|
المعطف قصة قصيرة
يعقوب زامل الربيعي
الحوار المتمدن-العدد: 5367 - 2016 / 12 / 10 - 16:15
المحور:
الادب والفن
" ... لا مجال للمناورة معه !! " كان قريبا جدا من مناسكها. في الليل أو في النهار.. في غرفتها إن كانت تلوذ لخلوة مع نفسها، أو في الخارج حين تشعر به خلفها، يهمس بصندوق رأسها. أطرقت، يشوبها غيظ كتوم. تبارى صبيان الحارة. تناهت أصواتهم إليها. وتمايل صوته هو في وجدانها وكأنه يستكمل جولته المسائية في خيالها. لم تعهده يوما سوى صبياً ينتظر نمو فرع فتوته ليقيم اعتباره فيها.. ليطيّب خاطرها ويجعلها منتشية. تنتظر ليكمل أعوامه القادمات ليصبح فتىً وسيخط شاربه كما الفتيان الكبار. حين رأته يدخن كما الكبار باركت يومه. " سيغدو رجلا " قالت، للتو أضاف شعورها " وستردد الوديان والشعاب وأهل الشهامة، صدى صوته ". وحين تستعد روعها تقول بزهو " ها هو رجلي "!. تحتفظ بسر انشراحها في صرّة من صرّر روحها. وسيكون عليها أن تقول في سرها، كلما فاجأها بطلعته " أسم الله ". كانت تخاف عليه حتى من عيون نفسها. قالت لها أمها الخبيرة بالحياة " حتى النفس لها عين شكاكة تملأ حسدا، والعياذ بالله !" . تتنفس رائحة شقائق النعمان الحمراء. تزدحم أزقة روحها برائحة الأرض أيضا. " .. لا مجال للمناورة " تلألأ الأفق في عينيها الكابيتين. حربها الجليلة تأخذها من جديد لجولة من الكر والفر. وإلى البحر تلقي عينيها. تنتظر البحارين حين يعودون متعبين. تدرك جيدا كم دكوا حصونا، وتخاشنوا مع رزيات العمر. وكم قتلوا من القراصنة لينظفوا البحر من رجس آثام الإنسان. يتجلى نهار الشوق في عينيها. ثم تتابع سرد الرواية. على أرض موحلة، كان يغريه غزو عصابات الصبيان من أترابه. تستمع بصياحه وهي يدب خلف الكرات الزجاجية الملونة الصغيرة المتدحرجة للأمام. تروح تقبله وهو يشير لجيب " دشداشته " المليء " بالدعبل " الملون. كان دائما فاعلاً ونشيطاً وسيداً. تطيل النظر بعينيه.. بالمشهد. تتناثر روحها بغرستها الصغيرة الطيبة التي تنضج سريعا بين حشد العيدان وخضرة الأعشاب والنجوم السابحة ببحر الليل، وسيغدو قريبا مثل شجرة مثقلة بالثمار. ليس من هديل غير صوته. يتسع الوقت. ويضيق صدرها بحفنة من العجالة التي لها طعم الصنوبر. تمد يدها مرتعشة لعلبة سجائرها. تخبئ ثلث وجهها بين الاصابع والنار. تسحب نفساً من دخان معبئ بالغبار والعطر الباهت. تملأ رئتيها من علّة الصنوبر المحترق. تفتح مياسم صدرها لتندس تلك الحفنة. على فرع من شجرة رئتيها تحس بحرارة الشمس وهسيس الهواء المعطب، فيغمر البشر محياها. الصنوج تدق.. الضجيج يملأ بيوت المحلة.. يملأ الأزقة الضيقة. ويملأ الشبق أصابع الصبيان. الأطفال سيكبرون سريعا. وسيمتلئون حباً. عندها سيعانقون فتيات جميلات وسيملئون أثداهن بالحليب. ها هو يسير إلى حيث الهديل. وستبقى هي واقفة على أطراف أصابع قدميها، ترنو لبهجة الحشد ومشهد الرجال الصغار، وكأنها تبحث عن أي المكان سيشغل جسده. ليس لها أي متسع عدى هذه اللحظات القصار. وكان هو يتأبط جناح صديقه الشاعر وفي جيب معطفه كتاب صغير، وفي رأسه صوت حمامة ما تزال طفلة. أشعة الشمس تحط على الشابين مثل عابر سبيل. يسيران إلى حيث تشدهما أذرع خفية. هما يبزغان مثل فم يتشهى عذوق الأجساد