أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - تأملات في لوحة مرمرية أيديولوجيا الوجع في القص العراقي -33 أيقونة عراقية - أنموذجاً / بقلم الأستاذة سامية البحري/ تونس















المزيد.....


تأملات في لوحة مرمرية أيديولوجيا الوجع في القص العراقي -33 أيقونة عراقية - أنموذجاً / بقلم الأستاذة سامية البحري/ تونس


عبدالكريم الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 5332 - 2016 / 11 / 3 - 05:27
المحور: الادب والفن
    


تأملات في لوحة مرمرية
أيديولوجيا الوجع في القص العراقي
"33 أيقونة عراقية " أنموذجاً
بقلم الأستاذة سامية البحري/ تونس
تصدير: إن الحقيقة في الأدب لا تستوي إلّا بالمراوغة
_______________________________
مدخل:
إنّ الملفوظ السردي من حيث هو بنية متماسكة، منسجمة العناصر، مفهوم مجرد، لأن المراد به هو وصف آليات التشكل السردية، انطلاقا من التصورات التي يختارها الباحث ويرتضيها أداة وصفية .
ولكن الخطاب في نظرية "بول ريكور" مصطلح يحيل على عملية تواصلية، لغوية واقعية..
لذلك يقول ريكور في تعريفه للخطاب :
"إن الخطاب يتمظهر في شكل حدث فثمة شيء يحدث عندما يتكلم شخص ما "**
« le discours se donne comme événement quelque chose arrive lorsque quelqu’un parle »
وباعتبار أنّ كلّ حدث يحدث في هذا العالم يكون موقوتاً، فزمن الخطاب هو دائما حاضر التلفظ الذي يصل مباشرة بين متكلم ومتلق كليهما حقيقي..
وليحقّق النص الخلود يجب أن يحقق الانعتاق من خالقه والانفصال عنه كلياً ويسعى للتعبير عن نفسه وعن هويته انطلاقا من بنيته وكيانه ومقاصده...
والمسافة التي يقطعها المكتوب في الابتعاد عن كاتبه شرط أساسي لاستقامة النص كتعبير رمزي مستقل بذاته ويكتسب القدرة على محاورة جملة من النصوص الأخرى تفوقه أو تضاهيه...
وبالتالي فإن غياب المبدع هو البرهان الناصع على قوة حضور النص وقدرته على التجدد لينخرط في سياقات تواصلية متجددة باستمرار...
من هنا رأينا أنّ نتعامل مع هذه "الأيقونات" المتعددة الأبعاد والمقاصد، وهي أيقونات تسبح في أمواج مختلفة وتصارع تيارات متعددة، رسمت بأقلام متباينة، فيها من قرأنا له وأدركناه منذ زمن، وفيها من نقرأ له للمرة الأولى..
فكان منطلقنا النظر إلى هذا الجمع من زاوية واحدة وبنفس الحجم حتى نكون أقرب إلى الإنصاف والصدق ...
ولكن هل يعني ذلك أنّنا سننفي مقولة "الكاتب" ونتنكر لها؟
أبدا، فالكاتب يسكن في رحم أسلوبه، والأسلوب هو الإنسان كما يقول "بيفون" وما من شيء إلا ووراءه خالق أو صانع..ونحن نرى أن الأسلوب هو بصمة المؤلف، فلا يمكن أن يشترك اثنان في نفس البصمة كذلك هو الأسلوب، وإذا عثرنا على تقارب بين أسلوبين فهو التقليد أو المحاكاة..
إذن الأسلوب وحده هو القادر على منح النص طابعه الفردي، لذلك فإن كلمة كاتب تعني أكثر من كلمة متكلم لأنّ الكاتب هو "الصناع الذي يشتغل على اللغة"
وبناء على ما تقدم ارتأينا أنّ ننظر في محورين أساسيين في هذه "الأيقونات":
** المحور الأول ما تعلق بالتشكيلة السردية والعناصر المكونة لعالم القص.
** المحور الثاني يتعلّق بالأقطاب الدلالية في المواثيق السردية.
وسنجعل سندنا في ذلك، النص، المتكلم الوحيد، ولا متكلم غيره، وسنمارس فعل ال"التبعيد"بكلّ حيادية، لأنّنا سنباعد بين الكاتب وما يكتب، ونفصل بينهما غايتنا الابتعاد عن الأحكام الذاتية، والانطباعات الشخصية، والمواقف الانفعالية...
