أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - أنا لِصّة طباشير














المزيد.....

أنا لِصّة طباشير


فاطمة ناعوت

الحوار المتمدن-العدد: 5864 - 2018 / 5 / 4 - 21:35
المحور: الادب والفن
    



في طفولتي، كنت أرى معلّماتي بالمدرسة مثل ربّات الإغريق. أنيقاتٌ، حاسمات، ذوات معرفة لا تنتهي وعلم غير محدود.
"ميس سميحة"، معلّمة العلوم، هي "ربّة الطبيعة". تعرف مدارات النجوم والمجرّات، وأسرار الشمس والقمر. "ميس سوزان"، معلمة الحساب، كانت "ربّة الأرقام والمعادلات والهندسة الإقليدية". كأنها "إقليدس"، كتبت على باب أكاديميا "أفلاطون": "مَن لا يعرف الرياضيات لا يدخل علينا.” "ميس راشيل" معلّمة الجغرافيا، كانت "ربّة المكان"، تعرف خطوط الطول والعرض وفروق التواقيت. "ميس أليس" معلمة التاريخ، كانت "ربّة الزمان"، تعرف أسرار الممالك والأمم والشعوب. "ميس سهام، وميس عايدة"، معلمتا العربية والإنجليزية، كانتا من "ربّات اللغة"، يعرفن أسرار الكلمات وخبيئة الرموز والعلامات. وأما "ميس نيّرة"، فهي "ربّة الموسيقى”.
كان منتهى حُلمي أن أغدو مثلهن حين أكبُر. "ربّة" من ربّات المعارف الساحرات. ولستُ أعرفُ كيف تغدو المعلمةُ معلمةً. طفلةً لا تدري ما الكليات والتنسيق ووو.
المعلمةُ، بمجرد دخولها الفصل، وبعد أدائنا التحية، تتحول إلى السبورة وتمسك "الطبشورة"، وتبدأ في الكتابة. أخبرني عقلي الصغيرُ حينها أن مؤهلات المعلمة، حتى تغدو ربّةً أسطورية، هو: “حيازةُ بعض الطباشير”. بسيطة! سأداوم على مهمة يومية، تبدأ من طفولتي وتمتد حتى أكبر ويشتدُّ عودي النحيل ويزداد طولي لأغدو إلهة معرفة. سأبدأ منذ اليوم في تجميع الطباشير، حتى إذا ما كبرتُ يكون لديّ رصيدٌ من الطباشير يؤهلني لأغدو معلمة، أو ربّة إغريقية.
سألتُ أمي من أين يأتي المعلمون بالطباشير؟ أدهشها السؤالُ ولم تخبرني بالحقيقة. قالت إنه شيء يخصُّ المعلمات، لا يُباع، ولا يُشترى! ربما تخشى أن أُلوّثَ البيت بالمسحوق الأبيض. سهرتُ أيامًا أفكّر في مأساتي. كيف أحصل على الطباشير الذي سيحقق حلميّ العصيّ؟ ولم يعد أمامي إلا خوض عالم “الجريمة”.
أنتظرُ انتهاء اليوم الدراسي، وخروج الرفاق من الفصل، ثم أبدًا في جمع بقايا الطباشير الصغيرة التي تتخلّف على رفّ السبورة، وأدسّها في جيب الماريول. وأحيانًا أتسلّل للفصول المجاروة لأسرق ما تبقّى على سبوراتها من طباشير.
أعودُ إلى البيت، فتعنّفني أمي وهي تغيّر ملابسي فتجد جيوبي ملأى بالطباشير، ورذاذ الطبشور وقد لوّث النسيج. وتتوعّدني بالعقاب إن فعلت هذا مجددًا، وهي لا تدري أنها تحطّم حلمي الصغير، وأنني سأرتكب الجريمة يومًا بعد يوم. وكان عليّ أن أطوّر نفسي في “عالم الجريمة”، وأغير في التكتيك، وأنتقل إلى خطوة أكثر دهاءً. بدأتُ في إخفاء الطباشير في كيس الساندويتشات التي تُعدّها لي أمي في الصباح. وكان هذا يكلّفني أن ألتهم الساندوتشات حتى يخلو الكيسُ لحصيلة الغنيمة. هذا يسعد أمي. فكأنما ضربتُ عصفورين بحجر. فرحةُ ماما بتناولي طعامي تُلهيها عن التفتيش الدقيق في حقيبة المدرسة، كعادتها. وبمجرد دخولي غرفتي، أخفي الكنز تحت السرير في صندوق اللعب. وكلما زاد رصيدُ غنائمي، صار الحلم وشيك التحقق.
كبرتُ وتغيرت أحلامي! لم أدخل كلية التربية لأغدو معلمة. بل وجدتُ نفسي على مقاعد الرسم بقسم العمارة في كلية الهندسة،. ثم وجدتُ نفسي كاتبةً وشاعرةً، ونسيتُ حلم طفولتي. أو لم أنسه أبدًا، بدليل عناوين بعض كتبي.
لكن دهشتي بالطباشير لم تنته. مازلتُ أراه مادةً سحرية عصيّة على الفهم. هذا القلم الصغير الأبيض تمسكه المعلمة في يدها، وترسم علامات مبهمة على السبورة، ثم ننظر نحن التلاميذ إلى تلك العلامات، بعدما تتجاور وتتشابك وتغدو رموزًا مفهومة، فنعرف ماذا يدور في عقلها المثقف! كيف تتحول الأفكار الهيولية السائلة في المخ البشري، إلى علامات ورموز (الحروف) مرسومة على لوح أسود؟ وحين تتشابك تلك العلامات، تغدو "كلمات" مفهومة، بمجرد أن يطالعها شخصٌ آخر، يعرف على الفور ما يدور في عقل الإنسان الذي رسم تلك العلامات؟! أعجوبة مازالت تحيّرني وتُدهشني كلما رأيت إنسانًا يمسك قلما ويكتب أفكاره.
أنا الآن بدوري أصنع معكم تلك المعجزة الصغيرة. أفكر، ثم أنقش بقلمي رموزًا، سوف تقرأونها أنتم، فتعرفون فيما أفكر.
كبرتُ وكبُر معي حبي للطباشير. وكان عليّ أن أُخلّد هذا الحب في كتاب. لهذا أصدرتُ من ضمن كتبي، كتابين يسرقان "الطباشير”. “الكتابة بالطباشير” 2006 ويُعاد طباعته هذا العام عن "الهيئة المصرية العامة للكتاب، و"الرسم بالطباشير" 2009.
شكرًا للطباشير الطيب الذي شكّل أحلام طفولتي، وشكرًا لفضيلة الاعتراف بجريمتي الصغيرة، حتى أتطّهر، وأعتذر لمَدرستي الجميلة، التي سرقتُ طباشيرها طويلا، وأعتذرُ لأمي الجميلة التي أجهدتها في مطاردة الطباشير في جيوبي.