اللامعة. تسمعه يهطل بالهمس بإذن صديقه المخبول بفيروز: ــ " نذرا عليّ أن عادوا وأن رجعوا/ لافرشن طريق الطف ريحانا ". ويأتيه الصديق بصوت عالٍ: ــ سني عن سني. وكل سني بحبك أكثر من سني. عم تغلى على قلبي عهد الولدني يا حلو يا حبيبي، إلما بيعك بالسني. ترافقهما حتى عنق الزقاق. تعود إلى حيث متسعٍ آخر من الوقت.. إلى حيث بقايا ظل في غرفتها. المعطف المعلق في مكانه على شماعة حديدية تملأ زاوية الغرفة. قال لها في صيف العام الماضي " أتركيه معلقا .. لا توسديه مثل المواسم الصيفية الفائتة. لا تضميه في صرّة من صررك ". تركت المعطف كما تركه معلقا ليدفأ غرفتها، وليتطاير من بين ردنيه دفء الأشداق الضاجة بالضحكات والأغاني ودفء الحمائم. أتراها تعاني من البرد، حين دست نصف جسمها في معطفه، أم أنها خافت، أن تتحول مثل عوسجة تشيخ، وسيرسم الخوف رسوم الأطلال وشواهد القبور في عينيها؟؟. كانت تشعر بأن فرصها تتلاشى بين المسير للصمت المطبق وبين عويل فخات الليل. بين التهشم وبين تشبثها بالأرض. يوم علقوا صديقه الشاعر بحبل مشنقة الرزية، وهو يرفس بقايا حياته بقدمين ثابتتين، شدت جذع إبنها بتأثر شديد لتقول له: ــ البقاء في حياتك وليدي.. دعه يعيش فيك! ". في تلك الساعة سمعت صوته ينبض في مساحة المطاولة ــ " عفرين يا أخت الولد، صلفة!" في تلك الساعة أدركت من هي حبيبة أبنها، لتشعر برعشة خفية تدب بين رئتيها. العينين تتلألأ من جديد بقامة هذا الرجل العاشق. وليل الشتاء كان طويلاً. في زاوية من زوايا متنزه صغير، كان يحتضن يديها، وكأنه يحتضن طفلة حمامة جميلة. وحيدان يرقبان الضوء. يحسان بالدفء. يتابعان سرب من طيور المساكي تخبط السماء بأجنحة عشقها.. نكرّم الأشياء بخفقات متتاليه من ريشها الناعم. يظم الجمال المشهد ليوم رزية قادمة. ليصير متاعا. قالت للفتاة : " بنيتي .. تدرين شكَد كان يحبك؟! ". تعتدل. تسند قامتها الظلية إلى الحائط. بعد أن كانت للتو تزرع رأسها وعينيها بالذات بحضن وجه حبيبة أبنها. زرافات ووحدانا تهطل الدموع على خديّ الفتاة التي تجاوزت أعوامها العشرين قبل ستة أعوام، لتمضي مثل عروس بين حشد نثايا المحلة. غالبا ما يكون للمكان أثرا للعبقرية حتى لو خيم الظلام على كل نواحي الأرض. العبقرية دائما ما تترك للمكان فرصة لا تعوض من الرائحة، كأن للشيء معلومة تفصيلية لما يخطط له بعناية فائقة. الإلهام، كما هذا المعطف الشاب دائما، يظل معلقا في المكان الفارغ يزرع وجوده. حين تجلس قبالته تشعر بأنه لا يمت لغيرها بصلة أبداً. تسميه شؤونها الخاصة.. ضرورة وجودها المتبقي، الأكثر أهمية من تقليدية حياتها العامة. ــ " قم يا رجل. قم . حبيبتك على الباب". ثم تملأ المكان بالبكاء. لا أحد يستأذن صمتها بالدخول، ولا أحدا سيعوض كهولتها بالرجاء. حين تلتحف المعطف، تشعر بشيء ثمين. خصائص الرجال أكثر حساسية في المرأة الوحيدة من خصائص جسدها، عندما تحس بضرورة أن تكون مملوكة للريادة.. للبذخ.. للحظات من التقلب كما تتقلب طيور المساكي. " قم .. قم ، أنا أسمع صوت توقفها على الباب ". مذ توقفت، وسمعت عجلاتها تنبش الأرض، ودقت الباب يدا مرتعشة، في تلك اللحظة ترأى لها المشهد بوضوح. كان خشب التابوت ملفوفا بخرقة معلومة بثلاث نجوم، عندها