وهو أمر ـ لعمري ـ عسير أمام تعدد الأقلام المشاركة في هذا العمل ( 10 أقلام متفردة ومتباينة) و ( 33 أيقونة من السرد الشيق والمذهل )
نسأل الله التوفيق، ونحن نعلم علم اليقين أنّه ما من ناقد إلّا وقد يقع في التعسف وهو الخطر الذي يواجه الناقد باستمرار، مهما كان منهجه..
1 ـ التشكيلة السردية: العناصر المكونة لعالم القص: عالم الشخوص أنموذجاً:
تسعى اللغة إلى خلق عالم مستقل عن العالم الواقعي استنادا إلى التخييل ومبدأ الإيهام بالواقع لكن يبقى هذا العالم هو السند الضروري الذي تستقي منه اللغة مقوماتها ومن هنا تحقّق ما يسمى بالوجود الفني المكتمل..
والشخوص عنصر مكون لعالم القص كغيرها من العناصر وتنتظم كلّها في شبكة من العلاقات السردية، ومن هنا فالشخصية القصصية تتحرك في دائرة القص وهي تترجم عن أدوار وظيفية خالصة حتى وإن كان الكاتب قادراً على نقلها من الواقع الحقيقي إلى الواقع القصصي.
ولنا في "الأيقونات" نماذج مختلفة ومتعددة ومتباعدة في مجال الشخصية القصصية.
أ ـ الأنموذج الأول: الشخصية الواقعية / الآدمية:
وهي تكتسب ملامح وهيئة ويمكن أن نراها ونكاد نسمعها ونمسك بها، بل يمكن أن نلمحها في شوارعنا العربية، وهي تعبر عن مأساة حقيقية ..
مثال ذلك :
ـ قصة " انفلاش" للقاص مهدي علي ازبين
" يحتضن ركبتيه، تتعالق يداه، ينفرد الابهامان، يدور أحدهما على الآخر، يتسابقان، يتراوغان نحو الأمام والخلف"
ـ قصة "في اللوحة جرح ثان" للقاص عزيز الشعباني
" ...فقد بدا لي شيء من الحزن في ملامحها التي بدت كثيرة الشحوب..لكنّها كانت بالنسبة لي ملامح رائعة، كان السواد صفة لثيابها.."
ـ قصة "هوامش في كراس مراهق" للقاص حميد عمران الشريفي
" لا أريد سفيراً من أبي بهيئة قميص أو بدلة أو حذاء بل أريد أباً محفزاً لتفوّقي"
ـ قصة " تحول " للقاص سلمان كيوش
" كان سعيد في السادسة من عمره حين التصق البياض لديه بالجمال..كلّ يوم يرتقي سعيد الدرج، يفتح باب القفص، يدخل على الطيور ويغلق الباب خلفه..."
ب ـ الشخصية الواقعية / الخرافية :
وقد تتشكّل الشخصية من رحم الواقع لكن تكتسب بعداً خرافيا، كأنّها تخرج علينا من عالم الأساطير والخرافات لما عانته من وقع الزمن والألم،
ـ قصة " دمى وحرائق " للقاص عبد شاكر
" وصلت إلينا من فوضى الأزبال والتراب..وجهها له ملامح جنية مرعوبة من شيء ما ..
ثم تأملتنا بعينين متعبتين دامعتين"
ويزداد الوجع والأنين في رسم ملامح الشخصية التي تخرج علينا من رحم الواقع المرير، فتطلع علينا من حفرة كانت قبراً لها ، والروح فيها تسري، فتتمزق أوصالنا ونحن نلمحها، وقد ألقيت كخرقة بالية، قد رسم عليها الزمن تجاعيد تحكي عن ليال مرعبة قضتها في حفرة هي كالقبر الذي أعد لها من طرف الأخ الذي من المفروض أن يكون السند والحضن الدافئ لها
ـ قصة " رجال من صفيح " للقاص عادل المعموري
" جاؤوا بها يحملونها ببطانية خرقة، تنبعث منها روائح كريهة ..وضعوها في باحة الدار والأضواء الكاشفة مسلطة عليها"
فنعتقد للوهلة الأولى أنها جثة قد عثروا عليها في إحدى البحيرات أو في بعض الخرب البعيدة فإذا بها ...
