أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - ذاكرة من رماد / قصة قصيرة















المزيد.....

ذاكرة من رماد / قصة قصيرة


عبدالكريم الساعدي

الحوار المتمدن-العدد: 4982 - 2015 / 11 / 11 - 10:46
المحور: الادب والفن
    



ذات يوم، بل كلّ يوم، تراني أقف على هامش المكان، مسكوناً بالقلق، يلازمني غراب أسود، يلتصق بي كالظلّ، يرسمني غريباً كما يشاء، يرشدني إلى مدافن سوءات التأريخ. كنت أستمع إلى خفقة الموت، وأرى أشلاء القتلى تطوف حول ظلّ لوحاته، تنزّ من بين ثناياها قوافل من قطيع الأحلام، يشيّعها عويل من النساء الثكلى، نساء محنّاة بالوحل، مكحّلات بالدمع، شيخ يبرق الدمع في عينيه، يبحث عن كسرة خبز، جنائز لجثث مجهولة، مستغرباً لما يجري، أتساءلُ، لِمَ يحدث كلّ ذلك؟ حتى رأيت الأشياء تعدو قبلي وبعدي، وأنا أبحث عن رائحة وجودي التي لا أعرف لها أثراً في أنف الليالي، تلك الرائحة الممزوجة بالعبث والضياع، أظنّ أنّها تعرّقت؛ فسالت على جدران محراب ريشته وألوانه، محراب خبّأ فيه ملامح الذكريات، وكلّ الطقوس الممنوعة. حين تلج مرسمه المعتّق بالغبار، والمسوّر بخيوط العناكب، عليك أن تعيش الخطر؛ لا تستغرب ذلك، اقرأ ما خطّه (نيتشه) على عتبة المرسم:
"إذا أردت أن تجني من الوجود أسمى ما فيه فعش في خطر".
أرتدي معطف كوابيسه، أنفض رماد ذاكرته، أعانق شبح رجل أتعبته الدروب، انسلّ بهدوء شديد من ركن صغير، تسكنه الفوضى، يعانق صراخه العنيف، يرتّل سيرة أمسه:
- كنت أعيش هنا لمّا حُظرت الأحلام، أمارس ترميم شيبي، لعلّي أرتطم بقلب مترع بالحنين، أو أرى ضوءاً ولو من ثقب صغير، مدرك تماماً أنّه يحاصرني بعيونه الذئبية، ينفث دخان سيكاره الكوبي في وجهي، يخنقني بضحكته العاهرة، يشرب قهوته كلّ حين على مشارف فزعي. وحتى أهرب من عيونه التي نجحت في محاصرتي في دوائره الضيقة؛ تراني أرقص على الطريقة المولوية، أدور حول نفسي دورات سريعة كما الخذروف، وحين أقف لا أجد نفسي. في الصباح أخرج من لوحتي عارياً، قاضماً شفاه اللون، مرتدياً حلماً جديداً، كانت حقيقتي حلماً لا غير. تلك طقوسي- يا صاحبي- في زمن التيه، كأس من الخمر تكفي لسكري، ولك الصحو لتحلّق في عوالم مخلوقاتي الراقدة حزناً في سجونها المؤطّرة بالفزع، ستسمع أنينها المعتّق. تفضل معي، كلّ هذه اللوحات أردتها أن تكون ملحمة على غرار الكوميديا الإلهية، لكنّها هنا، على الأرض، إنّها كوميديا العالم المنسي؛ فنحن نملك من العذاب وأهوال الجحيم ما لا يتصوره دانتي في جحيمه؛ فلم يكن أمامي سوى تجسيد صراع تلك الآلهة التي نزلت على كوكبنا؛ لتخطّ لنا سفر العبودية، انظرْ جيداً إلى هذا الجدار، عُلّقت فوقه لوحات غير مؤطّرة، رسمت بلا ألوان، لا شيء غير الهواء والماء، وإله راعٍ لشؤون الأرض، برفقته زوجة جميلة وكهنة معبده ووزير حاذق وحاشية تمجّده؛ في البدء كان صراعاً مريراً يحمل بذرة الكون، النماء والخصوبة؛ فكانت مدينة نفّر وأريدو وأوروك وتلك معابدهم في العالم السفلي، إلا أنّ شهواتهم، ملذاتهم، جعلتني أخطّ سفر الفجيعة.
تستوقفني إحدى لوحاته، معلّقة على الجدار الأول، أرض جرداء، محاطة بخراب شاسع، يملأ فضاءها نواح وغناء امرأة جميلة. سألته مدهوشاً:
- من هذه المرأة؟
- إنّها (اننا) تبكي زوجها الملك (ديموزي) الذي قُتل وسُحل على ضفة النهر، انظر إلى هذه اللوحة (المضاجعة و العقاب)، البستاني شوكليتودا يضاجع ملكة السماء الحزينة قرب شجرة الـ(سربتو) وهي نائمة ولم تشعر من شدة تعبها، فرّ شوكليتودا إلى مكان مجهول؛ فدفعنا ثمن تلك الخطيئة، صبت علينا أنواع العذاب، قتل ولعنات وحرق مزارعنا، حتى الحيوانات لم تسلم من الموت، لم يكتف مجمع الآلهة بذلك؛ قرر أن يفنى البشر ويذهبوا إلى الجحيم، لا لشيء إلا لأن البستاني منّا- نحن البشر- وتلك السيدة من صنف الآلهة، ومنذ ذلك اليوم ونحن نعتلي سفينة مثقوبة، نبحث عن مرفأ؛ أما هذه اللوحات