أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - والعالم يتغير من حولي















المزيد.....

والعالم يتغير من حولي


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 6097 - 2018 / 12 / 28 - 21:24
المحور: الادب والفن
    


كلنا يعرف أننا لن نحتاج إلى لوحة المفاتيح في السنوات القليلة القادمة، ولن نحتاج إلى دراسة اللغات الأجنبية بل إلى الإلمام بقواعدها بالحد الأدنى. سأشارك في مطلع السنة القادمة بمؤتمر علمي عالمي في مدينة فلورنسا في إيطاليا، العنوان العريض للمؤتمر هو: وجهات نظر جديدة في التعليم. أما موضوع البحث الذي سأشارك به فهو: استخدام تقنية تتبع العين/النظر في علوم التصميم الهندسي. أثناء التحضيرات التنظيمية بدءاً من التسجيل في المؤتمر واختيار الأمسيات التي يجب أن أحضرها وصولاً إلى حجز غرفة الأوتيل وما شابه، رحت أكتب الإيميلات باللغة الألمانية الصحيحية قواعدياً، ثم بكبسة زر صرت أترجمها آلياً إلى اللغة الإيطالية بدلاً من الإنكليزية بدقة تتجاوز 95%. ردت المشرفة على شؤون التنظيم على رسائلي بالإيطالية وسألتني فيما إذا كنت قد عشت سابقاً في إيطاليا كي أجيد لغتها. باختصار أقول: الترجمة الآلية تتطور بطريقة مدهشة بينما نحن منشغلون بأمور تبكي الحجر!

العالم يتغير من حولنا بطريقة سريعة ومرعبة: نحن اليوم على أبواب الغوص - ولا أعني الدخول لأننا قد دخلنا - في مرحلة مجتمعية جديدة ومائزة جداً قوامها إنترنيت الأشياء، بروتوكول الإنترنت، الثورة الصناعية الرابعة، الذكاء الصنعي، التقنيات الرقمية المعقدة، المعلوماتية والاتصالات المتطورة، الواجهات التكاملية بين الإنسان والأنظمة وبين الأنظمة والأشياء مع بعضها البعض ... بكلمة أخرى سيتقلص الدور البشري في المجتمع القادم إلى حدوده الدنيا، لأن الأشياء (أي الآلات والأجهزة والمعدات وما شابه) ستتفاهم مع بعضها البعض دون الحاجة للإنسان!

العالم يتغير من حولنا بطريقة مذهلة وما زلت أرغب في إيقاظ ذاكرتي وتركها تنشغل بأمور تافهة، ولا أكتفي بهذا بل أحاول إشغال أصدقائي، كما حصل معي على سبيل المثال لا أكثر حين رجوتهم تذكيري بالحدث التالي: في سبعينيات القرن الماضي كان قد تم بين الحين والآخر توزيع علب صفائحية - سقارق - من الجبنة الصفراء الغامقة قليلاً على العمال والموظفين. كانت تلك الجبنة طيبة المذاق جداً، بغض النظر فيما إذا كانت قد فقدت صلاحيتها أو محتواها الغذائي أم لا. ما زالت رائحتها عالقة في أنفي حتى اليوم، رغم كل أنواع الجبن الأخرى التي جربتها لاحقاً! من يعرف ما اسم تلك الجبنة؟ حينها وصلني منهم مشكورين الجواب: إنها جبنة البطريق.

