أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير المجيد - شام-الفصل الثالث














المزيد.....

شام-الفصل الثالث


منير المجيد
(Monir Almajid)


الحوار المتمدن-العدد: 6174 - 2019 / 3 / 16 - 12:44
المحور: الادب والفن
    


بدت مدرسة المشاة موحشة من الخارج، بمدخلها الباطوني ذو الطلاء المُصفّر الذي يشبه رطوبة الجدران، والشجرتين المزروعتين دون خطة وترتيب.
المساعد الأول كان يتفحص أوراقنا على صوت أغنية لفريد الأطرش آتية من مسجّل كاسيت.
فكّرتُ: «فريد يَبكي أكثر ممّا يُغنّي»، فابتسمت معجباً بإستنتاجي هذا.

بعد إجراءات عقيمة وتوزيع بعض الحاجيات وبطانيات بنيّة تُثير الحزن، سُمح لنا أن ندخل إلى المدرسة.

على يمين الساحة الكبيرة بناء الإدارة المؤلف من طابقين، وعلى مدّ البصر مهاجع كبيرة بحجم سفن الشحن. الأرض شقراء اللون، والنباتات الشوكية حرقتها الشمس منذ مدة طويلة، وهناك بعض أشجار السرو القاسية التي تتحمّل أسوأ المناخات، واخرى لا أعرفها.
كنّا نتّجه إلى المهجع المخصص لنا، حاملين أمتعتنا التي كبرت وازداد وزنها، حينما أستقبلنا مجموعة من الشبان بجلودهم المحمّصة، يرتدون ثيابهم الكاكي المُحمّلة بشريط أخضر على الكتف، يعتمرون قبعات تبلّلت أطرافها قليلاً، وأعناقهم المتعرّقة تلمع كحراشف السمك، صارخين فينا أن نترك أشياءنا ونصطف في رتل. لمحت بينهم زميلي في كلية الفنون والقامشلاوي جوزيف، وآخرين من الخريجين السابقين.

كان هؤلاء من دورة الضباط التي سبقتنا بستة أشهر، وكنّا في الواقع متحضّرين لمثل هذا الإستقبال. هؤلاء يريدون إذلالنا، تماماً مثل ما تعرضوا إليه على يد الدورة التي قبلهم.
هكذا كانت التعليمات. الخدمة العسكرية هي حفنة كبيرة من التعليمات، كثير منها لا يخضع إلى قوانين المنطق.

أمرونا أن نزحف على الأرض المتربة الصلبة، متّجهين إلى دغل قصير من النباتات الشوكية.
فجأة رأيت جوزيف واقفاً قرب رأسي يأمرني أن أغيّر إتجاهي. كان يبعدني عن تلك الأشواك.
الأخّوة القامشلاوية في أبهى صورها.

لم أشعر بقلة زهو خلال حياتي كلها مثل تلك اللحظة القصيرة التي مرّت، وأثقلت عليّ بهموم وقلق لم أجربهما قبل الآن، فتضمّخت عيناي بالدموع. خبّأت رأسي وصرت أتنفس تلك التربة الشقراء. لن أسمح لأحد أن يراني بكل هذا الضعف حتى لو امتلأت رئتاي بتراب مدرسة المشاة.

أخيراً، سُمح لنا بدخول المهجع بهرج كبير، وانتقينا أسّرتنا دون خطّة.
كان المهجع طويلاً جداً، بصفّين من الأسرّة المزدوجة على كل جانب، يفصل السرير والآخر خزانة حديدية بلون الرماد، تكفي لأربعة جنود أغرار.

كنّا رهطاً غريباً يُمثّل كل محافظات البلاد بسبب كثرة اللهجات التي تقاطعت من فوق الأسرّة التي انهمكنا بترتيبها، وفق قواعد صارمة شرحها لنا الأقدمون.
كان هناك ذوي البشرة السمراء الشديدة، السمر، البيض، بعضهم شقر بعيون زرقاء كمياه البحر. الهزيلون والمربوعون والممتلأؤون. الوسيمون والأقل وسامة والقبيحون. شبان بأنوف عادية، ودقيقة، وآخرون كانت أنوفهم تحمل باقي أجسادهم.
لكن تشاركنا في شيئين: الشعر، أو غياب الشعر، والبدلات الكاكية.
حسناً، في وجوم تلك اللحظات أيضاً.

رتّبت فراشي الذي اخترته في الأسفل لسهولة تركيب الناموسية، ولاحظت أن البعض يراقبني، وتهامس إثنان مشيرين نحوي.
تبيّن فيما بعد أنني الوحيد الذي أحضر ناموسية، والتي كانت، في الحقيقة، فكرة عبقريّة. فالمكان كان ضارياً يعجّ بعشرات الأنواع من الذباب والحشرات والبعوض.

جاء طالب ضابط وزعق آمراً أن نقف باستعداد. مرّ ذارعاً المهجع الطويل متفحصاً أسرّتنا ووجوهنا. نظر إلى الناموسية، ثم إليّ، ثم الناموسية مرّة اخرى، وكأنه استحسن الفكرة. أخيراً طلب منّا أن نجتمع في الساحة الرئيسية مصطحبين الملاعق وآنية الطعام فوراً.