المعلّقة على الجدار الثاني، ليست لي، إنّها سفر صديقٍ سومري، تعرّفت عليه في ظلّ الأمس المنخور أسفاً، في ظلّ الحرب، التقيته هناك بعد حين من الوجع، كنّا ننتعكّز على حشرجة الموت قرب أشجار البلوط الدامعة الملقاة على ظهر (كونت)، كلّ ذلك الموت، الخراب، الفزع، قيامات الليل والنهار، لم تجد نفعاً، كنّا نرتكب غفلة في عزّ الخريف، كلّ تلك السنين كانت فصلاً واحداً، كانت خريفاً مرعباً، لم تترك لنا غير أن نحمل جنوننا على كتف العبث، نختبّئ في صرة اللذائذ، في جرحٍ يهتف بالأرق والألم الدائم؛ لنمضي صوب اللاشيء، غير مبالين بعصفٍ يشتهي أرواحنا، يصفعنا الأين، تصفعنا الليالي ببردها، بثلجها الأبيض، بيد أنّ القطاف لم يبلغنا، كنّا نضحك ملئ أشداقنا على تماثيل برونزية لآلهة عفنة، تسوّر ساحات المدن، يدور الناس حولها سكارى، يطمرهم العمى، ينازعنا ذات الخريف ما تبقّى من العمر، ينسجنا الطريق خطى تائهة في وطنٍ يتكئ على موتاه، فما كان منّه إلّا أن يرسم حلماً ويمضي وحيداً إلى عوالم مجهولة. ما يعجبني في لوحاته (التكوين) ورسم التكتلات البشرية والأعشاب والنوارس، في تنويعات غاية في التميز، كلّ عنصر له شخصيتة المتفردة التي تعزف جملة لونية وتعبيرية، انظر إلى هذه اللوحة، رجل أصلع، طاعن بالسن، يخرج من بين غيوم رمادية، يلّفه ضباب كثيف، يحمل عصاً، لم يتوكأ عليها، كان يلوح بها في الفراغ، وهذه زهرة برية نمت في بسطال جندي، وهذا شاعر يحن إلى ضفة نهر، وهذه امرأة من شنكَال علّقت من ظفائرها، وتلك شجرة عارية، وقف على أحد أغصانها اليابسة غراب أبيض. أبتسمُ:
- لم أرَ من قبل غراباً أبيض.
- ستراه يوماً ما.
- إنّها عوالم غريبة.
- لم تكن غريبة، لكنّها مكتنزة بالأسرار.
وتلك ما اسمها؟
- الوداع الأبدي، هذا شبح صديقي أنكيدو ملوحاً لي لحظة نزوله إلى العالم السفلي.
يرسو مركبي تحت سماء لوحة غريبة لمدينة خربة، أحدّق فيها ملياً، أغيب في ثنايا زمنها، أناملي تمتدّ، تمسح الغبار عن وجه امرأة لاطمة خدّها، شاقة ثوبها. يهمس في أذني:
- إنّها ننكال.
- وما ننكال؟
- زوجة إله القمر، تندب حظها العاثر لحظة سقوط أور آخر معاقل سومر.
ومنذ سقوط المدينة ورحيل صاحبي، تراني أمضي حزيناً، ملتحفاً وحشتي، هارباً من الحرب، حرب لا ناقة لي فيها ولا جمل، سنين عجاف وأنا مسجون بين هذه الجدران، يرافقني ظلّ امرأة، أرتّب ضجري، أعاقر قلقي، أشرب خمرتي وأغيب في حلم، لم يكن هناك كوكباً، كنت أنا الذي يدور حول نفسه، أمتطي رغبات شاحبة، تائهاً وسط غيوم داكنة، لم يكن لي حذاء لأبحث عن طريق، كلّ ما أعرفه أني على قيد الحياة، أحتفي بأحلام العصافير، أستنشق دخان التبغ بلهفة شديدة، ألتهم سطور الكتب الطاعنة بالصراخ، ألهو بمعصم الكأس انتشاء، لا يهمني أن أتعثّر بجثة متفسخة أو عبوة ناسفة، كنت غارقاً بالجنون، ما دمت أرسم فأنا موجود.
- ألا تعد ما تفعله هراءً؟
- هذا رماد ذاكرتي، وآثار وجودي.
- أراك مجنوناً.
- ربما، فأنا ما زلت مسكوناً بليلي الطويل، أمضغ حلكته، أركض من الصباح حتى الفجر في ظلّ أصنام من شمع، ترتدي ثياب الخنوع.
أتأمل آخر لوحاته، امرأة في ريعان الشيخوخة، تلتحف النحول لكنّها مبتسمة، ساخرة من الذين رحلوا، تطلّ من نافذة مفتوحة، تمدّ يديها إلى حبات المطر...
أحدّق في رماد ذاكرته، أستلّ رفاته من بين ركام لوحاته المحنّطة بالعزاء، كانت ترانيم حارقة، نثرتها الريح على ضفاف الوجع، لوحةً رسمتها يد الأقدار، ذات لون أحادي، معتّقة بالجحيم، باصقة في وجه آلهة العالم المنسي، تهذي بتفاصيل إعدامه:
- ذات نهار موحش، مفعم بالخوف، مشعّ بالخراب، عُلّقت على عمود الإنارة بتهمة الزندقة والهروب من الحرب، وقبل أن ألطّخ بدمي، و أفقد حواسي، كانت عينا أبي ترنوان إليّ عن بعد، تستظلّان بالدعاء، يبلّلهما صراخ مكتوم، أحدّق في الحضور، وجوه بلا ملامح، رصاصات تخترق جبهتي، لم أستطع عدّها؛ كنت مشغولاً بمعانقة كوني الجديد.



