أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكريا كردي - منْ سَرْدِ الذّاكِرَة ..!















المزيد.....

منْ سَرْدِ الذّاكِرَة ..!


زكريا كردي
باحث في الفلسفة

(Zakaria Kurdi)


الحوار المتمدن-العدد: 5707 - 2017 / 11 / 23 - 05:02
المحور: الادب والفن
    


نص من سرديات الذاكرة..
كان حيّنا مُلاصقاً لجانب من دوار القلعة ، ومَحشوراً بين يمنةٍ تمتدُّ إلى دوار باب الحديد ، ويُسْرَةٍ تُفضي بزقاق السنكري إلى حي جب القبّة ، وكان يبدو لساكنيه متكئاً بأريحية على حارة عريضة تهبط بروادها من جامع الحموي دلفاً إلى حمام البيّاضة ثم إلى حارة المسْتّدمية التي تشكل منفذه الوحيد إلى حيّ الجبيلة ..
حيّ البياضة ، من أشهر أحياء مدينة حلب الشهباء ، حيث يراه الكثيرون من أبناء المدينة ، جوهرة الأحياء القديمة المرموقة ، التي كانت تفخر على الدوام بأن جميع قاطنيها هم من أبناء العائلات المدنية الراقية فقط ..
لكن أطفال هذا الحي الوديع كانوا ككل الأطفال ، يملأونه خطىً مُبعثرة في الغداة والعشي ، ويرسمون أزقته على شكلِ شقاوات وتسالٍ لا تنتهي ..
و كثيراً ما كانوا يُقسّمون مَنَاحي دروبه ملاعباً رَحْبَة ، لألعابهم الغريبة العجيبة في قواعدها وأسمائها ، ويعضها لا تَعرِفُ له نهايةً أحياناً ، ولا تفهم عنه أية قواعد مضبوطة أو واضحة في اللعب ، حيث يمكنك مثلاً الإنضمام للاعبين في أية مرحلة من مراحل اللعبة ، مهما جئت متأخراً ، منها على سبيل المثال لا الحصر :
لعبة "ع الفركحكح خرساني" أو لعبة " جحشة طويلة " أو لعبة "حاح ".. أو الكلال (كش تشابير أوالسْبّة ) ..وهي بمجملها ألعاب ذكورية بإمتياز..
ولكن كان للبنات أيضاً نصيبهن من اللعب أمام أحد الأبواب أو في إحدى نواصي الحي أو في باحات الدور " أرض الحوش " وما كان يسترعينا لعبهن إلا عند سماع إحدى الأمهات وهي تصرخ على ابنتها الوجلة :
" يقرف عمرك.. قطعتي كعب الشحاطة النايلون الجديدة.. حتى تلعبي بالكعب " مملكة " أنت وهالمسَفّقات ..يَمَا تروحي فَرم ..
ثم تختتم المُقاتلة ، كالعادة ، إما بتدخل إحدى الجارات الطيبات أو بهروب الفتاة المشاكسة من وجه أمها ، غير آبهة بما صنعت يداها من أذى ..
و لن أنسى طبعاً ، اللعبة الأكثر حماسة في حينها بين أبناء حارتي ، وهي " لعبة التوش" لكونها الأكثر شهرة وإبهاراً ، لما كانت تتطلبه من مهارات في الركض وسرعة في قذف "خشبة التوش" الصغيرة و البَراعة في حُسْنِ إلتقاطها ورَدّها ..
ومن أجواء تلك اللعبة بالذات ، مازلت أستجمع كثيرا من الذكريات الدافئة و الضحكات الصافية لأهلي وأبناء جيراني .. كيف لا .. ، وقد اختص بها زقاقنا بالذات ، المُسمّى ( زقاق الغوري ) ، بما امتلكَ من علوٍ مناسبٍ للجدران من كلا الجانبين ، و حوى من ممرٍ طويلٍ و دربٍ مستقيم تنتصب الأبواب على جانبيه حارسةً ومُرَحبة ، الأمر الذي شكّلَ للأولاد في حينها ، ما يُشبه البُنية التحتية المناسبة لتلك اللعبة الطفولية الظريفة ، التي كانت تترك في أذهان زائري الحي و آذان المررة ، صخباً كثيراً وضجة مشاكسة وضحكات متنوعة المعاني والصدور ، تنوس بين ضجر الخاسر وتأفف الناظر وتشجيع المار ..وصيحات مختلطة، تارةً تجدها تعلو إلى درجة كبيرة ، لتَخَالَها تترامى على قارعة كل الأزقة المُجاورة للحي ، الظاهرة منها والمخفية ، وتارةً تسمعُها تتهادى بهيبة ورهبة أمام بعض عكازات العجائز الجالسين عند الأبواب نصف المُغلقة من انسدال البرادي عليها ..
و الذين كانوا - بالنسبة لنا - يُرَدّدون نفس العبارات دائماً بالنسبة لنا :
( إيه على الله ، هيك الدنيا ، جيل والعياذ بالله .. بس غلا ما انشاف ولا انقشع .. )...!
كانت أعمارنا آنذاك لا تتعدى الثانية عشرة .. و حينها كانت أفلام السينما مُحرّكة الخيال الاكثر فاعلية فينا .. وكانت الشاشة هي العالم الأخر الغريب الذي ننتظر جديده كل أسبوع بكل شغف وتوق ..
لم تكن صالة (سينما السعد ) الكائنة في حي باب النصر بحلب بعيدة عنا .. كما هو الحال مع صالة (سينما الـ ليلى) أو (سينما الـ العباسية) القريبة منها .. ولم تكن تحتاج للمشي الطويل والممل كما هو الحال مع مدرستنا الشرعية التي كنا نعتبرها آنذاك المُنافس غير الكفؤ لدار الخيالة .. خاصة لما كان لها من دور بليغ في تنويرنا وتزويدنا بأفكار جمّة ، عن أسرار هذه الدنيا المعيشة والغريبة عنا تماماً .. إلى درجة كنا نعتبر السينما بمثابة الكنز والمنهل الحقيقي لعقولنا البسيطة ، سواء من حيث المتعة أو جني الفائدة أو بذخ المعلومة ..
حيث كان ظلام السينما المُحاط بالصمت ، وإيقاع التشكيلات البصرية السريع ، يبعثان فينا وحي الدهشات الأمينة المستمرة ..و يؤثران في خيالنا الغضّ
تأثيراً عظيماً ، وذلك بسبب بواكير أسئلته التي خلقت في دواخلنا حينذاك صراعاً ساذجاً و مُضحكاً وعفوياً للغاية ..
و كنا بعد انتهاء العرض ككل الأطفال - غالباً - ما نجد سلوكياتنا وردّات أفعالنا مُتأثرة بأفعال الشخصيات التي شاهدناها ( ماشيستي .. طرزان .. دنفديس .. بروسلي ...الخ ) وكنا حين نعبر الشوارع والأزقة وقتئذٍ ، نعبرها بصخب مشهود وطريقة بطولية مُشاكسة ..
ونادراً ما كنا نعود الى المنزل ، أو إلى الواقع المدقع الذي كنا نعيش فيه ، بلا شج في الرأس أو حسرة في النفس ..أو ضياع لشيء من أمتعتنا العتيقة ..
وأذكر حينها ، كم كنا نتمسك بأحلام تلك الليالي ، كالممثلين البائسين الذين لا يريدون التخلي عن أحلام أدوار البطولة طوال رحلة العمر ..
وعند المساء حين اجتماع أفراد الأسرة ، كان سردنا العفوي ﻷحداث الفيلم الذي شاهدناه في ذاك اليوم ، هو الكاشف الأوحد لنا ، و الدليل الأول علينا ، بأننا لم نذهب إلى المدرسة في ذاك اليوم ..
ليأت على الفور حديث العصا في الصباح من قبضة الأب الغاضب ، الذي يأبى أن يغادر إلى عمله الطويل، دون أن يترك على جلودنا الناعمة لغة عقابية، من لسعات وكدمات لا يمحوها ماح ..
لكن ومع تكرار قتل دهشتنا الطفولية تلك ، والإغتيال المستمر لأسئلتنا البسيطة ،..كنا نشعر وكأننا أكثر من ظل أحدٍ بالنسبة ﻷنفسنا ، بل وأحياناً نشعر وكأننا كائنات أخرى راقدة فينا ، وتوجهناعن غير معرفة ..
تقتاتُ من الجهل المحيط ، و تعتاش على الخوف الغامض من تعاليم القدوس الذي يحاصرنا في كل تحريكة وتسكينة من حياتنا ، لتختلط بعدئذٍ بسهولة تامة ، مع الامكانيات الساذجة ﻷفعالنا ولتقتحم كل أسوار أحلامنا المسترسلة .. والتي كانت لا تنقطع أدراج الغفو فيها إلا بصراخ أبي المتقطع ، وهو ينادي علينا باكراً كي نصلي صلاة الصبح ..
قائلاً : ( قوموا .. لهلق مدفوسين ... رح تطلع الشمس ) ..
أنا الآن لا أتذكر شيئاً ، أستطيع فقط أن أقول لكم ، لقد نسينا فحوى تلك الأحلام التي اغتيلت باكراً ..
لكن ربما يمكنني القول في الركعة الأخيرة :
نحن كنا - وربما مازلنا - ذواتاً خائفة وأنفساً مهزومة ، ماتتْ منذُ السَجّدة الأولى ..
وللحديث بقية ..