#فاطمة_ناعوت (هاشتاغ)      


ترجم الموضوع إلى لغات أخرى - Translate the topic into other languages



الحوار المتمدن مشروع تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم. ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي، انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة في دعم هذا المشروع.
 



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لماذا أكتبُ بالطباشير؟
- 3 دروس صعبة ... في حكاية محمد صلاح
- لماذا يُقبّل البابا أقدامَ الفقراء؟
- صائغُ اللآلئ … عظيمٌ من بلادي
- الأرخميديون
- هاتفي... الذي أحبَّ تونس
- مات نزار العنكبوت ... منذ خمس دقائق
- عاصفة الغبار ... شهادة جماهيرية ل (علي الحجار)
- فيلم هاني رمزي الجديد .. الضحك بطعم المرّ
- هل جدلت السعف بالأمس؟
- أوهامُ الحبّ ... وفنّ الهوى
- مشعل النور من الأقصر للمغرب على صفحة النيل
- نشاركُ في الانتخابات … حتى نستحقُّ مصرَ
- ماما سهير … ماما آنجيل
- وشوشات مارس 18
- شارع البابا شنودة
- معركة سيناء 2018… سيمفونية الحسم الأسطورية
- الإيمان الحقيقي ... والإيمان الشو
- حكاية بنت اسمها فافي
- لو كانت -شيرين- إماراتية!


المزيد.....




- قصة احتكارات وتسويق.. كيف ابتُكر خاتم الخطوبة الماسي وبِيع ح ...
- باريس تودّع كلوديا كاردينال... تكريم مهيب لنجمة السينما الإي ...
- آخر -ضارب للكتّان- يحافظ في أيرلندا على تقليد نسيجي يعود إلى ...
- آلة السانتور الموسيقية الكشميرية تتحدى خطر الاندثار
- ترامب يعلن تفاصيل خطة -حكم غزة- ونتنياهو يوافق..ما مصير المق ...
- دُمُوعٌ لَمْ يُجَفِّفْهَا اَلزَّمَنْ
- جون طلب من جاره خفض صوت الموسيقى – فتعرّض لتهديد بالقتل بسكي ...
- أخطاء ترجمة غيّرت العالم: من النووي إلى -أعضاء بولندا الحساس ...
- -جيهان-.. رواية جديدة للكاتب عزام توفيق أبو السعود
- ترامب ونتنياهو.. مسرحية السلام أم هندسة الانتصار في غزة؟


المزيد.....

- سميحة أيوب وإشكالية التمثيل بين لعامية والفصحي / أبو الحسن سلام
- الرملة 4000 / رانية مرجية
- هبنّقة / كمال التاغوتي
- يوميات رجل متشائل رواية شعرية مكثفة. الجزء الثالث 2025 / السيد حافظ
- للجرح شكل الوتر / د. خالد زغريت
- الثريا في ليالينا نائمة / د. خالد زغريت
- حوار السيد حافظ مع الذكاء الاصطناعي. الجزء الأول / السيد حافظ
- يوميات رجل غير مهزوم. عما يشبه الشعر / السيد حافظ
- نقوش على الجدار الحزين / مأمون أحمد مصطفى زيدان
- مسرحة التراث في التجارب المسرحية العربية - قراءة في مسرح الس ... / ريمة بن عيسى


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فاطمة ناعوت - أنا لِصّة طباشير