أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - نجم .. من الذاكرة !















المزيد.....

نجم .. من الذاكرة !


أحمد الخميسي

الحوار المتمدن-العدد: 1308 - 2005 / 9 / 5 - 10:05
المحور: الادب والفن
    


(1)

لسبب ما ، أراني أحيانا جالسا وحدي أفتش عن صور أصدقائي ، كأني أفتش عن سنوات من عمري . بعضهم أجده ، بعضهم أفتقده ولا أرى له صورة معي . وأتأسف الآن كثيرا لأنه ليس لدي صورة مشتركة مع الراحل أمل دنقل ، أو يحيي الطاهر عبد الله ، وكانت تصلني بهما صداقة وثيقة امتدت لزمن . وحين أبحث في " ركن الصور " أرى خالتي وأولادها في رأس البر على الشاطئ منذ ثلاثين عاما ، وأرى صور بعض من كانوا يدرسون معي ، ولكني لا أعثر على صورة واحدة مشتركة مع أحمد فؤاد نجم ، شاعر الشعب المصري ، مع أن معرفتي به بدأت عام 1965 ، جمعني به عمل ، ثم فترة من القلق العجيب الذي مرت به مصر بعد النكسة ، ثم سجن القناطر . المرة الأخيرة التي التقيت فيها بنجم كانت في مظاهرة في ميدان طلعت حرب وسط القاهرة ، أواخر يوليو هذا العام ، وهي أول مظاهرة تنظمها حركة " أدباء وفنانون من أجل التغيير " التي كان نجم أحد مؤسسيها ، والداعين إليها مع بهاء طاهر وآخرين . أقبل على نجم من طرف الميدان بجلبابه ، وضحكته ، وبجواره ابنته الصغيرة التي سألته عنها ذات مرة فقال لي : هذه مكافأة نهاية الخدمة !
لسبب ما ، تذكرت في زحمة المظاهرة ، أنه ما من صورة عندي لنجم . فأخذت أراجع صوره داخل نفسي.

(2)

عام 1964 ، وربما 65 ، تركت العمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون من شدة الملل العالق في أوراقها وغرفها إلي منظمة التضامن الآسيوي الأفريقي وكان مقرها فيلا في المنيل تطل على النيل . في اليوم الأول دلوني على الغرفة التي سأجلس فيها ، وكانت تقع في الطابق الأخير تحت الشمس مباشرة ولها نافذة تطل على السطح . وكان بالغرفة الضيقة ثلاثة مكاتب ، واحد لي ، والثاني لأمل دنقل ، والثالث لأحمد فؤاد نجم ، ولم أكن أعرفه بعد . كان أمل جالسا غاضبا من العالم ونظام الحكم وقلة الفلوس وكثرة القصائد ، وضخامة أحلامه، وشعوره الحاد بكرامته. أحمد نجم ظهر فجأة ، ليس عند باب الغرفة كما توقعت ، ولكن حين قفز من السطح عبر النافذة إلي داخل الغرفة ! وفرد أمل دنقل ذراعه قائلا لي : أحمد نجم ! في تلك السنة على الأقل لم يكن أحد يعرف اسم لا نجم ، ولا أمل دنقل سوى قلة قليلة ممن يكتبون . وكان أمامي طيلة الوقت نمطان مختلفان تماما لشاعرين مهمومين تماما بالدرجة نفسها بقضايا الوطن ، لكن كل بطريقته . كان نجم كثير الغياب ، أما أنا وأمل دنقل فقد احترفنا الذهاب مبكرا في موعد العمل ، والتوقيع ، ثم الخروج إلي مقهى في شارع جانبي لنتسلى بلعب الطاولة ، أو أجلس أنا أتصفح الجرائد ، بينما يزوم أمل وهو يسجل أبياتا من قصيدة بقلم رصاص ، إلي أن يحين موعد التوقيع في دفتر الانصراف . فننهض لنوقع وننصرف ! . وكانت الشكاوي من غيابنا نحن الثلاثة تنهال على يوسف السباعي رئيس المنظمة حينذاك ، فجمعنا ذات يوم أنا ونجم ودنقل ، وأغلق باب حجرته الكبيرة ، وأقسم أنه سيرسل إلي كل منا راتبه الشهري حتى باب البيت ، شرط ألا نريه وجوهنا الكريمة مرة أخرى ! وسأله أمل بكبرياء : وما الذي حدث ؟ . فكاد السباعي أن يجن صارخا : ماذا حدث ؟ لا شئ ، سوى أنكم ستفسدون على كل عمل المنظمة ، لأن الجميع يتساءلون : لماذا يغيب أولئك الثلاثة كما يحلو لهم ؟ هل هم أفضل منا ؟ . وحينذاك تقدم أحمد نجم إلي مكتب السباعي وقال له : لكن ماذا ستفعل إذا تمسكنا بأداء واجبنا والحضور للعمل ؟ قال السباعي : سأفصلك من العمل يا نجم وأستريح منك نهائيا . وتجهم وجه نجم كأنه يفكر في موضوع خطير وقال له : لكن هذه ستكون المرة الثالثة التي تفصلني فيها، وسوف يلزمنا بعد ذلك – لكي أعود إليك مجددا – محلل ! ولم نستطع أن نمسك أنفسنا عن الضحك ، ونحن نرى وجه السباعي مبتسما مغتاظا .