#زكريا_كردي (هاشتاغ)       Zakaria_Kurdi#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الدّْينُ التَسَلُّطي
- هلوسات فكرية ..4
- مَزيّة الفكر النَقدي و رَزيّة الفكر العَقدي
- - قطة الحَجّة -
- لماذا هيغل ..؟! (2)
- لماذا هيغل ..؟!
- الداعشية فكر في الدرجة الاولى ( 3 )
- قصائد - الغرق - عدَمية مُلفتة للنظر
- قراءة في ديوان ( قهوتي والتتار وأنت )
- دعوة للكتابة..
- هلوسات فكرية ..( 3 )
- عقول جلدية مُعارضة ..!
- بلى ، نحن مختلفون ..
- أفكار بسيطة حول مفهوم الدولة ..(5)
- أفكار بسيطة حول مفهوم الدولة ..(4)
- هلوسات فكرية..(2)
- - أدونيس - الثائر السوري الحقيقي
- أزمَةُ أفهَام لا أزمَة حُكّام ..
- لعنة الماضي ..
- ملاحظات على هامش كتاب - الدّين في حدود مُجرّد العقل - (3)


المزيد.....




- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب
- مصر.. دفن صلاح السعدني بجانب فنان مشهور عاهده بالبقاء في جوا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - زكريا كردي - منْ سَرْدِ الذّاكِرَة ..!