من التراث العربي أورد لكم هذه الواقعة المأثورة التي كان بطلها غلام يعمل لدى حمزة بن بيض.
ذات مرة قال حمزة بن بيض لغلام له :
أي يوم صلينا الجمعة في الرصافة؟
ففكر الغلام طويلا ثم قال :
يوم الثلاثاء..
لسوء حظنا نحن العرب فقد كثر الغلمان في بلادنا من الذين لا يفرقون بين الأيام والأسماء, فيقولون عن الاثنين الخميس ويسمون الأربعاء الأحد ويعتبرون الخيانة نضالا وطنيا وجهادا إسلاميا وعملا قوميا وتطورا ديمقراطيا وفعلا إنسانيا وتقدما حضاريا. كما كثر الجهلة من الذين لا يعرفون صياغة السؤال أو الرد على السؤال وجواب السائل. فأن سألته لماذا أنت مع أمريكا وضد العراق, يجيبك بسؤال مماثل لماذا أنت مع العراق وضد أمريكا؟ تحاول إفهامه بأنك مع العراق وليس مع النظام العراقي وضد سياسة الإدارة الأمريكية وليس ضد أمريكا, فلا تجد لديه أدنى استعداد للتفهم أو الاستيعاب, لأنه يريدك معه وضد نفسك وقناعتك ومع عدوك وضد أمتك, ومع عدو تطلعاتك وحليف قاتلك وسارق أرضك وثرواتك وضد منطق حياتك في سبيل حريتك, ومنهم من يقول بأن العراق للعراقيين وهذه مشكلة العراقيين وحدهم, وهذا يذكرني بمصيبة القرار الفلسطيني المستقل الذي استغلته بعض الجهات و الفئات لشن حرب ابادة وتدمير على المخيمات والبندقية الفلسطينية والقرار الفعلي المستقل, بحجة ضرب التيار العفاتي في منظمة التحرير والمخيمات, لكن لا عرفات سقط ولا القيادة المتنفذة ذهبت, بل ساهمت تلك الجريمة في هروب تلك القيادة ألى أحضان امريكا واسرائيل فيما بعد. مشكلة العراق مشكلتنا كلنا نحن العرب, هي بالتأكيد تعني العراقي أولا لكنها تعنينا كلننا وتعني العالم أجمع لأن بداية تقسيم العالم الجديد ستبدأ من العراق المحاصر والوحيد في المواجهة الفعلية, واكثر المتأثرون بها سيكون الوضع الفلسطيني النازف, صاحب الجرح المفتوح.
ذاك البعض قد أضحى مغلقا ومعلبا في مجسمات أمريكية جاهزة, حتى لو قلت له أن الجمعة يعني يوم الجمعة فعلا وهو يوم العطلة الرسمية في بلادنا العربية والإسلامية, قد يقول لك لا إن صلاة الجمعة تقام يوم الثلاثاء. ولا عجب في ذلك لأن الإدارة الأمريكية الحالية تريد حتى تغيير الرموز والأسماء والأعياد وطرق الاحتفال والعبادة والابتهال والسيادة والاستقلال, فتجد منا من هو خارج عنا وليس بالفعل منا, فتستعمله بساطا تحلق عليه فوق بلادنا وتحط فيه على أرضنا, ظنا منها أنها بذلك تستطيع تغيير ثقافتنا وعاداتنا ودنيانا ودين أهالينا وأجدادنا, فبهذه السياسة تجعل المتردد فينا يحسم أموره ويقرر الوقوف ضدها ومع نفسه التي كانت مغيبة.
كما أن البعض من أبناء بلادنا العربية, التي أصبحت حقول تجارب لكل البضائع الحربية الأمريكية و المنتجات العسكرية الشرقية والغربية, لم يعد قادرا على فهم المعاني الأخوية ولا حتى معاني وقيمة الانتماء للهوية. فبدلا من الوفاء صارت العداوة ممارسة لها وجهات نظر تبررها, ثم تحولت لشقاوة مزعجة يمارسها الأخوة ضد بعضهم. فالمرضى العقلانيين حسب التصنيف الغربي أصبحوا يعتمدون كليا على العلاج الأمريكي, لكن الدواء يزيد من عقدهم ويعزز من عزلتهم في عزلة مرضية تبعدهم عن العالم وتبعد العالم عنهم, فتكون النتيجة تخمجهم وتعفن أفكارهم في سلة مهملات التاريخ الحاضر في كل طلعة طائرة أمريكية فوق الأرض العراقية ومع كل جثة طفل شوهها اليورانيوم الأمريكي المخصب وكل ما رمته أمريكا على بلاد الرافدين القابعة تحت رحمة المصيبتين الداخلية متمثلة بانعدام الحريات والديمقراطية والخارجية بممارسات امريكا والعالمين.
