد اعترفتُ لكِ بحبي ألم تسمعي؟...
- سمعتكَ يا عصام ...
- وأنتِ ؟
- لا أريد أن أجيبك الآن .
- لماذا ؟!…
- لا أريد الكلام في هذا الموضوع يا عصام ...
- وماذا تكلمتِ أنتِ ؟! ... ماذا تكلمتِ ؟!!!!
غرقتُ في صمتي مرة أخرى ...
- هل عدتِ إلى الصمتِ ثانية يا وفاء ؟
- عصام … هل أنتَ متأكد من مشاعركَ نحوي؟!
- وهل أنا طفل صغير أو مراهق يتهافت على أي مائدة ويرتوي من أي نهر ؟!
- ألا ترى أنك تسرعتَ في الإفصاح والتصريح ؟
- ألم يخبركِ حدسكِ الأنثوي ؟! … أجيبيني …
لا تحاولي إخفاء مشاعركِ يا وفاء … لقد لاحظتُ أن الارتباك باد عليك من أول يومٍ قابلتكِ فيه … وكنتُ أراقب نظراتكِ وتلعثم كلماتكِ … ولاحظتُ أنك لم تتحدثي مع أحد غيري في المدرسة … ولم تخفَ عني السعادة الكبرى التي تجتاح عينيك حالما تشاهداني ...
مالكِ صامتة هكذا يا وفاء ؟! أنا لا أحب الصمت يا عزيزتي ... وأعشق جنون الأحاديث ... الصمت يضجرني ويشعرني بالملل ... أعشق كلماتك ... أعشق حديثك ...تكلمي يا وفاء ... قولي أي شيء أرجوكِ ...
خانتني شفتاي ... وكنتُ أدركُ مقدار الألم الذي سببته لكَ ... فنحن معشر النساء حينما نهوى ، نتمنى كلمة من الحبيب أو همسة منه أو لمسة أو حتى نظرة ...
ونتمنى في قرارة أنفسنا أن يأتي اليوم الذي يعترف فيه بحبه لنا... ونبقى ننتظر ذلك اليوم على أحرِّ من الجمر... حتى إذا ما جاء... نكابر... ونتدلل وننكر مشاعرنا ونتنكر لها...
لماذا صمتُّ؟!
لا أدري ...
ربما من الدهشة المفاجئة تلك ... وربما من كثرة شوقي لسماع هذه الكلمة انعقد لساني ... وجفت الكلمات في حلقي …
ما الذي حصل لي لأغرقَ في صمت مفاجئ ؟! … وأنا التي كنتُ أرقص طرباً كلما أطلَّ وجهك مُصَبِّحاً علي ...
ما الذي حصل لي وأنا التي كنتُ أحترق في انتظار اليوم الذي تسمعني فيه هذه الكلمة؟!
ما الذي حصل لي وأنا التي سهرت ليالٍ طويلة تناجيك وتحادث طيفك الغالي ؟!! لماذا غمرني حينها خوف مفاجئ؟! أهو خوف من الغد المجهول..؟!
لماذا كل هذا الصمت ؟!
لا أدري ...
ربما لأنني أحببتك بصمت ... أو ربما غير ذلك ... أو ... أو ...
أتراني صمتُّ بلا سبب ؟!
ما عدتُ أدري ما السبب، لكنني في النهاية ... صمتُّ...
تذكرتُ قولاً لأحلام مستغانمي في باكورة إبداعها ورائعة ثلاثيتها "ذاكرة الجسد ". هذا القول الذي ألّفتُ لك منه ذات يوم قصيدة ما زالت محفورة بذاكرتي:
"العشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن والمستحيل " ...
أيقظني صوتك من هذيان روحي :
- وفاء !
- ماذا يا عصام؟
- أحبكِ...
- وأنا سعيدة جداً بحبك لي ...
- وأنتِ؟
- وهل من الضروري أن أقولها لك ؟!
- ما رأيكِ ؟
- ألا يعبر لك ما شاهدته من ارتباكي وتلعثم كلماتي أمامك والمشاعر التي أظهرها لك عن هذه الكلمة ؟
- بلى ... ولكن ليطمئنّ قلبي !!!
- عصام ... ألم تدعني لتناول القهوة ؟
- نعم.
- فأين هي ؟ بالله عليك عجل بها فقد جف ريقي..
طلب عصام فنجانين من القهوة … كان يحبها دون سكر … وكنتُ أعشقها مع السكر … لا أدري كيف يستطيع ارتشافها هكذا ...
جاء فنجان القهوة ... رشف عصام أول رشفة منه وأشعل لفافة تبغ وغرق في صمت أليم ...
- مالكَ يا عصام ؟
هل أزعجكَ حديثي ؟
---------------------
- عصام ! مالكَ يا عصام ؟ ! هل أزعجك حديثي ؟!
- نعم .
- أكان قاسياً ؟...
- جداً...
- ولكن يا عصام ألا ترى معي أنك استعجلت البوح بمشاعرك ؟!…
- وهل نحن الذين نتحكم بمشاعرنا يا وفاء ؟! ثم ألم تتوقعي هذه الكلمة؟! ألم تشعري بها ؟!
---------------------
- أجيـبي !
- ربما ... ولكن ليس الآن ! ...
- وما الفرق بين الآن وبعد عشر سنوات ؟ أنا شخصياً أشعر أنني قد أحببتكِ منذ ألفي عام ...
شعرتُ للحظة أنني ربما بعنادي هذا سأخسر عصام ... فقررت البوح له بما دفنته طيلة تلك الأيام ...
- بلى يا عصام ... وأنا أيضاً ... أحبكَ ...
وهنا عضَّ عصام على شفتيه ونظر إليّ نظرة لم أفهم معناها ...
- ما بكَ يا عصام ؟ ... أليس هذا ما تريده ؟ ألم ترق لك كلمة أحبك؟!...
- بلى ... ولكنها مقتضبة ...
- وماذا تريد مني ؟ ! أن أصرخ بأعلى صوتي "أحبكَ"؟!
قال مازحاً :
- ولِمَ لا ؟...
- أصرخ يا عصام والله ...
- تعمليها يا مجنونة ...
مرّ في هذه اللحظة عجوز يحمل بيديه مجموعة من الورود ... وبدون أية مقدمات قدَّم لنا وردتين ...
فقال له عصام :
- ليس الآن يا عماه .
- لماذا يا بني ؟
- لأنها لم تهوني بعد ...
- الورد يا بني ليس بالضرورة للمحبين ... فهو يُقدَّم للصديقة والأخت والأم و...
- هاتِ واحدة...
دفع عصام ثمنها وقدمها لي
سألته :
- ماذا يعني لم تحبني بعد يا عصام ؟
ضحكَ ملياً ولم يجبني ...
- ماذا قصدتَ يا عصام بذلك ؟
- أليس هذا صحيحاً ؟
- ولكني اعترفتُ لك بحبي !!! ...
- لم يعجبني اعترافكِ هذا...
- أأصرخ " أحبكَ" ؟
- لا يا مجنونة ... لا .
تحادثنا لمدة ساعة أخرى ...
حدثني عن نفسه وعن عشقه لأغاني عبد الحليم حافظ ... وعن طفولته وكم كان يعاقبه والده لشقاوته ... وعن عائلته ... وعن جهاد الذي أرسله إلىالخارج... وكيف شُخصت إصابته ورُكِّب له طرف اصطناعي مكان ساقه اليسرى...
طلب عصام فنجانين آخرين من القهوة ...
أمسك فنجانه بين يديه والبخار يتصاعد منه ... ودخان تبغه يتصاعد من فمه ... ليمتزج بخار قهوته مع دخان تبغه ... فيطول مداهما دوائر.. دوائر ... وتتغلغل رائحتهما بأنفاسي …
أمسكتُ فنجاني وحاولتُ أن أرتشف منه رشفة ... ولكن هيهات هيهات... فالدفء الذي غمر أنفاسي شلّ حركتي ...
ويتسرب دخان تبغك إلى أعماقي ... يجتاح عواطفي ومشاعري بلا استئذان ... يتمدد بشراييني يصبح نَفَسُكَ جزءاً من أنفاسي ... فأعود لصومعتي محملة بأعذب الكلمات... وأروع العبارات ... يا من تغلغلتَ في مسامات روحي وسكنت شغاف قلبي ...
أيها الشادي في ليل غربتي ... أي قمر أهديتني، وأية سماء قد لونت لي؟!
مرت سنون كنت أحسبها سنين حزنٍ لأنك لم تكن فيها...
فأي قدر ذاك الذي جعلك تبزغ في سماواتها وتسكب فيها نسغ السعادة؟!! …
ودونما استئذان تسربت إلى أعماقي ... بضحكتك الرنانة ...
بروعة أحاسيسك ...
أدركُ ... ويالروعة ما أدركه ... كيف اقتحمتَ أعماقي ... وتغلغلت في شراييني ... شراييني التي بدأت تنبض باسمك ... بأجمل اسم سمعته في عمري ...
وما أدراك ما عمري ؟؟!!!
عمري أغنية تتغنى بك ... ولك ... لوجهك الصبوح ... لعينيك اللوزتيين ... لشفاهك الخمرية ... لشعرك الليلي ... وجيدك الأغيد !!! ...
عمري أنشودة سفر ... ترحل منك وإليك عبر نسائم الصباح ، تطير لوجنتيك ، وتلثم صوتك الآتي في هدأة الليل عبر الأثير المنساب شلال شوق دافئ...
وما أدراك ما ليلي من دونك؟؟!!!
ليلي ؟
ما ليلي إن لم تكن فيه القمر والنجوم ؟!...
ليلي من دونك ... من دون سماع صوتك ... صحراء موحشة ... صحراء مقفرة ... سماء ضبابية ... أرض قاحلة ...
وحينما يأتيني صوتك الملائكي بعد ليل طويل ... موحش ... تتحول صحرائي إلى غوطة غناّء ... تنتظم في جيدها حبات المطر عقداً من اللؤلؤ السماوي المبارك…
وأنا الظامئة إلى حضرتك المدلهة في انتظارك ...
ماذا أسميك؟!!
ربيع عمري الآتي ؟!
أم هدية العمر الذي رحل ؟!…
ماذا أسميك يا ربيع عمري؟! يا أجمل الهدايا ؟!
أنت يا من اقتحم الحشا ...
أتراكَ شعرت بروحي كيف تصبو إليك ؟!
أتراكَ لمست روحي في تلك اللحظة التي عانَقَتْ فيها روحك ؟!...
وآهٍ من روحك...
آهٍ من مساءات صوتك وهمسك ...
وأي همس ذاك الذي يتلاعب بآفاق نفسي ؟! ويدغدغ ما تبقى من سنين عمري ؟!
وأي عمر هذا الذي أعيشه بعيداً عنك ؟!
آهٍ مما يفعله صوتك بي... فكيف أنت حين اللقاء ؟!
آهٍ من نار بعدك … التي يشتد أوارها فلا يخمده غير اللقاء !!!
تسائلني عيناك إن كنتُ أجيد السباحة !!!؟ …
وأنا يا عمري … أنا يا كل عمري قادرة على العوم في أطول الأنهار !!!
وأعمق البحار ... وأوسع المحيطات ...
وأبحر ... وأبحر ... وأبحر ... وأعوم وحدي ...
لكنني ... ... ؟!!!
أغرق في ... ...
بحر عينيك !!!
ما الذي جرى لي بعد اعترافك بحبي ؟!
أي هذيان هذا الذي استوطن فكري وشغل روحي ...
أتراك تحبني بالمقدار الذي أحبك فيه ؟!!
أنظر للسماء … ليلية داكنة … والقمر بدرٌ يتضرّج سحره بأحلامي ... يسترجع ما خزنته في قلبي منذ ساعات من ذكريات آسرة ...
لم تستطع عبراتي أن تبقى سجينة بين قضبان عيوني...
كسَّرَتِ الأقفال وانتزعت القضبان وانهمرت كالشلال ... بللت وجهي كما يبلل المطر تراب الأرض ...
حاولت النوم قليلاً ... الضوء في الغرفة يقلق عيوني...
ما أصعب التأرجح بين الممكن والمستحيل ...
بين الحب الصادق والخوف من المجهول ...
بين المشاعر الدافئة وصقيع الليالي ...
تحاملتُ على نفسي ... أطفأتُ النور ... وغرقتُ في نوم عميق ... عميق ...
* * *



الفصل الثالث

دمشق... والبحيرةاللازوردية


كنتُ في المنزل أقرأ كتاب " التكيف وتقنيات الحركة لذوي الإعاقات البصرية " لإيفان هيل وبورفيس بوندر…
وإذ بصوت الهاتف يخترق سكينة أوقاتي ويعكر صفوها...
اتجهتُ متثاقلة ... ورفعتُ السماعة وإذ بصوت مرح أختي يأتيني، وكأن الأرض انشقت لتقدّم لي هذا الصوت هدية :
- كيف حالك ؟ حضّري المنزل … سوف آتي إليك لبضعة أيام...
لا تخافي لن أقاسمك طعامك وغرفتك ... أتيتُ بطعامي الخاص من فرنسا ... و...
- من أين تتحدثين أيتها العفريتة ؟
- أنت قليتها … من تحت الأرض … هيّا جهزي كل شيء وزيني كل الغرف لأنني أنا بجلالة قدري سوف آتي إلى ...
- على رسلك ... كلمة كلمة ... ألم تتغيري بعد ؟
- وما الذي يغيرني ؟ إن هي إلا ساعة وأكون بين يديك...
وضعت سماعة الهاتف مندهشة من حديثها ... هذه هي مرح ... لم ولن تتغير أبداً.
كانوا يسمونها في الجامعة مرح المرحة ... ومرح السريعة ... كانت كل أفعالها هكذا ... تنجز وظائفها بسرعة البرق ... وتقرأ النص بحيث لا تفهم منه حرفاً ... تطلق النكات بسرعة لا تُضاهى ... الواحدة تلو الأخرى...
وكانت آخر نكتة سمعتها منها :
سُئِلَ أعرابي : ما رأيكَ بالزواج المُبَكّر ؟!
فأجاب : في أية ساعة ؟!
كان وجهها ضحوكاً … ما يميزه هي تلك الابتسامة التي لا تفارقها حتى في أحلك الظروف … وتلك الشامة المتربعة على خدها الأيمن … ولكنها كانت بدينة نوعاً ما… إذ كانت تأكل كل ما تقع عليه عيناها … وكل ما تشتهيه شفتاها من طعام ...
قالت لي يوماً ما حينما كنّا في دعوة غداء عند إحدى قريباتنا والتي كانت منهمكة حينها بتحضير الغداء ...
- اقتربي إلى هنا قليلاً ... ( وأشارت إلى بطنها ) ...
دهشتُ لمطلبها ... ولكني سايرتها واقتربت إلى مكان يدها ...
فقالت لي :
- أتسمعين نداء معدتي للطعام ... إلى متى سأظل صابرة هكذا ؟! حقاً لقد صدق من قال إن الجوع كافر !!...
تابعتُ قراءتي في كتاب " التكيف وتقنيات الحركة لذوي الإعاقات البصرية "
«قبل أن يبدأ الطالب (الكفيف) في محاولة تكييف نفسه في بيئة ما، عليه أن يحوز ما يُعرف بمفهوم الذات، وهو ما يُشار إليه بصورة الجسد والوعي والمعرفة بأجزاء الجسم وحركاتها ووظائفها ثم على الطالب معرفة البيئة ذاتها إلى البيئات الأخرى بطريقة وظيفية ... وبذلك فإن التقدم والتطور المنطقي في الإدراك يتجه دوماً من الشيء المحدد إلى الشيء المجرد باتباع هذا التتابع أو التسلسل التقدمي.
هناك جانب آخر يجب أن ينال الاهتمام والتركيز وهو مهارات الحركة المستقلة ، وهذه المهارات بالتحديد هي:
المحافظة على السير في خط مستقيم ، الالتفاف وديناميكية الهيئة " الجسد" وحتى يستطيع الطالب (الكفيف) استخدام مهاراته في التكيف بجدارة عليه أن يكون حذقاً وماهراً في القيام بسلوكيات الحركة الأساسية هذه ...».
طرحتُ الكتاب جانباً ورحتُ أفكر في كيفية إيصال هذه المعلومات لتلاميذي...
ربما يساعدني عصام في ذلك ...
عصام !!!
يا الله كم اشتقتُ إليك ...
لماذا لم تعِ صمتي حينما اعترفتَ لي بحبك ؟!...
لماذا انتزعت مني اعترافي بحبك بهذه السرعة ؟!
يقولون إن الصمت ما بين الحبيبين هو عهدٌ ضمني بين قلبيهما ...
ألم يصلك مني هذا العهد يا عصام ؟!...
ورحتُ أحادث نفسي :
كيف زارني طيفك
كوطنٍ وطأته قدماي
بعد غربة طويلة ...
معجزة أنت
حتى بأحلامي ...
أحلامي التي كنتُ فيها
على صدركَ الدافئ
أموت و أحيا
و أحيا و أموت
توقظني كلمات
قرأتها يوماً
في رائعة الروايات:
" العشق ليس أرجوحة يتجاذبها الممكن و المستحيل "
ولكنكَ
ولكنكَ يا حبيبي
الممكن و المستحيل ...
"العشق ليس أرجوحة
يتجاذبها الممكن و المستحيل " ولكنني..
ولكنني يا حبيبي
الممكن و المستحيل ...
" العشق ليس أرجوحة
يتجاذبها الممكن و المستحيل" ولكننا..
ولكننا يا حبيبي
العشق...
والممكن
والمستحيل!!!

