|
دماء على كرسي الخلافة 28
علي مقلد
الحوار المتمدن-العدد: 5701 - 2017 / 11 / 17 - 21:28
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
رأينا في المقال السابق أن الخليفة العباسي الأول "أبو العباس السفاح" قد بسط نفوذه ، وثبت أركان ملكه بالسيف وسفك الدماء ، لكنه لم يهنأ بالكرسي طويلا فقد وافته المنية ، ومات بالجدري بعد أربع سنوات من ولايته ، لكنه خلال هذه السنوات القليلة، ارتكب الكثير من الخطايا والجرائم، جعلته يستحق لقب السفاح عن جدارة ، ومثال على إجرامه وفجوره في الخصومة ، ما فعله مع الأمويين وقتل المعاهدين بالأمان منهم ، كما أن في طريقه لإخراس أي صوت معارض سفك دماء عامة المسلمين ، لمجرد اعتراضهم على قرار إداري اتخذه الخليفة السفاح ، مثل المجزرة التي فعلها بحق أهل الموصل ، لمجرد أنهم اعترضوا على تولية أحد الأشخاص عليهم ، فيقول ابن الأثير في كتابه "الكامل" : ان السفاح أرسل "محمد بن حول " واليا على الموصل ، فامتنع أهلها عن طاعته ، و سألوا السفاح ان يولي عليهم غيره ، فأرسل السفاح أخاه يحيى في اثني عشر ألف مقاتل ، فخافه أهل الموصل والتزموا ديارهم فنادى فيهم بالأمان ، فلما زال الخوف من نفوسهم، وخرجوا من منازلهم، فتك بهم و قتلهم قتلا ذريعاً وأسرف في القتل ، حتى غاصت الأرجل في الدماء كما يقول الرواة ، فلما كان الليل سمع صراخ النساء و الأطفال ، فأمر جلاديه بقتل النساء و الأطفال ، و ما بقي من الشيوخ و إستمرَّ القتل و التنكيل بالإبرياء و النساء و الأطفال ثلاثة أيام . ويورد ابن الأثير جريمة أخرى ارتكبها أحد ولاة السفاح على بلاد الحرمين، فيقول : لما أراد "داود بن علي بن عبد الله العباسي " الوالى على مكة والمدينة ، أن يقتل من كان في المدينة و مكة من الأمويين وأنصارهم جاءه عبد الله بن الحسن المثني بن الحسن بن علي بن أبي طالب ، متشفعا حتى يرده عن تلك المجزرة ، وقال له : يا بن العم إذا قتلت هؤلاء فيمن تباهي بالملك ؟ أما يكفيك أن يروك غاديا رائحا فيذلهم و يسوءهم ، فلم يقبل منه شفاعة، وقتلهم عن آخرهم ، وهذا جزء يسير مما فعله السفاح ، بعد أو وصل للسلطة على أنقاض دولة بني أمية ، لكن جرائم السفاح لم تثبت عرش العباسيين كما كان يتوهم ، فما أن مات حتى دبت الخلافات في البيت الحاكم ، خلافات كان من شأنها الإطاحة بالدولة العباسية الوليدة ، حيث أنها كانت بين أبو جعفر المنصور شقيق الخليفة والذي أعلن نفسه وريثا للسلطة بعد موت أخيه ، وبين عبد الله بن علي العباسي وهو عم السفاح والمنصور ، وأحد أبرز القادة العسكريين الذين قامت على أيديهم الخلافة العباسية ، وكان شديد الإجرام ، وسفك في سبيل السلطة دماءا كثيرة ، وهو أيضا قائد معركة الزاب وحصار دمشق وقتل آخر الخلفاء الأمويين ،وكان يرى أن الأحق بالخلافة من ابن أخيه المنصور ، لذلك حين علم بموت الخليفة السفاح ، قام في الناس خطيباً، وقال إن الخليفة الراحل، كان قد عهد إليه حين بعثه إلى مروان بن محمد ، أنه لو تمكن من كسره ، سيكون الأمر "الخلافة" إليه من بعده، وشهد له بذلك بعض أمراء العراق، ونهضوا إليه فبايعوه، ورجع إلى "حران" آخرعاصمة للأمويين ، فتسلمها من نائب أبو جعفر المنصور بعد محاصرة أربعين ليلة، ومن هنا بات للمسلمين خليفتان مرة أخرى ، المنصور في العراق ، وعمه في الشام ، وها هي مرة أخرى ، يجد المسلمون أنفسهم وقودا لحروب الطامعين في السلطة ، رجل وأبن أخيه يقتتلان على كرسي الخلافة ، والثمن سقوط آلاف القتلى من المسلمين في حرب لا ناقة لهم فيها ولا جمل. خلاصة القول ، بلغ المنصور ما كان من أمر عمه ، فبعث إليه أبا مسلم الخراساني ومعه جماعة من الأمراء، وقد تحصن عبد الله بن علي في "حران" ، فسار إليه أبو مسلم الخراساني ، فلما تحقق عبد الله قدوم أبي مسلم إليه ، خشي عبدالله من خيانة الفرس في جيشه نظرا لميولهم لأبي مسلم، فقتل منهم سبعة عشر ألفاً، وأراد قتل أحد قادته العسكريين من باب الشك أيضا وهو القائد حميد بن قحطبة بن شبيب ، فهرب الأخير إلى أبي مسلم وانضم بأنصاره للجيش الخراساني، فلما خاف عبد الله من الهزيمة ، ترك مكانه واتجه ناحية بلدة "نصيبين" وخندق حول معسكره، فلحق به أبو مسلم ونزل في ناحية قريبة منه، وكتب إلى عبد الله: إني لم أومر بقتالك، وإنما بعثني أمير المؤمنين والياً على الشام فأنا أريدها ، لكن معركة بين اثنين من مجرمي الحرب لا تحسمها الخطابات ولا العهود ، فما كان هناك أمامهما سوى مقارعة السيوف ، وهو ما حدث بالفعل واستمرت الحرب بين الطرفين نحو خمسة أشهر سقط فيها آلاف القتلى من الطرفين ، وحين حانت اللحظة الفارقة ، استخدم أبو مسلم الخراساني مكره ودهاءه في الكر والفر والمناورة حتى أرهق جيش عبد الله بن علي وألحق به هزيمة قاضية ، وكعادة مجرمي الحرب يضحون بجنودهم وعند الهزيمة يهربون من الميدان ، فقد فر عبد الله من أرض المعركة ، وذهب إلى أخيه سليمان بن علي بالبصرة، فأقام عنده زماناً مختفياً، حتى علم به الخليفة المنصور ، فبعث في طلب عمه ومنافسه المهزوم ، فألقي القبض عليه ، وسجنه في بيت مبني على الملح ، ثم أطلق عليه الماء فذاب الملح وسقط البيت على عبد الله فمات ، وهو فعل ذلك لأنه كان تعهد لعشيرته من العباسيين بعدم قتل عمه فاحتال على قتله. لكن كما رأينا في سلسلة مقالات "دماء على كرسى الخلافة" ، أن السلطة عند المسلمين المتصارعين على الحكم ، لا تقبل القسمة على اثنين وأن كل أمراء الحرب ، ضحوا بالأهل والأصدقاء والحلفاء ، من أجل الإنفراد بالسلطة ، فها هو أبو جعفر المنصور ، بعدما تخلص من عمه ، بيد أبو مسلم الخراساني أبرز القادة العسكريين ، والذي قامت الدولة على أكتافه وفضله على العباسيين كبير جدا ، لكنه في الوقت نفسه مصدر قلق الخليفة ، فشعبية الخراساني