سهر العامري
الحوار المتمدن-العدد: 1498 - 2006 / 3 / 23 - 09:53
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
اكتسبت رسالة أحمد بن فضلان أهمية كبيرة على الرغم من قلة عدد صفحاتها ، وذلك لأنها تحدثت عن عادات ، وطرق عيش ، وأساليب حكم عند مجموعة شعوب أوربية ، كانت تعيش في ظلام دامس ، لا تعرف بعدُ ما الحرف والورقة ، ولا تقدر الأهمية الكبيرة لهما . ولولا تلك الصفحات القليلة ما كنا لنقف نحن اليوم على تاريخ تلك الحقبة الزمنية الغابرة عند أولئك البشر ، مثلما لم يكن بمقدور الأجيال المعاصرة منهم أن تتعرف على جوانب مهمة من حياة أجدادهم في مأكل ، وملبس ، وعمل ، وعلاقات اجتماعية مختلفة ، دونها إبن فضلان بقلمه الأمين .
رحل أحمد بن فضلان بن العباس بن راشد بن حماد من بغداد يوم الخميس في الحادي عشر من شهر صفر سنة 309 للهجرة ، الموافق لليوم الحادي والعشرين من شهر حزيران / يونيو سنة 921 للميلاد ، وفي سفارة دبلوماسية يرافقه فيها نحو خمسة آلاف رجل ، يسوقون معهم ثلاثة آلاف دابة تحمل المساعدة التي طلبها ملك بلغار نهر أتل ( الفولغا ) من الخليفة العباسي ببغداد ، المقتدر بالله ، أبي الفضل ، جعفر بن الخليفة المعتضد ، وذلك عن طريق رسوله ، عبد الله بن باشتو الخزري .
لقد سارت هذه القافلة المهيبة رغم كل أهوال الطريق ، ورغم قساوة البرد والصقيع ، وعلى شحط المسافة ما بين بغداد ، ومكان ما على نهر الفولغا ، ليس بعيدا عن جمهورية تتارستان الروسية الحالية ، حيث حطت تلك القافلة الرحال يوم الأحد في الثاني عشر من شهر محرم سنة 310 للهجرة ، الموافق للحادي عشر من شهر أيار / مايو سنة 922 للميلاد ، بعد أن قطعت تلك المسافة بأحد عشر شهرا .
لقد اختلف المؤرخون القدامى ، والمحدثون من العرب في تحديد
مكان وهوية القوم الذين قصدتهم بعثة الخليفة المقتدر ، فمرة هم الصقالبة ، ومرة هم البلغار ، وهم ، بالإضافة الى ذلك ، لم يستطيعوا أن يحددوا بدقة المكان الذي تقع عليه مملكة البلغار أولئك التي كانت هي ، على ما يظهر ، متنقلة غير مستقرة ، فالراعي والرعية كانا يسكنان الخيام ، وكان كل طموحهم من وفادة الخليفة في بغداد هو تشيد مدينة محصنة لهم ، تقيهم شرور الأعداء من الخزر .
ومع هذا فالدراسات الأوربية الكثيرة ، والحديثة ، التي دارت حول رسالة ابن فضلان هذه ، تؤكد بنوع من الثقة على أن القوم ، الذين نزل عندهم ابن فضلان ، هم التتار الذين يقطنون جمهورية تتارستان التي هي أحدى الجمهوريات التي تتكون منها روسيا الاتحادية الحالية ، والتي اتخذت الآن من يوم وصول ابن فضلان لهم في الثاني عشر من شهر حزيران / مايو عطلة دينية من كل سنة . فالمعلوم هو أن الإسلام قد دخل تلك البلاد ، مع دخول سفارة الخليفة المقتدر ، حيث كان ابن فضلان واحدا من بين المعلمين الذي علم ملك البلغار بعضا من مباديء الدين الإسلامي ، وأجاز لهذا الملك أن يتسمى باسم الخليفة المقتدر ، جعفر ، وسمى أباه باسم عبد الله ، وهكذا صار يخطب له على المنبر ( اللهم أصلح عبدك ، جعفر بن عبد الله ، أمير بلغار ، مولى أمير المؤمنين . )
ومثلما أشرت من قبل ، فإن بلغار الفولغا كانوا على عداوة دائمة مع جيرانهم الخزر الأقوياء الذين اتخذوا من اليهودية دينا لهم ، أولئك القوم الذين أخذت مملكتهم بالضمور والاختفاء منذ نهاية القرن التاسع للميلاد ، تلك المملكة التي قامت الى الشمال من بحري الخز والأسود ، بينما عاشت مملكة بلغار الفولغا ، التي قامت عند ضفاف نهر الفولغا الأوسط ، في وريثتها ، جمهورية تتارستان ، من روسيا الاتحادية المعاصرة للساعة ، مثلما أسلفت قبل قليل ، وقد لعبت كلتا المملكتين دورا مهما خلال القرون الوسطى في العلاقة ما بين دول الشرق من جهة ، وبين روسيا القديمة ، والبلدان الواقعة على ضفتي بحر البلطيق من جهة أخرى .