استيقظتُ من هذيان روحي على صوت جرس الباب أسرعتُ إليه وفتحته على عجل و أخذتُ مرح بين ذراعي...
قالت لي ضاحكة :
- على رسلك يا وفاء، فحقيبتي ستسرق إن بقيت هكذا ليوم الغد.
أدخلتُ حقيبتها ثم أغلقتُ الباب ... حدثتني عن زوجها الذي بقي في فرنسا لانشغاله بأعماله ... وحدثتني عن برج ايفيل و قوس النصر و عن مطاعم باريس و فنادقها ... وشوارعها النظيفة ... و لم تنسَ أن تطلق إحدى نكاتها :
- تصوري أنّ الفرنسيين هناك يتحدثون اللغة الفرنسية بطلاقة .
قلتُ لها مازحة :
- أرجو أن لا تكوني قد وجدتِ صعوبة في التفاهم معهم بالفرنسية.
أجابتني ضاحكة :
- بل هم الذين وجدوا صعوبة في التفاهم معي!!!
ضحكنا سويةً ... ودخلنا المطبخ لنحضر الغداء .
لحسن الحظ أنني كنتُ قد احتفظتُ بطبقٍ من الكبسة السعودية ذات المذاق الرائع، وطبق من البامية الشامية ... وكنتُ قد طبختُهما البارحة بحيث تكفيان عدة أشخاص ...
كان فمها لا ينقطع عن الحديث و الطعام في الوقت نفسه ... كنت أحسدها على ذلك..
فاجأني سؤالها :
- هيه... ألم تعشقي بعد ؟‍
- وما يهمك في الموضوع ؟
- كيف لا يهمني ؟ ‍ ألم تقولي لنا في السابق إنك لا تريدين هذا ولا ذاك بحجة دراستك .. والآن وقد أنهيت دراستك ما شاء الله عليكِ واستلمتِ وظيفة مرموقة .. فما الذي بقي غير ابن الحلال ؟!
- ألا تستطيعين الكف عن الكلام لحظة واحدة ؟ يقال : إذا حضر الطعام بطل الكلام!!!
- أما أنا يا وفاء فشعاري لا طعام بلا كلام ...
ضحكتُ على تعليقها ثم سألتها :
- ما رأيكِ في الذهاب إلى دمشق القديمة ؟!
- لقد جئت لأرتاح من عناء الذهاب والإياب يا وفاء … دعينا الآن ننظف الصحون ثم نأخذ قيلولة وبعدها نفكر.
- ومن قال لك إننا سنذهب مباشرة ؟!
- هيا هيا… لا تتهربي من تنظيف الصحون معي .
حزنت بعض الشيء .... فصحيح أنني أسكن في دمشق .... ولكنني إلى الآن لم أزر معالمها القديمة...
كانت مرح غارقة في نوم عميق بعد أن تناولت وجبة الغداء .. وكنتُ غارقة في التفكير بكَ .... حينما رنّ جرس الهاتف وجاءني صوتك الهادئ:
- كيف حالكِ اليوم ؟!
- على أفضل حال ..
- ماذا تعملين ؟!
- أنتظر معجزة أن يأخذني أحد لزيارة دمشق القديمة..
- وإذا كنت أنا المعجزة ؟
- حقاً تقول !!!
- كوني جاهزة ريثما أحضر لاصطحابك ...
في الثالثة والنصف من بعد ظهر هذا اليوم كنا سوية أنا وعصام نسير في شوارع دمشق القديمة ..
دخلنا في حارة ضيقة ... وخامرني إحساس ما عرفتُ ماهيته .. وغمرني شعور من نوع آخر...
هاأنذا أشعر بامتزاج أحاسيسي برائحة دمشق وعبق ياسمينها .....
كان منظر دمشق ... ويد عصام في يدي يخدر آلامي وينسيني أوجاعي ... يردّ إليّ الروح وينسيني صقيع عمري...
كنتُ أنظر حولي مبهورة بما أراه …
بيوت دمشقية رائعة البنيان، وأزقّة وقناطر آية في الإتقان ... ياسمينة هنا وهناك .... تضمها زنابق دمشقية...
كنتُ أسير في حارات دمشق الضيقة و همس الياسمين وبوح الزنابق ينقر على مسامعي، ويهدهد روحي..
بدأت أقاوم الدوار الذي أصابني من هذا السحر الفطري الذي اجتاح قلبي واستوطن كل جوارحي..
بياض الياسمين وصفاؤه كصفاء سريرتك يا عصام ...
الياسمين الذي يعانق المنازل كما تعانق يداك يديّ ...
وعطر الزنابق يتغلغل أعماقي كما يتغلغل سحر اللحظات التي تكون فيها معي في ذرات روحي ...
يختلط التاريخ هنا بعطر الياسمين كما تختلط أنفاسي بدخان تبغك....
شعرت بظمأ روحي وتعطشها لمعانقة دمشق ... وياسمين دمشق.... وزنابق دمشق.... و روح عصام !!!
وصلنا إلى منزل يقال عنه منزل نظام .....
استأذن عصام من حارس المنزل ودخلنا إليه... وبدأ يشرح لي :
هذا المكان يقال له الإيوان ...كان الدماشقة يجتمعون فيه ليلا أو بعد الغروب كعائلة واحدة، يتسامرون ويتناولون ما لذ وطاب من الطعام والشراب...
وهذه الأبواب الأربعة مخصصة لغرف النساء الأربعة اللاتي تزوجهن صاحب المنزل.. وهذا المكان هو مقصورة الخدم ... أما هذه البحرة التي نجلس على أطرافها فكانت مع تلك الياسمينة الخالدة رفيقتا الشهقة الأولى للصباح...
" الياسمينة الخالدة" ؟!!…
وهل إلاك ياسمينتي الخالدة التي أستظل بها من حرّ همومي وأحزاني؟!
ومن إلاكَ ياسمينتي الخالدة التي تفوح عطراً كلما تمايلَتْ وانثنت ..
وفجأة قطع تأملاتي تلك صوت آذان المغرب.. كنا في تلك اللحظة نجلس سوية على ضفاف البحرة الدمشقية ... ومن حولنا تمر قطط عديدة ...تدور حول الأشجار التي امتزجت رائحتها بصوت الآذان لتضفي علينا إحساساً أغرب من الخيال، وأعذب من كل ما يمكن أن يقال ...
قلتُ له متسائلة:
- وما نوع هذه الشجرة يا عصام ؟
- هذه هي شجرة النارنج .
- وتلك التي بجانبها ؟!
- يقال عنها المجنونة .
- المجنونة بماذا يا عصام ؟... بحبكَ مثلاً !!
- هل أنتِ كذلك ؟!
- كيف تراني ؟!
- أرى أنَّ كلينا مجنونٌ بحب الآخر ... والطيور على أشكالها تقع ...
غرقنا في الضحك… ثم أمسكَ يدي وخرجنا من هذا المنزل الواسع...
وعاد دفء يديه يسري في دمي… ويتفشى تحت جلدي كأنه الزيزفون...
كنا نسير سوية ويده تعانق كتفي ... لتهيم روحي بها أكثر وأكثر... وتسافر معها إلى ما هو أبعد من الخيال ...
عرَّفني على دروب الشام القديمة وعلى طرقاتها... ومعالمها ... وسحرها ...
وأبوابها... ودروبها الضيقة ومنافذها…
قطع تأملاتي تلك ليقول لي :
- اسمعي هذه القصة الشامية :
"اختلفت امرأة وزوجها. فقال لها الناس : روحي لعند واحد رجَّال شيخ شاطر بكتب الحجاب حتى يحبك زوجك. فراحت لعنده. وحكت له قصتها.. قام كتب لها الحجاب. وقال لها : شوفي، بس هادا الحجاب ما بيشتغل إلا إذا عملت اللي بقلك عليه.
استقبلي زوجك. واضحكي له . وخدي منه الغراض اللي حاملها وقولي له: الله يعطيك العافيه وسخني له الميّه ... وحضري أواعيه ...
وخدي أواعيه الوسخة للغسيل. واعدّي له العشاء. الشاي، والزيتون، والجبنة، واللبنة، والمكدوس، وشي أكلة بيحبها، وبعدين شوفي شلون بيشتغل الحجاب ويحبك جوزك...
وأخذ منها مجيدي (وهي عملة عثمانية ذات قيمة كبيرة في ذلك الوقت). وكانت متدينتها من جارتها وما معها غيره.
راحت هالمرة وحطت الحجاب تحت مخدة جوزها . وعملت متل ماقلها الشيخ الشاطر .
أخدت عن جوزها ، وحضّرت له. غسلت له. وضحكت له. ونسته تعب النهار. وحضّرت له العشاء عَ الأربع وعشرين قيراط. ما ناقص شئ .شاي سخن، جبنة، لبنة…
وفي يوم من الأيام ، مد هالرجال إيده لتحت المخدة قام شاف الحجاب . قال لها يا مرا شو هادا ؟ قام فتحه ولقى مكتوب فيه :
يا جوزها يا جوزها إن حبيتها حبيتها . وإن ما حبيتها إن شاء الله عمرك ما تحبها . أنا أخدت المجيدي واشتريت فيها جبنة لولادي . "
ضحكتُ لطرافة هذه القصة ولخفة دم عصام ...
قال لي ثانية :
- اسمعي هذه القصة الشامية أيضاً :
"كان يا ما كان في قديم الزمان . كان وزير أصابه الرشح . فأحبّ الملك زيارته . وعندما سمع الوزير بقدوم الملك ، احتار في أمره . فكيف يكون الرشح حجة للزوم الفراش ؟
فما كان منه إلاّ أن مدَّ إصبعه إلى عينه ، فقلعها ، فلما أصبح الملك في المنزل ، دخل وسلم عليه، وسأله عن حاله. فأخبره أن عينه قد قلعت. فضحك الملك كثيراً ثم قال :
هذا أمر بسيط، ولا يقضي منك الغياب عن الَقصر ، لو أنك كنتَ مصاباً بالّرشح ، لكان لك الحق في البقاء في المنزل ...
- ما رأيكِ يا وفاء ؟
- والله أنك دمشقي متأصّل ...
كنتُ أشعر بحب كل مكان يأخذني إليه في الوقت الذي كان حبي لعصام يكبر أكثر وأكثر ...
فهنا دار الخلافة " دار الخليفة عمر بن عبد العزيز "(رضي الله عنه) وهنا المدرسة الفاطمية ...
وهذا مقام الشهيد الحي محمد مدور وهو من شهداء الـ1945 الذين استشهدوا برصاص الفرنسيين ورشاشتهم في مساء التاسع والعشرين من شهر أيار … فحُمِل إلى حي المزة وهناك بدأ طبيب فرنسي يتعرف على وفاتهم بدسِّ إصبعيه في رقبة المتوفي … وما أن فعل ذلك مع محمد مدور حتى أنَّ لذلك … فتنبّه له الطبيب وحُمل إلى المشفى وقدِّر له أن يعيش.
وهنا يرقد البطل صلاح الدين الأيوبي.
وبينما نحن غارقون في تأملاتنا تعالى صوت آذان العشاء ليقطع حديثنا عن دمشق الساحرة ومعالمها التي لا تشيخ ولا يعروها الكبر.
لم نشعر بالوقت الذي مر مسرعاً ... كانت دمشق الخالدة قد سرقت منا الإحساس بالزمان ... آهٍ يا دمشق لو أنَّ الزمان ينتظرنا قليلاً ونحن في عالم سحرك قبل أن يمضي بنا إلى ما كنا عليه ...
آهٍ يا دمشق ... كلما تطلعت لسحرٍ منك ... تخدرت أوجاعي ... وهمدت نيران آلامي ... تشتعل أشواقي إليكِ يا دمشق كلما فكرتُ بأن الزمان الآسر الذي أقضيه بين أحضانك يمضي بي إلى المجهول ...
كانت الأيام والشهور تمضي ونحن لا نشعر بها ...
وكيف يشعر المحب بالزمن وهو الذي يأمل أن يتسمر عند اللحظة التي غزا فيها الحبّ قلبه ؟!!
كان عصام ينتقي أجمل الأماكن ويأخذني إليها ...
دمشق القديمة ، منزل نظام ، الجامع الأموي ، طريق نهر بردى ...
كان يحادثني أجمل الأحاديث ... وغالباً ما كان يطرب آذاني بقصائد نزار أو بأشعار أخرى...
كان كل موقف معي يعني له قصيدة شعر ... يغمرني بحنانه ودفئه...
أتُراه يبقى هكذا ؟!
أم أنَّ الأيام ستغيره بعد أن تمكَّن من قلبي وأحاسيسي؟!!..
كنتُ أراه ولا أرى في الوجوه الأخرى سواه ...
وكنتُ أسمعه ولا أسمع في الأصوات الأخرى إلا صوته ...
كان بسحره كدمشق ... دافئ كدفئها... ساحرٌ كسحرها ...
حينما تسير عيوني في فضاءات مداه ... تتخدّر أوجاعي ... كما لو أنني أسير في دروب دمشق...
وحينما يحادثني بحنان وصدق ... تغمرني أعذب الألحان وأجمل الأغاني... كما لو أنني أتنفس هواء دمشق...
وحينما يمتزج دخان تبغه بأنفاسي ... تخالطها أعذب العطور ... كما لو أنني قطعة واحدة أنا والياسمين ...
عصام ...
يا عشقي الأوحد ... يا عشقي الدمشقي الأوحد ... ويا حلمي الدمشقي الأوحد...
لا أدري من منكما يشبه الآخر ... أنت يا عصام ... أم دمشق !!!
عصام ...
يا وطني الذي أسكنه ويسكنني ... يا دمشق !!!
* * *
ابتدأت العطلة الانتصافية... وكانت مدتها شهر كامل ... وكما وعدني عصام …أخذني في نزهة إلى الطبيعة التي أعشقها ...
كنا نتحدث في سيارته أحاديثاً شتى …
كنت مرتبكةً بعض الشيء وكان صامداً كل الصمود ...
كانت كلماته مرسومةً موزونةً متناهيةً ... و كانت جملي مرتجلة مبعثرة لا متناهية...
كانت أفكاره واضحة مدروسة لها بداية ولها نهاية... وكانت أفكاري مشتتة غامضة، لا أعرف كيف أبدؤها ولا كيف أنهيها...
لاحت لنا من بعيد أطراف بحيرةٍ لازوردية ...
سألني :
- أتعرفين بحيرة زرزر ؟
أجبته:
- أسمع بها ولكن لم أرها قط ...
قال بنبرة حنان :
سوف ترينها بعد عدة دقائق وستنعمين بهدوئها ولن تنسي هذا اليوم أبداً يا حبيبتي.
إذاً تلك هي بحيرة زرزر ...
ركن عصام سيارته أمام شجرة كبيرة ...ونزل منها... فتبعته ...
أمسك بذراعي وأجلسني تحت تلك الشجرة …شعرتُ حينها بلذة الأمان والاطمئنان…
كيف لا .. وهو الدمشقي الذي يطلع في سمائها قمراً ...
ودمشق التي يتملكني حبها أكثر وأكثر كلما أدخلني عصام في حواريها..
كانت بحيرة زرزر واسعة المدى كدمشق… صافيةً كسماء دمشق … عميقةً كسحر دمشق… ومنعشة كياسمين دمشق..
شعرتُ أنني أمام رجل ليس مثله أحد .. فاجتاحني حنين إليه لا ضفاف له ..
كنتُ مرتبكة جداً.. وكنتُ أشعر بنظراته تلاحقني وتخترق كياني .. وكنتُ أردِّدُ بأعماقي رائعة نجاة الصغيرة:
"لا تنتقد خجلي الشديد
فإنني بسيطة جداً
وأنت …خطير…"
شعرتُ بتمزق في داخلي..رغبتي في أن أضمه إلى صدري ... وبين حيائي وخوفي من المجهول …
فجأة .. خطرت لي فكرة.. قررتُ تنفيذها على الفور ومهما كانت النتائج…
نظرتُ إليه بعمق.. فرأيت في عينيه دفئاً شدني صوبه … أمسكتُ يده .. وقربتها من شفتي وقبلتها وأنا أتمتم:
- تعال معي يا عصام…
هبّ واقفاً مستغرباً.. ودون أن ينبس ببنت شفة تبعني…
سرنا قليلاُ نحو ظلّ شجرة أخرى ..
جعلتُ نفسي وجهاً لوجه معه…
اقتربتُ أكثر منه جامعة كل الحنين الذي ادخرته له وضممته إلى صدري ..
انتفض كالعصفور بين يدي قائلاً:
- وفاء .. لا تتركيني يا وفاء ابقي معي أيتها الغالية.. ولا تتركيني وحيداً...
لم تستطع شفتاي أن تجيبه وإنما أجبته بدمع غزير بلل وجهه الملائكي وقميصه السماوي ...
وبلمحة خاطفة حملني بين يديه وصار يدور بي مناديا بأعلى صوته :
- أحبكِ !!! أحبكِ !!! أحبكِ !!!
كنتُ أضحكُ ودموعي تنهمر مني ...
- أيها الشقي أنزلني !...
- لا... أحبكِ يا مجنونة .. أحبك .. أحبك ...
تعثرت قدمه بحجرة وكدنا نقع سوية.. فتمالك نفسه وأنزلني برفق بعكس ما حملني...
قلتُ له :
- ماذا فعلتَ أيها المجنون؟
- فعلتُ ما يجب أن أفعله منذ ألفي سنة....
أجلسني إلى جواره ...
ولَكَمْ تمنيت أن يقف الزمان عند تلك اللحظات العابقة بعطر البراءة البكر التي لونت أرجاء المكان...
حينما حملني عصام بين ذراعيه ... كانت رائحة عطره تتهادى كالنسيم في ثنايا روحي ...
وآهٍ من عطرك يا عصام....
عطرك يا حبيبي قادم من عالم مسحور ...
يدغدغ مشاعري...يهز كياني ..يكبلني ... يقيّد أنفاسي فلا تألف إلاه .. ولا تستنشق سوى عبيره الممتزج برائحة البحيرة اللازوردية والمختلط بدمي...
لتتعطر أنفاس الهواء ... وتعلن أن كل عطر دون عطرك سراب ..
فحديثك عَبِقٌ وعَطِرُ...
وروحك عنبر وعِطْرُ ....
وهمسك زنبق وعِطرُ ...
ومن ذا الذي يقاوم عطرك ؟!!!
نعم… ليت الزمان يقف وأنا بين يديك …أكاد أطير فرحاً… تكاد الأرض لا تتسع لي على براحها ...
كم كنتُ أحلم بأن ألمس حنانك ...وهاأنت تُحمّلني الحنان ....
كم كنت أحلم بأن أتلمس دفئك ...وهاأنت تغمرني دفئاً....
كم كنت أتمنى أن أدخل أعماقك ولو للحظة... وهاأنت تشعرني أنني تغلغلت في أعماقك ...
كم كنت أحلم بكلمة .."أحبكِ" ... تهمسها لي و نحن سوية ولو لمرة واحدة ... وهاأنت تحملني بين ذراعيك منادياً بأعلى صوتكَ .. (أحبكِ00 أحبكِ 00 أحبكِ)...
قلتَ لي حينها :
ما كل ما يتمنى المرء يدركه

تجري الرياح بما لا تشتهي السفنُ

فأجبتك:
وكل أمنية من دونك يا عصام

يُصاغُ فيها بيديّ الكفنُ

نظرتَ إليَّ نظرةَ حَمّلتها كل معاني الحب وقلت لي :
- أتمم قول الشاعر :
أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ ………………
فقلتُ لك :
- أيا جارة لو تعلمين بحالي ؟!
جلسنا قرابة الساعة نتحدث عن كل ما يخطر في بالنا .. ونحن نحتسي القهوة التي حضَّرتُها في المنزل، وجلبتها لك ...
اخترق حميمية لقائنا صوت مباغت :
- صورة يا أستاذ ؟
- لا..شكراً لك .
- صورة جميلة إن أحببتما ؟
- أشكرك.
تأخر بي الوقتُ .. فطلبتُ من عصام أن نعود إلى دمشق ..
كما تشائين ..
مضت بنا السيارة تشق طريقها و عيوننا تودع أطراف البحيرة اللازوردية ...
كان الصمت يطبق علينا ... لكأن أحاديث البحيرة كانت تغمرنا في هذه اللحظات ..
أوصلني إلى منزلي وتواعدنا على اللقاء في اليوم التالي.
دخلتُ المنزل ... لا يوجد أي أثر لمرح ..
فتحتُ باب غرفتي .. ووجدت ورقة موضوعة على باب الخزانة ...
«ذهبت لزيارة إحدى صديقاتي .. وربما أنام عندها».
لا أدري لماذا سررت لذلك ..
ربما لأنني كنت بحاجة لأن أختلي بنفسي وأفكر بك وبحبك وبهذا اليوم الهارب من الجنة ...
لماذا اشتقت إليك بهذه السرعة .. ومنذ قليل تودعنا، ألأنك المثال الخالص للكمال الرجولي، أم لأنك منتهى أملي في الصدق والوفاء..
أيها الأثير لدي .. كيف لا تشفع لي عندما ترى صفحات نيران الشوق تطويني ...
وأنا من رأى خلود روحه في جنتك منذ أن أحبك ...
وكمثل الرضيع الذي لا يحتاج إلى من يهديه إلى ثدي أمه .. كذلك أنا ..
فلستُ بحاجة إلى من يهديني لديناك العطرة وسمائك الصافية التي كنت فيها بلبلي الشادي ... ولكم أتوق إلى وجود سرمدي معك ..
يطويني ويبعثر أجزائي كما تبعثر الريح بقايا السحاب..
وأعود بذاكرتي إلى تلك اللحظات الجميلة ... حينما كنا نسرق من العصافير تغريدها ومن الفراشات رفرفتها ومن الهواء نسيمه ..
يأخذني إليك احتضار الهوى المولود تلك اللحظة … يأخذك إليّ عبير الهوى الذي سكنك من ألفي سنة مضت ...
أهمس لك بكلمات لا أعيها …
تهمس لي بكلمات أتشوق لحروفها …
تلهبني مشاعري تجاهك ...
يقطع صفو مشاعرنا صوت قادم من الغيب :
- صورة يا أستاذ ؟
- لا شكراً لك ......
ويذهب صاحب الصوت مثقلاً بالحزن على بضعة ليرات لم يستطع أن يجنيها في هذا اليوم...
ونعود نحن مثقلين بصمت الحب الصارخ ...
يأخذنا الهوى إلى دنيا الخيال الواسعة .. يخرجنا من هذه الدنيا ..!
صوت وقع حوافر خيل وراءنا .. كأنّ الخيل ترقص طربا لألحان فؤادينا...
يبتعد الصوت شيئا فشيئا ..
نقترب أكثر فأكثر من سحر الهوى ...
متيّمٌ هو الزمان بنا ... يأخذنا إلى "يوم من الجنة " .
تهرب من بين أيدينا الثواني ... الدقائق ... الساعات...
هو ذا الحب ... صمت ... وصور جميلة .. وبحيرة عميقة ... عميقة.. لازوردية ...
يا لروعة عصام ... يا لرقة عصام ..
لم ألتقِ يوما بإنسان مكتمل الرجولة والصفات كما التقيتُ بعصام ..
لم يصادفني يوماً رجلٌ معطاء.. صادقٌ .. واعد.. محب .. مليء بالدهشة والمفاجآت مثل عصام ...
عصام الذي بدَّل حياتي الشائكة بالحياة الوردية ...
عصام الذي أنساني آلامي وأحزاني وبدَّلها ببريق عينيه...
عصام الذي أحيا قلبي الذي كان على شفا حفرة ...
بماذا أفديك يا عصام ؟وماذا أعطيك؟
ما كنتُ أحسب أني سأحيا من جديد ....وأولد ثانية ً بين عينيك الملائكية... ولم أكن أعلم أني سأفتش يوماً عن قلبي لأجده ضائعاً في مدى عينيك ...
وما أروع ما أبدعته يد القدر ...
ويطلّ وجهك على ليل آلامي كالقمر ... يختبئ حيناً بين الغمائم ... وأحياناً يستقل المطر.
كنت تومئ إليّ كغصنٍ أخضر يداعب زهرته الندية ... كفارسٍ من جزيرة مجهولة...
خذني حبيبي لقلبك .. هدية لصدرك.. فقد فاض الشوق في أعماقي إليك..
ألا يا عمري.. ارفق بقلب محبة متيمة... ليست تملك إلاّ هواك ...

كنا قد تواعدنا على اللقاء في هذا اليوم ...
اليوم الذي تجملتُ وتعطرتُ ووقفتُ كثيراً أمام المرآة حتى ملَّت مني ...
اليوم الذي ابتدأت أتساءل فيه :
هذا اللون يحبه عصام ؟… نعم .. ولكن النوع لا يعجبه .. فلن ألبسه…
وهذا النوع يحبه عصام ويعجبه … كما يروق له الأزرق السماوي .. إذاً سألبسه..
انتقيتُ النوع واللون بعد جهد جهيد..و لبستُ أجمل ما عندي... حتى أحمر الشفاه .. تسريحة الشعر ... صرت أكيفّها كما يريد ... ومضيت مسرعة إليه.
التقيتُ به في المكان والزمان المحددين .. جالساً بهيبته ولفافة التبغ بيده اليمنى، سانداً رأسه بيده الأخرى ...
ابتسم حالما شاهدني ..
طبعتُ قبلة على يده وجلست جانبه..
بادرني قائلا ً:
-أكتبتِ شيئاً البارحة ؟!
-ليس بعد يا عصام...
قال لي مازحاً :
- وهل تنتظرين مني أن آتي لك بدفتر و أقلام ؟
-"لتكتب ، لا يكفي أن يهديك أحد دفتراً وأقلاماً...."
- كيف كان شعورك البارحة ؟
- عالم من الخيال والروعة والدهشة والمفاجآت... وأنتَ ؟
- أنا؟! كنتُ سعيداً للغاية .. كادت تضيق بي الدنيا لفرط سعادتي ...
كدتُ أطير معكِ في السماء .. يا أول النساء وآخر النساء ...
ولكن .... أريد أن.. وفاء.. أردتُ أن أسألك إن..
- ما بِكَ يا عصام.. مالكَ تتلكأ هكذا ؟ تكلم يا حبيبي!
- لا شيء يا وفاء سوى أنني أردتُ أن أسألك .. هل ضممتِ قبلي من أحد ؟!...
- ماذا؟!!
ماذا يا عصام ؟! وكيف تجرؤ على مثل هذا؟!! ولماذا؟!!
إلامَ ترمي يا عصام ؟...
- ماذا دهاكِ يا وفاء ؟ لماذا كل هذا الغضب ؟!
- أتدرك ما الذي بقلبي قد فعلت؟ وأي جرح ذاك الذي على جداره قد نقشت؟!
- وفاء...لم أقصد أن ...
- ألأنني أحببتك بلا حدود يا عصام؟ ألأنني وهبتك ماضيّ النقي ورهنت مستقبلي في يديك؟؟!!!
- أصبحتِِ عصبية كثيراً يا وفاء.. وما عدتُ أتحمل ذلك.
عدتُ بكرسيّ إلى الخلف ممتلئة بالدهشة مما يقول ..فأنا أحيطه بحبي ورغبتي.. ودفئي وغيرتي وهو يسمي ذلك كله "عصبية" ؟!
يا لسخرية القدر.. أُعطي البنفسج والرياحين فيعطيني الخنجر وغلغلة السكين!!..
رباه ...أنا في وادٍ وهو في وادٍ ...
وقفتُ قائلة له:
- لم أعد أحتمل هذا الجو المشحون يا عصام. سأرحل...
رفع رأسه قائلاً ببرود:
- ستندمين إن رحلتِ يا وفاء....
نظرتُ إليه بتحدٍّ بالغ ومضيتُ...ولكنَّ دموعي كانت أقوى مني...
اتخذت زاوية وأجهشتُ بالبكاء ...
شعرتُ بذراعه تمسكني قائلاً وهو يشير إلى داخل المقهى:
- هيا!
رضختُ له وجريت أتبعه.
عانق كتفي وشدني إليه قائلا:
- أيتها المجنونة لم أقصد إيلامك البتة.
قلت له:
- ألم أكن لك مثلما أردت مني أن أكون ؟ بحبي وجنوني.. بعشقي وكبريائي.. بثورتي وهدوئي.. وبكل شيء كل شيء.. كل شيء..
هل تكون مكافأتي سؤالك القاسي؟ أغرّكَ مني أن حبك قاتلي؟ أم أغرتك تنهدات روحي وبوحي؟
اسمعني يا عصام وخُذ عني ما أقول:
إنني أنثى" ذاكرة الجسد"
إنني أنثى" فوضى الحواس"
إنني الأنثى" لوليتا"
إنني الأنثى" آنّا كارنينا"
إنني الأنثى" بوبيا نيرون"
إنني الأنثى" سميراميس منوتس "
وفي الوقت ذاته أنا …
"ممتاز محل شاهجهان"
"شهرزاد شهريار "
أنثى" أيام معه "
وأنثى أمانيكَ…
أغرّك صمتي والضعف الذي رأيته في عيوني ؟!
هل كنت تتوقع مني الضعف والسكوت أمام السؤال؟
لا يا عصام....
فالحب ضعف مليء بثورات الجنون..... والحب سهم ليس يرجع، وبركانٌ حنون؟ …. الحب أن تكون ولا تكون؟
- لم أقصد إيلامكِ يا وفاء....أقسم أنني لم أقصد وكان سؤالي بريئاً...
- سؤال بريء يا عصام؟ سؤال بريء… كيف تقول أنَّ ....
- وفاء... لنؤجل الحديث في هذا الموضوع إلى المرة القادمة....
- لا يا عصام.. فما الذي يدرينا إن كان هناك مرة قادمة ؟!…
سألني بنبرة حزن:
- ماذا تقصدين يا وفاء ؟!
أردتُ أن أجيبه فخانتني بلاغتي وتجمد على شفتيّ الكلام..
شعرت بيده الحانية وشعرت بقبلة دافئة على يدي....
تنَهَّدَ طويلا قبل أن يقول لي :
- قد تدركين يا وفاء بعد حين معنى وصورة أثّرا في قلبي..
قد تدركين بعد حين أن ثمة أمراً حصل..
قد تدركين أن السنين شجرة أثمرت...وأنك الحلم الجميل..وأنك الدفء والأثير… وأنك العشق الخطير...
فلماذا نتألم ونحزن ونجعل اليأس يسود علاقتنا؟!
- من الذي جعل اليأس يسود علاقتنا يا عصام؟ أنا أم أنت؟!…
- لو تدركين كم أهواكِ يا وفاء لعذرتني في كل شيء.. فأنت الوحيدة التي تغتسلين في أحداقي..
تتغلغلين في أعماقي... وتسجلين اسمك الشفاف فوق جبيني وعلى جبهة سنيني… يا من تنسجين عباءة من ذهب.. لرجل هام عشقا.. وذاب وجداً...
- غريبة طباعك يا عصام.. منذ قليل كنت تجرحني.. وهاأنت الآن تداويني...
يا الله كم أنت متناقض يا رجل!!!...
- للتناقض يا سيدتي معنى واحد....
للتناقض يا مولاتي تفسير واحد....
فأنا حين لا أكون معك.. أكون متناقضا..
وأنا حين لا أشعر بك.. أكون متناقضا..
وحين تمشين معي في دروب الشام العتيقة..
وحين تتوحد يدي ويدك تحت يا سمينة دمشقية...
وحين يصدح الآذان في باحة دار شرقية...
وتجلسين كسنونوة على ضفاف بحرة شامية.. والكباد والنارنج والأكي دنيا.. والمجنونة والمشاعر الجنونية.. وحين نقف على أعتاب تاريخ القصيدة الجميلة الأزلية ... وحين تبهرين بدمشق وسمائها وبقططها البرية ...
وحين ... وحين ...
حين لا أحبكِ يا وفاء ... أكون متناقضاً ...
وحين لا أشعر بألمكِ ... أكون متناقضاً ...
وحين لا أحب الشام في عينيكِ العسليتين ... أكون متناقضاً...
- كم أنتَ رائع يا عصام ومحب وقاسٍ وحنون ومتناقض ... و...
- بالمناسبة يا وفاء... !
ماذا يا عصام ؟!
- أحبكِ ...
رغم كل كلامكَ الدافئ ... ورغم كل الحنين الذي أترعتني به ... ورغم كل الحب الذي حاوطتني به ... إلاّ أن شيئاً ما قد انكسر بيننا ...
كنتُ أتألم وأنا أراك لا تهتم كثيراً لأقوالكَ الجارحة قبل أن تلفظها...
وكنتُ أستغرب أقوالك وأفعالك ...
أأقول لك الوداع ؟!
حبيبي عذراً … لا تلُمْ قلباً صادقاً قد عاش في زمن الخداعْ … نحن هنا … في مكاننا وفي زماننا … حينما يستقر الهوى يقال لنا : قد حان الوداعْ...
نحبُّ ؟! … نعم …
نعشق؟! … نعم ..
لكنَّ الهوى في زماننا لا يُشترى ...بل يُباع ...
اعذرني حبيبي ...يا فتنة الأماني إن قلتُ الوداع ... أيّ عمرٍ هذا الذي نهوى به؟
أي زمن هذا الذي نعشق به؟!!
مركبي بعدك صار بغير شراع ...
أذرفْتَ يوماً على قلبي الدموع ؟! بعد أن أطفأتَ كل الشموع ؟!
ويحٌ لهذه الدنيا !!!
تذري من لآلئ أعيننا أدمعاً سكاّبة ... وتأخذ من القلب الهائم ... كل أحبابه ... ويح لهذه الدنيا !!!