" امرأة ذات شعر مشعث ووجه بلون الطين بأظافر طويلة سوداء..مقعدة لا تستطيع الجلوس..ترتجف أعضاؤها النحيفة"
وتتشكل الشخصية الواقعية لتختزل أبعاداً فكرية أيديولوجيا فتعبر عن مأساة المرأة في واقع سيطرت فيه الأسراب السوداء وخيمت على الذات الإنسانية فسعت إلى تدمير كلّ القيم الإنسانية للتنظير لقيم جديدة لا تتفاعل مع طبيعة الإنسان المتحضّر.
ـ أقصوصة "عذراء شنكال" للقاص عبدالكريم الساعدي
" لقد نحروا سعيداً عند منعطف جنوني...ساقونا جواري لأسيادهم وتبدأ رحلة موتنا...لا يعرفون غير مفارق الأرداف"
ج ـ الشخصية الرمزية :
وقد تجلى ذلك في أقصوصة "وجهي" للقاص علي الحديثي، إذ بدأ القاص وقد أمسك بريشة الرسام، فناناً يغوص في عوالم الرمز فيطرح صراعاً دفينا بين الأنا والهيئة أو الروح والمادة، الجوهر والعرض،
فلنتأمله وهو يصور الصراع بينه وبين وجهه .
ـ أقصوصة "وجهي":
"أكثر من ثلاثين عاماً وأنا أبحث عن وجهي في صفحات المرايا المتناثرة على جدران الزمن"
ولكنّه يقر أنّ لا سبيل للنجاة من هذا الصراع متعدد الأبعاد، فيعلن :
" لن تنجو مني، أنا وأنت كعصفور مربوط بخيط مهما ابتعدت فخيطك بيدي"
وهو ما يؤكد أنّه صراع أبدي بين الحقيقة والوهم...
وأن هذا العالم ليس إلا آلاف الأقنعة المعلقة...
وتتشكّل الشخصية الرمزية في أنموذج آخر من خلال لعبة التشخيص، إذ يصبح "الزقاق"
شخصية محورية، لا يستقيم القص إلّا بها وفي بواطنها ويختزل عدة دلالات ومقاصد، فنجد القاص يحمله جملة من الرؤى لا تستقيم إلا عندما يكون هو المعرف بنفسه، لأنّه هو الأعلم بخفاياه، فنصغي إليه وهو يقدم نفسه:
ـ أقصوصة "زقاق" للقاص عبدالصاحب محمد البطيحي
" أنا زقاق ضيق، رحب مثل رحابة هذا العالم"
" لكنّني في كل الأوقات لي رؤى توظف سجلاً في الذاكرة مكتنزاً بالمعرفة، إضافة إلى أنّني ودود وكذلك صابر، لا أضجر من ثقل العابرين.."
وأن يتحول الجماد إلى شخصية رئيسية / فاعلة تأخذ على عاتقها تنفيذ البرنامج السردي، فهو قمة في التجديد والإضافة، وتجاوز للمألوف في القص عامة..
وقد استطاع أن يكشف عن خبايا الذات الإنسانية، فهو يعرف آلامهم وأحزانهم وأفراحهم ويرصد ابتساماتهم..فيه يتصايح الأطفال ويتمتم الكبار ويطلق "العربيد" ضحكته الأخيرة "بعد انهيار سقف المنزل"
أما هو فيبقى " زقاق ضامه الزمن"
د ـ الشخصية الحيوانية:
تلعب دوراً مهما في تصوير القضايا الإنسانية والفكرية، كأزمة الإنسان الذي يمتلك أن يحرر كلّ من حوله، لكن لا يستطيع تحرير نفسه من عدة قيود وأوهام..
