نضال نعيسة
كاتب وإعلامي سوري ومقدم برامج سابق خارج سوريا(سوريا ممنوع من العمل)..
(Nedal Naisseh)
الحوار المتمدن-العدد: 1427 - 2006 / 1 / 11 - 11:17
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
ما كان المواطنون السوريون بانتظار تصريحات السيد خدام، وذاك الرد "البرلماني" المؤلم الموجه بالريموت كونترول لكي يتعرفوا على بعض من بواطن الفساد، وخفاياه المستشرية والضاربة الجذور في كل ركن من أركان المؤسسة الرسمية التي اجتاحتها جحافل شرهة، ومنفلتة من الجراد البشري الفتاك الذي أتى تقريبا على كل شيء في البلاد. وفي الحقيقية ما جاء في مقابلة السيد خدام، لجهة الفساد حصرا، أقل بكثير مما يعرفه عموم الناس، ولكن ما أخفاه تحالف مجلس المارسيدسات وحاولوا مداراته بتلك الأحادية النقدية، التي ذهبت باتجاه واحد، يتجاوز بكثير كل ماقيل في هذا الإطار. وهو، في الواقع، أكثر بكثير مما طفح على سطح تلك المهاترات، وأعمق بما لا يقاس مع سطحية تلك الرتابة الخطابية النكداء. لذلك فإن كل ماورد من أقوال وتصريحات وردود أفعال يأتي ضمن السياق العام لأحاديث يومية متداولة بين الناس، ومواد لتقارير صحفية وكتابات، لكثرتها وتعدد أبطالها، لم تعد دسمة، أو ذات شأن، وحكايات يتندر بها، ويتناقلها المواطنون بنفس القدر الذي يتحدثون به مثلا عن أسعار الفروج، ومسلسلات التلفزيون في الكراجات. فإن امتلاك عريف بالجمارك، مثلا، لم تتجاوز ثقافته الابتدائية بأحسن الأحوال، للفيلل، والسيارات، والشاليهات لم يعد خبرا يثير دهشة أي مواطن قابع في أبعد الأرياف. ويبقى البعد السياسي المتعلق بمستقبل النظام برمته هو الذي أضفى على تلك التصريحات تلك الإثارة والاهتمام الذي طغى على ما عداه.
ومن حيث المبدأ، لايمكن النظر إلى انشقاق السيد خدام بتلك الصورة المجتزأة الكئيبة، التي حاول البعض إظهاره بها كحالة فريدة، استثنائية وشاذة عن نسق عام، وممنهج ساد، وبوتيرة متصاعدة، لعقود من الزمان. إلا أن البعد السياسي، وذاك الشق الهام المتعلق بجريمة اغتيال الحريري، والذي فجر غضب النظام، وجعله يفقد صوابه من عزم الصدمة وجرأة واستفشار الإتهام، وما قدمه من معلومات، تبقى حتما في إطار التكهنات، حيث من المبكر جدا، ومن الحماقة المجازفة بإصدار أية أحكام مسبقة كما ردد هو بالذات، وهو بالتأكيد الجانب الأهم الذي أعطى للقاء بعداً نوعيا بما ينطوي عليه من حساسية كبرى لأهل النظام في هذا الوقت بالذات، في محاولة جادة منه لإطلاق رصاصة الرحمة على نظام يبدو مترنحا ومتخبطا جراء تعاقب "الصدمات" الإقليمية والدولية عليه.
فقصص الفساد تنتشر في كل مكان، وروائحها النتنة ومخازيها تملأ الآفاق، ومآثر الفتوحات الكبرى في دنيا المال، وتراكم الثروات يلمسها المواطن العادي في تلك القصور، والأبنية، والمشاريع، والسيارات الفارهة التي تعبر أمام ناظريه، فيما تراه يتحسر ألما، وغيظا بسبب الضوابط الصارمة واللامتناهية التي يضعها أمامه رجال الإقتصاد "الحريصون" جدا على المصلحة الوطنية حين يريد امتلاك مجرد بيك آب لنقل البهايم، والتبن، والدواب، في حين لايتورع –نفس الخبراء إياهم- عن إيجاد مختلف المبررات، والمنافذ القانونية لشراذم المافيات الشرهة للفتك بالاقتصاد. وحين يحاول نفس المواطن "المعتر الشقيان" عبثا أن يجد مبررا لتلك الازدواجية المنحازة، سلفا، لشبكات الإفقار، فلا يجد تسويغا سوى ذاك الدعم الضمني والسكوت من جهات فاعلة مقابل ضمان البيعة والولاء.