مرَّ زمن وأنا أشعر بغربة تجاهك ...
كنتَ تغيظني بتناقضاتك ...
دفؤك وأنت معي ...
وبرودة أعصابكَ حينما كنت تشاهد غيركَ يحاول التقرب مني ...
فهذا الأستاذ أكرم قد أبدى لكَ إعجابه بي ... ولكنك لم تحرك ساكناً... ولم تشعرني حتى بلحظة غيرة علي ...
ما الذي جرى لكَ ؟!!
وهذا الأستاذ سالم ... كنتَ تراه دائماً يحادثني ويكلمني ... وكنتَ تدرك بقرارة نفسك أنه معجب بي ...
وأذكر أنه في أحد الأيام صارحتك برغبة قريب لي أرادني أن أكون زوجة لابن صديقه المقيم في ألمانيا ... فماذا كان ردّكَ ؟ لم تحرك ساكناً ولم تُبِد شعوراً بالغيرة ...
كنتُ أشكوك في كل مرة لأختي مرح ... وكانت تستغرب هدوء أعصابك... ولطالما نصحتني بالابتعاد عنك ... ولكن حبك كان قد تجذر في قلبي ... واستوطنه.
أذكر مرة حديثاً دار بيني وبينها حولك ... قالت لي:
- اسمعيني يا وفاء ... حبكِ هذا لعصام لا أمل منه إذا بقيتِ هكذا دون أن تسأليه عن نهاية هذا الحب .
قلتُ لها :
- ولكنك يا مرح ، تدركين أن الخوض في هذا الموضوع ربما يزعجه!!...
أجابتني بهدوء :
- ارحمي نفسك قليلاً يا وفاء ... هل أنتِ سعيدة وأنتِ تنعمين هكذا بجراحكِ؟!...
ثم لماذا تفكرين دائماً بمشاعره ولا تنظرين لنفسك وآلامها مرة واحدة؟!...
أجبتها بتهكم :
- ومن قال لكِ إنني لا تهمني آلامي ؟! ثم إنَّ المحبَّ يذوب في الطرف الآخر ... فلا يهمه إلاّ المحبوب ... و ...
قاطعتني قائلة :
- هذا إقرار لا شعوري منكِ بأنّ عصام لا يحبكِ !!
سألتها والدهشة في عيوني:
- لماذا تتهمين عصام بذلك يا مرح ؟!
عقدت حاجبيها قائلة :
- أنتِ قلتِ إنّ المحب لا يهمه إلاّ حبيبه ... أي مشاعره وآلامه ...
فلماذا لا يداري عصام مشاعركِ وآلامكِ ؟!
ثمَّ لقد مرّ زمن ليس بالقصير على لقائكما يا وفاء … لماذا لم يخطُ خطوة واحدة لأجلكِ؟!…
كانت مرح تضرب على الوتر الحساس من دون أن تدري؛ فأسقط في يدي ورحت أحتال لذلاته الأعذار:
- ربما كان السبب في ذلك هو عدم امتلاكه منزلاً خاصاً به … فأنتِ تعلمين أنه يسكن مع والدته وابنه جهاد في منزل مستأجر … ولربما كان محرجاً من طرح موضوع السكن معهم ...
أو ربما هو لا يريد أن يجرح ابنه بجلب امرأة تحل محل والدته ...
- إذاً يا وفاء وبما أنه لا يريد أن يجلب امرأة أخرى لمنزله ... فلماذا اعترف لكِ بحبه... هل نهاية الحب إلاّ الارتباط المقدَّس ؟!
قلتُ لها منزعجة من هذا التبرير :
- عصام ليس من النوع الذي يَعِدُ ولا يفي ... وهو لا يحب أن يبني لي قصوراً من الأحلام لأستيقظ على حطام الأوهام ... إنها مسألة وقت فقط ! ...
قالت لي بتحدٍّ بالغ :
- إذاً لماذا شكَّكَ بكِ حينما كنتِ تهدينه أروع عربون محبة ووفاء!!؟؟
يا لسذاجتك!!!
لا أدري يا وفاء لماذا حينما تتمنع الأنثى عن الرجل يهجرها ... وحينما يحتويه صدرها يشكك بها ...
وحينما نستفسر عن ذلك يقال لنا إنه رجل شرقي ...
وكأن الرجل الشرقي قد جُبِلَ على غير ما جبل عليه الآخرون ...
يشكك بالمرأة التي يهواها ... يقيّدها ... يُغيِّر من عاداتها وتقاليدها... وتفني عمرها لأجله ولا يرضى !!
ما الذي يرضي الرجل الشرقي ؟
تراه يحاول جاهداً سبر أعماق محبوبته لمعرفة من قابلت ومن أحبت قبله بذريعة أنه متحضر وأن هذا شيء عادي بالنسبة له ...
والفتاة الشرقية ضعيفة بطبعها ... لا تلبث أن تصدقه وتسرد كل ماضيها ... حتى إذا فُتح هذا الكتاب المغلق أمامه ... هجرها ... وانتقل لغيرها ...
أما هي ... فمن الواجب أن تسمعه يتحدث عن مغامراته مع كل النساء اللاتي قابلهنَّ ... ومن الواجب أن تنصت إليه وهو يتفاخر بماضيه ... بذريعة أنه الرجل ويحق له كل شيء ... فيحلل لنفسه ما يحرمه على أنثاه ...
ترينه يخدش أنوثتها وهو يغرد بتلك المغامرات ... وهي صامتة تزدرد غصات غيرتها وألمها وجراحها ...
وبعد كل ذلك ... من الواجب عليها أن تسامحه وأن تغفر له كل ماضيه... فما يهمها الآن حاضرهُ ليس ماضيه ... حاضره الذي يعيشه معها...
أما هو ... فطبيعته لا تسمح له بالتسامح ... لأن ذلك عار عليه ...
- لماذا تجلدين مسامعي بهذه المحاضرة الرهيبة يا مرح؟!
- لأنكِ لم تختبري الرجل كما اختبرته أنا يا وفاء ... فصعب كثيراً على المرأة أن تشعر بالغيرة على الرجل الذي تهواه وتحيطه بدفء مشاعرها وصدقها ووفائها ... والأصعب من ذلك إذا اصطدمت هذه المشاعر مع رجل لا يغار أو يغار ولا يظهر غيرته ...
ويا ويل المرأة الممتلئة رغبة تجاه الرجل الذي تهواه...
ويا ويل قلبها إذا كان هذا الرجل لا يشعر برغبتها ...
المرأة الشرقية مظلومة ... مهدورة حقوقها ... ينادون بمساواتها مع الرجل ... ونرى الرجل يقف على المنبر صائحاً بأعلى صوته :
"أنا مع مساواة المرأة بالرجل " ... ويهمس لنفسه سراً:
" ولكن ابتعدوا عن أمي وأختي وحبيبتي وزوجتي " !
هكذا كانت مرح.. تلقي الكلام على عواهنه وتطلق العنان لسخرياتها المرة.. ولكنها في أحايين كثيرة تؤوب إلى جديتها فتراها منصتة إليك بآذان صاغية ... تخفف آلامك ... تضمد جراحك ... وحينما تعطي ... تعطي بلا حدود ... ولا تسأل جزاءاً أو شكوراً ...
من يحادثها يعتقد أنها لا تعرف من الدنيا سوى الضحك والمرح ... ومن يغوص في أعماقها ... يدرك صدقها وإخلاصها ...
كان عصام قد تركني وحدي بعد مجادلة بيننا أدت إلى خصام ...
كنتُ أذكر سبب المشكلة وأنا مع تلاميذي في درس الحساب...
وحينما كان الأستاذ عبد المعطي يحضر معنا الدرس بصفته مرشداً تربوياً بالإضافة إلى كونه مدرساً.
كان قد طلب مني حضور ربع ساعة من هذا الدرس، ليقف على المشكلات التربوية والتعليمية التي تعترض المكفوفين كتلاميذ وكمستقبلين للرسالة التعليمية.
كان معجباً مثلي بهؤلاء التلاميذ.. بل أكثر مني بحكم قدم وجوده في هذه المدرسة.
قال لي هامساً:
ـ هل تعرفين أني أحسدك على هؤلاء التلاميذ؟!
نقرت على الطاولة وأن أقول له:
ـ اضرب على الخشب يا أستاذ وقل ما شاء الله..
أجابني ضاحكاً بعد أن دق على الخشب عدة مرات:
ـ ما شاء الله.. ما شاء الله..
كان كل منهم قد وضع المعداد الحسابي الخاص به على طاولته ...
كنتُ أتفقد ذلك المعداد المستطيل الشكل والمكون من /13/ عموداً متوازياً في كل منها خمس خرزات تتحرك بسهولة إلى الأعلى والأسفل ، كما تقسم أفقياً إلى جزئين، الجزء العلوي وفيه خرزة واحدة في كل عمود والجزء السفلي وفيه أربع خرزات في كل عمود أيضاً ، وفي أسفل كل جزء نقاط بارزة تعمل كفواصل في قراءة الارقام الحسابية ...
وكان الأستاذ عبد المعطي يمر عليهم واحداً تلو الآخر.. يشاهد بأم عينيه المراحل التي ينجز بها التلاميذ وظائفهم المدرسية.. كان يتحدث مع هذا حيناً، ويساعد ذاك حيناً آخراً..
أنهى مهمته بأقل من ربع ساعة، ثم استأذن من الجميع وغادر القاعة.
طلبتُ من التلاميذ أن يتابعوا حلهم للتمارين..
كنتُ أتفقد كل ذلك بينما كان التلاميذ يحلون تمريناً عن الكسور العشرية، وفي الوقت نفسه رحتُ أستعيد تفاصيل آخر لقاء مع عصام ...
هناك على الطاولة نفسها ... تشابكت أيدينا وتعانقت عيوننا ... كنتُ أهمس لعصام بمدى حبي الكبير له ومدى افتتاني بقامته ورجولته...
اقتربتُ أكثر منه ومددتُ يدي أضعها على خدّه ...
خدَّه الذي طالما أسكرني وسحرني ...
كان سعيداً بي وبيدي ... وكانت أحاديثنا حينها تأخذ مناحٍ عديدة...إلى أن أشار عصام إلى أن الوقت قد آن للرحيل ...
سألته مستغربة :
- أليس من المبكر أن نفترق ؟
- يجب أن أذهب لعملي المسائي باكراً لأستطيع الخروج باكراً...
- لماذا؟
- لماذا؟! ... لي صديق قد توفي والده منذ فترة قصيرة ولم أذهب إليه معزياً بعد ...
سأذهب أنا وزملائي مساء لنسهر عنده ...
- ياللغرابة ... ستسهر أنت وزملاؤك عند صديق توفي والده منذ فترة قصيرة ؟ هذه والله نادرة يا عصام !!...
- وما الضرر في ذلك يا وفاء ؟
- أنا أعرف أنك في مثل هذا اليوم تسهر أنت وزملاؤك عند أحدهم لا عند زميل لم يلتئم جرح قلبه بعد !!!
- اليوم سوف نذهب جميعاً لنقدم العزاء لزميلنا هذا ...
ولقد تأخر بنا الوقت يا وفاء ... ويجب أن أرحل الآن!!..
ابتسمتُ مودعة بالرغم عني ورحتُ إلى المنزل وألف سؤال يدور في رأسي ...
لماذا أنهى عصام حديثنا هكذا فجأة ؟! ولماذا اعتذر قبل أوان الرحيل ؟! لماذا سيذهب إلى عمله باكراً ؟ ولماذا يحاول أن يخفي عني أشياء ... وأشياء؟!!!
لا أعرفه إلاّ صادقاً مخلصاً ... فلماذا اضطرب حينما بادرته بسؤالي؟!!
شعرتُ بانقباض في صدري ... وكنتُ أراقب عقارب الساعة وهي تدور...
عجباً!!! منذ متى كان يستهويني هذا المنظر ؟!...
نمتُ قلقة ... وجلة ...
أفكار تأخذني ... وأخرى تعيدني ...
لم أكن مقتنعة بتبريرات عصام كلها ... وأحسستُ أنه كان يخفي عني شيئاً فظيعاً ولكني لم أكن قادرة على استجلاء كنهه وتحديد ماهيته...
ليت ... ليت غداً آتٍ اليوم أو ليتنا اليوم في غدٍ!! ليقول لي إن كل ما أحسه أوهام ... وأضغاث أحلام ...
التقينا صباحاً على باب المدرسة ، قلتُ له مضطربة :
- أين كنت مساء البارحة يا عصام ؟
قال مستغرباً :
- كنتُ ساهراً عند ابن عمي !
- ماذا ؟ ! عند ابن عمك !!!
- نعم … فالبارحة كان دوره في استضافة الساهرين...
- ألم تقل لي إنك ستسهر عند صديق توفي والده ؟
- أأنا قلتُ ذلك ؟
- نعم!
- أنا قلتُ ذلك ؟؟!!
- نعم يا عصام ... أنت قلت ذلك !!!
وفجأة ... ضرب جبينه قائلاً :
- تذكرتُ ... لقد أُلغيت هذه السهرة فذهبتُ أسهر عند ابن عمي ...
تغيرت ملامح وجهي حينها ... كدتُ أبكي ... كدتُ أصرخ في وجهه:
لماذا لم تقل لي الحقيقة منذ البداية ؟
وانصرفتُ وسط دهشته واستغرابه ...
إذاً ... لقد كذب عليّ عصام بشأن البارحة ...
هل... هل كان يرشف قهوته ... أم يتناول عشاءه ... أم يسهر مع إحداهنّ ؟! ...
لا ... لا أظن ذلك ...
إذاً لماذا تلعثم حينما سألته ؟! … ولماذا أنكر أقواله وغيّرها؟! ...
كنتُ أشعر منذ فترة أن عصام قد تغير معي ...هل سبب ذلك أنني ضممته لصدري؟!
وكنتُ أشعر أحياناً بجفاء فيه ... وبأنه ما عاد يشعر بسحر كلماتي... وكثيراً ما كنتُ أشعر أيضاً بأنه ليس معي ... هل هذا يفسر عدم غيرته ؟!
هل اختطفته مني إحداهنّ ؟! أم أن ذلك كله محض أحلام لا أساس لها… ولكن أليس من شيم العشاق أن يحاصروا محبوباتهم بالحب والغيرة والرغبة؟!..
منذ فترة طويلة لم يشعرني عصام بذلك...
في طريقي إلى الصف اصطدمتُ به ... قال متسائلاً :
- ما بكِ يا وفاء ؟ ماذا دهاك ؟!
يا إلهي ... لماذا وجهك شاحبٌ هكذا ؟! ...
صارحته بما يدور في مخيلتي ببضع كلمات فقال غاضباً :
- هراء ... هراء ... كل ما تتخيلينه هراء ... بالتأكيد فقدتِ عقلكِ ... أنتِ مجنونة... مجنونة ...
- عصام ... أنا ...
- اسمعي ... لن أناقشك الآن ... سنجتمع في المكان نفسه اليوم ، الساعة الثانية عشرة ظهراً ...
قال هذه الكلمات ومضى ...
وكالعادة حينما يغضب ... يرمي بسهام كلماته ... أو يصمت صمتاً مطبقاً ويرحل...
وأبقى وحدي أتجرع ألمي ... أتجرع وحدتي ... تحرقني دموعي...
يطبق على صدري جبل من الأحزان والآلام ...
يجرحني ويمضي ... أو يصمت ويمضي ...
لماذا يفعل بي هكذا ؟ ألستُ محبوبته؟!
ربما ... ربما لديه مشكلات خاصة تؤثر على علاقته بي ...
أليست تربية طفله جهاد والبحث عن مستقبل مشرق له همّ بحد ذاته؟!
أليس غياب زوجته ورحيلها قبل الأوان يجعله يتخبط في ذكرياته معها وبالتالي يؤثر على أية علاقة جديدة يريد أن يبنيها ؟...
استيقظتُ من تساؤلاتي تلك على صوت وسام قائلاً :
- آنسة ... لقد أنهيتُ تمرين الحساب .
- وما جوابك يا وسام ...
- الإجابة هي : 1/6
-من كانت إجابته كإجابة وسام فليرفع يده ؟!
رفع أحمد وماهر وعبد الرحمن أيديهم بينما صححُت التمرين لزاهر الذي حله بشكل خاطئ … وتابعنا دروسنا المعتادة … إلى أن انتهى دوامي في المدرسة ...
وخرجت من الصف باتجاه مكتبة المدرسة.. لأستعير كتاباً عن أهمية التنقل والحركة عند الكفيف.
استقبلتني فصيحة استقبال الفاتحين.. وهللت لدخولي طارحة على مسمعي كلمات تنضح استغراباً لقبول دعوتها لي..
ترددت قليلاً قبل أن أقول لها:
ـ ولكنني يا سيدتي، جئت لأستعير كتاباً عن..
ـ ماذا؟! ألن تتناولي معي فنجاناً من القهوة؟!
ـ في المرة القادمة إن شاء الله .. لأنني..
قالت لي بتكشيرتها المعهودة.. هذه المكتبة أمامك.. خذي ما شئت منها..
بحثت عن مرادي.. وحينما وجدته خطفته من على رف المكتبة وخرجت مسرعة وكأنني هاربة من شيء لم أصدق أنني تخلصت منه.
الثانية عشر تماماً ... كنتُ أنتظر عصام بفارغ الصبر...
وكعادته ، بقده الممشوق ووجهه الممتلئ رجولة وكبرياء وعينيه الناعستين مدَّ يده مصافحاً:
- كيف حالكِ؟
- لا بأس. الحمد لله .
سحب كرسيه وجلس إلى جواري ... كان هادئاً على عكس البارحة...
قال لي بهدوء :
- أأبدأ أنا أم تبدأين؟
قلتُ له :
- كما تشاء .
- فلتبدأي أنتِ إذن.
شرحتُ له مدى ألمي ... وأعدتُ على مسامعه كيف قال لي إنه ذاهب إلى عند صديقه هو وزملائه ... ثم حينما سألته غيرّ ما قاله لي وأجابني أنه كان عند ابن عمه و ... و...
طلبتُ منه تفسيراً مقنعاً لما حصل ... كانت تعابير وجهه تتبدل عند كل جملة أقولها... فيعقد حاجبيه وتقدح عيناه بالشرر..
استوقفني فجأة قائلاً:
- اسمعي ... أولاً أنا لم أعتد على أن يسألني أحد عن وجهتي ... وأين كنتُ ومتى وصلتُ؟ … ولا أحب ذلك …
ثانياً … أنا لا أسمح لأحد أن يُنصِّب نفسه قيّماً على سلوكي...
- عصام ... أردتُ أن ...
- وفاء ! حديثكِ ليس له إلاّ معنىً واحد ... وهو أنكِ تشككين بي ... وأنا أريد وضع حدًّ لهذه الدوامة معكِ . ولن أستمر في الحديث إلاّ إذا سحبتِ كلماتكِ واعتذرتِ حالاً ... وهذا كل ما لدي من كلام يا وفاء ...
قلتُ له يائسة :
- وأنا أيضاً يا عصام ... ليس لدي أي كلام .
- أنذهب ؟
- مثلما تريد ! ...
سار معي بضعة خطوات خارج المقهى ...
كان صمته وبرودة أعصابه يغيظانني ...
قلتُ له :
- أنت هكذا في كل مرة تجرحني وتمضي ... لا تُقدّر غيرتي عليك ولا تضحيتي لأجلك ... لا تُقدِّر حبي الكبير لك وخوفي عليك...
لم ألقَ عنده أي رد ... وإنما استمر في صمته المطبق...
ودّعني عند مفترق الطريق ومضى ...
ومضت معه عيوني الدامعة ...
أردتُ أن أركض وراءه وأقول له إنني أحبه ... إنني ما عدتُ أطيق صمته ... إنني أعبده ...إنني لا أريد الاستمرار معه ... ولا أستطيع الابتعاد عنه ... وإنني سأرحل عنه ... وإنني ... وإنني ...
لكنه مضى ... ولم يبقِ لي حتى خياله ...
لم يُبقِ لي سوى الحزن والدمع و ... سطوة الألم ...
فَعَذِّبْنِي حبيبي وزِدْ في عذابي ... واملأ الكأس من مرِّ الشراب ... دعني حبيبي لحزني واكتئابي ... فلقد أضعتُ في هواك شبابي ...
لظى الشوق في أعماقي ... والصقيع يفتك به ...
فعذبني حبيبي وزد في شجوني ... زد في شتات عيوني... فما أشقاني وأنت كحلم غريب ... كالسراب ...
أفق حبيبي من خمرة الحب التي سقيتنيها وافهمني ...
لا !! ... لن تفهمني ...
ففي أعماقي سطوة ألمٍ ... لن تستطيع يوماً فكَّ أسرارها الدفينة ...

أوقفتُ سيارة أجرة واستقليتها باتجاه المنزل ...
كانت دموعي تنهمر كالمطر في أواخر أيام شباط ...
لم أصدق أنني وصلتُ سليمة للمنزل ... فتحتُ باب غرفتي وارتميتُ على سريري ...
" لن أستمر في الحديث معكِ إلاّ إذا سحبتِ كلماتكِ واعتذرتِ حالاً "
ما هذا التعسف ؟ ما هذا الأسلوب الفظ؟
ألم تدرك يا عصام أنك جرحتني في صميمي ... وفي كبريائي ؟!
عجبتُ كيف لم تكترث للآلام التي زرعتها في داخلي ... وعجبتُ لصمتك حينما كنتُ أحتاج دفئك ...
عجبتُ لهدوئك حينما كنتُ أحتاج لضجيج كلماتك ...
وضعتُ رأسي على فراشي ورحتُ في دوامة حزني وألمي أتساءل :
لماذا لم يدافع عصام عن نفسه ولو بكلمة ؟! ...
لماذا لم يقل لي أنني الوحيدة التي يهواها ؟!
لماذا لم يشعرني ويؤكد لي أن ما أشعر به أوهام بأوهام؟!! ...
ما سرُّ هذا الغضب المفاجئ ؟!! ...
ربما ... ربما فقدان زوجته ما زال مؤثراً به ...
ربما ... ربما لستُ كزوجته بحنانها ... ودفئها ... ومعالجتها للأمور ببساطة ... ربما يفتقد تصرفات حانية كان يراها في زوجته ...
ربما ... وحيدهُ يشتت له ذهنه بتربيته ...
ولكني أعرفه جباراً وصامداً ... فلماذا يعاملني بهذه القسوة ؟! فمهما كانت ظروفه فبأي حق يقسو عليّ هكذا ويجرحني ثم يمضي عني تاركاً دمائي تغلي وقلبي يحترق فيها؟!
ألا يعرف مقدار حبي له؟! ألا يعرف مقدار اشتياقي له؟!
يا لقسوتك يا عصام !!!
كان بسلوكه هذا وتصرفه القاسي معي يزيد من شكوكي وتساؤلاتي ... ولكني ما عدتُ أجرؤ على الحديث معه في هذا الموضوع ... بل لقد نسيته... إذ حلَّ مكانه ألم آخر ... عبارته التي رماها دونما وعي منه :
-"ستعتذرين الآن حالاً " ...
نعم يا عصام ... إنني أعتذر لك ...
أعتذر عن قلبي الذي أودعته أمانة بين أيديك ولكنك لم تصن الأمانة...
أعتذر أن أعطيتُ لنفسي الحق بأن أعبّر عن تساؤلاتي ومشاعري ولكنك أوصدت الباب دونها ...
أعتذر عن الحب الكبير الذي أحمله لك بين جنبات فؤادي ... ولكنك تبادله بالإهانة والقسوة ...
اعتذر أني فكرتُ يوماً بأنّ لي الحق أن أُعبِّر عن حقوقي ... ولكنك لم تكن عادلاً أبداً... وأعتذر عن أشياء كثيرة لا أجرؤ على البوح بها ... وأعتذر !!! وأعتذر !!!