ـ قصة "غابة في الفضاء" للقاص عبدالسادة جبار
" خائف أنت في قفصك الكبير..إلى أيّ فضاء أطلقتني إذن؟"
يأتي هذا الاستفهام الفلسفي على لسان الحمامة/ الشخصية المحورية في الأقصوصة..
وتتخذ الحمامة عادة، عدة أبعاد في القص القديم / والحديث..فهي رمز للسلام والحكمة، كما هي ال"مطوقة" في قص "ابن المقفع"وتبدو في موقعنا هذا ، رمزاً للذكاء والحيطة والتحدي والمواجهة، فنراها تقرر بكلّ ثقة،
" لابد من مواجهة المصير الجديد..دون تراجع"
وهي رسالة مشفرة إلى عالم الإنسان، هذا الإنسان الذي يتفرج على مصيره، ولا يقوى على المواجهة وحتى وإن واجهه فهو يدخل في مسارات ضبابية، تفتقد الحكمة والإدراك..
إن النماذج متعددة في هذه "الأيقونات" وما أشرنا إليه هنا، كان على سبيل الذكر، لا الحصر..
فكل الشخصيات، سواء ما أحال منها على شخصيات واقعية، أو ما عد مختلفا عنها تعامل معاملة واحدة، فهي شخصيات ينظر إليها في سياقاتها السردية، وما يحيطها من أفكار ومشاعر تجمعها بسائر الشخصيات الأخرى..
إذن إن الشخصيات في عوالم القص المتنوعة شخصيات مخلوقة، وإن تكلمت والقيمة تبرز في كيفية خلق الشخصية وتصويرها وتشكيلها وفق المقصد الذي يرسمه الكاتب لقصته حتى يتحقق التكامل بين حامل المقصد والمقصد في ذاته، تماماً كما الكأس وما يسكب فيه من محتوى..
2ـ في كيفية التلفظ: الأسلوب أنموذجاً
إذا نظرنا إلى مسألة الأسلوب نستحضر مقولة "الكاتب" فنلاحظ أن لكلّ كاتب أسلوبه الخاص والمميّز وبالتالي بصمته التي بها يعرف، ويمكن أن نعرض بعض النماذج التي اشتغلت على النسق السردي وركزت على صناعة الفعل السردي في القصة.
فمثلا قصة "انفلاش" للكاتب مهدي علي ازبين تدخل إلى السرد فإذا بك تركض وراء الأفعال لتدرك الحدث وهو ما يكشف عن حركة سريعة في مستوى الظاهر وباطن منفعل "مهتزّ" فتتراءى لنا لعبة الظلال المدهشة والوجوه الموغلة في الرماد بلا ملامح ولا عيون فإذا بك تتلمس "
نقشا محفوراً على اللحاء يشي ببقايا امرأة تتباعد في المشهد تقود بيمينها ظلال طفل، من خلف كتفها يطلّ رأس صغير بلا ملامح"
وهو أقرب إلى الرسم السريالي منه إلى القص وهذا ـ لعمري ـ قمة في التصوير والتدوير وقدرة خارقة على التصميم.
كما الحال في مجموعة متتالية من القص المعروض علينا، ككتابات القاص "علي الحديثي
الذي يكتب بتقنيات المخرج وبأدواته وآلياته، وأعماله قابلة للتشكل المسرحي بامتياز، ذلك المسرح الموغل في الرمز والذي يطرح جملة من القضايا الفكرية والوجودية والفلسفية
فتتجلى الكتابات وكأنها لوحة سريالية موغلة في الصمت ترسم ترانيم لا نسمعها إلا إذا غصنا في بطون الكلمات..
