أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - المعلّم «الكافر!»














المزيد.....

المعلّم «الكافر!»


ضيا اسكندر
كاتب


الحوار المتمدن-العدد: 6086 - 2018 / 12 / 17 - 16:09
المحور: كتابات ساخرة
    


في مرحلة الدراسة الابتدائية أواخر ستينيات القرن المنصرم، كان لدينا معلّم صفّ يُشاع عنه في أوساط المدرسة بأنه «ملحد، كافر، لا يفرّق بين أمه وأخته وعشيقته.. والعياذ بالله! لكنه – للأمانة - مِعطاءٌ نزيهٌ مثقفٌ وصارمٌ بشدّة». لم يكن أنيق الهندام كباقي المعلّمين، فهذه الأمور من آخر اهتماماته. لكنه غزير العناية بمتابعة آخر ما تصدره الدوريات الثقافية. ونادراً ما يُرى خالي اليدين من كتابٍ أو مجلةٍ أو جريدة. ولعلّ أهمّ صفة لديه أنه يمتلك موهبة التحدّث ببراعة. أراد في مطلع العام الدراسي أن يُجري استبياناً لطلاب شعبتنا لِسَبْرِ واقعنا الطبقي من خلال توجيه سؤال: «ماذا تناولتم البارحة من مأكولات؟» على أن تكون إجاباتنا خطّية.
في تلك المرحلة كان غالبية، إن لم يكن جميع الطلاب، ينتمون إلى الطبقة الفقيرة المسحوقة في المجتمع. يتبدّى ذلك من لباسنا وهُزال أجسامنا. فقد كانت العائلة لا يقلّ عدد أفرادها عن سبعة كحدّ أدنى، يعيلها ربُّ أسرة بالكاد دخله يسدُّ رمقَ الأفواه الجائعة دوماً.
وبدأنا بتسطير الإجابة عن سؤال المعلّم. وحيث أن الرقابة منتفية في ظروفٍ كهذه؛ فهي ليست مذاكرة أو فحص.. وبالتالي يستطيع أيّ طالب أن يتطلّع بورقة زميله ويقرأ إجابته، ويتشاور معه دون أن يثير أية ردود أفعال زاجرة من قبل المعلّم. فقد انهمكوا بتبادل الوشْوشات ومدِّ الأعناق والضحكات المكتومة وكتابة ما يحلو لهم من إجابات.
ولمّا كنت من الطلاب المتفوقين، لم أكن مضطرّاً للالتفات إلى زملائي بالمذاكرات لأستعين بهم، بل على العكس من ذلك، كانوا زملائي يتودّدون لي ويتملّقونني حتى أساعدهم في أوقات الشدّة. فقد كتبتُ إجابتي دون أن ألتفت إلى أحد: «تناولتُ صباح البارحة مع أفراد أسرتي الزيتون مع الخبز والشاي، وعند الغداء مجدّرة برغل إلى جانب سلطة خسّ، وعند العشاء لفّت والدتي لكلِّ فردٍ من أسرتنا سندويشة زعتر».
وإذ بزميلي الجالس إلى جانبي والذي اعتاد تاريخياً أن ينقل من ورقتي في المذاكرات والامتحانات، ينظر صوبي ساخطاً مستنكراً ويهمس من بين أسنانه:
- كيف تجيب عن السؤال بهذه الإجابة؟! ألا تستحي من نفسك؟ انظر ماذا أجبت أنا!
وكان كغيره من الطلاب قد كتب أنه تناول مع أفراد أسرته ما لذَّ وما طاب. فقد أجاب معظم الطلاب عن السؤال بما يتمنّونه ويشتهونه من مأكولاتٍ محرومين منها أباً عن جدّ بسبب الفقر المدقع الذي يتخبّطون فيه. فكانت الأجوبة على الوجه الآتي: «حليب بالعسل، لحمة بعجين، كباب، دجاج محشي، كفتة بالصينية..».
قلت له مقتنعاً:
- لن أغيّر ما كتبت، هذه هي الحقيقة ولن أخجل منها..
وما إن جمع المعلّم أوراق الإجابة وبدأ يتفحّصها، حتى قُرِع الجرسُ إيذاناً بانتهاء الحصّة الدرسيّة، وخرج الطلاب إلى الباحة وشَرَعَ كل طالب يسأل زميله بماذا أجاب؟ وسط ضحكات وقفشات هذا وذاك..
وفي بداية الحصّة الدرسيّة التالية، وقف المعلّم ينظر إلينا فرداً فرداً وقد غشيَ الصمت أرجاء الصفّ، واستقرّت عيناه صوبي بنظرةٍ تشي بالتعاطف والمحبّة، فاحترق وجهي من الخجل. ثم تصفّح المكان بنظرة دائرية وقال بعجلةٍ وضيق، وعضلات وجهه تموج بسحبٍ حمراء:
«هل يعقل أن عدد الإجابات الصادقة اثنتان فقط من أصل أربعٍ وثلاثين إجابة؟! لماذا تخدعون أنفسكم وتخجلون من واقعكم الذي لم يكن لكم ذنباً في وجوده؟ طبعاً أقدّر العزّة والكرامة التي احتلّت مكانة أساسية في إجاباتكم. لكنكم تتستّرون بها خشية افتضاح بؤسكم. وأكرّر للمرة الأخيرة أنه ليس من صنْعكم. إن هروبكم وتزييفكم للحقائق وتنكّركم لواقعكم المزري، لن يقودكم إلى الخلاص ولن يحلَّ مأزقكم». ثم تفكّر قليلاً وأضاف بإشفاقٍ وتسامح: «سأعتبر إجاباتكم هذه وكأنها لم تكن، وسأقتطع من هذه الحِصّة خمسَ دقائق لتعيدوا كتابة أجوبتكم، وأتمنّى منكم جميعاً توخّي الدقّة والمصداقية فيها بعيداً عن التماهي بالظالمين». وختم حديثه بكبرياءٍ غاضبة: «يا أبنائي، ما نحن فيه لن يدوم، نحن شمسُ العالم القادمة، وهم الظلمةُ الراهنة».
وطفق بتمزيق أوراق الإجابة بهدوء.
وقد أحدثت خطبة المعلّم رجّة فظيعة في صفوفنا، وبدّدت كل مشاعر النقص والدّونيّة التي لصقت بنا. وانكبَّ الطلاب يكتبون وقد اجتاحهم تيار متوثّب من اللهفة والحماس والمرح. وكانت أجوبتهم، وهذه المرة دون أن ينقلوا عن بعضهم: «تناولنا شوربة عدس، سلق، هندباء، فلافل، كشك، برغل..».