وإذا كان كلام أي مواطن أو مسؤول عن الفساد علناً، أو سرا، أو ممارسته له بشكل ما، وبغض النظر دائما عما جاء بموضوع اغتيال الحريري موضع الإشكال، يدخل ضمن تصنيف الخيانة العظمى وحرمان المواطن حتى من اسمه وكل ألقابه دون حكم قضائي، لكان عدد كبير من الناس هم ضمن هذا التصنيف. فهناك، مثلا، فنانون، وكتاب، وشعراء كثر تناولوا قضية الفساد بكثير من الإفاضة والإسهاب، فهل هؤلاء كلهم خونة وعملاء؟ ولكان، مثلا، معظم مواطني الدول التي تتمتع بقدر من الديمقراطية، وكتابهم وصحفيوهم وأجهزتهم الرقابية الأخرى، الذين يمارسون النقد وكشف الأخطاء، هم من المتآمرين الذين لا هم لهم سوى التآمر على أوطانهم والإيقاع بها في شرك الأعداء. أعتقد أن منطقا كهذا ربما يوازي نفس حجم حادثة الإنشقاق في يوم الميلاد، وهو أصلا أحد الأسباب الكارثية التي أدت لنشوء مثل هذه الظواهر السوداء. فلو كان هناك أجهزة تراقب، وآليات للمحاسبة، والمساءلة لما كانت الأمور قد تداعت على هذا المنوال المأساوي، ولو كان هناك أصلا كلاما جديا عن مكافحة الفساد، وتشريحا له في الصحافة، ووسائل الإعلام، لأتت هذه التصريحات كخبر ثانوي في صفحة داخلية بجانب إعلان عن حركة القطارات، والصيدليات المناوبة في نهر عيشة، والدعتور.
وفي أي نظام ديمقراطي فإن كشف الفضائح وتسليط الأضواء على بعض الممارسات السلبية والأخطاء، ومثول كبار المسؤولين أمام القضاء، هو ممارسة يومية اعتيادية نتابعها بملل على شاشات التلفاز، والحقيقة المرة التي يجب أن نستخلصها من هذه المعمعة الفضائحية الفضائية بشقيها الخدامي، والبرلماني المرسيدسي هي أن لاوطن أبدا للمافيات، ولا حدود لانفلاتها، ولا تنبؤ مطلقا باتجاهاتها وسيروراتها الحسابية، وهي معروضة دائما في السوق السياسي "كنجمة صبح" على حد قول النواب.
إذن ثمة في الأمر شيء آخر غير أزعومة الفساد المألوفة في كل مكان، إنه تداخل السياسية مع الفساد، واستطالات الرقاب، والرؤوس، والأعناق بأكثر مما قدر لها الماسكون بكل الرقاب، والأرواح، توازيا مع استحقاقات، وتصورات دولية لمنطقة تعج بصنوف المشاريع والإضطرابات. وحين تتنازع أي فرد وساوس سياسية، وطموحات شخصية، وهواجس سيادية، في المزارع الاستبدادية، وبعيدا عن قطيع المصفقين في طابور السُجّد الرُكّع، فلا بد أنه قد أصابه وقتذاك مس من الجنون، وسكنت روحه الشياطين، والأشباح. حيث هذه هي المرة الأولي التي يتحدث فيها أحد المقربين من النظام بهذا الشكل السافر، والهجوم اللاذع القاذع لما كان حتى وقت قريب من المحرمات والمقدسات، وأفرغ كل طروحات المعارضة من كل مضامينها"المهادنة" وأي أثر، ومعنى وحتى احترام . وفي الحقيقة لقد اقترب السيد خدام جدا من المناطق الخطرة والحمراء كثيرا، والتي ضرب حولها طويلا طوق من الحصار، وربما لم يبق سوى نزع ورقة التوت حتى تهتك كل المستورات.
وليس من المعلوم، أيضا، وحتى الآن عواقب هذا الدخول الخطر والمغامرة، ونهاياتها على أية حال، ولاسيما في ظل دخول قوى إقليمية على خط الأزمة في محاولة لقصقصة الأجنحة، وتركيع النظام، وتدارك بعضا من ارتدادات الزلزال الخدامي، ولإفراغ التصريحات، بنفس الوقت من قوة زخمها، وظهر ذلك في التراجع الملحوظ في نجومية خدام الانقلابية، والدعم" الإعلامي له، والتعتيم عليه من نفس الأدوات التي أطلقته مدويا في ليلة الأعياد. فهل هي بداية لاحتواء تلك السابقة الخطرة في آلية استمرارية النظام العربي المترهل، أم هي هدنة مؤقتة سيوغل بعدها السيد خدام أكثر في المناطق الحمراء، بانتظار ما سيلوح من تنازلات، وتطورات؟ أم سيبقى في نهاية المطاف، حبيسا، وواقفاً، بعجز بائن، حتى يبتلعه النسيان، في عتبات تلك المنطقة التي، ربما، دخلها دون أية ترتيبات، أو حسابات؟
#نضال_نعيسة (هاشتاغ)
Nedal_Naisseh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