أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح حبيب - سكران أم خِبل ؟















المزيد.....

سكران أم خِبل ؟


صالح حبيب

الحوار المتمدن-العدد: 5431 - 2017 / 2 / 13 - 00:16
المحور: الادب والفن
    


في احدى الامسيات الجميلة من أماسي بغداد من سنوات الثمانينات كنت أجلس برفقة اخي الاصغر في إحدى الكازينوهات المطلة على كورنيش نهر دجلة الخالد في شارع ابي نؤاس حيث اعتدنا ان نمارس لعبتنا المحببة الشطرنج، كنا نعشق هذه اللعبة ونتنافس على الفوز دائما.
كانت مائدة جلوسنا تجاور السور الخشبي الخلفي للكازينو والذي يرتفع قليلا عن مستوى ممر المتنزهين في حدائق الكورنيش و ملاصق له والذي بدوره يحاذي النهر.
في ذروة انهماكي بالتحديق في رقعة الشطرنج استفقت من استغراقي بالتفكير في نقلتي القادمة ورفعت بصري عن الرقعة لكي أمنح عيناي بعض الارتياح بالنظر إلى نقطة بعيدة لا على التعيين لكي أزيل بعض الشد الذهني حتى أتهيأ للنقلة القادمة.
ولكن في هذه الأثناء لفت انتباهي شخص يقف على حافة ممر المشاة في الخارج قريبا جدا من محل جلوسنا، ويبدو عليه أنه كان يمعن النظر إلى رقعتنا الشطرنجية من مكانه وكأنه يتابع سير اللعبة، ولكن لعبة كالشطرنج لا يمكن متابعة ما يجري على رقعتها من بعيد، بل بالجلوس مع اللاعبين والتركيز معهم في الرقعة.
في نفس الوقت كان ذلك الرجل الثلاثيني يضرب بيده اليمنى بشكل متواتر على فخذه وينفث حسرات لم اجد لها اي تفسير.
في الواقع أننا استغربنا لهذا التصرف الغريب والغير مفهوم.
سألني أخي : " هذا شبيه ؟" (أي : ماذا به؟)
فقلت لأخي: "العب العب عوفه هذا سكران .. ويجوز خِبل" ( في اللهجة العراقية: واصل اللعب واتركه ربما انه سكران او مخبول)
تجاهلناه وغرقنا في التفكير بالنقلة القادمة من جديد..
ولم تمض دقائق معدودات حتى تفاجأت بنفس الشخص يقف قرب مجلسنا متسلطا فوق رؤوسنا وكأنه قد نبع فجأة فوق سطح الأرض
سألني : "هل تسمح لي بالجلوس؟"
والملفت للنظر أن سؤاله كان باللغة الانكليزية..
نظرت في وجهه وانا صامت لفترة طويلة حتى احسست انه شعر بارتباك لتأخري السماح له بالجلوس، ولكنني في الحقيقة كنت في تلك اللحظة اتساءل لماذا يتحدث الانكليزية هل هو يتبجح ام انه يتظاهر أمامي بالثقافة الأوروبية؟ فشكله لم يكن يوحي بأنه غربي بل ان مظهره وشكله يبدو كأي عراقي تقليدي، أسمر بشعر أسود مموج قليلا بشوارب وملابس لا تشبه ملابس السياح.
كما اننا في العراق لم يتعود العراقيون مخاطبة بعضهم البعض بعبارات أجنبية كما في مصر او لبنان او المغرب العربي حيث يستعملون الفرنسية أحيانا إلا في أوساط ومناسبات معينة كالمعارض الفنية أو التجمعات الثقافية والأوساط الجامعية.
و أخيرا وبعد ثواني طويلة من التفكير اشرت له: "تفضل"
جلس وهو يحرك رأسه يمينا وشمالا بتذمر لتأخري السماح له بالجلوس أو ربما لانني لم اكن مضيافا بما فيه الكفاية، أو ربما كان يعني شيئا آخر لم اتوصل اليه في حينها.
فقلت مع نفسي لنختبر لغة الرجل الذي يتظاهر امامي انه اجنبي (كان عملي في تلك الفترة في ما كان يعرف في العراق بصحافة الشباب وجزء كبير منه كان في الترجمة من المجلات والصحف الأجنبية ولغتي الانكليزية في المحاورة كانت جيدة بما يؤهلني للحديث والنقاش)
كان كل ظني انه عراقي يحاول التظاهر بأنه اجنبي لأن المثقفين العراقيين لا حتى لو كان احدهم متمكن من لغة معينة فهو لا يستعملها في الشارع او مع عامة الناس لعلمه ان الثقافة العامة للمجتمع العراقي تفتقر الى المستوى اللغوي الجيد في ما يتعلق باللغات الاجنبية والانكليزية تحديدا.
بدأت أسأله وهو يجيب ولكن فتبين لي فعلا انه ليس عراقيا يتظاهر بما ليس له بل هو فعلا اجنبي رغم محدودية انكليزيته ولكن مظهره وهيئته ولونه هم الذين خدعوني في باديء الأمر
أخبرني أنه فنزويلي يعمل في إحدى شركات النفط في العراق. وهنا وضحت لي الصورة بالنسبة لهيئته وحديثه باللغة الانجليزية.
بعد ان انهينا دست الشطرنج أنا وأخي وكان هو يراقب اللعب بأدب وتركيز، دعاني لكي العب معه و بنبرة مليئة باللهفة وفيها نوع من التحدي فقبلته ويبدو أنه كان يخبيء لي مفاجآت هجومية جلبها معه من بلاده البعيدة..وفعلا فأن هذا الرجل الذي اعتبرته أنا في باديء الأمر سكرانا أو خبلا او مرضا نفسيا بسبب وقوفه وتصرفه الغريب ظهر أنه كان يلعب الشطرنج باحترافية عالية وفن رفيع حتى وجدت نفسي شبه منهزم أمامه فعانيت منه الامرين من قوة لعبه وسرعة هجومه وتطويقه لقطعاتي، ولكنني وكما يحدث في أفلام الملاكمة باغتّه اخيرا بنقلتين لم يكن يتوقعها مني اطلاقا وتمكنت منه بهما بضربة قاضية مفاجئة أخرجته من الحلبة ..كش مات..دون المرور بسلسلة من الكش-ملك فمددت يدي له مصافحا وانتهت اللعبة بفوزي عليه وسط دهشته.
صافحني بهدوء، لكنه بقي غير مصدق بأنه قد اندحر تواً وهو ينظر مصعوقا إلى الرقعة، وأخاله كان يعتقد انني غششت وراح ينقل بصره بيني وبين الرقعة حتى رثيت لحاله لأنه كان يقول مع نفسه بصوت مسموع: كيف ؟ كيف؟ هذا غير ممكن؟ وعندما اطمأن لصحة اللعب والنتيجة فأعاد ظهره إلى الكرسي باسترخاء.
أحسست من خلال تعابير وجهه بأنه يكاد يقول لي: " من انت حتى تغلبني بهذه السرعة؟" حتى احسست انه يكاد ينفجر غضبا. ولكنه طلب منى بنبرة رجاء شعرت معها بأنه كما لو كان يتوسلني اللعب لدست آخر (جولة الشطرنج تسمى دست) فقبلت لأنه ليس من الفروسية عند لاعبي الشطرنج الهروب بفوز في دست واحد على الخصم عندما تكون الظروف ملائمة لجولة أخرى..
هذه المرة كان لعبه مختلفا تماما بل مثيرا ..وحقيقة أنني لم أر مثيلا له في حياتي إلا في كتب الشطرنج الأكاديمية ومباريات المحترفين الموصوفة في الكتب لبطولات العالم التاريخية، وللقراء من الذين لهم معرفة بلعبة الشطرنج أقول لقد جعل افتتاحيته واستحواذه على مربعات وسط الرقعة وانتشاره تتم بالبيادق فقط واستمر بهذه الطريقة باللعب بأسلوب صعقني فعلا حتى حاصرني بالبيادق فقط بهجوم صاعق وجميل للغاية ولكنه كان قاتلا في نفس الوقت. وتغلب علي بطريقة لم اتوقعها ولم اشاهد مثيلا لها من قبل ولقد أحببتها في الحقيقة ..فوجه لي الكش مات بالبيادق والوزير فقط ولم يحرك باقي الأحجار من الأفراس والرخاخ و الفيلة بل ثبتهم للدفاع
مازلت اذكر تلك الهزيمة الشطرنجية الجميلة والممتعة التي أصابتني وابتسمُ للطريقة التي هزمت بها.فقد كان أداؤه وطريقة لعبه وكأنه يثأر لكرامته بجنود المشاة فقط ومن خلفهم قائدهم (الوزير) ..
صافحني ونهض مختالا بتعادله وعلامات الارتياح ارتسمت على وجهه ثم انصرف بهدوء.





