أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جعفر المظفر - كتابة التاريخ على الطريقة الأرخميدسية














المزيد.....

كتابة التاريخ على الطريقة الأرخميدسية


جعفر المظفر

الحوار المتمدن-العدد: 5413 - 2017 / 1 / 26 - 22:13
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


كتابة التاريخ على الطريقة الأرخميدسية
جعفر المظفر.
بعض أخطاء الكتابات التاريخية أنها تٌسقط المثال والنموذج على الواقع المتصف بإستثنائياته وبطريقة أكاديمية تتخطى حدود التوصيف وطرق الإستنتاج وكأننا نتصدى لدراسة ظاهرة طبيعية عُرِفت تماما قوانينها وأسبابها وتمظهراتها , حيث منهج الدراسة ووسائلها وآلياتها معروفة وجاهزة بحيث يتحول الكاتب إلى راوية بدلا من باحث, وإلى ناقِل بدلا من صاقِل.
إن دور الباحث يجب ان يتقدم كثيرا على دور الراوية, ولعل من أهم صفاته التهيؤ للحظة الإكتشاف على الطريقة الأرخميدسية. صرخة أرخميدس ما زالت تدوي في رؤوسنا. إنها دهشة الإكتشاف في عقل رجل لم يكن مصابا بمرض الأستاذية. وزن الجسم يعادل وزن الماء المزاح, قانون بسيط بإمكان طفل أن يفهمه في لحظات. لم يكتشف أرخميدس قانونه, المعقد جدا قبل لحظة الإكتشاف, والبسيط جدا بعدها, في مختبره المكتظ بالأجهزة العلمية بل كان توصل إليه وهو يجلس في حوض إستحمامه. ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي يضع فيها أرخميدس جسده في حوض الماء, كما ولم تكن تلك أيضا مرَّتَه الأولى وهو يتفرج على منظر الماء الذي بدأ يتسرب من حوض السباحة. لكن أرخميدس كان يسبح وقتها في مائَيْن, ماء أفكاره وماء حمامه, وفي لحظة التلاقي بين ماء الأفكار وماء الحمام ولدت اللحظة الفاعلة.
والتاريخ تكتبه في العادة اللحظات الفاعلة لا اللحظات السياقية الهادئة, تكتبه الصيحة التي تلي تأمل اللاهث للمعرفة, الذي يعتقد أن مختبره ليس وقفا على تلك الغرفة المجهزة بآلات البحث وإنما هو يمتد ليشمل غرفة نومه ومعيشته وطعامه وحمامه, فإذا به يكتشف في حوض إستحمامه ما كان قد عجز عن إكتشافه في حوض مختبره.
ومثل أرخميدس إكتشف نيوتن قوانين الجاذبية وهو يجلس متأملا تحت ظل شجرة تفاح, أما التفاحة التي سقطت على رأسه حينها فلم تكن شاردة عن المشهد بل شاردة إليه, حتى كأنها ما سقطت في تلك اللحظة إلا لأنها تريد أن تساعده على إنجاز لحظة الولادة, أو لعلها لم تسقط إلا لأنها شعرت أن هناك قوة كهرومغناطيسية في عقل نيوتن دعتها إلى السقوط لكي تشاركه لحظة الإكتشاف.
لكن لحظة الإكتشاف تلك لم تكن لحظة منفلتة عن سياق, أو أنها كانت منقطعة عن أيام العمل المختبري ولياليه, بل لعلها كانت هي اللحظة الفاعلة التي تجمع ما بين التأمل والأداة, ما بين مختبر أرخميدس وحوض إستحمامه, ما بين معمل نيوتن وشجرة التفاح, ما بين ساعات العمل وسويعات الإستراحة.
حتى في احلامه يتابع الباحث المكتشف مشروعه الإبداعي. وهو لن يبدع ما لم يكن ملتصقا في مشروعه كإلتصاق الجنين في رحم أمه وصولا إلى لحظة الولادة, تلك التي قد تحدث في أي مكان, في حمام سباحة او تحت شجرة تفاح, وليس في الضرورة أمام جهاز سونار أو عدسة مجهر.
والباحث الجيد كالمرأة الحامل, لا يرتاح إلا في ساعة الولادة بعد طول معاناة من ألم المخاض. وحدها لحظة الولادة تخلصه من ذلك الألم. وحدها لحظة النظر إلى وجه المولود تقنعه أن الألم لم يكن مجانيا. وحده التأكد من صحة المولود, إشراقته وسلامته البدنية, تجعله يشعر أن حجم الألم كان مجديا, وإن الألم من أجل الحصول على نتيجة مجدية هو جزء من تلك النتيجة وضمانة للوصول إليها.
تاريخنا السياسي بحاجة إلى باحثين بهذا الوصف. باحثون يقررون الكتابة, لا لأنهم يمتلكون قدرة الوصف وخاصية سرد الأحداث ومناعة وقوة الذاكرة, ولا لأنهم بحكم الإختصاص الأكاديمي أصبحوا مهنيا دون سواهم يمتلكون شرعية الأرخنة السياسية والفكرية, وإنما لأنهم يؤمنون بداية أن البحث في التاريخ وإكتشاف قوانينه هو علم وفن, وهو, شأنه شان العلوم الأخرى, بحاجة إلى مختبر باجهزة وأدوات لتفكيك وتركيب الحقائق بعد إسترجاعها, وغربلة ما تجمع بعد التفكيك للتخلص من العوالق والرواسب ثم إعادة تركيب ما تبقى بإنتظار صرخة الـ (وجدتها), تلك التي قد تنطلق في حوض إستحمام أو تحت شجرة تفاح أو إلى الجوار من جذع نخلة, في لحظة يتقن الباحث جيدا فن إكتشافها.
وإذا ما كان الباحث في الطب أو في الكيمياء أو في علم الفلك بحاجة إلى أداوات تشريح أو مجاهر أو شرائح فحص أو فراجيل او موازين فإن الباحث في التاريخ لا أظنه يعمل بدون تلك الأجهزة والأدوات, بل أراه يجمعها كلها في عقله وذاكرته وبصره, حتى يستطيع أن ينظر للحقائق مهما صغر حجمها ثم يقيس حركيتها وتأثيراتها في العمق قبل ان تنتج الحقائق التي تتحرك على الأرض, فتكون وظيفته إذ ذاك منصبة ليس على توصيف ما يتحرك على السطح بكل وضوح ودقة وإنما لوضع اليد على أسبابها وصولا إلى الصرخة الأرخميديسية.
تاريخنا السياسي والإجتماعي بحاجة إلى مكتشفين مثل بن خلدون, رحالة مثل بن بطوطة, ومنقبين مثل كريمر وطه باقر, ولحظات فاعلة مثل لحظات أرخميدس ونيوتن. هؤلاء كانوا قد واصلوا الليل بالنهار علما وإطلاعا وتنقيب من أجل الوصول إلى لحظة الصرخة الأرخميدسية.





