راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 6408 - 2019 / 11 / 14 - 14:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
قلما عانت ثورة ما عانته الثورة السورية من هدر في طاقاتها وخذلان لها من القريب والبعيد. المفارقة الصريحة في الحالة السورية هي انعدام التناسب بين حجم التضحيات التي قدمها الشعب السوري وحجم ما تحقق له على سبيل إسقاط النظام.
الدلالة الأبرز لإرسال المراقبين العرب ثم الدوليين إلى سوريا هي التردد أو العجز الدولي في حل الصراع المحتدم في سوريا منذ حوالي أربعة عشر شهراً. لا أظن أن أكثر الدول مغالاة في مناصرة الشعب السوري الثائر كانت ستعبأ كثيراً لو تمكن النظام السوري، خلال المهل المتوالدة التي أعطيت له، من سحق الانتفاضة السورية التي تعجز عن إنكارها وتعجز عن نصرتها. ويمكن القول إن صمود الشعب السوري المذهل شكل عبئاً على مناصريه من الدول الإقليمية والعالمية مثلما شكل عبئاً على النظام السوري نفسه. وإن استمرار الشعلة السورية رغم كل ظروفها القاسية صفعت العالم بعجزه عن نصرتها كما صفعت النظام بعجزه عن إخمادها.
الثورة السورية تفرض نفسها على الجميع وتشكل تحدياً للجميع، غير أن لدى هذا النظام العالمي الرهيب المتمرس في إدارة الظلم وصيانة المجاعات ورعاية الحروب وتغذية الكراهيات وإرضاع التعصب، مستودعات من القوة والمكر والحربقات والخسة كافية لإخماد ثورات بالجملة إما بصورة مباشرة أمنية وعسكرية (سحق الثورة) أو غير مباشرة سياسية وأخلاقية (تطويعها وتفريغها من محتواها الثوري بالوصاية عليها وتشويهها).
والحق أن دول النظام العالمي الذي استقرت آلياته بعد تفكك المنظومة الاشتراكية، عملت وتعمل على الخطين معاً للإجهاز على الثورة السورية. ذلك لأن هذه الثورة تعثرت في تحقيق هدفها وطال أمدها قياساً على شقيقاتها (لأسباب كثيرة منها موضوع هذا المقال). وإذا كانت هذه الثورة قد فرضت نفسها على العالم كحقيقة لا يمكن إنكارها أو سحقها، فقد بقي للنظام العالمي مدخلاً يعمل من خلاله (لكسر سم الثورة) وهو التأثير على صياغة مآلها وصيرورتها. إن صورة الثورة السورية اليوم، بعد أكثر من سنة وشهرين على اندلاعها، لم تكن مضمرة في منطلقها كما يضمر البرعم الزهرة، ولكنها صورة رسمتها أشكال تدخل منها الداخلية ومنها الخارجية.
في الداخل لجأ النظام إلى قمع رهيب وسياسات أمنية تمييزية وتقسيمية، وإلى بث حملة تشويه بهدف إغراق فكرة الثورة ومشروعيتها تحت ركام من الحديث عن مؤامرة ومندسين وسلفيين وإرهابيين ..الخ. تضافر مع هذه المساعي الداخلية مساع خارجية معادية ظاهرياً لمساعي النظام ولكنها مؤازة في المضمون. فالحملة الأمنية العسكرية للنظام سارت تحت مرأى العالم دونما إعاقة تذكر سوى تصريحات تشتد وتهدأ وفق حسابات لا صلة جوهرية لها بموضوع الثورة، الأمر الذي خلق الأسباب الموضوعية التي تدفع الناس إلى حمل السلاح دفاعاً عن النفس أو انتقاماً لما تعرضوا له من بطش، مما زود آلة إعلام النظام بمعطيات ملموسة تغذي اتهامات معدة مسبقاً. ومن جهة أخرى أدى القمع الشديد وعدم التساهل مع أي تعبير ثوري سلمي إلى حصر فعالية الثورة في القطاعات الأكثر استعداداً للمواجهة والتضحية الجسدية، وهذه القطاعات هي في المجمل ذات مستوى ثقافي متدن ويغلب عليها التدين الشعبي وتميل، ولاسيما في ظل غياب قيادة مركزية فاعلة وفي ظل تقطيع التواصل بين المناطق، إلى العنف المضاد الذي ظهر رهيباً في بعض الحالات. كما أن هذه القطاعات أقرب إلى أن تتعرف على نفسها سياسياً في أطر طيف الإسلام السياسي، مما أعطى لهذا اللون السياسي ظهوراً بارزاً لا يعبر في حقيقة الأمر عن منسوب حضوره السياسي في الكتلة الشعبية الرافضة للنظام والمطالبة بالتغيير.