جارفة ، وأنصاره بطول الخلافة وعرضها ، وكانت تفسح له الطرق والمجالس أكثر من الخليفة نفسه ، مما أوغر صدر المنصور ، واستشار أعوانه في أمر الخراساني ، فنصحوه بقتله والتخلص منه ، لكي يكون سيدا أوحدا في سلطته وملكه ، وهو لم يرد لهم نصيحة ، فاحتال وخطط ودبر لقتل الرجل، الذي وضع اللبنة الأولى للخلافة العباسية وأنشأها من العدم ، لكن شهوة السلطة لا تبقى ولا تذر . بالفعل، أرسل المنصور إلى أبى مسلم ، يستدرجه بحجة أنه ولاه على مصر والشام، وعليه أن يوجه إلى مصر من يختاره نيابة عنه، ويكون هو في مقر الخلافة حتى يكون أقرب من الخليفة وأمام عينيه ؛ كان هدف المنصور إبعاد أبو مسلم عن خراسان حيث شيعته وموطن رأسه ، إلا أن أبا مسلم كان يعلم بسوء نية الخليفة ، فأعلن الخروج على طاعة المنصور، ونقض البيعة له ، وبالتأكيد كان يشعر بقوته وقوة أنصاره ، وكيف لا وهو الذي استولى من قبل على خراسان ونيسابور وقتل حكامهما الأمويين وأعلن ميلاد الدولة العباسية ، فربما جال برأس الخراساني خاطر يغريه بإعلان نفسه خليفة هو أيضا ، لكن الخليفة المنصور لم يعدم الحيلة وظل يغري الخراساني وعاهده وأمنه على نفسه وأهله وماله ، فبلع أبو مسلم الطعم ، وجاء إلى مقر الخلافة بالعراق ، وحين وصل لم يتردد الخليفة المنصور في قتل الخراساني صاحب الأفضال الكثيرة على العباسيين عامة وعلى المنصور خاصة ، ولكن هذه نهاية طبيعية لأمراء الحروب ، فليس هناك بينهم عهد ولا أمان. بيد أن مقتل رجل كأبى مسلم الخراسانى ، ليس بالأمر الهين فقد أثار ذلك غضب الفرس وبعض العرب أيضا ، خاصة أن أبا مسلم من وجهة نظرهم ، هو الداعية والمحارب الذي خلص الأمة من جور الأمويين ، وأنه لا يستحق القتل ، فثاروا وأعلنوا العصيان ، فما كان من الخليفة المنصور إلا أن خطب في الناس ، مهددا ومتوعدا ، و قال: "أيها الناس، لا تخرجوا من أنس الطاعة إلى وحشة المعصية، ولا تمشوا في ظلمة الباطل بعد سعيكم في ضياء الحق، إن أبا مسلم أحسن مبتدئًا وأساء معقبًا، فأخذ من الناس بنا أكثر مما أعطانا، ورجح قبيح باطنه على حسن ظاهره، وعلمنا من خبيث سريرته وفساد نيته ما لو علمه اللائم لنا فيه لعذرنا في قتله، وعنفنا في إمهالنا، فما زال ينقض بيعته، ويخفر ذمته حيث أحل لنا عقوبته، وأباح لنا في دمه، فحكمنا فيه حكمه لنا في غيره، ممن شق العصا، ولم يمنعنا الحق له من إمضاء الحق فيه"... هنا يريد المنصور أن يهدد من يثور ويشق عصا الطاعة من ناحية ويوضح أنه استحل دم الخراساني بسبب الخيانة كما كان الخراساني يستحل دم الخونة من قبل عندما كان قائدا عسكريا للعباسيين .. يقال أن الخراساني قتل نحو ستمائة ألف شخص من أجل تثبيت دولة بني العباس ، ومع ذلك كان جزاؤه القتل. رغم قوة المنصور وخطورة تهديده ، إلا أن الفرس وأهل خراسان لم يرتدعوا، وقام شخص يدعى "سنباذ" وهو أحد القادة العسكريين