هناك تحلّق حولنا عدد آخر من زملائه ووجوهم جدّية وفظّة، ثم جاء ضابط برتبة نقيب ووقفنا مشدودي القامة بينما صرخ أحد الطلاب مقدماً إليه دورة الأغرار الجديدة.
بهدوء دخلنا قاعة الطعام متبعين التعليمات الصارمة في الآداب العسكرية، وانتظرنا مجئ طلاب الضباط، بينما كانت أوعية الفاصولياء، كبيرة الحجم، بمرق البندورة ولحم ما، توضع على الطاولات المعدنية، ففاحت رائحة تشبه تماماً تلك التي كان مطعم الحاج رفيعة ينشرها مغطياً عدة شوارع في مركز مدينة القامشلي.

حينما أذن لنا أخيراً بالبدء بتناول الطعام، تحول صمت القاعة الكبيرة إلى جحيم من الدمدمة وأصوات الملاعق والصحون ودفع وسحب الكراسي المعدنية. وخلال دقيقة كانت تلك الأواني الكبيرة فارغة إلا من بقايا صلصة البندورة، ثم تلك الصورة التي مازلت أتذكرها وكأنها حيّة: في نهاية الطاولة، زميل لنا أشقر مفتول العضلات ماسكاً بجرذ من ذنبه، ميت مطبوخ في إناء الفاصولياء.
لم يتفوّه أحد بكلمة، ولم يتعدّ الإنتظار سوى بضع ثوانٍ.
أتممنا تناولنا طعامنا، ولاحظت أن الأشقر مفتول العضلات إنشغل أيضاً بتناول الطعام.
لم يعرف أحد كيف وصل ذاك الجرذ البائس إلى طاولة طعامنا. هل وُضع على نحو مقصود كتتمّة لحفل الترحيب بنا، أم كان مجرد إهمال من المجندين المفروزين إلى شوون المطبخ؟

رائحة دورات المياه وقذارتها أشعرتني بدوار حقيقي. تعلمت بعدئذ، كما الآخرين، الإنتظار لقضاء حاجتنا، كما الكلاب، كي نذهب إلى فناء بعيد بالرغم من أن ساحات المدرسة الشعثاء كانت تعجّ بالثعابين والعقارب.

في منتصف تلك الليلة، بعد أن غرقنا منهارين في النوم، أيقظنا شبّان الشريط الأخضر على الأكتاف بزعيق وضجيج طالبين منّا أن نجتمع خارج المهجع حفاة، وبثيابنا الداخلية. ثم أمرونا أن نعود إلى الداخل. أحدهم طلب من محمود، الشاب النحيل وقصير القامة أن ينفخ على الضوء الكهربائي ليطفئه، فوقف على السرير العلوي محاولاً تنفيذ الأمر بمنتهى الجدية.



#منير_المجيد (هاشتاغ)       Monir_Almajid#          


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شام-الفصل الثاني
- شام-الفصل الأول
- سأطهّر المنطقة أولاً
- فصل جديد من رواية «كوبنهاون»
- الطيران مع «آنا»
- مرّة اخرى، القامشلي
- هنريك، ملك الدانمارك
- اوصماني برو
- معمارية متحف لوڤر أبو ظبي
- فصل من رواية «كوبنهاون»
- البازلّاء
- البعوض وحشرات اخرى
- العناكب
- مجرّد خطوة اخرى نحو وضع حد للحياة
- في ثقافة التفويل
- أكثر من نصف جسمك ليس بشراً
- الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ٢ من ٢)
- الألزاس، ذهاباً وإياباً بالسيّارة (الجزء ١ من ٢)
- رسالة إلى جورجيت
- السفر بنظام الإنتر ريل في أوروبا (الجزء الأخير)


المزيد.....




- توم كروز يلقي خطابا مؤثرا بعد تسلّمه جائزة الأوسكار الفخرية ...
- جائزة -الكتاب العربي- تبحث تعزيز التعاون مع مؤسسات ثقافية وأ ...
- تايلور سويفت تتألق بفستان ذهبي من نيكولا جبران في إطلاق ألبو ...
- اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج ...
- حوارية مع سقراط
- موسيقى الـ-راب- العربية.. هل يحافظ -فن الشارع- على وفائه لجذ ...
- الإعلان عن الفائزين بجائزة فلسطين للكتاب 2025 في دورتها الـ1 ...
- اكتشاف طريق روماني قديم بين برقة وطلميثة يكشف ألغازا أثرية ج ...
- من الجو..مصور يكشف لوحات فنية شكلتها أنامل الطبيعة في قلب ال ...
- التمثيل الشعري للذاكرة الثقافية العربية في اتحاد الأدباء


المزيد.....

- يوميات رجل لا ينكسر رواية شعرية مكثفة. السيد حافظ- الجزء ال ... / السيد حافظ
- ركن هادئ للبنفسج / د. خالد زغريت
- حــوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الثاني / السيد حافظ
- رواية "سفر الأمهات الثلاث" / رانية مرجية
- الذين باركوا القتل رواية ... / رانية مرجية
- المسرواية عند توفيق الحكيم والسيد حافظ. دراسة في نقاء الفنون ... / د. محمود محمد حمزة
- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة. الطبعة الثانية / د. أمل درويش
- مشروع مسرحيات مونودراما للسيد حافظ. اكسبريو.الخادمة والعجوز. ... / السيد حافظ
- إخترنالك:مقال (الثقافة والاشتراكية) ليون تروتسكي. مجلة دفاعا ... / عبدالرؤوف بطيخ
- المرجان في سلة خوص كتاب كامل / كاظم حسن سعيد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - منير المجيد - شام-الفصل الثالث