#صالح_حبيب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- قصة حب ريفية..جا وين اهلنا..رؤية شخصية لقصة الاغنية
- شيء من الخوف في الباب الشرقي
- قصيدة حديثة نسبت بالخطأ الى الشاعر العراقي الملا عبود الكرخي
- دقة تصوير الاحداث عند على الوردي
- كيف انتشر في الانترنيت التحذير الشهير من تطبيق الفايبر Viber ...
- فأسلم كل من على محطة الفضاء الدولية
- هل نحن وحيدون في الكون؟ - 3 لقاء من النوع الثالث
- هل نحن وحيدون في الكون؟ 2- قيامة الجنس البشري
- هل نحن و حيدون في الكون؟ 1 - الأتصال
- روائح و ذكريات
- سلة المهملات
- علماء الفلك يكتشفون كوكبا من الماس الخالص
- سوبرحمار
- رؤيا مستقبلية - ثلاث أقصوصات
- حرب صاروخية جميلة
- فنتازيا حب
- رحلة في ذاكرة بغدادية - سبعينات القرن العشرين 1970 - 1979
- أخلاق إسلامية بلا إسلام


المزيد.....




- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا
- منح أرفع وسام جيبوتي للجزيرة الوثائقية عن فيلمها -الملا العا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - صالح حبيب - سكران أم خِبل ؟