أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - اعتقال الفصول














المزيد.....

اعتقال الفصول


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 6371 - 2019 / 10 / 6 - 17:29
المحور: الادب والفن
    


كان أهلُ القرية يحكونَ لأطفالهم العجائب عن تلك المرأة القميئة بثياب عجوز، بشعرها الأبيض الوسخ، بذقنها وشواربها المستنقعية. قالوا عنها: "إنَّها مجنونة تضرب الأولاد"، "تَخْنُقُهم بوسادتها القذرة وغطاء سريرها الأسود"، وأضافوا: " إنّها ساحرة تخطف البنات اللواتي لهن ضفائر كبيرة وتسريحات شعر جميلة"، "تقص شعرهن المضفَّر وتبني به أعشاشاً للطيور في جذوع أشجارِ الزيتون في أرضها." بل قالوا أكثر! قالوا شبه متأكدين: "إنَّ لديها جرةً مليئةً بالليرات الذهبية خبَّأَتها في تلك الأرض البعيدة، الشهيرة بأرض بديرة."
في كل خريف، في موسم قطاف الزيتون، اِعْتاد بعض سكان القرية - ممن كانوا يستأجرون أرضها لجني حبّات الزيتون - على حفر التربة بجانب جذوع الأشجار عميقاً لينبشوا ما قد خبَّأَته السيدة بديرة من شعوذات وأدواتَ سحر وشفرات حلاقة ونقود ورقية منتهية الصلاحية وليرات ذهبية.
**
وكان زمن الموت والحرب والشهداء والأسرى والمعتقلين، وكانت الأحاديث اليومية مازالت مجبولة بالدمع والغم والحسرة والغضب، بالترحمات والآهات والآلام والذكريات. تسترخي ملامح الوجوه الحزينة حالما تنسج الذاكرة سَجّادة ملوَّنة بالحكايات والقصص الممتعة والأفكار والمشاعر الحماسية عن شهداء الحرب، الذين كُتبَت لهم الولادة من جديد في بيوت أخرى ميسورة الحال ومحترمة السمعة ليتمتعوا بحياة رغيدة.
ستخرج أرواحهم المُقَدَّسة الطاهرة النقية من أجسادهم الدنيوية وتطير متأرجحة بصمت جميل، تُحلّق في السماء الواسعة، تحملها تيارات الهواء اللطيفة في طريقها باتجاه الشمس، تفرد أجنحتها المزركشة وتهبط ببطءٍ إلى مستويات دنيا من السماء حين تشمّ عطر جسد بريء لم يولد بعد.
تتنقَّل كالفراشات صعوداً وهبوطاً من بيت أزهار إلى بيت أزهار آخر في رحلة بحثها عن النساء الطاهرات الصادقات طيبات القلب في الساعات الأخيرة من حبلهن، في الدقائق الأخيرة من آلام مخاضهن، عن الدفء والحماية والسلام والهدوء والسكينة عند أمهات مستقبلية كما تبحث الصيصان الكتاكيت دفء الدجاج.
تتقمص أرواح الشهداء المباركة أجساد الأجنة البشرية في ساعات تبلورها الآخيرة وتستريح بعد عناء رحلة أوديسية طويلة، لتجمع قواها ولتتزود بالشمس والهواء النقي ثم تُولد من جديد بعلامةٍ جسدية مميزة تشير إلى الحياة الأولى.
**
وفي كل مرور لأحمد من جانب دكانهما يلاحقه سرب من النحل أو الذُباب الطنَّان.
بعد عدة أمتار يَكُفّ السرب عن مطاردته ويقفل راجعاً، بينما يتوقَّف أحمد ويدور على عقبيه ليلقي نظرة حذرة على تلك الغرفة القريبة من دكان عدسو المُكْتَظَّة بالكتب والجرائد والأشعار والأحلام ودخان السجائر، غرفة شاحبة وضيِّقة لكنها صالحة لنومٍ شهي وعميق على أنغام مزراب مطر، يسكنها شاب مَنسيّ مُتْخَم بأغاني الحب والغضب والعزلة، تراه جالساً في سريره وقربه طاولة خشبية فوقها مَنْفَضَة سجَائر كبيرة من الطين المحروق، يمسك كتاب قصائد في يده اليسرى، يحملق إلى سقف الغرفة بوجه كئيب وشفتين مزمومتين خائفتين من إفلات صرخة عالية كتلك "الصرخة" للنرويجي إدفارت مونخ في لوحته الشهيرة، بينما يده اليمنى مرفوعةً إلى الله بإشارات غير مفهومة كأنّه في وضعية تقليد للوحة "الشاعر الفقير" التي رسمها الألماني كارل شبيتزفيغ.
**
تفرَّقَ الساهرون دون أن يعلموا بأنَّ الخبير الياباني المقيم في قريتهم هو من كان المتهم الأول بقضية القيامة.
كان أبو الخير قد دخل عقده الخمسيني حين وصل إلى الضَّيعة التي لم يعرفها سابقاً كهاربٍ من أشباح تلاحقه، بدا يومها قصير القامة، مُسْتكرشاً، دائري الوجه بنظارة سميكة محمولة على أَنْفه الأفْطَس الباذنجانيّ ومستندة على غضروفي أذنيه الناعمتين. اِستأجر دكاناً بسقف منخفض على مفرق الضَّيعة وحَوَّله إلى ورشة تصوير متواضعة، سمّاها استديو "الياباني". احتوى الدكان على غرفتين ومدخل ضيق مسقوف بألواح من التوتياء مثبتة على عارضتين من الحديد، أما الباب الخارجي فكان من الخشب ومدهوناً بالأبيض. عامله معظم الناس بحيادية رغم محاولاته الحثيثة للاقتراب منهم، حكى لكل من دخل غرفة تصويره بأنَّ خيرة ممثلي البلد تزوره في دكان التصوير وتشرب الشاي معه، وإن حدث وشكّك أحدهم بمصداقيته جعل يفتح درج مكتبه ويريه بعض الصور التي تجمعه مع الممثلين، وحكى لهم أيضاً عن دوره السينمائي الثانوي القصير جداً الذي أدّاه في فلم "الياباني" بصفة خطيب سياسي. كانت الزبائن تستمع إلى حكاياته اللطيفة وغالباً ما تصدِّقه، ومن حضر الفلم منهم راح يمدح قدرته على التمثيل ويُعرب له عن دهشته، كيف أنّ إبريق الماء كاد يطير على بساط الحماسة الوطنية كلما خبط المُصوِّر أبو الخير بقبضته على الطاولة.
دون سابق إنذار اِختفى أبو الخير بعد أن احترق ذاك الشيء دون أن يخبرُ أحداً عن وجهته الجديدة.
**
مقتطفات من كتابي "اعتقال الفصول الأربعة"



