غسان المفلح
الحوار المتمدن-العدد: 1505 - 2006 / 3 / 30 - 09:43
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تجربة ذاتية..
العقلانية شرطا للممارسة السياسية, والعقلانية بما هي تتويج للعقل معرفيا وتجريبيا في حرية لا محدودة إلا بفعل عناد الواقع وقواه المتحركة أمام القبليات النظرية والأيديولوجية والقيمية , حضور العقل متوترا بين التجريبي والنظري / النظري بوصفه قبليا ومرجعا يجعل العقل في كثير من الأحيان أسيرا لهذه المرجعيات في سياق فضاء وجداني يتعامل مع الواقع بمنطق الثنائيات الجوفاء والتي تتربع عليها معياريا وقيميا : أيديولوجية قبلية سواء كانت قومية أو دينية أم ماركسية.الخ
كثيرا ما نتهم نحن الذين لنا منبتا ماركسيا أو يساريا على العموم بأننا ذهبنا عمدا بعد السقوط المريع للمعسكر الشرقي نحو اللبرلة أو التدين !! وبقينا نراوح في مكان هو من منظورنا قد تجاوزته هذه الماركسية اللعينة: أقصد القومجية والليبرالية البرجوازية والدين السياسي أيا كان مصدره المقدس. فإذا كانت الثورة هي نقض للكلي إنطلاقا من معرفة الجزئي الراكد والمتخلف..الخ من تسميات . فإن العمل السياسي العلني هو تعامل يومي مع الجزئي بدون أية حالة من حالات الانفكاك المعرفي عن هذا الجزئي حيث يصبح القبلي والكلي منتشرا في علائقية واقعية بين هذه الشبكية من الجزئيات . وتخديم العقل وخدمته بالآن معا لايمكن تلمسها إلا وأنت في خضم هذا الجزئي لأنك بين مجموعة من القوى المتحركة على المستويات الجمعية والفردية والآراء والنظريات في فهم الواقع ومحاولة تغييره . لهذا نحاول دوما التعامل مع الكتابة السياسية بوصفها فعلا عقليا لا يخضع للمواقف المسبقة هذا ربما إغراق في التجريبية ولكننا نحاول دوما أن نجد المعيار في قلب التجربة ظاهراتيا على الأقل ـ هوسرل ـ وهذا لايمكنه أن يتولد ويلد إلا بالاحتكاك المباشر مع هذه الجزئيات المتحركة والقبض عليها متلبسة وهي تمارس فعلها في الواقع والمعاش. والمفارقة التي ربما أعيشها مع غيري من المهتمين بالشأن العام / سياسيا على الأقل هي حضور هذه الحركية في الواقع داخل النص السياسي وبالتالي هذا ما يجعلك بحاجة إلى معيارية ترافقك في رحلتك العصية هذه كي لا تفقد [ ملكة الحكم !! ] على الجزئي وتقديمه بصورة موضوعية إلى حد ما. وهنا دوما يأتي نصك متوترا وأحيانا بلا هوية عقائدية مما يجعله عرضة لميوعة / قيمية أو معيارية كثيرا ما تشكل خرقا للمقدس الأيديولوجي. لكنها بنفس الوقت ربما تصدر عليك حكما بأنك بلا ملاط واضح ..! وهذا بالطبع غير صحيح لأننا نحاول الانفكاك من ربقة المعيار القبلي قدر الإمكان في قرائتنا لكافة الظواهر كي نترك لها مساحتها الحقيقية كما هي في الواقع حيث لا نستطيع الإحاطة به بكليته المتحركة . وهذه النقلة في الواقع هي وليدة لنظام معرفي هو نفسه محكوما بملاط الحرية الفكرية والسياسية وهذا ما لم نتربى عليه في مجتمعاتنا وأحزابنا ودولنا . بل تربينا على آحادية النظرة والاشتقاقية / قياسا دون أن يكون هنالك ملاطا معياريا حرا إلى أبعد حد . لهذا نجد أن العملية السياسية الجارية الآن في سوريا تتحرك في النص وفق مرجعيتين هما :
مرجعية الدولة الاستبدادية بكل حمولتها المرئية وغير المرئية الضمنية والصريحة وبين ملاط التحرر من هذا الاستبداد على الأقل نصا وروحا . وهذا يتطلب دوما قراءة محايثة للنص الاستبدادي بكل علائقه ومرجعياته المخبوءة والمكشوفة , لا يعني هذا أننا نوافق دوما على النظام [ المعرفي !! ] للاستبداد كبنية مغلقة بل نحاول حصر حدوده تسهيلا لقراءته وهذا تناقض واضح بين التاريخية في حركيتها المعاصرة وبين البنية القارة التي بحاجة إلى القطع التاريخي معها.