#ضيا_اسكندر (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- «المعلوم!»
- المرأة ربيعٌ أيضاً
- لا للقتل..
- دعوة لتغيير النشيد الوطني السوري
- ذكريات
- حنا مينه يودّع مصدر إلهامه..
- البيرة، وما أدراك ما البيرة!
- الفقراء في كل مكان..
- إلى متى سيبقى القلقُ دَبِقاً بنا؟
- المطار، مطارك أستاذ!
- لسعات خليجية..
- «الوشّيش!»
- بعثيّة، بعثيّة..
- ليس بالعلمانية وحدها يحيا الإنسان!
- في الصَّيدليَّة
- حلّاق القَبْوُ
- هلْوسة مُحْتَضَر
- المُسَلّي
- مقطع من روايتي «في قبضة الحليف»
- إنّنا نُخْصِي العجول!


المزيد.....




- من قس إلى إمام.. سورة آل عمران غيرتني
- إطلاق متحف افتراضي في دمشق يوثّق ذاكرة السجون في سوريا
- رولا غانم: الكتابة عن فلسطين ليست استدعاء للذاكرة بل هي وجود ...
- -ثقافة أبوظبي- تطلق مبادرة لإنشاء مكتبة عربية رقمية
- -الكشاف: أو نحن والفلسفة- كتاب جديد لسري نسيبة
- -هنا رُفات من كتب اسمه بماء- .. تجليات المرض في الأدب الغربي ...
- اتحاد أدباء العراق يستذكر ويحتفي بعالم اللغة مهدي المخزومي
- -ما تَبقّى- .. معرض فردي للفنان عادل عابدين
- فنانون إسبان يخلّدون شهداء غزة الأطفال بقراءة أسمائهم في مدر ...
- فنانون إسبان يخلّدون شهداء أطفال غزة بقراءة أسمائهم في مدريد ...


المزيد.....

- صديقي الذي صار عنزة / د. خالد زغريت
- حرف العين الذي فقأ عيني / د. خالد زغريت
- فوقوا بقى .. الخرافات بالهبل والعبيط / سامى لبيب
- وَيُسَمُّوْنَهَا «كورُونا»، وَيُسَمُّوْنَهُ «كورُونا» (3-4) ... / غياث المرزوق
- التقنية والحداثة من منظور مدرسة فرانكفو رت / محمد فشفاشي
- سَلَامُ ليَـــــالِيك / مزوار محمد سعيد
- سور الأزبكية : مقامة أدبية / ماجد هاشم كيلاني
- مقامات الكيلاني / ماجد هاشم كيلاني
- االمجد للأرانب : إشارات الإغراء بالثقافة العربية والإرهاب / سامي عبدالعال
- تخاريف / أيمن زهري


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - كتابات ساخرة - ضيا اسكندر - المعلّم «الكافر!»