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عن الرأسمالية الشريفة
- قصيدة أبراهام
- قصيدة إِنْزيغْتن
- المِلزَمة
- صلولين
- نشرة أخبار
- كيف صار المُهَنْدِس كاتباً -2-
- كيف صار المُهَنْدِس كاتباً -1-
- ملعب مقبرة الشهداء
- كيف لا ترون؟
- من شبَّ على شيءٍ شاب عليه
- كيف تتكلم؟
- يوسف وفهيمة
- سجائر غارغويل
- قانون الكُنَافَة
- لماذا تركض؟
- السَفَّاك
- شمعة ديوجين
- وكنا ندخن الرَّوْث
- الفيل الأسود


المزيد.....




- تركي آل الشيخ يكشف عن رسالة لن ينساها من -الزعيم-
- الاحتفاء بالأديب حسب الله يحيى.. رحلة ثقافية وفكرية حافلة
- رغم انشغاله بالغناء.. ويل سميث يدرس تجسيد شخصية أوباما سينما ...
- قوارب تراثية تعود إلى أنهار البصرة لإحياء الموروث الملاحي ال ...
- “رسميا من هنا” وزارة التربية العراقية تحدد جدول امتحانات الس ...
- افتتاح الدورة الثانية لمسابقة -رخمانينوف- الموسيقية الدولية ...
- هكذا -سرقت- الحرب طبل الغناء الجماعي في السودان
- -هاو تو تراين يور دراغون- يحقق انطلاقة نارية ويتفوق على فيلم ...
- -بعض الناس أغنياء جدا-: هل حان وقت وضع سقف للثروة؟
- إبراهيم نصرالله ضمن القائمة القصيرة لجائزة -نوبل الأميركية- ...


المزيد.....

- الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية ... / عبير خالد يحيي
- قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي. / رياض الشرايطي
- خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية ( ... / عبير خالد يحيي
- البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق ... / عبير خالد يحيي
- منتصر السعيد المنسي / بشير الحامدي
- دفاتر خضراء / بشير الحامدي
- طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11 ... / ريم يحيى عبد العظيم حسانين
- فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج ... / محمد نجيب السعد
- أوراق عائلة عراقية / عقيل الخضري
- إعدام عبد الله عاشور / عقيل الخضري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - اعتقال الفصول