اعتمد النظام السوري سياسة الإخماد بالقوة المفرطة وعدم التساهل مع أشكال الاحتجاج السلمية (الاعتصام، المظاهرات السلمية وغيرها)، واعتمد جزء من العالم (الجزء الذي يدعي مناصرة الثورة السورية، دع جانباً الجزء الذي ناصر النظام في سياسته الأمنية) سياسة مترددة ومتراخية إزاء سياسة النظام فكانت النتيجة أن اكتملت دائرة القهر حول شعب يريد التغيير نحو شكل حكم أكثر عصرية وتمثيلاً. ومن تكتمل حولهم دائرة القهر ليس غريباً أن يلجؤوا إلى العنف وأن يتجهوا إلى الله فلم يبق لهم غيره، وزاد في إحكام حلقة القهر جرعات الآمال الكاذبة والمجانية التي راحت المعارضة تحقن الشارع بها وتحبطه تالياً. ولم يكن دفع الناس إلى ملاذات العنف والإيديولوجيا الدينية والطائفية أمراً مرغوباً ومسعياً إليه من النظام فقط، بل إنه نتيجة تريدها أيضاً بعض الدول التي تريد لهذا اللون العنفي الديني (الذي كان ضئيلاً في بداية الحركة وتمت تغذيته حتى برز وصبغ الحركة فيما بعد) أن يسود.
النظام يدفع إلى أن تتخذ الثورة هذا الطابع كي يغطي على المضمون الديموقراطي لها ويضعها في خانة التآمر والإرهاب والسلفية ويحشد وراءه كل من تمنعه رؤية الشجرة عن رؤية الغابة، وكل من يعجز عن رؤية المضمون الديموقراطي للثورة. والخليج يريد أن تتخذ الثورة هذا الطابع لكي يغطي التناقض بين الطبيعة الديموقراطية للثورة وبين شكل الحكم الخليجي المتخلف من جهة، ولكي يضع الثورة السورية في خانة الصراع السني الشيعي ويسقط بعدها الديموقراطي أيضاً، في مسعى يائس لمنع فتح باب التغيير في الخليج من جهة أخرى. إنها مصلحة مشتركة تتفوق أحياناً كثيرة على مصلحة نظام ما في إسقاط نظام آخر.
أما أمريكا وأوروبا فإنها تدخل الثورة السورية في خضم حسابات سياسية إقليمية ودولية، وتماشي مكرهةً ضغط الراي العام والالتزام الأخلاقي بمعايير ومبادئ حقوق الإنسان. وربما أرادت أمريكا في هذا الإطار أن تختبر روسيا فشلها في سورية كما اختبر الاتحاد الأوروبي فشله في يوغسلافيا السابقة. أو أرادت أن تبقي الثورة السورية فوق عتبة الانكسار وتحت عتبة الانتصار لحين من الزمن طويل لكي تتسلم بعد أن تنتصر بلداً مرهقاً بمجمل مستوياته فيسهل عندئذ ضبها وحصر تداعياتها.
لا يبقى أمام الثورة السورية إلا أن تواصل فرض نفسها على الجميع بأن تستمر وتعلي شأن سلميتها وديموقراطيتها وتبتعد عن المنزلق الطائفي والتعصب الديني، هذا طريق نجاحها الأكيد ليس فقط في إسقاط النظام الديكتاتوري (فهذا، كما تبدي الثورات العربية الأخرى، ليس سوى جزء من المهمة التاريخية لهذه الثورة) بل في بناء سورية المستقبل أيضاً.
ايار 2012
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