|
بروزاك .. صديق المبدعين
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1411 - 2005 / 12 / 26 - 10:43
المحور:
الادب والفن
" بروزاك " صديق المبدعين القاسم المشترك بين غالبية المبدعين هو " بروزاك " أشهر عقار طبي مضاد للإكتئاب . وهناك حبوب أخرى كثيرة مهدئة ، لكن " بروزاك " يظل الأفضل . ويعيد السؤال القديم طرح نفسه: هل تقترن الموهبة والقدرة الإبداعية بالاضطراب النفسي ؟ . لزمن طويل قالوا نعم ، وكان من المسلم به أن ذلك الاضطراب النفسي هو قدر المبدعين ، بدءا من سقراط الذي خاطب الشاعر قائلا : " إن هناك شيطانا يحركك " ، ثم " لامارتين " الذي اعتبر الإبداع نوعا من المرض ، ومن بعده سيجموند فرويد الذي جزم بأن " الفنان انطوائي ولا يستبعد أن يكون عصابيا " . وبعض الصفحات التي كتبها عباس العقاد تدل على حالة إكتئاب واضحة ، بينما سقطت مي زيادة صريعة لذلك المرض ، وعبد الرحمن شكري ، وصلاح عبد الصبور ، بل إن تحليل شخصية عمر الحمزاوي في رواية الشحاذ يؤكد تعرض نجيب محفوظ لهذه الحالة التي وصفها محفوظ بدقة الشخص الذي خبرها بنفسه . ويحتشد تاريخ الأدب العالمي بحالات مماثلة : إدجار آلان بو ، وموباسان ، وجوجول ، وألبير كامي الذي عاني قلقا مزمنا وذعرا من الأماكن الفسيحة، وهمنجواي الذي تلقى علاجا نفسيا طويلا قبل انتحاره ، والرسام فان جوخ ، والموسيقار العالمي شتراوس ، ورحمانينوف الذي أهدى أجمل مقطوعاته الموسيقية إلي طبيبه المعالج . وتبين من دراسة صدرت عام 94 لأحد علماء النفس عن مجموعة من المبدعين أن 74 % منهم مصابون بالإكتئاب . واستقر تقريبا الربط بين حالة الإبداع والاضطراب النفسي ، والميل لترجيح أن ثمة صلة وثيقة بين الحالتين ، وبأن قدرا من المرض النفسي يدفع إلي الإبداع أو يساعد عليه . لكن الدكتور عبد الستار إبراهيم في كتابه " الحكمة الضائعة " الصادر عن عالم المعرفة يمضي إلي غير ذلك تماما ، ويؤكد أن دراسة سير حياة المبدعين وظهور " القياس النفسي للإبداع " يثبت عكس ذلك . فقد تمكن علم النفس الحديث بوسائل واختبارات محددة من قياس القدرة الإبداعية ، على أساس أن الإبداع هو إعادة تشكيل لعناصر الخبرة في صيغ وأشكال جديدة . وبهذه الوسائل يتبين أن خصائص الإضطراب النفسي أو العقلي المنتشرة بين المبدعين لا تزيد عما يشيع بين الناس العاديين . ووفقا لدراسة قام بها " هافيلوك آليس " ووسع فيها عينة البحث إلي ألف حالة مبدعة يتضح أن عدد من يوصف بالمرضى منهم لا يتجاوز 44 شخصا أي بنسبة لا تتجاوز 2و4 % . ويؤكد د . عبد الستار إبراهيم أن المرض النفسي ليس مصدرا للإبداع، ولكن سببا من أسباب عرقلته ، وأن معظم الكتاب الكبار كتبوا أفضل أعمالهم وهم بعيدون عن القلق وفي أفضل صحة نفسية ، وأن الموهوبين منهم – بمن فيهم المرضى – قد أبدعوا وأنتجوا برغم المرض وليس بسببه ! وينتهي باحث آخر إلي أن الافتقار للإبداع – وليس الإبداع – هو الذي يسوق الكتاب والمثقفين إلي المرض النفسي والعقلي ، لأن تحقيق الذات عبر الإبداع عامل فطري ، كما أن الاستغراق في النشاط الإبداعي نوع من العلاج النفسي . وقد كتب جراهام جرين صراحة قائلا " إن الكتابة أسلوب من أساليب العلاج ". ويمثل المبدعون على حد قول عالم النفس " أونيل ": " نمطا مختلفا وراقيا " من الصحة النفسية ، وهو نمط لا يجمعه بالمرضي