لأبي مسلم ، وجيش جيشا بلغ تعداده حسب روايات المؤرخين نحو مائة ألف مقاتل ، واستولى على نيسابور إلى مدينة الري ، وقتل أبي عبيدة الحنفي عامل المنصور عليها ، واستولى على الخزائن التي كان وضعها أبو مسلم هناك ، ولما قوي أمره أكثر ، خرج يطالب بدم أبي مسلم ، واستمر سنباذ يحكم عدة ولايات إسلامية اقتطعها من الخلافة العباسية نحو سبع سنوات ، مما شكل خطرا على المنصور نفسه ، وهدد استقرار ملكه، فقرر المنصور المهواجهة بطريقتين متوازيتين ، أشاع دعاة العباسية بين الناس أن سنباذ مجوسي ، وأنه يريد هدم الكعبة حتى ينفض الناس عنه من ناحية ، وفي الناحية الأخرى جهز المنصور جيشا كبيرا، بقيادة "جهور العجلي" ، وبالفعل سار الجيش العباسي وتقدم نحو أصفهان وحرص العجلي ، وهو في طريقه أن يقوي جيشه بالمرتزقة من القرى التي يمر عليها ، حتى وصل إلى مشارف الري حيث اشتبك مع سنباذ في حرب ضارية ، استمرت ثلاثة أيام سقط فيها آلاف القتلى ، وفي اليوم الرابع ، قتل سنباذ بيد "جهور " في أثناء نزال بينهما فتفرقت جموعه ، فدخل الجيش العباسي الري ، وأغار على منازلها ونهبها وسبى نسائها واتخذ ابناءها عبيدا... وفي المقال القادم نواصل إلقاء الضوء على الدماء التي سالت على كرسي الخلافة.
#علي_مقلد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
دماء على كرسي الخلافة 27
-
دماء على كرسي الخلافة -26-
-
دماء على كرسي الخلافة -25-
-
دماء على كرسي الخلافة -24-
-
دماء على كرسي الخلافة -23-
-
دماء على كرسي الخلافة 22
-
دماء على كرسي الخلافة 21
-
دماء على كرسي الخلافة 20
-
دماء على كرسي الخلافة 19
-
دماء على كرسي الخلافة 18
-
دماء على كرسي الخلافة 17
-
دماء على كرسي الخلافة 16
-
دماء على كرسي الخلافة 15
-
دماء على كرسي الخلافة 14
-
دماء على كرسي الخلافة 13
-
دماء على كرسي الخلافة -12-
-
دماء على كرسي الخلافة -11-
-
دماء على كرسي الخلافة -10-
-
دماء على كرسي الخلافة 9
-
دماء على كرسي الخلافة 8
المزيد.....
-
مصادر فلسطينية: قوات الاحتلال تقتحم بلدة ياسوف شرق سلفيت
-
مصادر فلسطينية : قوات الاحتلال تقتحم بلدة ياسوف شرق سلفيت
-
رئيس الاستخبارات الإسرائيلية يلتقي الزعيم الروحي للطائفة الد
...
-
اتفرج دلوقتي وأبدء غني مع أطفالك .. تردد قناة طيور الجنة 202
...
-
قائد الثورة الاسلامية يلقي خطابا يوم الاربعاء حول تطورات الم
...
-
الجهاد الاسلامي: العدوان الاسرائيلي اعتداء صريح على الشعب ال
...
-
الجهاد الاسلامي: توسيع -إسرائيل- احتلالها للأراضي السورية يث
...
-
ما رسائل الشرع من زيارته الجامع الأموي وكيف تغيرت شخصيته؟
-
الجولاني من داخل المسجد الأموي في دمشق: الأسد ترك سوريا مزرع
...
-
رئيس أكبر فصيل معارض بسوريا: سقوط بشار الأسد انتصار للأمة ال
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|