#عبدالكريم_الساعدي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الرسالة وصلت / قصة قصيرة
- (شهقة طين) عنوان يلخّص التجربة الإنسانية ويرفعها إلى مصاف ال ...
- مع المتنبي في شارعه / قصة قصيرة
- انتظار
- محطّات / قصة قصيرة
- ( انعتاق ) قصة قصيرة
- تحليق على سطر الهامش / قصة قصيرة
- قرابين البحر
- سروال داخلي
- ((اللغة الشعرية و حوارية القصة القصيرة ))/ دراسة نقدية معمّق ...
- امرأة القمر / قصة قصيرة
- المعبر
- لإيروس قصيدة مغنَّاة: قراءة مفاهيمية ورؤية في التجسيد الراسم ...
- الإيروس قصيدة مغنَّاة: قراءة مفاهيمية ورؤية في التجسيد الراس ...
- (( الواقع والشاعرية في ... هبوط عابر )) دراسة نقدية لقصة ( ه ...
- استفزاز الذاكرة في (ما بعد الخريف) دراسة نقدية للمجموعة القص ...
- غرائبية اللغة والحدث في نص ( ارتعاشة آخر ليلة ) للقاص عبدالك ...
- ( أنخاب ) / قصة قصيرة
- ( مرايا الشيب ) نص يؤسس لنمط مميز في السرد
- بلاغة الغموض في رسائل الموتى / دراسة نقدية - بقلم الناقد الم ...


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالكريم الساعدي - ذاكرة من رماد / قصة قصيرة