لقد تحدث ابن فضلان عن شعبي كلتا المملكتين في فصلين من رسالته ، الأول تحت عنوان : الصقالبة ، وهم بلغار الفولغا ، والثاني تحت عنوان : الخزر ، وهم من الأقوام التي ترد في اصولها الى العنصر التركي ، وقد انصب حديث ابن فضلان عن هؤلاء ، وهو حال في ديارهم ، أو وهو ذاهب الى ملك البلغار ، ونازل عنده ، وليس وهو عائد منه الى بغداد ، فليس في رسالته ما يوحي الى أنه كان قد كتب شيئا عن طريق عودته ، رغم أن الراجح هو أنه عاد بذات الطريق الذي سلكه في الذهاب ، ولهذا السبب ، على ما يبدو ، لم يتحدث هو عن تلك العودة ، والقول من أن هناك جزءً مفقودا من الرسالة يتضمن حديثا عن رجوعه الى بغداد ، هو قول فيه شك كبير ، حاله في ذلك حال قول آخر يرى أن ابن فضلان ظل في تلك الأصقاع النائية ، ولم يعد الى بغداد ، مع أن ابن فضلان قد ترك لنا إشارة في رسالته تدل على أنه قد عاد إليها ، وعلى أنه قد كتب رسالته فيها بعد عودته ، فقد جاء في متن تلك الرسالة أنهم قرؤوا ( أي هو ومن رافقه ) نص رسالة الخليفة ، المقتدر ، على الملك الساماني ، نصر بن أحمد ، يأمره فيها بتسلم خراج مدينة أرثخشمين من الفضل بن موسى النصراني ، وكيل الوزير ابن فرات ، وتسليمه الى أحمد بن موسى الخوارزمي ، ويضيف ابن فضلان أن أمر الخليفة هذا قد وصل خبره الى الفضل بن موسى النصراني ، وكيل ابن الفرات ، فاحتال عليه بأن أمر قائد الشرطة بطريق خراسان بوجوب اعتقال أحمد بن موسى الخوارزمي حال وصوله من بغداد ، وذلك بعد أن علم الملك الساماني ، نصر بن أحمد ، عن طريق ابن فضلان ، أن أحمد بن موسى الخوارزمي سيلحق بهم بعد خمسة أيام من تاريخ خروجهم من بغداد ، وحين خرج الخوارزمي منها ، ووصل الى خراسان تم اعتقاله حسب تلك الحيلة . وعلى هذا يكون انكشاف أمر الحلية تلك ، وعلم ابن فضلان باعتقال الخوارزمي قد حدثا في طريق عودته الى بغداد ، وليس في طريق ذهابه الى ملك الصقالبة ، وهذا دليل واضح على أن ابن فضلان قد عاد الى بغداد ، وبذات الطريق الذي رحل به منها ، خاصة وأن قسم كبير من ذلك الطريق كان معروفا للكثيرين من المسافرين ، إذ طالما سلكته قوافل الحجيج القادمة من الشرق الى مكة في موسم الحج عبر العراق .
ويبدو أن القول بعدم عودة ابن فضلان الى بغداد ، أو ضياع جزء من تلك الرسالة كان سببه سكوت ابن فضلان عن تلك العودة ، والصمت التام ، الذي اتسمت به أغلب المصادر العربية التي أخذت من رسالته تلك ، عن تقديم نبذة تكشف لنا شيئا عن حياته ، أو نبذة عن الكيفية التي انتهت بها سفارته الى بلاد البلغار ، ويضاف الى هذا أن الرجل ظل مجهول سنة الولادة ومكانها، ولهذا فنحن لا نعرف شيئا عن نشأته الأولى ، وأين درس وتفقه بمعارفه الدينية ، وهل ترك لنا كتبا أخرى غير تلك الرسالة اليتيمة ، ومثل ذلك ، فقد صمتت تلك المصادر كذلك عن سنة وفاته ، وعن المكان الذي توفي به ، رغم أن ياقوت الحموي ، صاحب معجم البلدان ، قد ذكر أن رسالة ابن فضلان هذه كانت معروفة مشهورة ، متداولة بين أيدي الناس ، وأنه هو نفسه قد رأى منها عدة نسخ ، وكان هذا بعد ثلاثة قرون من زمن تدوين الرسالة تلك ، ومما يذكره ياقوت كذلك هو أن ابن فضلان ، صاحب الرسالة قد عاد الى بغداد ، وهذه الإشارة هي دليل آخر ، يدحض الزعم القائل إن ابن فضلان لم يعد ، وإنه ارتحل من بلد البلغار الى البلدان الإسكندنافية ، وحقيقة الزعم هذه ترد الى رواية : أكلة الأموات التي كتبها الأمريكي ميكائيل كريشتون (Michael Crichton ) ، والتي تحولت فيما بعد الى فيلم سينمائي سنة 1999م تحت عنوان : المحارب 13 ( The 13th Warrior) ، وقد أراد صاحب الرواية ، ومن ثم الفيلم إسقاط كل الصفات المشينة على ابن فضلان ، ومن ثم على العرب وباسلوب تاريخي امتزج بخياله المريض ، ولكنه ما استطاع ، مع كل ذلك الخيال ، أن يحط من قدر البطل ، أحمد بن فضلان ، الذي أنجز بإخلاص وتفان ٍ أكبر عمل بطولي تجسد في رحلته الشاقة تلك ، وفي رسالته التي تعيش للان حاضرة عند العرب والأوربيين على حد سواء ، رغم أنها قطعت من الزمن أكثر من ألف سنة في سيرها المتواصل إلينا ، وستواصل سيرها هذا حتما الى رحاب أجيال قادمة ، أخرى ، ما زالت تعيش في عالم الغيب.
#سهر_العامري (هاشتاغ)
ترجم الموضوع
إلى لغات أخرى - Translate the topic into other
languages
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