الفصل الرابع
مفارقات


كنتُ أقرأ رواية (أيام معه) لكوليت الخوري والتي أهدانيها ذات يوم عصام ...
إذ كان يدرك مدى إعجابي بقصائد هذه المبدعة وقصصها ...
رحتُ ألتهم كلماتها التهاماً ... وفي الوقت ذاته ... أعقد مقارنة بسيطة بين زياد وعصام... وبين ريم ووفاء ...
كان زياد يشبه عصام في طريقة حبه لريم وفي كبريائه...
فزياد واقعي في الهوى يعشق الحرية ويكره أن تقيده امرأة ... ويرى أنه لا ينبغي أن يقدم لريم حباً جنونياً ...
إنه لم يألف حياة الحب الصادقة من قبل ... فقد كان يعتقد أنه رجل ككل الرجال ... رجل عابر في حياة ريم ...
زياد كان يحب ريم حباً عميقاً ... عميقاً ولكنه لا يصل إلى حافة الجنون...
وعصام كذلك ...
زياد لم يكن يتمسك يوماً بريم إلاّ حين يشعر بجفائها ... ولذلك تكاد عيونه أن تدمع حين تصارحه بأنها ما عادت تحتمل لا مبالاته وقلة اهتمامه...
وكذلك عصام ...
ريم كانت تحب زيادها بجنون ... فجاء حبها ممتزجاً بالرغبة وسطوة الألم ...
كذلك كان حب وفاء لعصام ...
ريم ، حين هاتفها زياد قائلاً:
" ومن أكون أنا ؟ أنا رجل ككل الرجال ... أنا رجل عابر في حياتك " ...
أحست بطعنة خنجر تغتال كبرياءها...
وكذلك كان إحساس وفاء ...
ريم كانت ضعيفة في حبها لزياد، تائهة ... ضائعة ... ربطت مصيرها بيد رجل واحد ... أسلمته مفاتيح قلبها، وذابت في خطوط يديه…
ولذلك أشقتها قلة غيرة هذا الرجل ... وكثيراً ما كانت تردد بينها وبين نفسها :
لا ... لا ... ليست ثقة عمياء تلك التي تجعله غير مبالٍ...
ألستُ جميلة ؟! ألستُ مغرية ؟! ألستُ شابة ؟!
ألستُ زهرة يحوم حول عبيرها الرجال ؟!
هذه الثقة العمياء تثير نقمتي … وتستفز غروري … " وكذلك كانت تقول وفاء ...
ريم أحبت زياد حد العبادة ... وكان حبها تياراً جارفاً، لا يقف في طريقه شيء ...
وقد ضاق زياد به ... وكذلك كان حب وفاء لعصام ...
كنتُ أقرأ هذه الرواية بقلب أترعه الألم ... وأنا أذكر جرحه الأخير لي :
"ستعتذرين والآن حالاً "
عجباً له ... كيف أعتذر قبل أن أعرف ما اقترفت يداي.. قبل أن أسلّم أنني أخطأت ؟!
كيف يريدني أن أعتذر وأنا التي ليس لي في الهوى ذنب؟!
سأهجره … نعم سأهجره … وسأرحل عنه ...
لم أعد أحتمل حباً بارداً تثخنه الجراح ...
سأهرب منك يا عصام ...
سأهرب منك ..!
عدتُ إلى متابعة رواية أيام معه ... وقرأتُ :
"فلماذا لا أهرب من هذه الخلس ؟
ألأنني أخاف المستقبل، وماذا ينتظرني في المستقبل، أنا التي أخاف وأهرب من كل شيء حتى من التفكير في المستقبل ؟
لا ... سأعيش حاضري، حاضري جميل، فلماذا لا أعترف بأنه جميل ؟
سأتمسك باللحظات الجميلة … سأحياها بكاملها … سأعصر ثوانيها كما تُعصر الإسفنجة لآخر قطرة ماء في حناياها وسأصب فيها تأجج ذراتي وروحي ...
فتختلط قوتها بنيراني وتصبح هي وأنا شيئاً واحداً ...
أبداً ...
لن أهرب من زياد ... "
أبداً لن أهرب من عصام ... !
لن أبتعد عنه ...
سأراه غداً ...
سأقول له إنه مخطئ ... إنني مخطئه ... إننا ... !!
لملمتُ أوراقي المبعثرة هنا وهناك ... وأمسكتُ قلمي ... صديقي الذي أهرب إليه كلما استبد بي الألم ...
وبدأتُ أكتب :
أتَذْكُر يا حبيبي حين كنا، نجلس معاً في ذاك المكان... أتذكر كيف نفرت من عينيّ الدموع؟
كانت عبراتها تلهب أعماقي بسؤال لا أعرف له جواباً...
لم أكن أعلم أن كل تلك القسوة تكمن فيك ...
وهانت دموعي عليكَ ... صمتٌ مطبق كان ردك حينها...
صمتٌ مطبق وجراح ...
أتُراكَ لحظتها استنبطت من الصمت أحاديث لا تنتهي؟!…
هل أنت حقاً من أقسم ذات يوم أن لا يؤلمني ؟!
هل أنت حقاً من عاهدني ووعدني بأن لا يفجر براكين حزني، ولا يستدر دموعي؟!
لا ... !
وحق تلك العيون لن أحزن ...
وحق ترياق الشفاه ... لن أحزن ...
أتجرحني وتمضي من دون وداع ...
وتتركني في ليلٍ كموج البحر أرخى سدوله عليّ بأنواع الهموم ليبتلي؟؟...
وحق تلك العيون لن أشتكي ...
وحق شهد الشفاه لن ترى دمعة واحدة في مقلتيّ...
لن أسألك لماذا جرحتني ومضيت ... وأنا من ذوبت عمرها شمعة على مذبح حبك… وغاصت في يديك؟!…
بدأتُ أشعر بأن علاقتي مع عصام ستتعبني وترهقني كثيراً … ولا بد من وضع حدٍّ لها …هذا الشعور تسلل إليّ من قسوة مفاجئة صدرت عنه … وكنتُ أخاف أن تستمر هذه القسوة مستقبلاً ...
ومرّ شهر كامل ... يحاول فيه التقرب مني وأنا أتجاهله وأبتعد عنه ...
كنتُ أشعر بتمزق في أعماقي ... فمنذ متى كنتُ أسمح لرجل أن يكلمني بهذه الطريقة ؟!
وليته كان رجلاً كباقي الرجال ...
إنه أغلى إنسان على قلبي ...
تمزقت في صراع بين كبريائي الذي جرحه عصام وحبي الكبير له ....
إنني أنثى يا عصام ... أنثى تحب أن تعشقَ وتُعَشقُ ...
تحب أن تعطي وتأخذ ...
كنتُ مرة في مقهى المدرسة أرتاح من عناء درس وجدتُ صعوبة في إيصال مفاهيمه إلى تلاميذي ...
كان أمامي على الطاولة فنجان من القهوة ...وبين يديّ ديوان لمحمود درويش ، أقرأ فيه وأحادث نفسي في الوقت ذاته :
"أنا امرأة لا أقل ولا أكثر "
أنا امرأة يا عصام يحق لها أن تعشقَ وتُعشَقُ ... يحق لها أن ترغَبَ وتُرغَبُ ...
أنثى متفجرة شوقاً إليك وألماً منك وحباً وهوى ...
" أنا امرأة لا أقل ولا أكثر "
امرأة تهواك بكل جوارحها ونبضات قلبها ...
" أعيش حياتي كما هي خيطاً فخيطاً "
أنا امرأة تحب أن تعيش يومها وحاضرها ... وترغب بمستقبل هادئ معك ، خالٍ من الجراح والأحزان ...
" وأغزل صوفي لألبسه ، لا لأكمل قصة هومير أوشمسه" وألبس الألوان التي تهواها ... أغزل صوفي لألبسه لك ... لا لغيرك ...
أنتقي الألوان التي تعشقها ... وأرتديها لك ... لا لغيرك يا عصام ...
" وأرى ما أرى كما هو في شكله
بَيْدَ أني أُحدّق ما بين حين
وآخر في ظله
لأحس بنبض الخسارة "
أنا التي عشقتك وعشقت آلامك وآمالك وغابت في غياهب ظلك لتستفيق على صدر سرابك وتشعر بالألم والجراح ... ونبض الخسارة ...
" فأكتب غداً
على ورق الأمس : لا صوت
إلاّ الصدى "
وكم حلمت بغدٍ جميل معك ... كم انتظرته مفعماً بالأمل!...
كم هتفت له !!! وكم صليت لأجله !!!
ويأتي الغدُ محملاً بإحباطات متتالية كإحباط عاشق يهتف باسم حبيبته فلا يأتيه إلاّ الصدى !
" أنا امرأة لا أقل ولا أكثر
تُطيّرني زهرة اللوز ،
في شهر آذار من شرفتي ..."
شهر آذار !!!
شهر آذار الذي شهد مولد أصدق كلمة حب وأروعها...
شهر آذار الذي شهد الحب الأكثر إيلاماً ...
شهر آذار الذي الذي نطقت به شفاهك الخمرية لأول مرة كلمة ... أحبكِ...
شهر آذار الذي بدأ خوفك عليّ يكبر فيه ...
شهر آذار الذي التقيتُ فيه بربيع آخر ...
شهر آذار الذي أراد أن يكتب قصة الحب المضمخ بالأسى، ولما تتم فصولا ...
" حنيناً إلى ما يقول البعيد :
المسيني لأورد خيلي ماء الينابيع " ...
إلى ما أقوله لك :
المس يدي ...
لتتفتح أروع الورود ... لتتفجر من بين أصابعك ينابيع الهوى ... فتلمس مقدار حبي وشوقي ولهفة قلبي..
" أبكي بلا سبب واضح، وأحبكَ
أنتَ كما أنتَ ، لا سنداً
أو سدى"
وأبكي ... ولطالما بكيتُ أمام عينيك وبعيداً عنكَ ...
ولطالما انهمرت دموعي ألماً وحزناً ...
أبكي بسبب وبلا سبب...
كم تمنيتُ لو امتدت يدكَ يوماً ومسحت دموعي !!! ...
" ويطلع من كتفي نهارٌ عليك
ويهبط، حين أضمكَ ليلٌ إليكَ "
وكم حمَّلتُ النهار آلام ليلي واشتياقي إليك ...
وكم ضممتكَ حينما هبط الليل واستيقظتُ وبين يدي ظلك !!! ...
أتراكَ شعرتَ يوماً بهذا !!! ...
" ولستُ بهذا ولا ذاك "...
لا ... لستُ بهذا ولا ذاكَ ... وكم كنتَ تدعوني بالقمر...
ولكن القمر يحتاج ليلاً يبعده عن عيون الناس ويحتويه...
" لا ، لستُ شمساً ولا قمراً ...
أنا امرأةٌ ، لا أقل ولا أكثر
فكن أنت قيس الحنين ،
إذا شئتَ "
أسميك قيساً، وأُعلن نفسي في الهوى ليلاك ... وأشهد أنك أنت الوحيد ليس في القلب سواك..
"أما أنا ...
فيعجبني أن أُحبُّ كما أنا
لا صورةً
ملونة في الجريدة ، أو فكرة
ملحنة في القصيدة بين الأيائل ..."
آهٍ يا عصام لو تحبني كما أنا ... امرأة تهواك كما أنتَ ... حالماً ... واعداً ... ساحراً ... يقظاً ... هادئاً ... مفرحاً ... مؤلماً ... جارحاً ... دافئاً... بارداً ...
ولشدّ ما أتمنى أن تدرك ما أنا ...
" أنا من أنا ، مثلما
أنت من أنت "
أنا العاشقة المحبة المفتونة الولهانة المتفجرة شوقاً وحنيناً...
وأنت المحب الفاتن المفجر للشوق والحنين...
" تسكن فيَّ
وأسكن فيك إليك ... ولَكْ ...
أحبّ الوضوح الضروري في لغزنا المشترك"
ولَكَمْ أحبك أن تكون واضحاً معي في كل شيء ...
في حاضرنا ...
وفي مستقبلنا ...
مستقبلنا الذي أخشاه من قبل أن يأتي ...
لَكَمْ أحبكَ واضحاً معي في كل شيء ...
" أنا لك حين أفيض عن الليل
لكنني لستُ أرضاً
ولا سطراً
أنا امرأة ، لا أقل ولا أكثر "
أغلقتُ الديوان ووضعته جانباً وعدتُ إلى شرودي القاتل...
ولم أنتبه إلاّ وصوت عصام يقرأ في الديوان بصوت آسر :
" يجلس الليل حين تكونين ، لَيلُكِ من
لَيْلَكْ...
وليلكِ ... ظلّكِ...
قطعة أرض خرافية للمساواة ما بين
أحلامنا . ما أنا بالمسافر وبالمقيم على
ليلك الليلكي ، أنا هو من كان يوماً
أنا ، كلما عَسعَسَ الليلُ فيك حَدَستُ
بمنزلة القلب ما بين منزلتين : فلا
النفس ترضى ، ولا الروح ترضى . وفي
جسدينا سماء تعانق أرضاً . وكلّكِ
ليلُكِ ... ليلٌ يشع كحبر الكواكب . ليلٌ
على ذمة الليلِ ، يزحف في جسدي
خَدَراً كنعاس الثعالب . ليلٌ ينثُّ غموضاً
مضيئاً على لُغتي ، كلّما اتضح ازددتُ
خوفاً من الغد في قبضة اليد . ليلٌ
يحدّقُ في نفسه آمناً مطمئناً إلى لا
نهاياته ، لا تحفُّ به غير مرآته
وأغاني الرعاة القدامى لصيفِ أباطرةٍ
يمرضون من الحبِّ . ليلٌ ترعرع في شِعرهِ
الجاهلي على نزوات امرئ القيس الآخرين
ووسَّع للحالمين على طريق الحليب إلى قمرٍ
جائع في أقاصي الكلام ..."
- ما رأيك يا وفاء بهذه الكلمات ؟
- ليتك تعيها يا عصام ... ليتك تدرك ما وراءها وتَفْهمُني من خلالها...
- ماذا بكِ يا وفاء ؟! هل من اللائق أن تقابلي ذاك الكلام الجميل بهذه الكلمات المؤلمة ؟
- لماذا تسمي محاولة فهم مشاعري كلمات مؤلمة ؟! لماذا تسمي محاولة احتواء أحاسيسي وأحلامي بالكلمات المؤلمة يا عصام ؟! لماذا لا تريد أن تدرك مقدار ألمي لبعدك عني ؟…
- لا تكلميني بهذه الطريقة يا وفاء، أرجوكِ … فلقد أحبطتني وكسّرت مجاذيفي ...
صدقيني ... لم يصبني أحد بذلك كما فعلتِ أنت ... لم أشعر بالعجز والفشل كما أشعر بهما الآن ...
آتي إليكِ محملاً بأحلى الكلمات ، فأستغرب كلماتك، وأستغرب مواقفكِ وهجومكِ علي... شهرٌ كاملٌ وأنتِ تتجاهلين أحاديثي ومحاولتي إعادة المياه إلى مجاريها !!!
لماذا لم تعد كلماتي مهمة بالنسبة إليكِ ؟!
- لأنكَ يا عصام لم تعد تنتقيها كما كنت تفعل سابقاً … ولم تعد تحتوي أحاسيسي كما كنت تفعل سابقاً … ولم تعد تُشعرني بحبك كما كنت في الماضي ... و...
- لماذا يا وفاء تفسرين كل الأشياء ضدي ؟! لماذا أصبح كياني معكِ ملغياً ؟!
لماذا تهملين حبي ؟ لماذا تشعريني بأنكِ نادمة على هذا الحب ؟! ولماذا أشعر أنكِ تتحدثين معي وتتحدثين عني وكأنني غريب، وكأنني لا أفهم ولا أدركُ كل نبضاتك ... تعيدين وتكررين : لماذا لا تفهم كلامي ؟ ... لماذا أنتَ بعيد عني ؟... لماذا تتجاهلينني وكأنني لم أكن يوماً حبيبكِ ؟... وكأننا غرباء... لماذا تهملين حبي ومشاعري طيلة شهر كامل ...
- هذه الغربة التي تشعر بها يا عصام من صنع يديك، فيداك أوكتا، وفوك نفخ ... أيُعَقلُ أن أسألك سؤالاً أريد إيضاحاً له فتعتبر ذلك تدخلاً وتجرح وتخدش كما يحلو لك ؟ ألا يحق لي السؤال ؟!
إنكَ لا تفهمني يا عصام ... بل لا تريد حتى فهم أحاسيسي ومشاعري...
- لم أتصور يا وفاء أنكِ تستطيعين أن تكوني بهذه القسوة ...
لم أتصور يوماً أنَّ بإمكان وفاء أن تلغي إحساسي وتهمشه بل وتتهمه بالسطحية. هل تظنين أنني جدار أصم ، لا أسمع ... لا أفهم ... لا أدرك ... لا أحس ... لا أرى ؟!
هل تحسبين صمتي ضعفاً ؟
لماذا تسمعيني اليوم من الكلام ما لا أحتمله، وترمينني باتهامات لا ناقة لي فيها ولا جمل.. لم أكن أتوقع منكِ مثل هذا؟ ومع ذلك أتجاهله ولا أعاتبكِ عليه ... وهاأنتِ تعاتبينني على كل كلمة قلتها ولو منذ حين ، وحينما تعود الأمور لمجراها الطبيعي، أشعر أنكِ لم ترضي كما يجب ولم تنسي الكلام السابق.
وهاأنت اليوم تعيدين الكلام ذاته والمسألة ذاتها وكأننا لم ننهِ المشكلة، وكأننا نجمّع المشاكل لننسى أحلى ما يمكن أن يقال وأجمل ما يمكن أن يعاش...
-أين هو " الأحلى ما يمكن أن يقال والأجمل ما يمكن أن يعاش" يا عصام ؟!
لقد تبدل كل شيء بيننا ... وتغير الحب الكبير الذي جمعنا ... صرنا أنا وأنت بدلاً من أن نعيش الحب كما تقول، نتجاهله ...
الأنثى العاشقة يا عصام كالوردة المتفتحة إن لم تُسقَ بين حين وآخر تذبل وتموت...
وقد بدأتُ أشعر فعلاً بيباس ورود الحبِّ التي زرعتها بداخلي والتي لم تعتنِ بها حتى تكبر وتصبح شجرة يانعة وارفة الظلال، تتفتح لك كل يوم عن زهرة ندية طيبة الشذى...
لم أعد احتمل هذه الأيام القاسية التي نعيشها ... ولستُ نادمة على حبي لك كما تشعر... لكني بدأتُ أشعر أنني أقحمتُ نفسي في تجربة مريرة ... كل أبوابها مغلقة لا بل موصدة ... وكلما حاولتُ فتح باب منها لأدخل عالمك الوردي ، أصطدم بأشواك مزروعة في طريقي إليك ...
إنني محبة يا عصام ... والمحب متطلب متعطش لأحلى الكلام ... للحنان ... للحظات بريئة ... دافئة ... حنونة ...
ليس لأيام وشهور وربما سنين جارحة ومؤلمة ...
- لم أعد أعرف يا وفاء ماذا يجول في خاطركِ من أفكار وظنون... لم أعد أعرف ماذا تضمرين ولا بأي شيء تفكرين؟..
هل أصبح الحديث عن الحب صعباً إلى هذه الدرجة ؟ هل أصبح التفاهم مع من نحب مستعصياً؟ هل الوصول إلى قَدرٍ من التوحد مستحيل ؟ هل أطلب الكثير يا وفاء ؟ هل أطلب الكثير ؟!
هل سيطر الملل على تفكيرك وحياتك وحتى حبك ؟
هل اجتاح التعب قلبك وأحاسيسك ؟ هل أنتِ أنتِ ؟!
أم أن وفاء لم تعد وفائي ؟!
- أي حديث عن الحب هذا الذي تدّعيه … تمطرني بأحلاه في البداية ثم تغمرني بمرارته … تقول إنك ...
- هل أصبح ألمي وحزني يا وفاء مهزلة لكِ ؟ هل أُلغي الإحساس من علاقتنا ؟
في كل مرة أصمت فيها أكون قد كتمتُ كلاماً ورداً على كل ما تقولين...
إن باستطاعتي الرد عليك يا وفاء، ولكني أمتنع أحياناً لأني لا أريد تدمير أزهار الحديقة ، ولأنني أيضاً لا أريد بحوارنا وجد لنا أن أزرع الأشواك وأدوس على الأعشاب لندية...
أتظنين أن لا جواب شاف لديَّ عن كل تساؤلاتكِ واتهاماتكِ وكلامك القاسي ؟
بلى لدي الكثير ، ولكن بعضه قاسٍ، جارح ... مؤلم...
وهذا البعض لا أريدك أن تسمعيه ، مع أنك تسمعيني ما هو أقسى وما هو أكثر تجريحاً وأشد إيلاماً ...
- ألا تعتقد يا عصام أنك بالغت في جدالك هذا وفي اتهاماتك التي لا مبرر لها ؟
- ماذا يا وفاء ؟ هل ذنبي أنني صريح جداً معكِ ؟!
هل ذنبي أنني أصون الحب من الدمار ؟!
هل ذنبي أنني أتحاشى النقاش في مسائل لا طائل من ورائها إلا الكلام الفارغ والإهانات؟ … هل ذنبي أن …
- ماذا يا عصام ؟ هل الحديث في الحب وعنه وعن مشكلاته وصعوباته وحلاوته ونقائه وأزهاره وأشواكه يُعتبر قتلاً له ؟!
أو تصدق نزاراً حين قال:
كلماتنا في الحب تقتل حبنا
إن الحروف تموت حين تقال
- دعينا نؤجل الحديث في هذا الموضوع إلى وقت آخر يا وفاء...
- كما تريد يا عصام ... ولكنك بتأجيلك لمثل هذا الموضوع ستترك آثاره إلى حين...
- إلى اللقاء يا وفاء ...
- إلى اللقاء ...
كنتُ قد تأخرتُ عن درسي ... فجرس المدرسة رنّ منذ برهة من دون أن انتبه له...
حملتُ كتبي وذهبتُ محملة من جديد بسطوة الألم ...
وصلتُ الفصل الدراسي ...
دخلتُ الصف وأنا أكفكف دمعة لم أستطع أن أحبسها طويلاً ...
بغداد …
هانحن آتين إليكِ زرافات ووحدانا لنروي ترابك من دمانا … أرواحنا … أجسادنا … دماؤنا … أبناؤنا فداكِ …
بغداد …
لقد حان موعد الحساب …
حان أن تصبّي فوق جباه الغاشمين العذاب …
حان أن نرفع الأسنة والحراب …وإنّا وإياك على العهد الذي قد رضعناه من المهد كلانا وسنبقى معاً حتى القيامة والحساب …
وهنا التفتّ إلى جهاد مستدركة الإجابة على سؤاله:
- لا قدر الله يا جهاد… لنصلي جميعاًً لبغداد … ولشعب بغداد…
قال الجميع بصوت واحد :
- فليحرس الله بغداد ..
خرجتُ من الصف باتجاه بوابة المدرسة.. حيث قابلت الأستاذ عبد المعطي.. الذي بادرني قائلاً:
ـ هل التقيت المدير؟
أجبته والاستغراب بادٍ في عيوني:
ـ ولماذا؟
ـ لأنه قد رشحك للمشاركة في مؤتمر للمكفوفين.
ـ مؤتمر للمكفوفين!!
ـ نعم.. ألم يصلك الخبر السعيد بعد..
ـ لا.. إلى الآن.. لا وأين سيقام؟
ـ سيقام في فندق شيراتون دمشق.. في قاعة أمية..
ـ ومن سيشارك في هذا الملتقى؟
ـ رئيس جمعية المكفوفين في سوريا، وعدد من المهتمين بهذا المجال.. ورؤساء جمعيات المكفوفين في بعض الدول العربية كمصر والسودان والأردن والسعودية ولبنان، وبعض الدول الأجنبية لفرنسا وتركيا وإسبانيا وألمانيا وإيطاليا..
ـ ومن هي الجهة الراعية لهذا المؤتمر؟
ـ مجلس العالِمْ الإسلامي للإعاقة والتأهيل في السعودية، بإشراف الدكتور محمد بن محمود الطريقي رئيس المؤتمر وبرعاية سمو الأمير سلطان بن عبد العزيز.
ـ لقد أغريتني جداً يا أستاذ للمشاركة في هذا المؤتمر فمتى سيقام بإذن الله؟
ـ أظن خلال شهر من الآن..
ـ سأرى ما يمكن فعله.. وشكراً لك على كل حال.
ـ لا شكر على واجب..
ـ إلى اللقاء..
ـ إلى اللقاء..