أما النمط الآخر فيتجسد من خلال الاستعانة بالنمط الشعري، إذ نعثر في "الأيقونات" على لوحات شعرية بامتياز فيتراءى لنا القص وقد انفلت من دائرة السرد ومتطلباته إلى تأسيس منهج جديد ينخرط في الشعرية وهو ما يحدث رجّة شبيهة بالزلزلة إذ يتحول المتلقي إلى منتج جديد للخطاب وهو ما يكسر التصور النقدي القديم الذي يجعل النص الجيد هو الذي ينخرط في قطبين أساسيين: هما الإمتاع والمؤانسة، ليؤسس لقطبين جديدين، هما الإرباك والقلق، إنّه التوتر أمام النص والحيرة والتحدي، تحدي العجز الكامن في بواطن المتلقي ومن هنا يكتسب النص قيمته حيث يصبح مفتوحاً على تعدد الآباء، وليس له أن يحقق وجوده إلا إذا توحد في إطار هذه الأبوة الجمع..
من هنا يحترف القاص الغموض ليتمكن من صناعة النص المربك.
وليس الغموض غاية في القص بل هو وسيلة لصناعة المتلقي الجديد.
فالكاتب كأنّه خلق من طين مختلفة عن كلّ الورى لأنّه يدرك خفايا الوجود وأسراره ويلتقط الأحداث بعدسة الفنان المبدع ليعيد تشكيله من جديد وبما أن الشاعر شخص مهيأ، بحكم طبعه الشعري، لرؤية ما لا نرى، فإنّ القاص يحاول الاقتراب من منطقته حتى يتمكن من التقاط ذلك الجانب الخارق في الوجود لأنّه استطاع أن يرى العالم "بعينين مغسولتين"
ولنا في هذا السياق تجارب متفردة، رسمت دربها وتأسست على قواعد ثابتة نذكر من أهمها تجربة الكاتب عبد الكريم الساعدي الذي يعقد مع الشعرية عهداً وميثاقا فإذا بقصصه قصائد ليس عليها غبار، يرسم الألم بريشة فنان، فيؤلمك ويسعدك في آن، يحقّق لك متعتين : متعة الألم ومتعة الانتشاء.
نصغي إليه في "عذراء شنكال" حينما يصدح الراوي " توكأت على صمت الريح، تستفزها النخوة، تثيرها مواجع الخديعة، العتمة تحمل صراخاً موجعاً، كانت تبدو مثل فراشة تنشد وجع الحرائق..." أو في "غبار القصائد" حين نلج ساحة الميدان نراه يحثّ الخطى إلى شارعه" أسطورة علت صهوة القوافي، لم يمسسها كدر، تتبعها خيول من كبرياء، تظلّل سيره أسراب السمو والبهاء..."
أو تجربة القاص "سلمان كيوش" الذي يجمع بين السرد الكلاسيكي والتصوير الرمزي، فينتج ذاك "التقاطع الكبير" بين نمطين فيهما الكثير من الإبداع، ويتحول البياض في قصة "تحول" إلى لون "لا يصلح لونا لأشياء كثيرة" وتعلو لعبة الرمز إلى أعلى درجات التقاطع حينما يتحول البياض من معنى جميل يحيل على الصفاء والنقاء والطهر وهو يتقاطع مع السواد، رمز العتمة والحزن والألم ..إلى معنى قبيح يرتقي إلى مفهوم العورة لكن السؤال يربك فيقفز على بساط الحيرة، لماذا البياض عورة حينما سقطت تلك المرأة وانحسرت تنورتها فسارع الأب إلى إعادة التنورة كي يغطي بياض فخذيها وحينما رأى سيقاناً بيضاء مفصولة عن الأجساد في الانفجار الذي شهدته مدينة لم يبادر أحد إلى تغطيتها..
كيف يتشكل مفهوم العورة في الذهن العربي؟؟؟
أو تجربة القاص "عادل المعموري" حينما أدلى ب"الورقة الأخيرة" معبراً عن وجع سكن في أعماق أنموذج من النماذج المعروضة على قارعة الوجع، "المرأة العانس" كما يلقبها المجتمع، فيتوغل في روحها ويرسم وجعها ويكشف بواطنها، على لسانها، تماماً مثلما فعلت بها ابتسامة ذات مساء..