مارست حربها الأولى. ما كان لها القدرة ولا القوة ان تغدو مثل شعرة معاوية بين واجب فرص العروض المتاحة وبين مستحبات تأجيلها. حرب البسوس التي قيل أنها حطت رحالها في نسيان الذاكرة منذ عقود طويلة، بدأت توا في كيانها. بذرة السخام أخذت تتطاول كالرواسي بين ركام الأمس إلى حيث وجر المحن الآتية.. حيث عدوى التقرح والنزف الدائمين. أحست بالرعشة من جديد. سحبت المعطف على صدرها. ثم مالت لعلبة سجائرها. بغيظ سحبت سيجارة. ومن جديد شعرت بلذة حرب الكر والفر بغرفة رأسها. أندست في أرض حرامها كما في كل ليلة، تربت على رأس كرب روحها. وإلى حيث شقائق النعمان الحمراء سرى فيها كيانها. وصوب البحر رمت نظرها. كانت تنتظر فرسان البحر ليعودوا من جديد، بعد ان ينظفوا ماء البحر من تلوث الشرور. تعيد مشهد الصديقين وهما يتأبطان خاصرتي بعضهما البعض. ومن جديد تسمع صوت وليدها الرجل يغني بصوت شجي " يا ليل الصب متى غده.. أقيام الساعة موعده؟! ". تشيح بكلها المتضعضع لمرفأ المعطف. تتطاير الرائحة في كل مكان.
#يعقوب_زامل_الربيعي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شواء غابة قصة قصيرة
-
طقوس ما بعد الوحشة!
-
سعير الياقوت...
-
لفافة تبغ...
-
رفقة ..
-
مساحة حقول المتطلبات قصة قصيرة
-
لدبيب الحزن والقطار!..
-
وقيل .. قليل الرجاء!
-
الكلمة أبداً..
-
حزمة اعتياد ورغيف..
-
لمائدة الليل والزعفران..
-
أنت.. ومزيج الأشياء !
-
وجهكِ فقط !...
-
الصوت فقط...
-
ما تحت الجلد !...
-
يا صاحب البحر..
-
خلاصة خرافة !..
-
قبل رحلة أخرى !..
-
لانبعاث آخر ...
-
لتكرار المحسوس !..
المزيد.....
-
-بيت الشعر في المغرب- يتوّج بجائزة الأكاديمية الدولية للشعر
...
-
عودة الأدب إلى الشاشة.. موجة جديدة من الأعمال المستوحاة من ا
...
-
يجمع بين الأصالة والحداثة.. متحف الإرميتاج و-VK- يطلقان مشرو
...
-
الدويري: هذه أدلة صدق الرواية الإيرانية بشأن قصف مستشفى سورو
...
-
برقم الجلوس.. نتيجة الدبلومات الفنية 2025 لجميع التخصصات عبر
...
-
دورة استثنائية لمشروع سينما الشارع لأطفال غزة
-
تصاعد الإسلاموفوبيا في أوروبا: معركة ضد مشروع استعماري متجدد
...
-
انطلاق أولى جلسات صالون الجامعة العربية الثقافي حول دور السي
...
-
محمد حليقاوي: الاستشراق الغربي والصهيوني اندمجا لإلغاء الهوي
...
-
بعد 35 عاما من أول ترشّح.. توم كروز يُمنح جائزة الأوسكار أخي
...
المزيد.....
-
الصمت كفضاء وجودي: دراسة ذرائعية في البنية النفسية والجمالية
...
/ عبير خالد يحيي
-
قراءة تفكيكية لرواية -أرض النفاق- للكاتب بشير الحامدي.
/ رياض الشرايطي
-
خرائط التشظي في رواية الحرب السورية دراسة ذرائعية في رواية (
...
/ عبير خالد يحيي
-
البنية الديناميكية والتمثّلات الوجودية في ديوان ( الموت أنيق
...
/ عبير خالد يحيي
-
منتصر السعيد المنسي
/ بشير الحامدي
-
دفاتر خضراء
/ بشير الحامدي
-
طرائق السرد وتداخل الأجناس الأدبية في روايات السيد حافظ - 11
...
/ ريم يحيى عبد العظيم حسانين
-
فرحات افتخار الدين: سياسة الجسد: الديناميكيات الأنثوية في مج
...
/ محمد نجيب السعد
-
أوراق عائلة عراقية
/ عقيل الخضري
-
إعدام عبد الله عاشور
/ عقيل الخضري
المزيد.....
|