كنتُ أشعر وأنا في طريقي إلى المنزل بدوار شديد في رأسي وألم لا يطاق…
وصلتُ المنزل بعد مشقة بالغة ..ودخلتُ غرفتي …
لم أنتبه إلى غياب مرح عن المنزل..
ارتميت على السرير كما أنا .. من دون أن أبدّل ثيابي..
كنتُ منهكة القوى بعد نقاشي الحاد مع عصام …
صرت أفكر ما الذي أوصلنا إلى هنا ؟
دخلتُ في غيبوبة من التساؤلات .. وبدأت أشعر بأن المسافات تطول بيني وبينه … وبأننا إذا ما استمرينا هكذا في نقاشاتنا القادمة فسنقترب من موعد الرحيل والفراق..
لا يا عصام …
لم يحن موعد الرحيل بَعْد .. والبُعْد نار .. وناري شَوْق يتسامى إليك بأوردة صدري… صدري الذي كان واحة لحبك الكبير الآفل .. لعصفور حطّ بروضتي وغنى للزمان ثم تناءى عنه وعني وشدّ الرحال ..
ورحيلي عنك نارٌ وانتحار… وانتحاري على صدرك زلزال وإعصارُ …
كم كنتُ فيما سبق أتأمل سحركَ بصمت … ولم يستهوِكَ صمتي…
ولكم عشقتُ صمتي لأجلك وأجل أن أسمعك …
كم كنتُ أتأمل سحرك بصمتٍ ، وأرى في عينيكَ عالماً كله أشعار …
يا للحنين الذي يكاد يفتك بي ويوردني الهلاك …
يا للحب الآفل الذي ينشر أشرعة الضياع في محيط الفراق…
ويرحل معك ليلي وصباحي … وعطري … وأشجاني…
يا للحب الذي أضاعني سهداً وسهراً …
ويرحل معك نهاري … وأحيا وحيدة في الليل البهيم … كم كان حلواً حين كنت معي تشملني بعطفك وتلم على صدرك شتات أضلعي…
أسكر فيه وأصحو على جنون يديك تداعب وجنتي … وكم كانت نار كفيك تستحيل برداً وسلاماً على فؤادي..
ثم تحولت إلى رمادٍ وجراح !!
اشتدتِ الآلام في رأسي … فأخذت مُسكناً وغططت في نومٍ عميق لم أستيقظ منه حتى الثانية عشرة مساء …
كنتُ أشعر بوهنٍ في جسدي … فلم أستطع النهوض من الفراش …
عدتُ إلى التفكير في عصام وحبي لعصام …
صرتُ أسائل نفسي... ما الذي يمنعني من الانسحاب من حياته؟
ما الذي يشدني إليه ويجعلني أسيرة مقيدة الأفكار والمشاعر؟!..
لماذا لا أستطيع أن آخذ قراري وأنسحب من حياته وأبدأ حياتي بعيدة عنه.. حيث لا أسئلة من دون أجوبة .. ولا أحلام من دون تحقيق؟!
حيث لا إحباطات متكررة ولا آلام ولا جراح ....
كان يعرف كم أهواه ... ويعرف أنني كلما اتخذت قرار الانسحاب عدلت عنه لتمكن حبه من فؤادي، وتغلغله في ثنايا روحي وحنايا جوارحي ...
ولعل هذه كانت نقطة الضعف التي اكتشفها في وبدأ يتعامل معها ببراعة...
كان إحساسي بالألم يتزايد .. وشعرتُ بحاجتي إلى طبيب...
قمتُ متثاقلة أفتش عن مرح ... فلم تطاوعني قواي وغططت ثانية في نوم عميق...
كانت الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً حينما استيقظتُ على يد مرح تهزني قائلة:
- يا إلهي ... حرارتك مرتفعة.
- أين كنتِ البارحة؟
- كنت نائمة عند زميلتي فادية ...
- فادية ؟! ومن هي فادية؟ وماذا تعمل؟!!
- فادية يا وفاء.. مدرسة اللغة الإنكليزية في المدرسة التي تعملين فيها..
- آه.. نعم صحيح .... وما أخبار ناجي إذاً يا مرح ألم تسأليها؟
- لا...
- ناجي مازال في الأردن .... ولا أحد يعلم متى يعودُ...
لا أدري لماذا فكرت بناجي في هذه اللحظات ...ولماذا غمرني الشوق إليه ...
ربما كان ذلك أحد أعراض هذياني..
سألتُ مرح:
- متى يعود زوجك يا مرح؟
- لن يعود الآن … وقد أرسل لي أنه يريد بعض الحاجات من هنا .. لأرسلها إليه فما رأيكِ أن نذهب سوية إلى السوق؟!
- فكرة جيدة … ولكني أحتاج ساعة أحضر فيها نفسي، وأرتدي قناع الأحياء!!...
- وأنا كذلك يا وفاء ..هيا بنا ...
نهضتُ من فراشي بتكاسل مبالغ فيه... ووضعتُ رأسي تحت الماء البارد لعله ينعشني قليلاً ...
شعرت بعدها بقليل من التحسن وبرغبة في احتساء فنجان من القهوة على شرفة المنزل ...
أدارت مرح المذياع وبدأت تقلب محطاته...
كنتُ أنظرُ للأفق البعيد ...
يا الله .. يا لصفاء السماء وروعتها...
جاءني صوت المطرب التركي Ibrahim TATLISES في أغنيته:
- Mavi ….Mavi…
أزرق..أزرق
سماء صافية ... وأغنية رومانسية ... وأنا بينهما فتاة عاشقة ... هائمة ...
حالمة بفضاءات بحيرة زرقاء... لا زوردية...
ورحتُ أذكرُ حنان عصام ..وشوقه وحبه ومداراته لمشاعري... وكيف كان ينتقي الكلمات التي لا تخدش مشاعري...
عقدت مقارنة ثانية...
ولكن هذه المقارنة كانت بين طريقة حبه لي في بداية معرفته بي... وطريقة حبّه لي الآن بعد أن تمكن من مشاعري...
لم يعد عصام يهتم بمشاعري وأحاسيسي كما كان يفعل سابقاً...
لم يعد ينتقي كلماتهُ قبل أن يحدثني كما كان يفعل سابقاً...
لم يعد عصام يختار أجمل الأماكن ويأخذني إليها ولم.. ولم...
أصبح مهملاً لمشاعري وأحاسيسي ورغباتي.. ولم أعد أطيق حبه الجارح الأسر.. المقيد ...
احتسيتُ قهوتي وأنا أفكرُ بحبه لي وحبي لهُ ... محاولة للمرة العاشرة أن أتخذ قراراً بالابتعاد عنه ...
-Mavi ….Mavi…
…………………
أزرق ...أزرق ....
هل كان إبراهيم طاطليسس يشعر بذاك القرار الذي أود اتخاذه .. ليذكرني بين وقت وآخر بزرقة البحيرة وسمائها ؟! وليأخذني أنا التائهة الهائمة… إلى تلك البحيرة وإلى ذكرياتنا أنا وعصام على ضفافها؟!
-Mavi ….Mavi…
أزرق ... أزرق ...
أزرق حبي لك يا عصام رغم كل الظروف والجراح...
أزرق سماوي قلبي وأنت به ...
-Mavi ….Mavi…
…………………
أزرق بحر هواك وآسر ...
أزرق بحر عينيك وساحر ...
-Mavi ….Mavi…
…………………
كان هذا المطرب ... مطربي المفضل ... وكنتُ أحب الاستماع إليه في جميع الأوقات...
صباحاً ... ظهراً ... مساءً... فقد كان صوته يبدو وكأنه قادم من أعماق البحار ... وكم كان يشبهك يا عصام ... بوجهه الذي ينضج رجولة... وبذاك الشارب المحلق في سماء البطولة، حتى القامة المربوعة نفسها ...
ولولا لون عينيه الكستنائي... لكان نسخة طبق الأصل عنك ...
كان رأسي قد بدأ بالتحسن على أنغام تلك الأغنية الساحرة حين رن الهاتف قاطعاً سلسلة تأملاتي..
رفعت سماعة الهاتف فجاءني صوت فادية متسائلاً:
- ما بك يا وفاء؟.. لقد قلقنا عليك...
- قليل من الصداع وكثير من الإرهاق ...
- يا إلهي.. صوتك قد تغير جداً.. سلامتك يا وفاء... أتريدين أية مساعدة؟
- لا شكراً لك...
لقد سأل المدير اليوم عنك... والأستاذ عبد المعطي وأبو عبده وكل تلاميذك سألوا عنك يا وفاء ...
(لم يكن اسم عصام بينهم إذاً)
- شكراً لكِ يا فادية.
- وفاء، اسمعي... لقد سأل عنك عصام وكان قلقاً للغاية...
إن أردت أية مساعدة فلا تترددي... نحن أصدقاء... هل ستأتين غداً؟
- هذا رهن بصحتي ومزاجها المتقلب...
- أتمنى لكِ الشفاء العاجل...
- شكراً يا فادية وإلى اللقاء...
- إلى اللقاء يا وفاء...
إذاً... لقد سأل عني عصام...
أتراه شعر بغيابي وقيمة وجودي؟!
جاءني صوتُ مرح كصوت جني انشقت الأرض وأخرجته:
- هيه...ألم تجهزي بعد...إذا استمريتِ بالثرثرة على الهاتف هكذا فلن نتسوق في حياتنا...
- دقائق وأكون جاهزة يا مرح...
استقلينا أنا ومرح باصاً صغيراً للأجرة باتجاه السوق...
جلسنا في الإتجاه المعاكس للسائق...
هزتني مرح قائلة:
- انظري إلى الشاب الجالس قبالتك... إن عينيه تتفرسان في وجهك منذ أن صعدت الباص...
نظرت خلسةً إليه... والتقت عيناي بعينيه...
كانتا سوداوين ولهما نظرات ثاقبة...
يا إلهي...
ما قصتي أنا والعيون السود؟! بل ما قصتي مع اللون الأسود؟!
لا أدري لحظتها لماذا استيقظ غرور الأنثى في داخلي...
فهاهو شاب أنيق جميل المحيا.. وجهه حسن وعيناه صافيتان.. يجلس قبالتي يتأمل وجهي... بل يكاد يلتهمه التهاماً!!!
اصطنعت مع مرح حديثاً عن زوجها...
وبين حين وآخر رحت أسترق النظر إلى الوسيم الجالس قبالتي... لتلتقي كل مرة عيناي بعينيه ...
حتى أنّ مرحاً نهرتني قائلة:
- هيه ... إن هذا لا يصح.. إنك تخترقين شريعة الأنثى..
أعترف أنني لم أستطع مقاومة النظر إلى ذلك الوجه القمري ...فمن ذا الذي يستطيع أن يقف مكتوف اليدين في حرم الجمال .. ثم أليس الله جميلاً ويهوى الجمال ...
كنتُ سعيدة جداً بنظراته واهتمامه بي.....
وكنتُ أتساءل ما الذي أعجبه فيّ؟!
تراه أُعجبَ بلون عيوني الكستنائي ؟! أم بتصفيفة شعري ؟! أم بتلك النمشات الصغيرة التي كانت تنتشر كحبات السمسم في صحن خدي؟!
كان يحمل بين يديه هراوة بيضاء صغيرة تشبه هراوة المدرسين ... إذاً لعله مدرّس مثلي ...
وما الذي يعنيني فيه؟! له شأنه ولي شأني..
إنه مجرد عابر سبيل ينتقل مثلي من محطة لأخرى ...
ربما لون عينيه اللتين تشبهان عيني عصام هو ما شدّني...
يقال ... إن المحب يفتش عن وجه حبيبه في كل الوجوه...
ما الذي يجعلني أتساءل هكذا ؟ ...
بل لماذا أنظر إليه خلسة من وقت لآخر ؟!
ألست عابرة سبيل بالنسبة إليه مثلما هو عابر سبيل بالنسبة إليّ ؟!
لحظات وتُنسى الوجوه … لحظات وتودّع العيون بعضها … وماذا لو أنه أراد التعرف عليّ ومبادلتي أطراف الحديث؟!
لا..لا...
سأقول له حينها إنَّ قلبي مجروح ...لا بل إنه مشغول...
وإنّ حبيبي أجمل منه بمئات المرات ...
سأريه الفرق بينه و بين عصام بكلمات موجزة ...
فهو عابر سبيل ككل الذين مرّوا في حياتي... ما خلا عصام الذي هو كل حياتي ...وهو عمري الآتي ... وبقعة الضوء التي تنير لي ظلماتي...
- هيا بنا ...
وقف ذو العينين السوداوين بتأنّ ... وأمسك بعصاه وسحبها إلى الأعلى... لتصبح أطول وأطول...
استند إليها ... ونزل بمساعدة زميله وعيناه مصوبتان باتجاهٍ واحد ...
يا إلهي ...
إنه كفيف !!!
* * *
وصلنا إلى السوق ... سوق الحميدية ... كان كل من فيه مستعجلاً وكأنه هارب من شيء ما ...
حتى أنك لتشعر بأنّ هناك من يركض وراء الشخص حاملاً عصاً في يده يريد أن يضربه بها ...
وكان الواحد منهم يصدمك من دون أن يعتذر... أو يوقع غرضاً ما من يدك ويتابع سيره من دون أدنى التفافة إليك...
ولكن أجمل ما في سوق الحميدية وفرة بضائعه وجودتها ورخص ثمنها... وكنت تحتار ماذا تختار ... فتشتري ما يلزمك وما لا يلزمك... فالبضاعة الجيدة والرخيصة تغري كل شخص ...
وأنا ما جئتُ لأشتري ... وإنما لأروّح عن نفسي... ومع ذلك اشتريتُ أشياء كثيرة ... فمن يرنا أنا ومرح وبأيدينا كل تلك الأغراض ... يعتقد أننا إما مسافرتين إلى مكان ما ... أو راجعتين منه...
مضى ما يقارب الساعتين ونحن نمتع أنظارنا بالسوق البديع ... عدنا أدراجنا قاصدين المنزل....
في صباح اليوم التالي كنتُ قد تعافيتُ تمامًا إذ إن رحلة السوق قد روَّحت عن نفسي كثيراً ... فجهزت نفسي ويممت شطر المدرسة...
اصطدمتُ بأحد الزملاء ... فرفعتُ وجهي لأعتذر منه... وإذ بوجه عصام يطالعني بمسحة حزنٍ ممزوجةٍ بالألمِ والدهشة...
ابتسم لي بتردد...
فتراقص قلبي لتلك الابتسامة .. ولعل فرح قلبي انعكس على وجهي ليبادرني عصام قائلاً :
- الحمد لله على السلامة يا وفاء ... ما الذي ألمَّ بك؟
فأجبته بآلية مفتعلة :
- قليلٌ من الصداع وكثير من الإرهاق ... ثم اتجهت إلى مكتبي..

تبعني قائلاً :
- لقد قلقتُ كثيراً عليكِ ... لم أستطع النوم ... صدقيني ...
ما بكِ يا وفاء ؟ ‍لماذا هذا الحزن المرسوم على وجهك؟! لماذا هذه الدموع ؟!
امسحيها يا غالية، فأنت لا تعرفين كم أتألم لحزنك ...
ألا تعرفين أنني حينما أراك حزينة .. ينقبض صدري وتسود في وجهي الدنيا؟!
- شكراً لهذه المجاملات يا عصام!
قال لي بنبرة حزن :
- ليست مجاملات يا وفاء...وأنت تعرفين حق المعرفة أنني حينما أرى دمعة حزن تدور في أحداقك أتمنى أن تبتلعني الأرض ، حتى لا أراك حزينة...
أتمنى لو أنني أستطيع ولو بأي شكل أو بأي شيء منع ذلك الحزن من أن يعكر صفو وجهك الصبوح...
أتمنى يا عمري أن لا تحزني أبداً...
أتمنى لو أستطيع تحقيق كل ما في بالكِ وفي بالي ...
في مخيلتكِ وفي مخيلتي ...
أحسُّ بكل لحظة حزن تمرين بها ، وأحس بكل دمعة تجول في أحداقكِ وأشعر بمدى حزنكِ وألمكِ ... وأتمنى في تلك اللحظة أن أفعل أي شيء يسعدكِ ويقدم لكِ الهناء...
- مجرد أمنيات يا عصام !!!
- لا يا وفاء ... ليس مجرد تمنٍّ ، ثقي بي يا غاليتي أنني معك حتى آخر العمر، وأنني معكِ في كل الظروف والأحوال ، ثقي يا عمري أن ألمكِ ألمي وحزنكِ حزني ومعاناتكِ معاناتي ...
لا تحزني يا عمري ... لا تحزني ... وبالمناسبة أريد أن أقول لكِ شيئاً آخراً ...
- ما هو يا عصام؟
- أحبكِ !!!
قالها ومضى ... ومضى قلبي معه ...
قلبي الذي كان يائساً منه ومن حبه ...
لم أكن أدرك يا عمري أنه سيأتي اليوم الذي تحطّم فيه آمالي على صخرة اليأس...
لم أكن أعلم أنه سيأتي الوقت الذي ستعدِمُ فيه آمالي بحبكَ...
لم أكن أعلم أنه سيأتي اليوم الذي أنسى فيه سبب حزني وألمي من حبيب لا تعني له الأحلام والآمال شيئاً ... ولا يعني المستقبل له أي شيء ...
وأي مستقبل هذا الذي أجرؤ على أن أفكر فيه ؟ وهل أجرؤ على ذلك ؟
أحاول الاقتراب منك يا عصام خطوة خطوة ... فتبعدني عنك آلاف الأميال ...
أودُّ أن أكون شمعة تحرق نفسها لأجلك ... فتذيبها بنيران قسوتك من قبل أن تشتعل لك...
أودُّ أن أكون شمساً لتكون لكَ الدفء حين البرد ... فتحولني بيديكَ إلى قرصٍ من الثلج قبل الوصول إليك...
أودُّ أن أكون قمراً ينير لكَ ظلمة الليالي...ولكن القمر يحتاجكَ قربه حتى يكبر معك...
وكلما حاولتُ الاقتراب منكَ بالحب.. بالود.. بالصدق.. بالدمع وبالدم الغالي.. تبعدني عنك بسطوة الألم !!!
أحبكِ..هل قلتها؟!
نعم أذكر أنك قلتها وكررتها مراراً على مسمعي … ولكن ماذا قدّمتَ منها إلاّ سطوة الألم؟!
أحبك...هل سمِعَتْها أذنيّ؟!
نعم… سمعتُها مراراً وتكراراً… ولكن ماذا أخذت منها غير سطوة الألم؟!
تحتاجني زهرة في حديقتك؟غصناً بين أغصانها!! شجرة من أشجارها؟!
كم كانت تلك الزهرة تبكي أمامكَ عطشى لماء يرويها!!!…
كم كان ذاك الغصن يحتاج إليك يا طيري تشدو عليه أعذب الألحان..!!
كم كانت تلك الشجرة تحتاجك جذراً تستند إليه ويشتد به أزرها...
ليتك يا عصام تدرك أنّ هواك بدأ يفتك بالبقية الباقية مني...
وهاأنا ...أداري آلامي وجراحي..وأنتَ أنتَ..لم تعِ بعد سبب دموعي وآلامي...

حان موعد درس النشاط اللاصفي ...
وهنا اخترتُ لهم أغنية فرنسية وغنيتها لهم مراراً وتكراراً ليحفظوها.
Et si tu n’ existais pas
Dis – moi pourquoi j’ existerais ?
Me trainer dans un monde sans toi
Sans espoirs et sans regrets .

Et si tu n’existais pas
J essairais d’inventer l’amour
Comme un peintre qui voit sous ses doigts
naitre les couleurs du jour
Et qui n’en revient pas …

Et si tu n’ existais
je ne serais qu ‘un point de plus
Dans ce monde qui vient et qui va
Je me sentirais perdu
J’aurais besoin de toi
Et si tu n’existais
Dis – moi comment J’existerais?
Je pourrais faire semblant d’être moi
Mais je ne serais pas vrai

Mais si tu n’existais pas
Je crois que Je l’ aurais trouvé
Le secret de la vie , le pour quoi?
Simplement pour te créer
Et pour te regarder…

Et si tu existais pas
Dis – moi pour quoi j’ existerais
Pour trainer dans un monde sans toi
Sans espoirs et sans reg rets
كانت الساعة الحادية عشرة والربع صباحاً حينما كنا نسير سوية أنا وعصام باتجاه الكافيتريا نفسها ...
طلبت منه الذهاب معي لشراء غرض ما قبل الذهاب إلى المطعم ...
قال لي :
- ليس الآن، فلديّ موعد مع صديق تمام الثانية عشر.
لم أشعر بغصّة الألم يوماً كما شعرتها في تلك اللحظة .
كان من المفترض أن يكون هذا اليوم لي أنا وحدي بعد غيابي عنه طوال تلك المدة ...
كنت أشعر برغبة شديدة في البكاء ولكن أنّى يطاوعني الكبرياء؟!
لم أشعر بحاجتي إلى صدره لكي أبكي عليه ألمي كما شعرت في تلك اللحظة...
لم أشعر بأنّ المسافات بيننا قد بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً كشعوري في تلك اللحظة.
غرفتُ في الصمت.. غصّتِ الكلمات في حنجرتي، وذبلت اللغة على شفاهي ولم أكن أريد الدخول معه في جدال أو نقاش.
قال لي:
- ما بك تصمتين هكذا يا وفاء، وكأن على رأسك الطير؟
لم أستطع الإجابة.
كانت الكلمات مسجونةً بين أدمعي تفتش عن مكان تنفجر فيه..
- ما بك يا وفاء ؟
- لاشيء … تستطيع أن تذهب إلى موعدك منذ الآن.
- ماذا تقصدين يا وفاء؟
- لا أقصد أي شيء .. ولكن ليس من اللائق أن تكون على موعد آخر وأنا في أمس الحاجة إليك يا عصام!.
قال لي بشيء من العصبية :
- أنت هكذا دائماً يا وفاء.. تضخمين الأمور وتصطنعين من الشيء الصغير مشكلة كبيرة.
- أنا يا عصام؟ أم استهتارك هو الذي يخلق مثل هذه المشاكل ؟! ...
- هل أنا كذلك يا وفاء ؟ هل أنا كذلك !!! ؟!...
لم أستطع الإجابة ... كان ألمي يطبق على صدري ... كنتُ أشعر برغبة ملحّة في البكاء ، ولكن أين ؟ وكيف ؟
لم أدرك أنني سأكون معه على هامش حياته، وأنا التي لا ترضى عن المتن بديلاً...
لم أكن أدرك أنني في آخر أولوياته ... وأن ثمة ما هو أهم مني في حياته..
لم أكن أعلم أنني سألتقي يوماً بإنسان كلما احتجتُ إليه ابتعد عني بعمدٍ أو عن غير قصد...
لم يكن يدرك مقدار الآلام التي يسببها لي ... بل كان يعتبر كل ألم أشعر به ... شيئاً بسيطاً للغاية ...
حينما كنتُ أتألم ... كان يعتبر ذلك تضخيماً للأمور ...
وهل هناك يا عصام أضخم من حاجة محب لمحبوبه ؟! والأضخم من ذلك أن لا يكون إلى جانبه وهو في أشد الحاجة إليه !!!
كنتُ أشك في أنه أحبَّ يوماً ... فلو أنه أحبَّ يوماً لما عاملني بتلك القسوة واللامبالاة ... وهل ... هل حقاً أحبني؟!
أيقظني من تأملاتي هذه صوته الدافئ :
- هل آلمتكِ بذلك يا وفاء ؟
تساءلت : ماذا أجيبك ؟
هل أقول لك إنني عدتُ أشعر بسطوة الألم ؟!
هل أصارحك أن جرحي لا يندمل ؟!
كيف لي أن أطمئنَّ على مستقبلي معك يا عصام ؟!
من أين لي أن أدرك إن مرضتُ أو تألمتُ أو لازمتُ الفراش يوماً أنني سأراك إلى جواري تضمد جراحي وتنقع غليلي؟!
صحوت ثانية على صوته الدافئ :
- لماذا لا تجيبيني يا وفاء ؟
- نعم يا عصام ... تألمتُ ...تألمتُ كثيراً ...
- لم لا تقدرين ظروفي يا وفاء ؟!
وهل هذا أوان الظروف يا عصام ؟! لماذا لا تُقدّر أنت ظروف مرضي وتتفهم حاجتي إليك ؟!
إن أية أنثى يا عصام … لكي تُقدّر ظروف الرجل الذي دخل حياتها … حبيباً كان أم زوجاً … يجب أن تجد في حبه لها الراحة والطمأنينة ...
فأنت حين تغدق عليّ المشاعر الدافئة... وحين تكون روحي مشبعة بعطفك وحنانك وحينما أكون بحاجة إليك وألقاك جانبي تنسيني آلامي وأحزاني...
وعندما أحتاج لقطرة ماء منك ترويني فأراك نبعاً ... وعندما تضمني لصدرك... وتنسيني الآلام التي زرعتها بداخلي...
وحينما أركض إليك مليئة بالحب ... محملة بالدفء وتستقبلني بالحب والدفء...
وحينما أشعر بأنك سندي الأوحد في هذه الدنيا ... وحينما تذكُرني في ظروفي الصعبة بدلاً من أن تنساني ...
وعندما تجعلني أطمئن أنك لي رغم كل الظروف ...
هنا يا عصام ...
هنا فقط أستطيع تقدير ظروفك أياً كانت ...
أما عندما تخلق لي ظروفاً صعبة وتقدم لي حباً مؤلماً جارحاً، مزيفاً، أنشغل فيه عن كل شيء...
فبأي حقًّ تطلب مني تقدير تلك الظروف ؟! …
كان عصام صامتاً … منشغل البال … لا أدري بماذا كان يفكر في تلك اللحظات ...
وكنا قد وصلنا إلى المكتبة التي أريد شراء غرضي منها ...
دخلنا سوية ، وسألتُ عن مطلبي فلم أجده ...
ومثلما دخلنا بصمتٍ خرجنا بصمتٍ قطعه عصام قائلاً:
- تعالي نجلس في مكان ما نتحدث قليلاً ...
قلتُ له غاضبة :
- ليس هناك أي داعٍ لذلك ...
- ما معنى هذا ؟!
- لاشيء...
- وفاء !! أرجوكِ اهدئي قليلاً وتعالي نتناول فنجاناً من القهوة في مكاننا المعتاد ...
- لا أريد يا عصام ... لا أريد ... اذهب لموعدك ...
- ما معنى هذا ؟!
هل عدتِ ثانية لتضخيم الأمور ؟! لم أعد أفهمك ... ماذا تقصدين بليس هناكَ أي داعٍ ... ولا شيء ... ولا أريد؟ ماذا يا وفاء ؟!
لم أكن أريد الدخول معه في نقاش حاد … إذ كان ألمي يكفيني ولم يكن عندي استعداد لسماع أي شيء مؤلم منه ...
كنتُ أريد إيجاد مكان ما أو زاوية ما لأرخي لدموعي العنان ... فرضختُ لمطلبه ، وذهبتُ معه إلى مكاننا المعتاد ... وإلى طاولتنا المعتادة ...
جلسنا سوية ... وبدأ حديثه معي :
- وفاء ... إما أنني لا أعرف التعامل معكِ، أو أنّ التعامل معك أصبح صعباً ومعقداً للغاية... !!! ...
كنتُ ما زلتُ متماسكة ... ولكنه بهذا القول جعلني أضع وجهي بين يدي وأغرق في نوبة من البكاء المرير ...
مع كل دمعة كنتُ أشعر بمرارة الحرمان معه ...
مع كل دمعة كنتُ أشعر بأني ما عدتُ أتحمل قساوته، وأننا اقتربنا من النهاية ...
مع كل دمعة كنتُ أعود لأشعر بسطوة الألم تحرقني ... كنتُ أشعر بأن ألمي اليوم هو أقوى من أي ألم شعرتُ به طيلة حياتي ...
فتصور لو أنك مرضتَ يوماً وكان مرضك بسبب الآلام التي يسببها لك المحبوب ... وهو يدرك سبب آلامك ... وفجأة تعافيت وفي اعتقادك أنه سيلقاك بدفئه وحنانه وسيشفي لك بقايا آلامك ... لتُفاجأ بأنه في الوقت الذي يجب أن يكون معك ... إلى جانبك ... ينسيك الأيام الصعبة التي قضيتها على فراشك ، يكون على موعد مسبق مع شخص آخر ... وعندما تحتج على ذلك يتهمك بأن التعامل معك أصبح صعباً للغاية ...
ربما شعر عصام بمدى ألمي ...
شعرتُ بدفء شفتيه على يدي ... وبدفء يديه على كتفي ... وسحر صوته :
- سامحيني يا وفاء ... لم أقصد إيلامك ...
كنتُ حينها أبكي بمرارة ...
يقولون إن الدمع الصادق يريح ...
قال لي ثانية :
- وفاء ... كفي عن البكاء ... أرجوك يا وفاء ... سأبقى معكِ ولن أذهب إلى الموعد المحدد ...
سأبقى معكِ ... ولكن لا أستطيع أن أراكِ حزينة ...
أرجوكِ يا وفاء ... ارفعي رأسكِ وحدثيني ...
كنتُ أسمعه ولا أسمعهُ ... وكنتُ حينها أستنشق رائحة دخانه ... دخانه الذي كنتُ أودُّ أن أؤلف دواوين شعر لما يفعله بي ... وللأثر العميق الآسر الذي يتركه بداخلي ... حضرني قول للشاعر نزار قباني:
«دخن فأنا كامرأة يغريني
رجل في لحظة تدخين، ورمادك ضعه على كفي
نيرانك ليست تؤذيني»
فكيف إذا كان هذا الرجل هو عصام غاية الطلب ومنتهى الأرب؟!!.
رفعتُ رأسي وقلتُ له :
هل أصبح التعامل مع إنسانة تهواكَ إلى حد العبادة صعباً ؟!
هل أصبح التعامل صعباً مع أنثى ترغب فيك كل يوم ... بل كل ساعة... لا بل كل لحظة من لحظات عمرها ؟!
هل أصبح التعامل صعباً مع من تشعل نفسها لأجلك وتقدسك وتحترق كفراشة حول ضوء عينيك؟!
هل أصبح التعامل صعباً مع من قرنتْ عمرها وحياتها وروحها معكَ وبكَ؟!!… أم أنك أنت الذي لا يعرف كيف يُعامَل هذا الصنف من النساء ؟!!
نظر إليَّ بحزن بليغ … والدمع حبيس في عينيه واكتفى بالصمت...
اقتربت الساعة من الثانية عشرة ظهراً ... نهضتُ واقفة وقلتُ له :
- هيا يا عصام اذهب إلى موعدك!!!
- لن أذهب وسأبقى معكِ ...
لم أجبه بشيء وإنما حملتُ أغراضي ومشيتُ ... وحمل لفافة تبغه ومضى ...
* * *