العالم يتغير من حولنا بجنون وأنا منشغل بحشرة الفاسياء ذات الرائحة الكريهة: مثل هذه الحشرات لم تكن مألوفة في السنوات الأخيرة في ألمانيا، لكنها ظهرت بكثرة هذا الصيف الحار خاصة على جدران المنازل الخارجية، عند حلول برودة المساء تأخذ بالبحث عن إمكانية الدخول إلى المنازل لتتمتع بالمزيد من الدفء. البارحة مساء وبينما نحن نتسامر نهض صديقي الدكتور حنّا بهدوء وثقة جميلتين، تناول منديلاً ورقياً واستأذنني أن يلتقط الخنفساء الملعونة التي حطّت على قميصي، أمسكها بين إصبعيه وسحبها كأنّه يسحب العصب من سن مريض. هذا الصباح لمحت من النافذة تراكتوراً في الحديقة القريبة من منزلي، تنطلق منه أبخرة - قد تكون مبيدات حشرية، لكن أشك في ذلك بسبب النظرة البيئية للحشرات - المهم ذكّرني هذا المشهد بذاك التراكتور الذي يجر خلفه صهريجاً صغيراً ويتنقل على مهل بين شوارع القرى والمدن في سوريا وعامل النظافة المرافق يعلق جهاز الضخ على كتفه ويحمل بيديه القويتين خرطوماً بقطر كبير نسبياً، يبدأ الرجل بالتراقص كبندول ساعة حائط يميناً ويساراً بينما تتصاعد من خرطوم المضخة غيوم بيضاء مدهشة برائحة غريبة، نستنشقها ونحن سعداء ثم نركض خلف الغيوم لنختبئ فيها ولنمسك بتلابيب الأدخنة قبل أن تتلاشى، تعلو صرخات الأمهات في البيوت: يا أولاد، اِفتحوا نوافذ الغرف والأبواب ليصل الدواء إلى الداخل! ما أن يبتعد التراكتور - طبيب النظافة والتعقيم - من حقل الرؤية حتى نهدأ وشعور بالنظافة والأمان الوقائي يخيّم من حولنا.

العالم يتغير من حولنا بطريقة غير مفهومة بينما يتفلسف صديقي - ونحن نشرب كأس نبيذ ونأكل التبولة التي حضرتها بمفردي - في سياق حديثنا عن دعوة الأحزاب السياسية اليمينية من جميع أنحاء أوروبا لمقاطعة الشوكولاتة السويسرية "توبليرون" بعد أن حصلت على "شهادة حلال" في عام 2018، فيقول: والله يا جماعة، أنا - وأقولها لكم بكامل الصدق - من أنصار أحزاب وتجمعات اليسار في بلدان العالم الثالث حتى الصميم لكني في الوقت نفسه من مشجعي أحزاب اليمين في العالم الرأسمالي قولاً واحداً، هل تجدون ثمة تناقض في كلامي!؟ قبلها قال نفس الصديق ونحن نحتسي البيرة في بار لاوبينليندي: ما زال للمرأة - الألمانية حصراً - دوراً ريادياً في تحويل القرد العربي إلى إنسان.

العالم يتغير من حولنا وتفاحة آدم تشغلني: كنت أعتقد لفترة طويلة جداً أنّ شكل وملمس تفاحة آدم البارزة جذّاب وجميل، وظللت على يقيني الضمني هذا إلى أن سمح لي أحد أصدقائي بملامستها ومعاينتها، حينها أدركت كم هي تشبه الشوك والصبّار ونبات العليق، فتعاطفت مع صديقي الذي يرغب لو يستأصلها.

العالم يتغير من حولنا وأنا أفكر بالمشاعر البشعة: أبشع ما يمكن أن يحدث لك على الإطلاق هو أن تكون تلميذاً نجيباً في مدرسة، محباً لمعلمك، محترماً له وواثقاً به وبأخلاقه، معتقداً في الآن نفسه أنه يبادلك بدوره المشاعر عينها بحكم نباهتك وانضباطك ووعيك، وفجأة تكتشف أنه يسلّم عليك بيده اليمنى وباليسرى يناول صبيان أجهزة المخابرات تقريراً عن هفواتك بحق دراويش الحزب وانتقاداتك للفساد والفوضى وكم الأفواه.

العالم يتغير من حولنا وأنا ما زلت أشك في كل شيء كي أفهم أكثر: حدث أن تعرفت ذات يوم إلى إمرأة روسية في السابعة والعشرين من عمرها، زوجة أحد معارفي، تجيد اللغة العربية - وخاصة العامية - بشكل مذهل، حين سألتها من أين لها هذه القدرة المميزة على تكلم العربية، أجابتني ببساطة بأنها قد أمضت في الماضي حوالي سنتين في إحدى الحارات الدمشقية. لم أقتنع! سألتها مجدداً فيما إذا كانت سابقاً - عندما كانت في روسيا - متزوجة من سوري، أجابتني بالنفي، وبقيت غيرمقتنع. أعتقد أن هناك من تعلم اللغة العربية وأتقنها - وفق برنامج خاص وُضِعَ له - بغية تحقيق أغراض أخرى غير تلك التي يدّعيها كالترويج لبضاعة ما، الكوكائين مثلاً. باختصار أقول: من المستحيل إتقان لغة ما ولا في خمس سنوات.