" ابتسامته توغلت في أعماقي، صورة جميلة مزّقت حجب السكون القابع في خرائب الروح، غابت المرئيات ولم يتبق سوى صورة ابتسامته العذبة تدق أجراس عواطفي الذبيحة"
3ـ الأقطاب الدلالية في المواثيق السردية:
تتعدد الأقطاب الدلالية في هذه "الأيقونات" لكن اللافت للنظر إنّها جميعها تدور حول قطب دلالي واحد يزخر به القص العراقي خاصة، والقص العربي عموماً، وهو قطب "الوجع" حتى لكأنّ الكاتب العربي اليوم يتجاوز الأيديولوجيا السياسية إلى أيديولوجيا جديدة نابعة من واقعه وهي خبزه اليومي، إنّها "أيديولوجيا الوجع"
ف "هؤلاء الكتّاب المكلّلين بغار الزمن وغباره ووسمات السنين العجاف" سكبوا كلّ آلامهم وأوجاعهم في هذه النصوص وقدموها للمتقبل على "طبق من وعي ودهشة"**
ومن أهم الأقطاب الدلالية التي تخرج من رحم هذا القطب الدلالي المركزي نذكر:
الاغتيالات والدّمار وهو ما يخلف التشرد والموت والجنون، فنصغي إلى تلك المرأة التي احترقت لفقدان حفيدتها فعانقت الدمية بديلاً عنّها ( قصة/ دمى وحرائق، للقاص عبد شاكر)
" كنت أعرف أنّهما من دعاة التغيير مثلما أعرف أنّهما سيختطفان ذات يوم، ولكن ما سبب خطف حفيدتي الصغيرة أو اعتقالها؟ لقد كانت من دعاة البراءة والفرح"
أو في تلك" في اللوحة جرح ثان" للقاص عزيز الشعباني، قبل سبعة أشهر اقتحم بيتنا مقنعون، نحروا ابنها كالشاة أمامها وعلى مرأى منّي ومن أخته، وفي اليوم التالي اعتذروا لنا"
أو قضايا الحرية واغتيال الفكر وقد اتخذ ( القاص عبدالسادة جبار) لذلك الرمز الدال "الحمامة" التي تحتضن عدة دلالات فبدت حكيمة في قرارها حينما " اقترب سرب الكواسر..ولم يتخذ الحمام قراراً بعد..إلّا أن حمامتنا أدركت أن عليها ألا تثق بهذا السرب"
ونشهد أبشع الاغتيالات ونقف في ذهول حينما نرى "دماغ الدكتور خليل مبعثراً على أرضية مكتبه المدمر.."
ونهتف مع الراوي " هل استرحت يا نوبل..هل ستكفر عن خطيئتك بجائزة تمنحها لسياسي لعين ادّعى لنفسه صناعة السلام.."
وقضايا المرأة التي حضرت في كتابات القاص "عادل المعموري بطرق مختلفة، إذ نعثر على كلّ نماذج المرأة التي ترزخ تحت سلطة المجتمع الذكوري الممثل في الأخ فالزوج والعائلة، لقد استطاع القاص أن يلج أغوار المرأة ويعبّر عن كلّ ما يخالجها من أوجاع على لسانها، فننخرط في الواقعية انخراطاً موغلا في الصدق، فليس أصدق من أن تروي المرأة
عن نفسها مثل هذه الأحداث، ولا أعتقد أن القص سيكتسب نفس الأبعاد لو نقل بضمير الغائب كما في "الورقة الأخيرة" أو في "رائحة الرماد"
أما في "رجال من صفيح" فكان لزاماً عليه أن يلعب دور الراصد لأفعال غريبة، تصدر عن رجل غريب، عجيب، كأنّه يخرج علينا من عالم الوحوش بلا قلب ولا روح فتراه
" لا يحفر الأرض بمعوله إلا في الليل" ثم تسمعه يتمتم بغلظة " ستكون هذه الحفرة الكبيرة ملاذك ومسكنك الأخير.." ثم يطلق عقيرته بالتحذير " لو سمعتك تبكين أو تصرخين أو علم أحد بوجودك سأذبحك كالنعجة"
هكذا إذن بلا شفقة ولا رحمة فنحزن لحال حمدية، ويضنينا السؤال: هل ما زالت المرأة تعاني ما عانته "حمدية" التي لم تقترف جرماً، وحتى وإن فعلت، هل تحاكم بقانون الوأد في مجتمع كان من المفروض قد نأى عن الجاهلية والوثنية..