كنتُ في طريقي إلى المنزل تهرب آمالي إليك ...
تتوق إليك أهدابي وأجفاني ...
أتوق لجنون يديكَ ... وكلما شّرقْتُ بالحب إليكَ ... وجدتكَ مغرباً عني...
وشتان يا عصام ما بين مشرِّقٍ ومُغَرِّبِ ...
ما زال صوتكَ يسري في دمي ... وأوردتي ... ويتسرب في أعماق أعماقي..
ومثلما أحببتك ... سأرحل عنك بصمت ...
صمتي الذي لم تدرك معناه يوماً... صمتي الذي كان يجنبنا الكثير من الآلام والمتاعب...
صمتي الذي ما كنتَ لتحاول يوماً فك أسراره الدفينة، وحل رموزه الخبيئة ...
سألملم دفاتر أشعاري ... وأعود وحدي وحزن العذارى يملأ كياني ويغمر وجداني...
كيف لي أن أستمر في هواك وأنا مقيدة بسلاسل من الآلام والدموع والجراح ؟
كنتُ أشعر بقرارة نفسي أنني يوماً ما سأعود وحدي من دنيا الأحلام إلى دنياي ...
كيف لقلبك أن يجرح من كان سيهواه عمراً ؟!!!
من أين أتيتَ بكل تلك القسوة يا عمري ؟! ...
أي حبٍّ هذا الذي رمتني إليه الأقدار ؟ وأي هوى هذا الذي رميتُ نفسي فيه ...
آلامٌ ... وجراح... ودمع... وترحال ... وغربة روح ... وسطوة ألم!!!
وصلتُ المنزل ... قرأتُ أشياء كثيرة وكتبتُ أشياء أكثر...
كانت كلها غائمة الملامح ومن دون معنى واضح ... ولكني كنتُ أريد أن أشغل نفسي بأي شيء أسلوك به ويلهني عنك ...
كانت مرح قد رحلت إلى فرنسا ... وكنتُ أشعر أن وجودها في هذا الوقت بالذات شيء ضروري ...
اختليتُ بنفسي في غرفتي ...
وكثيراً ما كنتُ في جلسات خلوتي أعقد مقارنات بين ما يعجبني بك يا عصام ... وما يؤلمني منك ...
فما يعجبني بك أنك نادر الوجود بشخصيتك الرائعة الهائمة في فضاءات الأحلام ...
وما يؤلمني منك تلك الشخصية الصارمة الحاسمة في لحظات الغضب...
ما يعجبني بك تلك العقدة الساحرة التي تتكون بقدرة الخالق على حاجبيك حينما أعاتبك ...
أكادُ أمطرها قُبَلاً ...
وما يؤلمني منك أنني حينما أعاتبك تحسب عتابي لك خصاماً وتجريحاً...
ما يعجبني بك لفافة التبغ التي تشعلها وتنفث دخانها لساعات حين تصفو ...
وما يؤلمني منك لفافة التبغ التي تشعلها وتنفث دخانها بثوانٍ حين تغضب ... ثم ... تمضي عني وترحل !
ما يعجبني بك كبرياؤك في لحظة الصفو...
وما يؤلمني منكَ غرورك اللامتناهي في لحظات الغضب ...
أعاتبك وأنا أمتلئ حباً ورغبة بك ... وشوقاً وأملاً ... وفرحاً ولهفة ...
فتصمت أو تغضب ... ليملأني صمتك وغضبك ألماً وحزناً ودمعاً وجراحاً ...
ما يعجبني بك تلك الكلمات الرائعة التي تقولها لي بين حين وآخر ... فتردَّ لي الروح، وتعيد إلى قلبي نبضاته ...
وما يؤلمني منك ... تلك الكلمات التي نسيت أن تكتبها لي أو تناسيت... تلك الكلمات التي كانت ملاذاً لي حينما تضيق بي الدنيا... والتي طالما أطربتني بها أول معرفتك بي!!!
ما الذي استجد ؟!
أغرك مني أنك امتلكت حشاشة قلبي واستحوذت وحدك على تفكيري؟ وأنك تربعت على عرش أحلامي وآلامي ملكياً متوجاً بحبي الذي ليس يُسلّم قياده لسواك؟
التقيتك في اليوم التالي بهيبتك المعهودة ولفافة تبغك المعتادة ...
ضممت يدي بين يديك مصافحاً وقلت لي هامساً :
سامحيني يا غالية ... سامحيني يا حبيبة ... فأنتِ تدركينَ كم أحبك !!!
غمرني شعور حينها كنتُ بحاجة إليه منذ زمن بعيد بعيد ...
شعور من فقد شيئاً وبعد بحث طويل وجده فجأة ...
شعور أم فقدت طفلها، وجاء بنفسه إليها وهي تكاد تذوي ألماً لفقدانه، وتطلق آهات الثكالى ...
شعور طفلة يتيمة الأم، فقدت والدها ... والتفتت فجأة لتراه يحضنها بين يديه ويمسح عن عينها دموعها وآلامها؟!…
شعور المحتضر الذي قيل له: "لن تعيش طويلاً ... فالتشخيص لا يُطَمِئنْ" ...
وفجأة ... يعتذر الطبيب المشخص قائلاً :
حدث خطأ ما ... فالتشخيص ليس لك وإنما لشخص سواك ... تستطيع العيش إلى يشاء الله تعالى ...
شعور غريب دافئ لم أستطع له تفسيراً ...
"سامحيني يا حبيبة ... فأنتِ تدركين كم أحبك "...
وآهٍ يا عصام لو أنك تدرك كم أحبكَ !!!
آهٍ لو تدرك أنني أعيش لأجلك !!! وأنني أود أن أكون سماء تُمطرك خمراً وسُكراً ... وأودُّ أن أكون حضناً يقيك برد الشتاء وحرّ الصيف ...
لشدّ ما أتمنى أن أكون الكون بأسره ... أينما اتجهت يا عمري أحتويك بهيامي وغرامي ...
- هيه ... وفاء ... كيف حالك ؟!
نظرتُ إليكَ وكأنك آتٍ من عالم آخر :
- الحمد لله .
ألا تريدين دعوتي لفنجان من القهوة ؟
ترددتُ قبل أن أقول لك :
- لا !!!
سألتني بشيء من العصبية :
- لماذا يا وفاء ؟
- لأنك أنتَ الذي يتوجب عليه أن يدعوني لتناول القهوة ...
نظرتَ إليّ ملياً ، ثم غرقتَ في الضحك وقلتَ بطريقة مسرحية :
- إذاً ... هل تقبلين دعوتي لكِ أيتها الأميرة إلى فنجان من القهوة ؟! وبقبولكِ دعوتي أكون قد تشرفتُ بتحقيق كل آمالي وأمنياتي !!!
أجبتك بشيء من التعالي :
- نعم ... وليكن...
همستَ لي قائلاً :
- أيتها المجنونة ... أحبكِ كما أنتِ وكيفما كنتِ !!!
في مكاننا المعتاد ... أمسكت يدي من جديد وضممتها بين يديك ثم قلت لي:
- هل ما زلت غاضبة مني ؟!
- إلى حدٍّ ما ...
همستَ لي بحنان :
- وكيف السبيل لإرضائك أيتها الحبيبة ؟!
- عصام يا حبيبي ... ألا تدرك أن سؤال الحبيب عن محبوبته واختياره الكلمات الحنونة الصادقة واختياره أيضاً المكان الهادئ للتحدث فيه هو إرضاء لها ؟!
- وفاء ... أنتِ تدركين صعوبة ظروفي ... وتعلمين أني نذرتُ حياتي لجهاد الذي أعتبره كل حياتي بعد رحيل والدته ...
وتدركين أنَّ أمي سيدة متقدمة في العمر ... مما يضطرني للبقاء أطول مدة معها في المنزل ...
ربما شعورك بتقصيري تجاهك والذي لا أجد له أي مبرر مردّه إلى ظروفي تلك ...
فأنا أفضل العيش معكِ تحت سقف واحد ... نتحدث فيه عن أحلامنا وما نود تحقيقه منها ونسعى سوية لبناء مستقبل مشرق وعائلة متماسكة ...
إني أفضل معك كل ذلك على أن نجلس سوية في مثل هذا المكان نتحدث فيه أحاديثاً تشبه أحاديث المراهقين !! ...
لم أشأ أن أردّ عليكَ في هذه اللحظة ، رغم أنّك صدمتني بكلماتك تلك ... بل فضلتُ تأجيل الحديث معك في هذا الموضوع لوقتٍ آخر حتى لا أفسد علينا هناءة هذه الجلسة ... وقلتُ لك :
- كما تشاء يا عصام ...
سألتني:
- ما رأيك بالذهاب إلى بحيرة زرزر؟
- متى يا عصام ؟
- اليوم إن شئتِ ...
- اليوم ؟! لا يا عصام . لنؤجل ذلك إلى الأسبوع القادم ...
- لماذا يا وفاء ؟! … ما الذي يشغلك عني اليوم ؟!
- لا شيء ... لنؤجل الحديث في هذا الموضوع ...
أجبتني بأسى بالغ :
- كما تشائين يا وفاء ... كما تشائين ...
أدركتُ أنني لربما كنتُ قاسية معك في جوابي هذا ... ولكنني أعتقد أنّ عدوى قسوتك قد سرت في عروقي ...
تحدثنا عن أشياء كثيرة ... وكان كل منا يجامل الآخر حتى لا تتسع هوة الألم التي بيننا ...
استأذنتك لأن الوقت قد تأخر ... وخرجنا وكل منا يحمل ألماً بداخله ...
كنتُ أدرك حقيقة ألمك ومداه ... وكان ألمي يشبه ألمك إلى حدٍّ بعيد في عدة نقاط ويختلف عنه كل الاختلاف في نقاط أخرى ...
تألمتَ لأنك كنت تتوقع مني أن أهلل لهذه الرحلة التي طالما ناشدتكَ إياها والتمستها منك ...
ولكنني كنتُ قد وصلتُ إلى مرحلة ، بدأتُ أشعر فيها أنّ كرامتي معك بدأتْ تُذَلُّ ... وأنك لا تذكرني إلاّ حينما يؤثر بك موقف ما ... أو تقرأ عن ألمٍ ما ...
أما أن تحتويني بإرادتك ... فلا ...
أو أن تذكرني وحدك من دون أن أطلب منك ذلك ... ومن دون أن أُجرح بسببك ... أو أتألم وأحزن ... وأقضي أياماً أذرف دمعي دماً ودمي دمعاً ... فلا وألف لا !!!
وكنتُ أدرك بقرارة نفسي أنني أعيش معك مرارة الحرمان ... ولكني ما كنتُ لأجرؤ على البوح بهذا ... وكنتُ أخشى أن أعيش بقية عمري ومرارة الحرمان تلاحقني معك ...
أتُراكَ شعرت بمرارة الحرمان يوماً ؟!!! …

استغربتُ الكثير من عباراتك ...
كنتَ تسمي أحاديث الحب مراهقة ... وكانت تعني الشيء الكثير لي ...
كنتَ تعتبر الحديث عن أحاسيسك تجاهي نوعاً من المراهقة ، في الوقت الذي كانت تعني لي الحب كله ...
كنتَ تعتبر فنجان القهوة معي نوعاً من المراهقة ... في الوقت الذي كان يعني لي الشيء الذي لم تشعره بعد ...
كنتَ تعتبر ضمة يديك ليدي نوعاً من المراهقة ... في الوقت الذي كنتُ أعتبر ذلك علاجاً لكل آلامي ونهاية لأحزاني ...
كنتَ تعتبر احتواء صدرك لي نوعاً من المراهقة ... في الوقت الذي كنتُ أعتبر ذلك البلسم الشافي والدواء المعافي...
كنتَ تعتبر ثورة حبي لك نوعاً من المراهقة ... في الوقت الذي كانت نيراناً تعذبني وتحرقني ...
كنتَ تعتبر إعصار الرغبة في داخلي نحوك نوعاً من المراهقة ... في الوقت الذي كاد هذا الإعصار يفتك بي وأنت تنظر إليه ولا ترأف به ...
مضت عدة أيام ... كان اهتمامك بي يزداد يوماً في إثر يوم...
كيفما التفتُّ ألقى اهتماماً منكَ وأسئلة كثيرة لا أملك الإجابة عنها ...
" من أين أتيتِ ؟ إلى أين ستذهبين ؟! ... ماذا ستفعلين مساءً ؟! كيف هي صحتكِ؟!
وكيف يجري عملكِ ؟! من هذا الذي تحدث معكِ ؟! مع من كنتِ تتحدثين؟… ماذا يريد فلان منكِ ؟...
أسئلة لم أعتد عليها من قبل ... لدرجة أنني بدأتُ أضيق ذرعاً بهذا الاهتمام المفاجئ...
أتراكَ بدأت تغار علي ... هذه الغيرة التي كنتُ أفتقدها فيك ... ؟!!!
أم أنكَ بدأتَ تشعر أنكَ ربما ستفقدني يوماً ... والفقدان شيء لم تعتد عليه يوماً ؟
فاجأتني ذات يومٍ بقولك ثانية :
- وفاء ... ما رأيكِ بالذهاب إلى بحيرة زرزر غداً ؟
كان ذلك من الأشياء البسيطة التي كنتُ أتمناها معك ...
ترددتُ كثيراً قبل أن أوافقك الرأي ...
رأيتُ ابتسامة مشرقة على وجهك وأنت تسألني:
- إلى الغد يا وفاء ؟!
- إلى الغد يا عصام ...
لم يغمض ليَ جفنٌ تلك الليلة...
كنتُ أفكر في الغدِ الآتي ...وأعود بذاكرتي لأول رحلة لي مع عصام ... حينما أغدقني حبَّا... وملأني دفئاً...
تضاربت أفكاري وتشابكت مشاعري من دون أن أستطيع التحكم بها ...
حزن... وفرح ... وشوق وتمنٍ ورغبةٍ وأمل بالغد الآتي ..
لم تفارق عيناي عقارب الساعة ...وكانتا بين لحظة وأخرى تراقبان أفُولَ الليل وشروق الشمس بفارغ الصبر ...
سهوتُ قليلاً في هذه الليلة واستيقظتُ قلقةً وجلةً...
ماذا لو قال لي عصام : لقد ألغَيتُ الرحلة بسبب ظرف طارئ من دون أن أقتنع بهذا التبرير...
تُرى كيف كانت مشاعرُ عصام تلك الليلة؟!
انتقيت اللون الذي يعشقه لألبسه… اللون الأخضر...
كنتُ أريد أن أعبّر له بهذا اللون عن سندس مشاعري التي أختزنها له واخضرار حبي والمسكن الذي بنيته له في مرج قلبي ...
وأردت في الوقت ذاته إيصال رسالة له عن طريق هذا اللون "هاك يا عصام أنا وقلبي أرض لك ولحبك"
أتراه سيفهم مقصدي ؟!!
التقينا في الموعد المحدد … فوجئت بقميصه السماوي الذي أعشقه … قرأت من خلاله رسالة مبطنة:
"وفاء.. إن تأخرنا يوما عن البحيرة اللازوردية ..فها أنا ذا كلي لك بحيرة لازوردية...
همس لي مبتسما:
- هل تأخرتُ؟
- لا.. بل أتيتَ في الوقت المناسب ..
رغم فرحي بلقائنا هذا ..إلا ّأنني لم أكن قد صفوتُ تجاهه بعد …
لم يتحدث كثيراً في طريقنا إلى البحيرة .. وإنما أنا التي كنتُ أشكو له ما فعلته قسوته بي .. وما خلَّفته من آلام …
كثيراً ما كان يلجأ إلى الصمت ويتمترس خلفه ليتقي سهام كلامي وعتابي… وأحياناً… كان يمسك يدي ويقبلها…
قطع صمته الطويل بقوله:
- أشعر بكل آلامكِ التي تحدثتِ عنها والتي صمتِّ عنها …
ولكن ماذا أستطيع أن أفعل ؟ !فأنتِ تدركين أنه ما باليد حيلة!!!
أغضبني جوابه .. وكدتُ أقول له:
لماذا جعلتَ قلبي يتعلق بكَ إن لم تكن باليد حيلة؟!!
لماذا ربطتني بك طيلة تلك المدة وأنت تعرف أنه ما باليد حيلة ؟!
لماذا جعلتني أكاد أموت شوقاً إليك في كل لحظة وأنت تدرك انه ما باليد حيلة ؟!
لماذا لا تتركني أرى حياتي بعيداً عنك طالما أنه ما اليد حيلة ؟!
لماذا جعلتني أهجر عالمي كله لأعيش في قوقعتك في برجك العاجي وصومعتك التي فصّلتها على مقاسك ورضيتُ بذلك و ألف سؤال يطعن قلبي… ألف سؤال يذبح صدري …
هل حقاً أحببتني؟!
وإن كنتَ كذلك يا عصام … فلماذا تؤلمني بشكلٍ مستمر؟! وترمي الكلمات جزافاً من دون مراعاة مشاعري؟!
بل لماذا لم تخطُ خطوة واحدة يا عصام ؟
خطوة واحدة تشعرني فيها أنك فعلت شيئا لأجلي؟!!
إن كنت تحبني حقاً و تريد لنا مستقبلا مشرقا .. فلماذا لا تتحدث عن هذا المستقبل؟!
أنت لا تحبني يا عصام !!
أنت تحب نفسك فقط …
تريد فتاة تملأ حياتك حباً و شوقاً و رغبةً و دفئاً وعطاءً وصدقاً، وحينما تسألك بعض حقوقها تقول لها :
ما باليد حيلة، لتزيدها إحباطا ويأساً من حبٍّ بلا أمل…
كدت أقول له كل ذلك …ولكن عادت اللغة لتخونني … ولم أعد أدركُ ما أريد قوله له …
شعرتُ بيده الدافئة تمسك ثانية بيدي... لأنسى كل ما أردتُ أن أقول له...
قال لي متألماً :
- ما ليدكِ ترتجف يا وفاء ؟! وتبكينَ أيضاً...
لمَ كل هذه الدموع ؟!!
ما بكِ يا وفاء ؟.. نحن ذاهبون لننسى أحزاننا وآلامنا.. لا لندمع ونتألم...
صمتُّ ولم أجبه بشيء ...فقد انشغلتُ بمنظر البحيرة التي لاحت لنا من بعيد ...
كانت مجرد نظرة إليها تنسيني كل آلامي ، وتذكرني فقط بعصام الدافئ...
أخذ عصام مناحٍ عدة ... حتى استطاع أن يختار المكان الأنسب ليركن سيارته ...
نزلنا سوية ... سار باتجاه صخرة ضخمة مطلة على المياه الصافية ...
وضع إحدى قدميه عليها وأسند الأخرى إلى الأرض...
أخرج لفافة تبغ وأشعلها وكأنه نسي العالم ومَنْ حوله في هذه اللحظات...
كانت صورته ساحرة ... ما زالت مطبوعة في ذاكرتي أستعيدها في لحظات الشوق إليه ..
التفت نحوي واقترب مني ممسكا بيدي وأخذني إلى تلك الصخرة قائلا:
ـ انظري وتأملي عظمة الخالق فيما خلق...
كان عصام يتأمل ما حوله وأنا أتأمله واقفا على تلك الصخرة ممسكا لفافة التبغ بيده.. وصفاء الماء أمامه... والخضرة من حوله ... والسحاب يغطي السماء ....
كان منظراً لا يمكن للزمان أن يمحوه من ذاكرتي… كالكلمات الجميلة التي تبقى معنا في الذاكرة… ككلمات أحلام مستغانمي التي قفزت إلى ذهني في هذه اللحظة:
«تفاجئك ألفة الأمكنة، فتستأنف حياة بدأتها في كتاب. كأنك موجود لاستئناف حياة الآخرين..
تدخله كبطل في رواية. تفتحه كما تفتح كتاباً مكتوباً على طريقة برايل، متلمساً كل شيء فيه، لتتأكد من أن الأشياء حقيقية، أو بالأحرى لتتأكد أنك تعيش لحظة حقيقية».
عانق كتفي بيده قائلا:
- "أحبك يا مجنونة"...
كنت مازلتُ تحت تأثير سطوة الألم ...
ألم الحرمان وألم الجرح الذي خلّفه في داخلي ...
لم أستطع التحدث إليه أو بالأحرى لم أشأ ذلك ...
كنت أتمنى أن أكون في هذا المكان منذ زمن بعيد بعيد ... ولكن بظروف أفضل..
لم أرغب أن يأتي بي إلى هنا لحاجتي إلى ذلك فقط ... وإنما كنت أرغب بأن يشعرني بحاجته أيضاً إلى أن يكون معي هنا ورغبته في ذلك ...
كنت يائسة منه ومن حبّه...
عانق وجهي بيديه قائلا :
- ما بك يا غالية منذ اللحظة الأولى من هذا الصباح وأنتِ لست على ما يرام وكأنك لست معي... ما بك يا وفاء؟
شكوت له كل ما ألَمَّ بي وخوفي من مستقبلي معه ان كان هناك مستقبل معه...
وشكوت له إهماله لمشاعري ولحاجتي إليه وقلة اكتراثه بما آلت إليه حالتي بسببه وسبب حبي الكبير له...
نظر إلي مليا قبل أن يجيبني :
- أرجوكِ يا وفاء كفيّ عن ذلك ولا تضغطي علي اكثر من هذا ...
كدتُ أقول له:
"وأنت ألمَ تضغط على قلبي حينما ربطتَ مصيره بمصير مجهول؟!
ألم تضغط على روحي حينما جعلتها هائمة في فضاء حبك من دون أن تحتويها !!!
ألم تضغط على صدري حينما ملأته دموعا وجراحاً وآلاماً؟!
كل هذه المدة التي جمعتنا معاً وأنا أتألم بسببك … وأنت لا تشعر بي ..
كل هذه المدة وأنا أتمنى أن أعامل كأنثى تهوى بصدق وتعشق بصدق وتتشوق إليك كل لحظة ...
سنة كاملة ... بل أكثر وأنت تذبح أشواقي وآمالي بك...
سنة كاملة ... بل أكثر ... وأنتَ تخدش فيها كرامتي وأنوثتي كلّما عبّرت لك عن شوقي إليك ...
سنة كاملة ... بل أكثر ... لم تفكر فيها بحلٍ للآلام التي زرعتها في داخلي وسقيتها بدموعي ...
لا تريد أن تريحني بأن تقربني منكَ ... ولا تريد لي الراحة بالابتعاد عنك ومحاولة نسيانك... أقصد محاولة الانتحار ...
ألا تسمي ذلك ضغطاً نفسياً وجسدياً ... كنتُ أخاف فعلاً أن أُصاب باضطرابات نفسية بسببك ...
لطالما استيقظتُ ليلاً، لأبكي ألمي ... وأبكي وحدتي ويأسي وبعدك عني، وبعدي عنك...
أتُراكَ بكيتَ يوماً بسببي ؟!…
كدتُ أقول له كل ذلك … لكنني لم أشعر إلاّ ولساني يقول له :
- عصام يا حبيبي ... لا أستطيع الاستغناء عنك ... لا أستطيع !!!