العالم يتغير من حولنا دون أن ينتظرنا بينما مُنْهَمِك أنا حتى قحفة رأسي بتناقضات صديقي: حين وصل ابن مدينة القامشلي - قبل أكثر من ربع قرن - إلى محطة قطار برلين قادماً من محطة قطار ميونيخ الرئيسية، وقف في بهو المحطة لاِستراحةٍ قصيرةٍ، كان عمره آنذاك عشرين ربيعاً، اِشترى لنفسه فنجان قهوة وراح يتأمل حشود المسافرين والعائدين، وجوه المودعين والمستقبلين، حركة القطارات القادمة والمسافرة، دقة مواعيدها، النظام الذي تسير وفقه المحطة بعمالها وموظفيها وسائقي قطاراتها، راح يتذكَّر المحطات الرئيسية والفرعية التي مرَّ بها قطاره من ميونيخ إلى برلين ونظام السكك الحديدية المُعقَّد وتشعباته. وبحركةٍ عصبية رافقته منذ طفولته ولم تفارقه حتى الآن شرب ثُمالة فنجانه ولعن الحكومات العربية وكتب الجغرافيا ومعلميها ومؤلِّفيها، ثم ضرب بكفه القوية على سطح الطاولة التي وقف بجانبها وقال: علّمونا في كتب الجغرافيا أنَّ سوريا تمتلك شبكة خطوط حديدية ضخمة ومُعقَّدة ولأنَّنا فقراء أكثر من مؤلِّف الكتاب المدرسيّ صدَّقناهم!

في هذه اللحظة تماماً والعالم يتغير من حولنا مع كل دقيقة، في هذه اللحظة وأنا أُقطِّع حبات البندورة لأخلطها مع زميلاتها من الخضار كي يحبل الصحن بسلطة شهية، انتابتني رَعْشَة شوق ساخن إلى صبَّار الوادي الأحمر، شمّمت رائحته هكذا بوضوح وصفاء، وكأنني كنت في بسنادا وقد أحضرت لتوّي من الثَّلاَّجة صحن الصَّبَّار المُقشَر رغم أني لم أتذوقه منذ حوالي خمسة عشر عاماً. في هذه اللحظة تماماً خطر على بالي الشاعر الألماني شيلر وهو يتناول من درج مكتبه تفاحة مُعَفَّنة يشم رائحتها الكريهة لثوانٍ ثم يبدأ بالكتابة.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- والفوضى نصفها الآخر
- بئر حسن
- بستان الريحان
- دواليب
- خمرة معتّقة في قوارير جديدة
- رحلة إبداع بالعلم والأدب
- أوس أسعد يكتب عن: من الرّفش إلى العرشِ
- أوس أسعد يكتب عن: اعتقال الفصول الأربعة
- سأشتري شقتها قريباً
- مركز البحوث العلمية -9- المقطع الأخير
- مركز البحوث العلمية -8-
- مركز البحوث العلمية -7-
- مركز البحوث العلمية -6-
- مركز البحوث العلمية -5-
- مركز البحوث العلمية -4-
- مركز البحوث العلمية -3-
- مركز البحوث العلمية -2-
- مركز البحوث العلمية -1-
- رابطة المَنَاجِذ الشيوعية -13- المقطع الأخير
- رابطة المَنَاجِذ الشيوعية -12-


المزيد.....




- تونس خامس دولة في العالم معرضة لمخاطر التغير المناخي
- تحويل مسلسل -الحشاشين- إلى فيلم سينمائي عالمي
- تردد القنوات الناقلة لمسلسل قيامة عثمان الحلقة 156 Kurulus O ...
- ناجٍ من الهجوم على حفل نوفا في 7 أكتوبر يكشف أمام الكنيست: 5 ...
- افتتاح أسبوع السينما الروسية في بكين
- -لحظة التجلي-.. مخرج -تاج- يتحدث عن أسرار المشهد الأخير المؤ ...
- تونس تحتضن فعاليات منتدى Terra Rusistica لمعلمي اللغة والآدا ...
- فنانون يتدربون لحفل إيقاد شعلة أولمبياد باريس 2024
- الحبس 18 شهرا للمشرفة على الأسلحة في فيلم أليك بالدوين -راست ...
- من هي إيتيل عدنان التي يحتفل بها محرك البحث غوغل؟


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - والعالم يتغير من حولي