ومن القضايا الرمزية والفكرية والأيديولوجية ما تعدّد حضوره في هذه الأيقونات فنعثر على تصوير لعالم الذئاب المسعورة، المهووسة بالجنس والمتع الرخيصة، والتي تمارس كل جرائمها باسم الدين فتبرر أفعالها وتحلم بالجنة وبالحور العين، كما في "عذراء شنكال"
للقاص عبدالكريم الساعدي، وتتعمق المأساة حينما تصدم الروح ويتلطخ النقاء وتكتحل بالسواد، فلا يكون أمام تلك الروح إلا البكاء والحسرة والحزن فيجلى الدمع المسفوح الملطخ بالوجع، كلّ ذلك حينما يدرك سعيد، ـ في قصة تحول ـ للقاص سلمان كيوش ـ أن هذا العالم سرب من التقاطعات المؤلمة، ويصدم أن البياض عورة ، ذلك اللون الذي يرمز للسلام والنقاء والخير والصفاء يتحول إلى عورة فيسكنه هاجس السؤال المربك " كيف يمكن للبياض أن يكون عورة؟"
وهو سؤال ـ لعمري ـ مشروع ويحتاج منّا إلى ألف قراءة ثم يتشكّل مفهوم "العورة" وفق المقصدية الأيديولوجية من الخطاب فإذا كان متعلقا "بساق امرأة بيضاء كالشحم" نهرع جميعاً إلى "إعادة التنورة كي نغطي بياض فخذيها" باعتبارها ترمز إلى الشهوة وإثارة الغريزة، وهي رؤية تنهل من تصور جنسي للمسألة في المجتمع الذكوري.
أما إذا كان البياض متعلقا "بسيقان بيضاء مفصولة عن الأجساد في انفجار " فان لا أحد يسرع إلى تغطيتها، فيصرخ فيهم سعيد "أهي عورة أم لا؟"
وهو السؤال الإشكالي الثاني الذي يربك هذه القراءة.
وهنا يتجلى التضارب الكبير الذي يقطن تلك الذات العربية، بل هو المكر والعبث والضياع في متاهات توغل في العتمة...
وندرك هنا أن "سعيداً" لم يكن سعيداً بل لم يحمل من اسمه غير الحروف المتجمعة لتكن اسم علم يشير إليه فحسب، ولم يحمل غير الحزن والانكسار فيخرج من البيت ويتعمّد إغلاق الباب وراءه، إشارة منه إلى أنّ العودة إلى الوراء، غير مرغوب فيها، بل هي استحالة، رغم أنّه لم يكن يدرك إلى أين يتّجه ...لم يعد معنيّاً بالوجهة، فالاتجاهات تعدّدت والضياع واحد.
" الشيء الوحيد الذي استيقن منّه هو أنّ ثمّة خللاً كبيراً في مكان ما، وأنّ البياض لا يصلح لوناً لأشياء كثيرة"
هكذا إذن يصّاعد صوت الذات المشحونة بالفراغ والضياع والتلاشي، فترحل إلى اللاّ اتجاه، اثخنته الجراح والمنعطفات والتقاطعات.
ونسكن في الغموض ونلوذ بالخواء، ونهرب إلى العدم والسّراب ونحن نحمل يقينا واحداً لا غير، أن "الأيقونات" قد رسمت تحوّلاً حاسماً في عالم القصّ وهو ما سيأخذ هذا العالم إلى مجالات مترامية الأطراف....
فالتجربة العراقية في عالم السرد خاصة قد استطاعت أن ترسم مسارا جديدا لفنّ القصّ
وهي تعدّ تجربة متفردة سيفيد منّها كلّ من أراد أن يجرّب هذا العالم ويكتسب القدرة على محاورة المسكوت عنّه في واقعه وفي وجدانه..