كان هذا اليوم من الأيام القليلة التي شعرتُ فيها بحنان عصام وحبه لي.
قبّل رأسي قائلاً:
- وهل تتصورين أنني أستطيع الاستغناء عنكِ ؟
أنا يا وفاء حينما أحببتكِ… كان في نيتي أن أعيش ثانية..
أن أحيا .. ولكن حبكِ جعل عمري قصيدة .. ترنيمة .. لحناً خالداً..
فلم تعد فكرة العيش تكفي، إذ لا بد من التحليق في آفاق الزمن الهارب…
- لماذا يا عصام نجعل الزمن يهرب منا؟ لماذا لا نهرب نحن إليه؟‍‍‍‍‍‍
- افهميني يا حبيبة… وإياكِ أن تتصوري أنني لم أقرأ أفكاركِ اليوم … فوجهك مرآة لكل ما بداخلك… أقرؤك ككتاب مفتوح أمامي …
أنت تعتقدين بأنني أحيا هادئاً لا شوق في داخلي ولا حب ... وليتك تدركين أنك بداخلي كل النساء، كل الأزمنة … وأنك الممكن والمستحيل ...
عجبت لتصوركِ أنني لا أشتاق إليكِ وأنتِ الدفء الذي لا ينتهي .. وأنتِ الشوق الذي لا يهدأ، والعواصف التي لا تريد السكنى إلا في فؤادي...
ـ هل حقاً ما تقوله يا عصام؟! هل حقا ما تقول؟
لماذا إذاً تحيا معي حياة هامشية بدل من أن تكون حياتك مليئة مثل حياتي بالحب والأشواق التي لا تنتهي؟!!!
شعرتُ أن قولي صدمه قبل أن يجيبني متألماً :
_ أنا يا وفاء ؟!أنا أحيا معكِ حياة هامشية ؟ لا يا حبيبتي ...
فكيف أحيا حياة هامشية وحبك بركان مشتعل يقذف السلام والحب ؟!!!
حبكِ نهرٌ أبدي خالد يروي روحي ويتغلغل في أعماقي ويحولني إلى غابة استوائية تهيم فيها أسراب الحمائم والعصافير...
كيف أحيا هادئاً وأنتِ في قلبي قصيدة عصماء لم تنظم بلحن؟!…
تجولين في أوردتي وشراييني ..إن نظرتُ في المرآة أرى وجهكِ...
إن لمستُ يدي أحس بكِ إن تحدثتُ سمعت صوتكِ مع صوتي..
وإن غفوتُ فأنتِ كل أحلامي وأنت أرضي وسمائي...
فكيف أحيا يا عمري مجهولاً وأنتِ التي أعدت لي قلبي بعد أن غسلته بماء وردكِ وجففت أحزانه واعتنيتِ به كأم تعتني بطفلها...
كنتُ أسمعكَ وأنا أذوب في دوامة من العشق معك...
تلك الكلمات التي غَسَلَت عيوني فرأيت الجنة وقد تنزّلت على الأرض...
ماذا أقول لك والكلمات الآن ليس لها أي معنى بعدما شعرتُ بتلك اللحظاتِ بسطوة الحب ؟!!
اقتربتُ منك أكثر وعانقت يداي وجهك الطافح بالرجولة......
قلتُ لك والدموع تغطي وجهي بأكمله :
- "أحبكَ يا عصام.....أحبك...!!"
وكنتُ أسمعكَ ولا أسمعكَ .
- "وفاء... يا وردة بيضاء نقية يا نجمة ساحرة فضية... يا دفئا حنونا، يا سحرا عبقرياً، يا ألقاً خالداً يا كلّ العمر... ويا عمر العمر..
آه يا وفاء كم أحبك.. آه كم أشتاق إليك.. وكم أغار عليك.. «أغار عليك من نفسي، ومني ومنك.. ومن زمانك والمكان..».
أيتها المحبة المعطاءة… ألف أحبكِ لا تكفي.. عمري كله بساعاته ودقائقه وثوانيه يحبك.
لم أدرِكم مضى علينا من الوقت..
كانت الساعات تمضي وكأنها دقائق معدودة..
وأي زمن هذا الذي يشعر به عاشقان ذابا في فضاءات الحب وأطيافه؟.
حتى وأنا في المنزل.. كنتُ مازلتُ أشعر بأنك معي..
بقربي.. تناجيني ... تناديني ...
يلامس هواك شغاف قلبي .. يدغدغ حبك عبرات عيوني ...
يأخذني الحنين إليك كسحابة هاجرت من السماء السابعة لسماء حبك ... ويعيدني محملة بالأمطار ...
أمطاراً ... تهطل من غمامات عيوني ...
ترى‍ .. ماذا يخبئ لنا الغد ؟!.
أتراك تبقى أنت، أنت بحبك هذا ؟ أم أنك ستعود لقسوتك وجراحك؟
ما يدريني؟!
ذهبت للمطبخ وأعددت فنجاناً من القهوة وجلست على شرفة نافذتي أفكر بك..
رن جرس الهاتف.. وكان الصوت مفاجأة لي:
- كيف حالك يا وفاء ؟
- ناجي ‍‍‍‍‍‍‍‍‍!!‍ أين أنت ؟
- هنا في دمشق ..
- حمداً لله على السلامة.. ولكن متى وصلت ؟‍‍‍‍‍ ‍
- وصلتُ البارحة مساء .. وأحببت أن تكوني أول من أسمع صوتها
دهشتُ لقوله..
سألته:
- كيف حالك يا ناجي؟‍!!
- الحمد لله بألف خير… اسمعي… الأسبوع القادم في يوم الثلاثاء لدي محاضرة في المركز الفلسطيني حول " كيفية مواجهة العدو الصهيوني للانتفاضة الباسلة في فلسطين... أتمنى حضوركِ...
- لله درّكَ يا ناجي ..ألا تتعب من المحاضرات؟
ألا تتعب من الحديث عن القضية الفلسطينية؟‍‍
تنام على وسادة القضية..وتصحو على ذكر القضية...
غذاؤك هو القضية..وإن عطشت,فالحديث عن القضية يرويكَ...
إن تحدثتَ فمحور حديثك هو القضية وإن صمتَّ.. تصمت لتفكر في القضية...
ألا تتعب من ذلك يا رجل ؟‍‍!
- وهل يتعب الجسد من الروح يا وفاء ؟‍‍
القضية الفلسطينية هي روحي...هي مائي وغذائي..
هي متنفسي..
هي نهاري وليلي...
- حسناً يا ناجي...سأذهب إلى محاضرتك وسأقترح على عصام أن يحضرها معي...
- شكراً لك يا وفاء وإلى يوم الثلاثاء...
- إلى اللقاء يا ناجي....

عدت إلى فنجان قهوتي ... وعادت أفكاري إليك ...
لم يكن حلماً.. ولا طيفاً .. ولا فكرة عاشق مشتاق للذي يهواه...
الدفء ... والبرد ... و النار... و المطر... و... الهوى !!!
لا ... لم يكن حلماً ...
سحر الكلام مازال يشدو في عروقي ... لعروقي ... دفء الهوى مازال يقتلني ويحييني.. ويجرحني ويشفيني ...
هي ذي عيناك ... هو ذا شعرك اللؤلؤي ... هي ذي الخدود الوردية ...
وتلك هي عروش اليدين ...
آه يا عصام ...
كم سرنا سوية في موكب الهوى غير آبهين بظلم القدر...
هو ذا هواك ينثر عبيره في القلب وفي الفِكر... وهو ذا الحب يتدثر بين الشمس والقمر.. وهي ذي دموع الهوى...
لا ... لم يكن حلماً في الكرى .. ولا فكرة بلهاء شاردة... إنه يوم ... من أجمل أيام العمر !!!
كنا أنا وعصام نستمع إلى المحاضرة التي يلقيها ناجي...
كانت القاعة تغص بالحضور... وكان ناجي بارعاً في تحليل الأمور والقضايا السياسية والعسكرية التي تخص فلسطين...
كانت ملامح وجهه تدل على صدق عواطفه وهو يقول:
- إنَّ الحديث عن شؤون القضية الفلسطينية وشجونها لا يمكن أن يكون في ساعة أو ساعتين... فكل نقطة من نقاط المشكلة تحتاج إلى أيام وشهور...
فخلافات العرب مع العرب...وخلافات العرب مع الأمم المتحدة والمجتمع الدولي وإهمال العرب للقضية الفلسطينية وتقاعسهم عنها.. ومكر اليهود ومؤامراتهم المتواصلة وخداعهم للعرب والعالم...
وهانحن اليوم أو بالأحرى ـ الفلسطينيون اليوم ـ يحصدون ثمار هذا المكر وهذا التقاعس وهذا الإهمال الذي انعكس على كافة مناحي القضية... وبشكل خاص على الفلسطينيين داخل فلسطين...
أما ممارسات الكيان الصهيوني ضد أهلنا فنحن نراها كل يوم ونسمعها من وسائل الإعلام العربية ولكن المؤسف في الموضوع أن المجتمع الغربي لا يرى ولا يسمع شيئاً من هذه الأخبار..
في حين تصوّر الوسائل الإعلامية للكيان الصهيوني ما تريده وما تراه مناسباً لها وتعرفنه على العالم كما يحلو لها ويخدم مصالحها.. وضعف إعلامنا وسذاجته يتحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية في ذلك...
إضافة إلى أنه موجه للمواطن العربي وليس الغربي ...
حينما أنهى ناجي محاضرته تلك وسط تصفيق الجمهور الحاد وإعجابه...
اقترب منا بعد أن انفض المعجبون من حوله وسألنا مازحاً:
ـ هل أخذتما قسطاً وافراً من النوم أثناء إلقاء محاضرتي؟
ضحك عصام لدماثته وظرفه وقال له :
ـ بل كنتَ رائعاً في كل كلمة...
اقتربت السيدة فصيحة من ناجي مصفقة له وبدأت تتفاصح قائلة:
ـ ما هذه المحاضرة الرائعة يا أستاذ؟
ـ شكراً لكِ..
ـ ولكنكَ نسيت التحدث عن الجانب الاقتصادي للقضية الفلسطينية والآثار السلبية التي تركها العدو الصهيوني على الحياة الاجتماعية.. كما نسيت التطرق إلى الناحية العسكرية.. فهذا العدو الماكر يفوقنا كثيراً من حيث طائراته ودباباته ومدرعاته، والمساعدات التي تأتيه و..
ـ أعدكِ أنني في المرة القادمة سأتطرق إلى هذه المواضيع.. وشكراً لحضوركم..
هزَّ ناجي رأسه مودّعاً بابتسامته المشرقة... وغادر القاعة...
التفت عصام إلي قائلاً:
ـ ما رأيك بنصف ساعة في مقهى المركز نتناول فيها القهوة ونتحدث قليلاً؟!…
* * *


الفصل الخامس والأخير
سطوة الألم


جلسنا أنا وعصام في مقهى المركز وقد فاجأني بطلبه هذا...
قال لي :
- أريد أن اقترح عليك اقتراحاً يا وفاء...
سألته:
- وما هو يا عصام ؟
- لا أدري من أين أبدأ...‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
- من النهاية أن أحببت...
- اسمعي يا وفاء...
أنت تدركين أنه ليس لي منزل مستقل... فأنا أسكن في منزل مستأجر مع والدتي وطفلي...
فما رأيك بأن نتعاون معاً لمدة ثلاث سنوات نجمع فيها مبلغاً من المال وبذلك نوفر الدفعة الأولى للمنزل و..
سألته باستغراب:
- هل أنتَ مجدٌ في قولك يا عصام ؟
- ولِمْ لا ..‍.
- هل تعني ما تقول ؟
معنى ذلك أنني سأبقى أعيش حالات الانتظار وألمه كل هذه المدة ؟
ألم تفكر بي يا عصام…ألم تفكر بمدى ما سيسبب لي ذلك من آلام وجراح؟
- ألديك حل آخر ؟ بل هل يوجد حلٌ آخر؟
- دعني أسافر..
- إلى أين؟ ولماذا ؟!!
- إلى الخارج .. أعمل بتخصصي لمدة سنة وأعود بثمن المنزل!..
- أتتصورين أني أستطيع تقبل فكرة بعدك عني سنة كاملة؟
هل جننتِ ..؟
- عصام .. لا أستطيع الانتظار ثلاث سنوات .. مرّت سنة ونصف ونحن...
- ولكننا معاً... نتقاسم الحلوة والمرة...
- عصام!!! هذا يعني أنني انتظرتك أكثر من أربع سنوات!!
- ليس لديّ حلٌّ آخر …
- قلتُ لك أسافر …
- وهل تتصورين أنني أقبل سفركِ وأنا جالس في مكاني هنا ؟!ولمَ لا أسافر أنا؟
- أنت لا تستطيع ذلك .. فلديكَ ظروف تمنعك من السفر… والدتك ستبقى وحيدة وابنك سيفتقدك كثيراً ولن يطيق البعد عنك …
عصام … ثلاث سنوات من الانتظار لجمع المال ستهدنا... ثمّ أنسيتَ بقية تقسيط المنزل!!! وفرشه …
وفاتورة الماء والكهرباء … ثم أنا لا أقبل أن يعيش ابني إلاّ بأفضل شكل ممكن …
- ومن قال لكِ أننا سنأتي بطفل في وقت وجيز …لا أستطيع تقبل فكرة أن يكون لي طفل آخر إلاّ بعد زواجنا بعدة سنوات …
لم أستطع الرد عليه …
لم أكن أعرف أنه قاسٍ إلى هذا الحد … ألا يعرف مقدار حاجتي له ولقربه ؟!! بماذا أردّ عليه ؟..
بل ماذا أفعل وأنا في منتصف الطريق … لا أدري أأعود إليه أم أهجره؟!.. أأنسى حبي له، وأهجر حبه لي وأبقى وحدي أواسي وحدتي وآلامي ؟! أم أسافر وأبتعد عنه من دون عودة ؟!
أأعطي نفسي فرصة لأفكر في حلولٍ أخرى بعيداً عنه؟!
ألا يشعر برغبتي الشديدة به وحاجتي لقربه .. ولولدٍ منه يشبهه يذكّرني به كلما نظرتُ إليه ؟!!
حضرني هنا قول لأحلام مستغانمي في روايتها "عابر سرير " :
"بل أدري خسارة أن أتحسس بطني بحثاً عنك كلّ مرة، ولا أفهم ألاّ تكون تسرّبت إليّ… لا بدّ أن تكونَ امرأة لتدركَ فجيعة بطن لم يحبل ممّن أحبّ.وحدها المرأة تدرك ذلك !!!"
هل انعدمت الأحاسيس بالرّغبة لديه؟!
بدأتُ أستوعب أنه ليس بحاجة إلي ..وإنّما هو بحاجةٍ لتغيير نمطَ حياته… وتساقطت الأقنعة وبدأت الظلمة تزول وينقشع الضباب لأدرك أنني لم ولن أشكّل له في أفقه يوما أي شيء يُذكَر….
وهنا… قررتُ الانسحاب من حياته …
أيقظني صوته من التناقضات التي بدأت تفتك بي:
ـ لماذا صمتّ يا وفاء ؟!
ـ أنا لا أريد أن أعيش في قوقعتك يا عصام … ولا أريد أن أقضي بقية عمري معك لنجمع مالاً ونسدّد ديونا …
هناك الكثير من الحلول ولكنك لا تشاؤها…
وإنني على استعداد للمشاركة بكل ما أملك من المال يا عصام وكل ما أستطيع أن أقدّّمه ولكن ليس على مدى ثلاث سنوات!!!
إنك بذلك تقتلني ثم لماذا تريد أن تحرمني من طفل منك؟!!!
إنك تدمرني يا عصام …تقتلني وتدمرني!!!
ـ أدمركِ ؟!! ما هذا الهراء ؟!! ما هذا الهذيان ؟!!
ـ أصدق ما في الحب يا عصام … حينما يصل المرء بحبه إلى مرحلة الهذيان…
إنني أنثى … محبة عاشقة مفتونة بك…
من حقي أن أتواصل معك .... من حقيّ كمحبة أن أراك بقربي وتراني بقربك... لي حاجات نفسية ومعنوية لا تفكر بها أبداً...
ـ وأنا يا وفاء ...
ألست بحاجة إليك !!!
ـ أية حاجة تلك ؟!!! أنت الذي تطلب مني الانتظار لمدة ثلاث سنوات!!!..
وهل حاجاتنا تُقضى بانتظار كهذا ؟!!!. المرء الذي يشعر بحاجته لآخر لا يحطمه … ولا يدمر حبّه ويخنقه بيديه...
ـ لا أبداً يا وفاء ...
ليس السبب الذي تتألمين منه هو حاجتكِ لي ... ورغبتك بقربي .. لقد رأيتُ الآن أشياء لم أرها من قبل يا وفاء ...
استأذنكِ ... أريد أن أغسل وجهي من حرّ الصيف ...
غبتَ لدقائق معدودة ... كنتُ غارقةً فيها في دموعِ يأسي في الوقت الّذي شعرت به بدمعتك ...
خرجنا سويّةً وكلٌ منا في رأسه ألف سؤال !!!!!...
* * *
لم أعد أفهم عصام ولم أعد أفهم طبيعته كرجل ... وعممته على كل الرجال.. فكلهم على شاكلته..
كل رجل أصادفه في طريقي... في الشارع...في أي مكان.. أشعر بأنه لا يفتش إلاّ عن راحته.. ولا يريد لأنثاه إلاّ أن تعيش تحت رحمته... وفي كنف رعايته..
ثلاث سنوات سأعيشها تحت رحمتك... مقيدة بك.. خائفة من الآتي... ومن أي ظرف طارئ...
ثلاث سنوات سأعيشها خائفة من المجهول... خائفة منك... وخائفة عليك... لا يا عصام... لست أنا الأنثى التي تفتش عنها ...
لم أعد تلك البسيطة الساذجة التي كانت ترضى معك بأنصاف الحلول ...
تدمّرني عباراتك القاتلة:
- "ما بك يا وفاء ؟!.. هل حطّمتُ معنوياتكِ ؟!
- لا... بل حطمتني كلياَ يا عصام !!!
- وماذا تريدين أن أفعل لك؟!!….أأفرش لكِ البحر طحيناً ؟!...
وتقتلني برودة أعصابك وطريقة حلك للأمور :
"- ما الذي يجبرني يا عصام على الانتظار ثلاث سنوات؟!
- تعرفين ما الذي يجبرك على ذلك!!!"
أهكذا يجيب المحب العاشق الولهان؟!
إذاً فقد كنت تستغل ضعفي وحبي الشديد لك!!!…
لم أشأ العودة إلي المنزل بعد ذلك… وإنما سرتُ كالتائهة في شوارع دمشق..
أكلم نفسي وأضرب أخماساً بأسداس..
أهديتكَ يا زهرة عمري حب الأرض للأمطار ... وما رضيتَ ... أهديتك يا قبلة روحي حب العاشق للأقمار... وما رضيتَ ... أهديتك يا مهجة روحي، حبّ الفراشة للأزهار وما رضيتَ ...
أهديتك يا زهرة عمري كل عمري !!!... وما رضيتَ... تريد؟!! .
كنتَ مهجة عمري كلّه … كنتَ حبّ عمري كله وكنت ملاك عمري كله وكنتَ كلّ شيء… كل شيء..
كنتُ الوهم في بعض عمرك !!! وكنتُ الكذبة التي لم يصدقها سواي!!
فماذا بعد من قلبي فماذا بعد تريد؟!
أردتني يا قرة عيني … قصة حب رائعة … وطريقاً منتهاه قلبك… فكنتُ قصة حب لا تنتهي... وطريقاً لا تختصر...
أردتُ أشياء بسيطة ... بسيطة... وما رضيتَ...
وأردتَ أشياء .. وأشياء... وأشياء ...
جارح في مطالبك كنتَ ...
قاسٍ في مطالبك كنتَ... وما رضيتُ ... فما رضيتَ..
فماذا بعد من مواجعٍ وجوارح تريد؟‍‍‍‍! ‍
يبكيك عصفور هوانا الجريح… تبكيكَ فراشات شوقي الذبيح...
قل لي بالله عليك !!!.. هل انتهى تغريد العصفور؟ !! بل كيف تقاوم الفراشات شوقها للأزهار؟!!!..
بنيتَ لي قصراً من الأوهام … فتناثرت على صدري بقايا رماله وتكسرت على صخور الحقيقة أمواجه...
وبنيتُ لك كوخاً من الحبّ .. فما حرّكته الرياح ... ولا هدّته الأعاصير..
لا يا عمري !!..لا!!..
احترمتُ كلّ ما يرضيك وما رضيتَ.. وفنيت نفسي لأجلكَ وما رضيتَ...
لا يا عمري !!! لا !!!!
وحملت لك بيديَّ هديتين .. قلبي في كفٍّ وعمري في كفٍّ ... وما رضيتَ !!!
وحمَّلتني يا عمري هموم عمري ...
مواجعك بكفٍّ...وجراحي بكفٍّ... ورضيتُ ...
فما رضيتَ ...
فما الذي تخبئه لي بعد من مواجعٍ وجراح ؟!!! وما عاد لديَّ شيءٌ يرضيكَ ؟!!!
وأنت الذي لا شيء يرضيكَ ؟!!!
لم أكن من معشر النساء اللواتي يطلبن الحب من الرجال...
وإنما كنتُ تلك الفتاة التي تريد أن يشعرها من اختارته من العالم أجمع بحاجته لحبها ودفئها ... وبأنها كل ما يملكه في هذا الكون الفسيح...
لمَ لا تريد فهمي وفهم مشاعري ودوافعي ؟!
ألأنَّ مشاعرك ودوافعك كرجل تختلف عن مشاعري ودوافعي كأنثى ؟!
لا لا ...
لم أعد أحتمل لا مبالاتك بأحاسيسي ...
ثلاث سنوات تريدني أن أعيشها بانتظار ...
انتظار أن تكون بقربي ...
انتظار أن نعيش تحت سقف واحد ... نتقاسم أتراحنا وأفراحنا سوية ... انتظار أن يتحرك ابنك بأحشائي ...
أواه من حبيب أهداني في بداية حبه لي بحيرة دافئة لازوردية ...
وفي النهاية فجَّر من عيني بحراََ من دموع اليأس تصطخب فيه أمواج أحزاني ...
وتعصف به رياح سطوة الألم....
لِمَ تزرع بي شعور امرأة في المنفى تنتظر مرور سنينها حتى تخلص من الأسرِ؟!