مثال:
إن الممارسة السياسية في سوريا أصبحت الآن أكثر حركية بفعل عدة عوامل مؤثرة نتحدث عنها ولكننا نغيبها بحضور السيد الأيديولوجي المستبد بمعياريته الآحادية / النزعة الوطنية مثالا. هذه النزعة التي أصبحت بعد استقلال سوريا / كما هي اليوم / تتحرك بمعايير ذاتية محضة حتى التي تربط في إطار الموضة الدارجة الآن مفهوم الوطنية بمفهوم المواطنة, مسألة الوطنية ليست مطروحة كأشكالية في ماليزيا مثلا أو حتى جنوب أفريقيا لأنها مسألة غير مؤسسية الحكم والمعيار . بل هي معيارا ذاتيا يتحرك وفق قراءة وأبجديات / عودة عليها بعد الاستقلال ومرحلة الاستعمار القديم تجد هذه الأبجديات في كتاب الاستبداد فقط وليس في الواقع ما يشير عليها أو ما يحتاجها وكلنا يتذكر كيف أن الصراع الدامي الذي شهده سوريا في نهاية سبعينيات القرن العشرين / اليسار أو قسما منه أخرج الحركة التي قامت بها جماهير حلب وحماة من الخانة الوطنية والأخوان المسلمين أخرجوا اليسار من كل الخانة أصلا ..أما الآن فقد تغير المفهوم وبدأ الاستبداد يملأه بمضامين جديدة / كن ديمقراطيا ولكن وطنيا وماذا تعني وطنيا أجهزة الأمن هي التي تعطي المضمون في سوريا لهذا المصطلح الآن وليس غيرها وكل اجتهادات المعارضة السورية هي تنويعات على الاجتهاد الأساسي للنظام الاستبدادي في فهمه الجديد للوطنية.. والمقابل بالطبع هو الخيانة / والخيانة طربوش يُلبسه من يشاء في سوريا لمن يشاء .
لهذا عندما تدافع في النص عن رأيا سياسيا ما أو عن مؤسسة سياسية ما فلا يجد المحاور أمامه ونتيجة للمعيارية السورية سوى تخوينك وإخراجك من كهنوت الاستبداد الوطني.
مثال آخر:
في إعلان دمشق استطاعت هذه المعيارية أن تعيد الإعلان بتوضيحاته اللاحقة إلى منتجع الاستبداد والاستبداد يبحث دوما عن استبداد معارض صنوا له كي تغلق دائرة الوطن تماما في آتون هذه المعيارية التي أسقطها التاريخ من أجندته مع رحيل الاستعمار القديم .
أن تجتمع مع السيد خدام أو ترى في حركته خدمة لقضية الديمقراطية فالسلطة ربما تعدمك والمعارضة تخونك أو تجعلك من بائعي الهوى !! عفوا منكم على هذا المصطلح , أيضا عندما تجد أنك معنيا بسماع ما يقوله الأمريكان علك تجد مخرجا ما فيما يقولونه باعتبارهم الآن طرفا أساسيا في المنطقة : تجد نفسك عميلا وتحبسك السلطة وربما تحكم عليك بالإعدام / الدكتور كمال اللبواني نموذجا / والمعارضة الديمقراطية بين قوسين تتواطئ عليك تواطأ مع معتقليك زورا وبهتانا .
أن تدافع عن حق الأخوان المسلمين في ممارستهم السياسية وتقدمهم برنامجيا نحو تبني دولة القانون والمدنية فإنك تصبح طائفيا .. وهذا الاتهام يوجه الآن للسيد خدام والسلطة تغيب عن لوحة المعيار الطائفي في الحديث عن كل ممارساتها .
أمثلة كثيرة وكثيرة .. ولكننا بالعودة إلى مشكلة الكتابة السياسية بوصفها فعلا معارضا وليس فعلا لكسب الرزق فقط / احترافا صحفيا وهذا من حق الجميع بالطبع / ولكن لكل إمرء خياره في الحياة . في سوريا من يشذ بشكل أكثر وضوحا عن هذه القاعدة الصديقين ياسين الحاج صالح وأكرم البني فالصحافة هنا مصدر رزق وفعل معارض ومعرفي أيضا .
لهذا فالكتابة وأنت في معمعة الاحتكاك اليومي بالعمل السياسي والتحاور مع الجميع ومعرفة كيف يفكر الناس تجد نفسك أيضا في هذا المعمعة المعيارية وتبحث عما يجعلك لا تفقد عقلانيتك في الحكم على كل هذه لمؤثرات اليومية للحدث السياسي . ولايمكن بالطبع كمعارض أن تتمتع بقدر عال من الموضوعية والحيادية لأن شاغلك هو هذا الاستبداد المتحكم في المجتمع بطشا وبالمعارضة معا معياريا على الأقل . إنه هم يضاف إلى همومك الكثيرة لهذا تحاول ألا ترد على الاتهامات المتتالية من الكتابة الاستبدادية . ذات المعيارية الوطنية بذاتية نفاجية مفرطة أحيانا .
ولكنك تقرأ وتحاول أن تجد ما يفيدك في عملية الإقصاء الذي يحاول العقل الاستبدادي ممارستها سواء من قبل السلطة أو من قبل المعارضين الذين يرون بأنفسهم نسقا لشرف المعارضة لا يمكن لأحد أن يدخله إلا إذا كان طاهرا !! لهذا الكتابة السياسية بالنسبة لي كثيرا ما تكون وجعا حقيقيا إذا كيف تتماسك عقلانيتك وأنت في بحر متلاطم الأمواج من الاستفزاز لكل القيم الجميلة التي تعتقد أنك تربيت عليها وأنك تحاول أن تمارسها قولا وفعلا .
الديمقراطية السورية بوصفها نموذجا استبداديا أو ستالينا عند القسم الغالب من اليسار الذي لازال يتعامل ممعها كمشروع سلطة بديلة وليس شيئا آخر وهذا ما سيكون مجال مقالة أخرى
#غسان_المفلح (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