لا وقت لدى النخبة التي تريد بناء القاعدة الجماهيرية والتفاف الناس حولها في محاولتها تسليك الأمور وإقامة تجمع ديمقراطي يكون بمثابة طوق النجاة للبلد وللأرض وللشعب وللسيادة الوطنية والكرامة العراقية المهددة بغزو أمريكي حاقد ولعين. هذه الجماعة أو المجموعة وهذا التجمع أو التيار من الوطنيين لا يملك الآن سوى الصرخة العالية والصوت الهادر الذي يطالب إخوانه على الطرفين بتحكيم لغة العقل والمنطق حتى النهاية, فحرية الناس وسيادة الشعب واستقلال البلد ومحاربة الغزو الخارجي أو رفضه كما يرفض هؤلاء الحكم الغير ديمقراطي والحزبي اليتيم.هذا الصوت الهادر بين جموع أريد لها أن تلعب دور الخادم والنادل يبقى مجرد صوت ما لم يجهز نفسه جيدا ويبدأ معركته بتقنية تعتمد على خبرة كبيرة لبعض رموزه في العمل الوطني والقومي. أما البعض الآخر الذي يرد عليه مكتفيا بقراءة العنوان وجاعلا من الجمعة ثلاثاء ومن الأحد أربعاء, فليذهب مع أسياده وليٌترك حسابه للزمن الجديد ,القادم ولو بعد حين, زمن الطفل العراقي الذي يعي ويعرف من الذي كان ولازال السبب في تشوهه وأمراضه وفقدانه لطعامه وماءه وغذاءه ودواءه.
قبل أن ننتهي من هذه المصائب التي تجعلنا نعود لهذا الموضوع بعد كل قرار بالتوقف عن الكتابة في هذا الشأن, ترانا نضطر اضطرارا للكتابة والعودة إلى موضوع العراق الشائك والمعقد أكثر مما يتصور الإنسان, لأنه من غير الطبيعي أو العادي والمنطقي أن نتفرج على المذبحة والمصيبة الكبرى التي تعد للشعب العراقي أولا وللأمة العربية ثانيا, فالحرب الأمريكية على العراق هي حرب إسرائيل أولا وأخيرا ومن لا يقرأ عليه تهجية العناوين حتى يفهمها جيدا, امن إسرائيل يزداد أمانا وسلاما عبر تصفية القوة العراقية من خلال سلب العراق حقه في التصنيع والتقنية الحربية ومن خلال جعله محمية أمريكية ومستعمرة جديدة للناتو على غرار أفغانستان والبوسنة والهرسك, من هنا تضمن إسرائيل نهاية الخطر العراقي مستقبلا ومحاصرة سوريا من كل الجهات, فتتم عملية وصل الحلقة الفارغة من مؤامرة كمب ديفيد الأولى حيث تم شطب مصر نهائيا من المعادلة, وذلك بعد توقيعها معاهدة السلام التي جعلت منها بلدا بلا جيش قوي وبلا أسلحة متطورة ترقى لمواجهة الخطر الإسرائيلي القائم دوما, كما أن كمب ديفيد الذي أعاد سيناء استطاع أن يأخذ مصر كلها ويكسر ظهر الأمة العربية, التي بعد خروج مصر تشتتت وأصبحت اضعف من السابق. لقد كان لغياب مصر كقوة عسكرية فائدة في تطور العسكرية والعلوم الحربية في العراق الذي وظف تلك القدرات في حروب جاهلة وغير مبررة مع جيرانه الإيرانيين ومن ثم في احتلال الكويت, كل هذا لم يؤثر على أمريكا وإسرائيل., لكن الأساس في الثوابت الأمريكية ينظر لتشليح العراق من أسلحته وجعله دولة منزوعة السلاح ,هذا الاعتقاد الأمريكي والقناعة بان السلاح العراقي يشكل فعلا خطرا على إسرائيل ووجودها ويعتبر السبب الأهم في حملة امريكا على العراق منذ تحرير الكويت من الاحتلال العراقي. ولا يهم من هو الشخص الذي يحكم العراق والذي قد يشكل التهديد لإسرائيل في المستقبل, فالقضية ليست في النظام الحالي فقط بل في المستقبل, لأن أي دولة عربية تستطيع بناء توازن عسكري خاصة على الصعيد الاستراتيجي سوف تعتبر دولة مارقة وخارجة عن القانون ويجب شطب قوتها وتسليحها أو شطبها نفسها كما الحال مع العراق الآن.
المهم أوالأهم الآن لأمريكا وإسرائيل كيف يتم شطب القوة العراقية وضرب البنية العلمية العراقية التي بلغت مجالا متقدما بالنسبة للبلدان العربية الأخرى التي بدورها لم تستطع تطوير نفسها علميا وحربيا كما الحال مع العراق, هذا على الرغم من الحروب التي خاضها النظام العراقي مع إيران في الحرب الخليجية الأولى ومع التحالف الدولي بقيادة أمريكا في حرب الخليج الثانية, وكذلك بالرغم من الحصار الخانق والطويل الذي فرض ولازال قائما على العراق حكما وشعبا.
عندما تقام صلاة الجمعة يوم الثلاثاء وتتحول جهة المصلين نحو البيت الأبيض الأمريكي, يصبح من الصعب تصديق أي مصلي يدعو في صلاته أمريكا لتحرير= احتلال العراق, فأمريكا ليست أكثر من قوة غازية واستعمارية تريد السيطرة على ثروات الشعوب والتحكم بسيادة الدول. ومادام أهل الردة وجهوا صلواتهم نحو بيت أمريكا الأبيض فأن صلواتهم باطلة ودعاءهم مردود ومرفوض.
* نشرت في ايلاف