#جعفر_المظفر (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ترامب .. إن غدا لناظره قريب.
- جواد سليم في واشنطن
- ما أروع أن يكون رجل الدين علمانيا
- لماذا تقاتل روسيا في سوريا
- أعياد الميلاد وصناعة الفرح
- القائم من موته كي يورثنا الفرحة
- أمريكا.. البحث عن عبدالله إبن سبأ
- العلمانية في العراق .. قضية وجود أم قضية تحضر
- ملحدون تكفيريون
- عن الحشد الشعبي وتقنينه وقدسنته.
- حكاية الشرف الذي تغار علية صحيفة الشرق الأوسط ويدافع عنه منت ...
- عدو صادق أفضل من صديق منافق
- مع ترامب .. تعالوا نتحدث عن الأسماك
- النفوذ الصهيوني والإنتخابات الأمريكية
- الحسين والمرجعية الدينية وقضية تحرير نينوى
- كيف تكون ملحدا في أسبوع
- ترامب وخطاب الكراهية ضد المسلمين
- طقوس الحزن الحسيني في إيران والعراق .. لماذا الإختلاف رغم ال ...
- وهل يرضى الحسين بهذه الكوميديا السوداء (2)
- وهل يرضى الحسين بهذه الكوميديا السوداء


المزيد.....




- ماذا كشف أسلوب تعامل السلطات الأمريكية مع الاحتجاجات الطلابي ...
- لماذا يتخذ الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إجراءات ضد تيك ...
- الاستخبارات الأمريكية: سكان إفريقيا وأمريكا الجنوبية يدعمون ...
- الكرملين يعلق على تزويد واشنطن كييف سرا بصواريخ -ATACMS-
- أنطونوف يصف الاتهامات الأمريكية لروسيا حول الأسلحة النووية ب ...
- سفن من الفلبين والولايات المتحدة وفرنسا تدخل بحر الصين الجنو ...
- رسالة تدمي القلب من أب سعودي لمدرسة نجله الراحل تثير تفاعلا ...
- ماكرون يدعو للدفاع عن الأفكار الأوروبية -من لشبونة إلى أوديس ...
- الجامعة العربية تشارك لأول مرة في اجتماع المسؤولين الأمنيين ...
- نيبينزيا: نشعر بخيبة أمل لأن واشنطن لم تجد في نفسها القوة لإ ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جعفر المظفر - كتابة التاريخ على الطريقة الأرخميدسية