النفسيين سوى أن المبدعين والمرضى يرفضون الانصياع لقوانين العالم الواقعي . الكتاب يرفضون ذلك الانصياع بطموحهم إلي تجميل العالم وإعادة بنائه على نحو أفضل في رواياتهم وقصائدهم ، بينما يكتفي المرضى فقط بالهروب من الانصياع لقوانين العالم الواقعي . ويظل لنمط الشخصية المبدعة المختلفة مشكلاته النفسية والعقلية الناجمة عن طبيعة عمله الذي يحتاج إلي تركيز وتوتر شديدين . وكان أرنست همنجواي يكتب كل صباح لمدة ساعتين القلم في يد والكأس في اليد الأخرى . وكان يتناول يوميا 17 كأسا من الخمر وينهي يومه بزجاجة كاملة . أما بيتهوفن الذي لم يكن مريضا نفسيا فقد تناول في يوم واحد اثنتين وثلاثين زجاجة حبوب مهدئة ، وتوفي في السادسة والخمسين . ولا ترجع أسباب ذلك التوتر والضغوط النفسية إلي طبيعة الإبداع فقط ، ولكن إلي السمات الشخصية المشتركة للمبدعين باعتبارهم يتسمون بالاستقلال النفسي والفكري ، وتلمس المشكلات ، والبحث عن حلول لها. كما يعود التوتر الذي يدفع المبدع ثمنه إلي أن الإبداع عملية تهدد استقرار المجتمع بأفكار ورؤى جديدة مقلقة . النتيجة النهائية أن الإبداع الأدبي والفني علاج وليس مرضا نفسيا . لكن المبدعين يدفعون ثمن ذلك العلاج باهظا في أحيان كثيرة بسبب الاستغراق الشديد في العمل وما يتطلبه من تركيز وتوتر وجهد نفسي وعصبي ، كما حدث مع ستندال ، وبودلير، وغيرهما ممن أصيبوا بأمراض عقلية صعبة بعد أن فرغوا من الأعمال الكبيرة . ويفتح الدكتور عبد الستار إبراهيم أبواب خبرته حين يمد المبدعين ببرنامج عام للتخلص من صديقهم المفضل " بروزاك " الذي قد لا يفارق جيوبهم وحقائبهم الصغيرة بسهولة إلا في عالم آخر مختلف تماما . *** أحمد الخميسي . كاتب مصري [email protected]
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ألفريد فرج .. في وداع الخيال
-
الوجه الآخر لفوز الإخوان في مصر
-
يوميات جندي أمريكي في العراق
-
من أين يأتي الحزن ؟
-
أقباط مصر .. هل يريدون الكثير ؟
-
أحداث باريس وكلمات ألبير كامي
-
الثقافة والطائرات
-
المسألة القبطية وماجرى في الاسكندرية
-
اللحظة الحرجة
-
علاء الأسواني وروايته التي أثارت ضجة
-
هي وأخواتها علماء العراق
-
الرواية اليوم
-
الانهيار الاقتصادي عصر مبارك
-
الثورة مع الاستعمار
-
فاجعة مسرح بني سويف
-
نجم .. من الذاكرة !
-
جغرافيا الفكر والثقافة
-
رواية الصحن لسميحة خريس
-
أقلام وأوراق
-
جابريل جارثيا ماركيز - قصيدة عن الحب
المزيد.....
-
مصر.. وفاة المخرج والسيناريست القدير عصام الشماع
-
الإِلهُ الأخلاقيّ وقداسة الحياة.. دراسة مقارنة بين القرآن ال
...
-
بنظامي 3- 5 سنوات .. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 الد
...
-
مبعوث روسي: مجلس السيادة هو الممثل الشرعي للشعب السوداني
-
إيران تحظر بث أشهر مسلسل رمضاني مصري
-
-قناع بلون السماء-.. سؤال الهويّات والوجود في رواية الأسير ا
...
-
وفاة الفنانة السورية القديرة خديجة العبد ونجلها الفنان قيس ا
...
-
مطالبات متزايدة بانقاذ مغني الراب الإيراني توماج صالحي من ال
...
-
-قناع بلون السماء- للأسير الفلسطيني باسم خندقجي تفوز بالجائز
...
-
اشتُهر بدوره في -أبو الطيب المتنبي-.. رحيل الفنان العراقي عا
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|