*** على سبيل الخروج: لحظة المغادرة
قد طفتُ في هذه "الأيقونات" بين نص وآخر، وطال في السرد تجوالي وترحالي
فكانت المسالك وعرة، والطرق متعددة، متشابكة، فتهتُ أحياناً، وأحياناً أخرى ضيعتُ المفاتيح...وفي لحظات عديدة أعود لأنبش جسد النص علّي أظفر بالمفتاح...لكن هيهات
فالنصوص متعددة، مختلفة، متشابكة، عصية ، مطواعة أحيانا...
إن هذه التجربة تمثّل منعرجاً في السرد العراقي والعربي عموماً، إذ أن واقع العراق لا يختلف عن واقع الجغرافيا العربية عموماً، التي تغرق في وحل الظلمات والفوضى والصراعات والموت والدمار.
واللافت للنظر هو كيفية التعامل مع هذا الواقع فالبون شاسع بين من ينقل الواقع، ويصوره بطريقة سطحية مبتذلة ومن يعيد تركيبه برؤية خارقة، متفردة، متميزة فيقدم العمل على "
" طبق من وعي ودهشة" كما جاء في مقدمة هذه الأيقونات للروائي حميد المختار .
إن التجربة التي خضتها فريدة من نوعها، لم يسبق لي أن أبحرتُ في عالم متعدد النصوص والكتاب في آن، فقد غصتُ في جملة من النصوص يصعب محاصرتها وتطويقها، إذ بدت متزلقة، يصعب المشي على بساطها دون حذر فكأنّها الأرض وقد زرعت بالألغام، وما يكاد المرء يدخلها حتى تستهويه الأسماء والأماكن وينتشر العطر يطوّق المكان
فإذا بالأيقونات حدافة بماء الفراتين ومعطرة برائحة سومر وبابل وآشور...وإذا بي في حدائق السرد العراقي أتجول بين نصوص مزهرة .

الأستاذة سامية البحري / تونس30 أكتوبر 2016
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر:
** 33 أيقونة عراقية ( قصص )
مجموعة مؤلفين:
ـ مهدي علي ازبين ـ حميد عمران الشريفي
ـ عبد شاكر ـ عبد الصاحب محمد البطيحي
ـ عبد السادة جبار ـ عبد الكريم الساعدي
ـ عادل المعموري ـ عزيز الشعباني
ـ علي الحديثي ـ د. سلمان كيوش
المراجع:
p. Ricœur : du texte a l’action



#عبدالكريم_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جماليات اللغة في [ ولادة ] للقاص عبد الكريم الساعدي
- الغريب
- السفير / قصة قصيرة
- دراسة نقدية بقلم الأستاذة سامية البحري: - أحلام وذباب- ...
- بين الانتظار والاحتضار/ سامية البحري - تونس
- عيناك للعراق / الأستاذة سامية البحري / تونس
- دراسة نقدية لقصة ( طقس عبثي ) للقاص عبدالكريم الساعدي، بقلم ...
- قراءة نقدية للأستاذة/ زهرة خصخوصي لنصّ “الرّفيق ديونيسوس” لل ...
- - الكلام على الكلام صعب -
- عطب
- سيرة معطف / قصة قصيرة
- امتزاج التأريخ بالشعر والخيال في ( غبار القصائد) / دراسة نقد ...
- دراسة نقدية لقصة ( توهُّم ) / بقلم الناقد أحمد طنطاوي
- قراءة نقدية لقصة ( في بطن الحوت ) للقاص عبدالكريم الساعدي
- حين يغرد حمار جارنا
- كانت امرأة أخرى
- ذاكرة من رماد / قصة قصيرة
- الرسالة وصلت / قصة قصيرة
- (شهقة طين) عنوان يلخّص التجربة الإنسانية ويرفعها إلى مصاف ال ...
- مع المتنبي في شارعه / قصة قصيرة


المزيد.....




- -صافح شبحا-.. فيديو تصرف غريب من بايدن على المسرح يشعل تفاعل ...
- أمية جحا تكتب: يوميات فنانة تشكيلية من غزة نزحت قسرا إلى عنب ...
- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - تأملات في لوحة مرمرية أيديولوجيا الوجع في القص العراقي -33 أيقونة عراقية - أنموذجاً / بقلم الأستاذة سامية البحري/ تونس