الحب ليس قيداً يضعه الرجل في يد محبوبته ...
الحب ليس قضباناً من حديد يحاصر بها الرجل محبوبته ... الحب ليس عبودية ودموعاً وأحزناً وآلاماً ... الحب ليس خضوعاً لانتظار مرير ...
الحب معجزة إلهية يهديها الله لقلبين صادقين ...
أتُراكَ كنتَ صادقاً بحبك لي ؟! أشكُّ في ذلك ..
لِمَ قيدتني بهذا الحب وأنت تدرك منذ البداية أنه من المحال أن نعيش سوية ...
لِمَ قيدتني بحبك وأنت تدرك تماماً ماهية ظروف المعيشة ونحن لا نملك كسرات خبز منها؟! … أكنتَ بذلك تحاول أن تبعدني عنك ؟! أعتقد !!!
آهٍ من عذابات الروح التي تضمنا حين ينبذنا الحبيب !!
لم أدرك كيف وصلتُ إلى المنزل ...
ولم أدرك كم كانت الساعة ...
كم من الوقت قضيته وأنا أهذي بحبكَ !!!
هل حقاً هذا هو الحل النهائي الذي لا يوجد غيره؟!!
يقولون إن الحب يصنع المعجزات ...
ولكني رأيتُ أن الحبّ معجزة وكلّ ما فيها مستحيل ...
استيقظتُ صباحاً على صوتِ رنين الهاتف ..
كان في الطرف المقابل السيد مدير المدرسة:
- صباح الخير...هل أيقظتك؟!
- صباح الخير يا أستاذ...
- مبروك... لقد كُرِّمتِ من قبل الجمعية العامة لرعاية المكفوفين...وذلك لما غرستهِ في نفوس تلاميذنا الأعزاء، ولجهدك المبذول في هذا المجال...
ستتسلمين شهادة التقدير في اليوم الأول من الشهر القادم في مقر الجمعية حيث يُعقد مؤتمرها هناك وحيثُ يكرّم بعض الزملاء وأنتِ في طليعتهم...
ـ أشكركم على هذه الثقة...
ـ تستحقين ذلك.. لا تنسي في السادسة من مساء الأول من الشهر القادم...
ـ شكراً لك...
السادسة من مساء الأول من شهر تموز...
كان كل تلاميذي حاضرين... والأساتذة أيضاً..
كان الأستاذ عبد المعطي مرتدياً طقماً كحلي اللون .. لأول مرة أراه فيه.. وكان يحمل في يده سبحة زرقاء ...أما شعره فقد صفف لأول مرة على الطريقة الفرنسية ...
اخترتُ مكاناً قريباً منه وجلستُ ساهمة بعض الشيء...
وكانت السيدة فصيحة تجلس إلى جواره وقد ارتدت ثوباً أسوداً، يشف عن ذراعين كأنهما جذعا نخيل.. وكانت كعادتها تكشر عن أنيابها معتقدة أنها تبتسم ابتسامة تشف عن أسنان لامعة.. وكانت تتحدث هامسة مع الأستاذ عبد المعطي.. كم كانا يليقان لبعضهما؟؟.
همهمات من هنا وهناك ... وصخب...وأصوات متمازجة... وتصفيق جمهور...
لم أكن أسمع بأذني وإنما كنتُ أرى بعينيّ ...
كنتُ أفكر بكَ وبما آلت إليه علاقتنا...
هل حقاً افترقنا ؟!
"- وفاء عبد الحي ..."
هل حقاً أنت الذي أقسم لي يوماً أن لا يهجرني مهما كانتِ الأسبابُ ؟!
"- وفاء عبد الحي ..."
هل حقاً أنت الذي ابتدع لي قصة حبٍّ كانت الأكثر عذوبة والأكثر عذاباً؟!
"وفاء عبد الحي !!!"
هزني عصام من ورائي قائلاً :
- ألا تسمعين اسمكِ يا وفاء...هيا إلى المنصة ...
مشيتُ متثاقلة...
كنتُ أرى ابتسامات من هنا و هناك...
هاهو جهاد وأحمد ...
هو ذا ناجي يرفع لي يديه ويبتسم ...
وهو ذا الأستاذ عبد المعطي يصفق بفرح ...
وهاأنا ذا أتسلم شهادة التقدير من رئيس الجمعية الذي كنتُ أشعر بأنه يتحدث إلي... ربما كان يشكرني...
هززتُ له رأسي.. ومددتُ يدي مصافحة... وتسلمتُ الشهادة...
شعرتُ بألمٍ في صدري...لم أدرِ ما سببه...
عدتُ إلى مقعدي شاردة عن كل ما حولي ...
جلستُ قليلاً أتلقى التهاني من الزملاء...
ثم ذهبتُ إلى منزلي... وكالعادة سرح عقلي في تفكير عميق عميق...لم أستيقظ منه إلاّ حينما هرعتُ يوماً... وفي الصباح الباكر إلى المكان الذي كان لي فيه أحلى ذكريات عمري...
* * *
البحيرة اللازوردية... ولا شيء إلاّ البحيرة اللازوردية...
هذا كل ما طُبعَ بذاكرتي على مدار السنة ونصف السنة...
لم أدركُ يوماً يا فؤادي أنك تحمل بين طيات قلبك قسوة لا حدود لها...
كيف لعاشقة مثلي أن تغامر بعمرها وتنتظر الفرج الذي يأتي ولا يأتي...
أي حب هذا الذي ادّعيتَهُ ؟!
هل الحب انتظار وسطوة ألم؟!
هل حقاً أنت هو الذي جعلني أبحث بداخله عن نقاء أحلامي وعن أحلام النقاء ...
ليقتل في النهاية مشاعر كادت أن تودي بي !!!
أي انتظار تريدني أن أعيشه وأنا التي عاشت معك فترات أحلام ...كلها انتظار ؟!
أي سنين انتظار تريدني أن أعدك بها وأنا أكره لحظات الانتظار !!!
ماذا تتوقع من قلب طحنت مشاعره الجبارة بقسوتك وأنانيتك ؟!!!
جعلتني أبحث بين الوجوه عن أي وجه ينسيني حبك والآلام التي سببتها لي ...
لا... ليس حباً صادقاً ما تشعرني به ... وإنما تملك لأجمل سنين عمري...
ثلاث سنين بأيامها ولياليها ...
أيامها التي سأقضيها أجمع فيها آلامي وأحزاني ودموعي، لأنثرها وحيدة على فراش ليالي هذي السنين ... أرغب حضورك ... أرغب قربك... أرغب ضمّة لصدرك...
وفي الوقت نفسه تحضرني رغبة بالانتحار ...
ما الذي قدمته لي طيلة هذه المدة إلاّ الدمار؟!
دمار لمشاعري … دمار لحبّي … دمار لرغبتي وشوقي إليك ؟!…
حوّلتني من أنثى تشتعل شوقاً إلى شمعه متهالكة ...
ليتني احتفظتُ بمشاعري تلك وحبّي اللامتناهي لرجل غيرك ...
رجل يشعرني بأني كل ما يملكه في هذه الدنيا ... رجل يفتش عن أسلوب مريح ليستطيع العيش معي... رجل يعي رغبتي به وشوقي إليه كأنثى وحبي الكبير له... لا رجل يذل رغبتي و يهين شوقي إليه ... لا رجل مهمل لأحاسيسي ومحطم لكبريائي ...
أصبحتُ أشعر بالذل كلما حدثتك عن مدى شوقي إليك... أصبحتُ أشعر بإهانة كلما فُتِحَ موضوع مستقبلنا سوية ...
هل هذا ما كنتَ تخطط له !!!
أن تعيش تحت مظلة حبي لك طيلة هذه المدة ...ثم تقترح اقتراحاً يستحيل الوصول إلى حل له !!!...
أي نوع من الرجال أنت ؟! أحقاً خُدِعتُ بك؟
أذكر يوماً حينما كنا معاً في إحدى اللحظات السعيدة التي تنضح عذوبة وسكراً، أنك قلت لي:
- يوماً ما ... سأجعلك تبكين من سكر أحاديث الحب ولهفته ... قلت لك بتحدّ بالغ :
- لن تستطع فعل ذلك يا عصام ..
سألتني :
- أتراهنين ؟!
أجبتكَ:
- بالتأكيد.
وهاأنا ذا... تُغرقني دموعي في لحظات سُكْرِ يأسي وألمي و هذياني ... لأخسر معك رهاني ...
لا يا عصام...
لَمْ تدرك بعد يا حبيبي شعور الأنثى المحطّمِ كبرياؤها والمحطمة آمالها وأمانيها على صخرة اليأس .....
لم تدرك بعد قيمة عمر الأنثى المحبة الصادقة وهو يمضي بعيداً عمن يحب... حتى لو كان هذا العمر مجرّد ساعات أو ليالٍ قصار...
مَرّ أسبوعان على غيابكَ القاتل... كل يومٍ يمضي وكأنه ألف سنة ...
وماذا فعلتَ بهذه الأيام التي ابتعدنا فيها إلاّ زيادة لسطوة الألم؟!
هل حقاً لم يكن هناكَ الوقت المناسب لتطمئن علي؟!!..
تدهشني تبريراتك وعباراتك المنمقة...
هل أنتَ الذي وعدني يوماً أن لا يزعجني بشيء وإذ به يغرس نصال الألم في داخلي !!؟!..
ماذا تتحدث الآن عني بعد أن هجرتني ؟!
ماذا تتحدث عني بعد تجنيك على قلبٍ لم يهو سواك ؟! و بَعْدَ هذه الجراح العميقة التي غرستها بروحي ؟!
تقتلني جروح الروح...
أي سبب هذا الذي جعلك تقطع الصلة بمن وهبتك عمرها!!؟
أي شيء ذاك الذي جعلك تحصي عليّ ما لم آتِ به ؟!
أية قطيعة تلك التي عنونتَ بها أجمل أيام كان من الممكن أن نعيشها ؟!
تصفو لي يوماً وتكدر لي شهراً … وتمتلئ سخطاً وصداً ...
أي ذنب اقترفتهُ يداي حتى تعاقبني بتلك القطيعة وهذا الإقصاء والجفاء؟!
آه من حياتي التي قضيتُ معظمها آلام و أحزان وفقدان بفقدان ... سنة واحدة كان عمري حينما فقدتُ حنان الأم... أمي التي انفصلت عن أبي وأخذت أختي مرح معها وتركتني أنا الطفلة التي لا زالت تحبو... وحيدة مع أبي لأنتقل معه إلى منزل جدي والده ... هناك حيث ذقتُ مرارة الألم من زوجة عمي التي أزعجها وجودنا في المنزل معها ...
وهناك كبرتُ وكبر الألم معي ... وكبر الحزنُ ...
وكم ذقتُ العذاب على يدي تلك المرأة ذات القلب الخالي من الرحمة.
كانت لا تتركني آخذ القسط الكافي من النوم بحجة أنه يجب عليّ أن أساعدها في أعمال المنزل ... وطالما استغلت غياب والدي لتذيقني أمرّ العذاب ...
أذكر يوماً كيف صفعتني على خدي لأنني اعتذرتُ عن العمل معها بسبب وعكة صحية ألمّت بي ولم أكن قد تجاوزتُ الثامنة من عمري بعد ... لكنها لم تصدقني واعتبرت ذلك حجة كي أتهرب من مساعدتها فما كان منها إلا أن صفعتني على خدي الأيمن صفعةً ما زال ألمها يسري بأوصالي كلما ذكرتُ ذلك اليوم ...
ومن يومها انتقلتُ أنا ووالدي إلى منزل استأجره كي يجنبني قسوة تلك المرأة التي كنتُ أشك أنها أخته ...
في ذلك الوقت كان يتردد علينا صديق للعائلة يعمل موجهاً تربوياً في إحدى المدارس والذي طلب من والدي أن أنتقل من مدرستي إلى المدرسة التي يعمل بها حتى أكون في رعايته ...
وانتقلتُ إلى هناك ... وكم كنتُ أتألم حينما تتحدث زميلاتي عن أمهاتهنّ وكيف تتعبنَ وتتضحينَ لأجلهنَّ في الوقت الذي كنتُ أتألم لغياب والدتي وبعدها عني ...
ونلتُ شهادة الابتدائية ... وكان عمري حينذاك عشر سنوات ...
وقضيتُ الصيف نصفه في مدينة اللاذقية أنا ووالدي حيث استأجر شاليهاً ... ونصفه الآخر في بيروت عاصمة الجمال ... وكان كل همه أن يخفف يتمي ووحدتي ...
وكم كان حنوناً ... وكم كان صديقاً ... ولم يبخل عليّ حينها بشيء ...
كان كالأم التي تحتوي هموم وآهات ابنها ... وتضمه بحنان لصدرها ...
انتهت العطلة الصيفية لأبدأ دراستي في المرحلة الإعدادية ... وكنتُ حينها أحاول جاهدةً أن أقنع والدي أن يستغني عن المرأة التي كانت تأتي كل يوم لتنظف المنزل ... إذ أحببتُ أن أفعل ذلك بعد انتهائي من دوام المدرسة ...وبدأتُ أتعلم الطبخ من كتاب اشتريته ... وكثيراً ما كان يمنعني والدي من ذلك ... ولكني كنتُ قد مللتُ المطاعم والأكل الجاهز ... ورضخ أخيراً لطلبي ... وكم كنتُ أفاجئه بهاتف أطلب منه أن يرسل لي سائق الشركة لأرسل له وجبة الغداء حينما كان يعلمني مسبقاً أنه سيتأخر في عمله ...
وكثيراً ما كنتُ أحرق الوجبة أو أحرق يدي قبل أن أتعلم جيداً ... ولم أتقن ذلك إلا حينما وصلتُ للصف التاسع ... حينما تعرفتُ على زميلة أصبحت الصديقة المقربة ... والتي طالما دعتني لمنزلها والذي تعلمتُ فيه ومن والدتها كل ما يخص الأعمال المنزلية ... وكانت تعاملني كما تعامل ابنتها مها ... لم تبخل عليّ برأي أو نصيحة ...وكنتُ أحب مها أشد الحب وتعلقتُ بها حتى أصبحت كأختي ... وصارت جزءاً من كياني ... وصرتُ جزءاً منها ... نذهب للمدرسة سوية ونجلس على المقعد نفسه ونغادر المدرسة سوية ... وكثيراً ما كانت تأتي لمنزلي لندرس ونحل واجباتنا المدرسية سوية ... وطالما أفصحتُ لها في رغبتي أن تكون أمي كأمها بجانبي تواسي آلامي وتمسح دمعتي وتعينني في وحدتي ... وكم كانت رائعة حينما تقول مواسية لي :
_ أمي هي أمك يا وفاء ... ونحن عائلة واحدة ...
باختصار كانت مها تلك الأخت التي احتوت آلامي ... وكأنها توامي.
كنا قد تعاهدنا أن نكون من المتفوقين ونهدي تفوقنا لوالدي ووالدها ووالدتها اللذين طالما تعبوا لأجلنا ...
كنا في سباق مع الزمان ومع بعضنا ... من منا يا ترى ستهدي أولاً تفوقها لأهلها ؟... مضت أولى أيام الامتحان على خير ما يرام ...
وجاء موعد امتحان مادة الرياضيات ...
استيقظتُ صباحاً ... وجهزتُ نفسي في انتظار صديقتي لنذهب سوية للامتحان ...
لأول مرة تتأخر مها عن الموعد ...
اقترب موعد الامتحان ولم تأتِ بعد ...
اتصلتُ بها مراراً ...
لم يرد أحد عليّ ...
حملتُ نفسي وذهبتُ لمنزلها ... فلم يعد لدينا الوقت الكافي ...
كان الباب مفتوحاً ... اقتربتُ منه شيئاً فشيئاً ... صوتُ قرآن ... دخلتُ وجلة ... خائفة ... وعرفتُ حينها أن مها قضت ليلاً في جلطة دماغية ... لم يستطع جسدها النحيل أن يتحملها ... ولم تستطع سنواتها الأربع عشرة أن تقاومها ... ولم أستطع تصديق الخبر ...فوقعتُ أرضاً ... ورحتُ في غيبوبة طويلة ...
استيقظتُ في المشفى على وجه والدي يبتسم رغماً عنه محاولاً تخفيف وطأة الألم ووقع المفاجأة عليّ ... وكان بجانبه الموجه التربوي الأستاذ عبد المعطي.
سألتُ والدي :
_ أين مها؟ هل حقاً انتهت حياتها!!! أحقاً لم يعد لي أختاً !!! أين مها يا أبي ؟!..
قال لي محاولاً تخفيف ألمي:
_ هذا قضاء الله يا وفاء ... اعتبريني مها صديقتك كما أنا والدك يا حبيبتي ...
لم أستطع أن أرد عليه ... إذ عدتُ لغيبوبتي من جديد ...

كان وفاة مها بالنسبة لي مصاباً أليماً وصدمةً كبيرةً جعلتني أنزوي لنفسي وأخاف من تكوين صداقات أخرى ...
وكان جرحاً عميقاً لم يلتئم رغم وصولي للشهادة الثانوية ... وكنتُ كلما ذهبتُ إلى المدرسة أو عدتُ منها أو درستُ للامتحان أذكرها ...
وكم أدمعت عيوني وأنا أحضر لامتحان الشهادة الثانوية وحدي ... لو كانت مها معي لكنا درسنا سوية ...
صحيح أنني نجحتُ في امتحان الثانوية وبتفوق ... لكني لم أشعر بالسعادة كغيري... فما زال الجرح عميقاً... عميقاً... عميقاً .
ذهبتُ إلى شركة الألبسة النسائية التي يملكها والدي لأبشره بنجاحي وتفوقي...
رأيته في مكتبه مع الأستاذ عبد المعطي ... وكانت الدموع تنسكب من عينيه ...
جفلتُ ... وسألته عن سبب ذلك ...
صمت صمتاً أخافني وهزني من الأعماق ... سألني عن النتيجة فأجبته على مضض ...
ابتسم قائلاً:
_ أتمنى أن تستمري في تفوقك هذا يا ابنتي ...

وما هي إلا أيام حتى فقدته ... فقدتُ أبي الذي كان سندي الوحيد في هذه الدنيا ... فقدتُ الحب والدفء والأمان ... فقدتُ الطيبة والصدق ... ولم أصدق بادئ الأمر... ولكني رأيتُ هذا الوجه القمري قد فقد رونقه وبردت أوصال جسده وغاب عن الحياة ...
قيل لي أنه كان في اجتماع مع مرؤوسيه ... وإذ به يعتذر فجأة عن إتمامه ... ويقف وكأنه يودعهم ... ثم يفقد نبض قلبه ... لأفقد معه نبض حياتي ...
في المشفى ... وحينما كنتُ أتلقى العلاج من صدمة عمري الثانية ... أخبرني الأستاذ عبد المعطي أنّ والدي كان يشكو من القلب وكان يعلم أن أيامه معدودة ... لكنه لم يشأ أن يخبرني خوفاً على صحتي ومشاعري ... وطلب مني أن أعتبره كوالدي الذي أوصاه بذلك ...
لم يكن عمري قد تجاوز الثامنة عشر عاماً حينما كنتُ أتلقى الحزن تلو الآخر والصدمة تلو الأخرى...
وها أنا قد أنهيتُ دراستي الجامعية في منزل أختي مرح التي كانت تكبرني بثلاث سنوات والتي عادت فور سماعها بنبأ وفاة والدي ونقلت دراستها الجامعية إلى دمشق لتكون قريبة مني وكانت في السنة الثالثة وكنتُ في السنة الأولى... وأسكنتني معها في المنزل الذي اشتراه لها زوجها... ولكنها كانت تسافر إليه في إجازة نصف السنة والإجازة الصيفية قبل أن يعود إلى دمشق ولكنه مع ذلك كان عمله يتطلب السفر ...
واليوم وقد تجاوزتُ الأربعة وعشرين عاماً قُدِّرَ لي أن أعيشها بحرمان ما بعده حرمان ... قدر لي أن أفقد أمي منذ الصغر ... ثمّ أفقد أعز صديقاتي ... ثمّ أفقد أبي صدر الأمان ... ثمّ أفقد حبي ...


أسبوعان لم تسأل فيهما عن الجرح الذي غرسته في قلبي..
أسبوعان .. لم تسأل فيهما عن الدمع الذي خلّفته في عيوني …
أسبوعان لم تسأل فيهما حتى عن صحتي….
أذنبي معك أنني أحببتك حد الألم وأن حبك سيدي؟!!
لا!!
بل ذنبي أنني أحببتك لدرجة سطوة الألم!!!
فهشمّي يا صخور السطوة قلبي كما يحلو لك … وأطلقي عليّ رصاصة الرحمة يا أحزان البعاد ……. وانغرسي بصدري يا أشواك الفراق… وأدمي الروح والقلب … والجسد !!!
وأسدل ستارتك على قلبي أيها الظلام القادم من غياهب الحبيب...
مرّ أسبوعان آخران على غيابك…
أي حلمٍ هذا الذي راودني معك ؟! أيا حزنٍ العذارى!!!
أيّ وهمٍ هذا الذي استيقظت منه؟! أيا دمع السهارى !!
أهذي وحدي … أهذي كالسكارى!!
أواه يا حلمي الذي تناثرت أشلاؤه فوق يدي !!! أفلت شمسي من قبل الشروق، وصرت زبيباً في زمان الحصرم..
ماذا تقول اليوم عن حبٍّ وُلِدَ على أطراف البحيرة اللازوردية ونُحِرَ على أطياف أحلامي الوردية…
فهناك وُلِدَ الصباح … وهناك بزغت شمس الهوى … أنت … وأنا … والبحيرة اللازوردية….
وهناك اتحدت أرواحنا … ورحتُ في غيبوبة عشقي لك…
أواهٍ من ذيّاك الهوى …حينما كان الحلم يعبر أسوار قلبي … ويخترق شعورك حرمة أسراري الدفينة …
هناك…. ألف لفافة تبغٍ أشعلتها …
وهناك… ألف كأس خمرٍ تجرعتُها...
وكل ما حفر بذاكرتي من ذاك اليوم ... بقايا أحلام وردية ... أذكر منها طيفك وعشقك اللانهائي... وأنا وغيبوبتي الأبدية... وصفاء البحيرة اللازوردية...
مضى شهر وأنت لا تسأل عني... فأي هوى ذاك الذي ما برح يفتك بي!!! أية مقصلة تلك التي رميتُ بكَ يا قلبي إليها!!!
أواه من حلمٍ دغدغ من عمري سنيناً وأحرق الباقي ... أية قافية تلكَ التي أسكنتك بها دواويني وأشعاري ؟!!.. وأي جرحٍ ذاك الذي خلّفَته لي قصائدي وأفكاري!
يا ويل ذاكَ القلب الذي كنتَ فيه الماء للشجر!!!!...
يا ويح فؤادك الذي سرق من عمري حباتِ المطر....
أواه من حلم ... زرعتُ فيه في البداية كل ما أملك من بذار الحب والعطاء ...لأقطف الهباء الذي كان كل ما جنيته من زرعي ...
يا حبيباً غرستُ بفؤاده نعمة الحب واقتلع من أعماقي جذور حبي ...
أسمع صدى ضحكاتك الوردية و الدمع يملأ أحداقي … وأراك ساهراً مغرماً بليالي القمر.. وقد أتعبني سُهدي وسهري …
أي قلب ذاك الذي ركعت له يا قلبي !!! وقدمتَ له طقوسَ العبادة … فأعادكَ وحيداً … تحمل آلامكَ بيدٍ… وبيدك الأخرى حملت القربان…
آه من لياليّ التي ضاعت على حدِّ سيفكَ الجارح…
ومن عَبرات كلما غفت عيوني لحظة أحرقتها بحنين الشوق للقُبل...
تقول يا قلبي إنك أهديته قصة حبك معه… لو قرأها لسال دمعه أنهاراً من شدة الولع…
لكنهُ أبى حتى أن يراك وأنت الذي أريته نور الشمس وضوء القمر!!!
آه من جارحات السنين التي سأنتظرها لحين الموعد … أو أبقى وحدي فيها …
يا حلم عمري الذي أبى أن يستكين في هدب الجفون…
آهِ يا اخضرار أحلامي الذي داس الحبيب على عشبه… فمات العشب… وذبل الزهر…
كنتُ ما أزال على ضفاف بحيرة زرزر ...أستعيد ذكريات حبي معك...
غربت شمس الأصيل ... وتوسط القمر كبد السماء ...
لم أكن قد تناولتُ في هذا اليوم إلاّ عدة فناجين من القهوة ...
تحاملتُ على نفسي ... وقمتُ عن مقعدي الذي حَجَزتْه آلامي طيلة هذا اليوم... وتناثرت عليه بقايا جراحي...
هو ذا حبي مصلوب على أوردتي التي كانت تنزف لك آخر قطرة عشق أبدية ...
وهل حقاً أينما وُجِدَ الحب وجد الألم ؟!…
عدتُ متثاقلة … تائهة … لا أدري بمن أو بماذا أفكر...
ثم سِرْتُ... وسرت... من دون أن أدري إلى أين المسير.؟!!
وأنا شهيدة الحب وشاهدته..
وأنا التي ضيعها الحب، فتاهت في دروبه….


انتهـــت

6- كانون الثاني- 2004



#أماني_محمد_ناصر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شيء ما في داخلي يهمس لك
- دم العذارى ليس لك
- نبض الأماني
- سودٌ عيناك كأحزاني
- خبر عاجل
- يا لبحركَ
- بتوصي شي؟؟
- تقبرني... تقبشني
- كل عامٍ وأنا أفتقدك
- سأسرق... ولتقطعوا يدي
- كل لحظة وقلبك بخير
- صفحاتٌ من رواية -سطوة الألم- 2
- صفحاتٌ من رواية -سطوة الألم- 1
- لغروب الشمس معنىً آخر
- خبّرني يا طيرْ 1
- نداءاتي2
- نداءاتي1
- سواد النفط والأقزام الأربعة
- فجل ونعنع
- معاملة أسرى الحرب وانتهاك الولايات المتحدة الأميركية وإسرائي ...


المزيد.....




- منارة العلم العالمية.. افتتاح جامع قصبة بجاية -الأعظم- بالجز ...
- فنانون روس يسجلون ألبوما من أغاني مسلم موغامايف تخليدا لضحاي ...
- سمية الخشاب تقاضي رامز جلال (فيديو)
- وزير الثقافة الإيراني: نشر أعمال لمفكرين مسيحيين عن أهل البي ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- ألف ليلة وليلة: الجذور التاريخية للكتاب الأكثر سحرا في الشرق ...
- رواية -سيرة الرماد- لخديجة مروازي ضمن القائمة القصيرة لجائزة ...
- الغاوون .قصيدة (إرسم صورتك)الشاعرة روض صدقى.مصر
- صورة الممثل الأميركي ويل سميث في المغرب.. ما حقيقتها؟
- بوتين: من يتحدث عن إلغاء الثقافة الروسية هم فقط عديمو الذكاء ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أماني محمد ناصر - رواية سطوة الألم