(3)

خلال تلك الفترة تعرفت بنجم ، وأخذت أتردد على بيت " حوش آدم " الشهير ، وكانت النكسة قد وقعت وقصمت ظهر ذلك الجيل بأكمله ، ولم تكن هناك لا أحزاب معارضة ، ولا أحزاب سرية ، ولا يحزنون . مجرد فراغ يسبح فيه القلق على مصر، ومراجعة باطنية لأسباب النكسة ، وتعلق بعبد الناصر ، ومرارة نحوه . كان نجم حينذاك يرتدي مثل كل خلق الله قميصا وسروالا ، ولم يكن قد وقع في عشق الجلابية التي يرتديها الآن ، وكان يكتب القصائد كأنما في الحلم ، إذ كان يقضي أغلب وقته بين أصدقائه ، أو في شققهم ، أو في الشوارع . متى كان يكتب ؟ لا أدري ، ومتى عكف على كل تلك القصائد التي شكلت الرفض في وجدان ذلك الجيل؟ لا أحد يعرف . وحين برزت ظاهرة " الشاعر المغني – نجم ، والشيخ إمام " شغلت مصر كلها ، ليس فقط لأن شيئا عبقريا اتضح في تلك الحالة ، ولكن لأن تلك الظاهرة كانت الحزب السياسي الوحيد بعد النكسة ولسنوات طويلة أخرى . وكنا جميعا ، كلما حدث شئ ، أو وقع تغير سياسي ، نسأل : وماذا كتب نجم ؟ . ونسرع إلي " حوش آدم " حيث نتلقى المنشور الفني الجديد ، فنحفظه ، ونوزعه ، ونردده . وقد حاولت الحكومة حينذاك أن تشتري تلك الظاهرة بوساطة بعض المثقفين ، وسعت لجر قدم أحمد نجم والشيخ إمام إلي الإذاعة والصحف ، لكن نجم أعطى كل ذلك ظهره ، وظل يسير نحو الناس . وشهدت القاهرة مظاهرات طلابية داخل الجامعات ، لا أذكر متى بالضبط ، وكان نجم عندنا في شقتنا بشارع عدلي ، قلنا له : يا نجم اكتب شئ للطلبة . قال : طبعا ، وظل سادرا في مزاحه ونكاته مع الجميع . فاستدرجناه إلي إحدى الغرف ، وما أن دخل هناك حتى أغلقنا الباب عليه بالمفتاح ، وقلنا له : لن تخرج إلا ومعك قصيدة للطلاب . وكنا قد تركنا له في الغرفة شايا وطعاما . وظل نجم يصرخ ، ويسب ، ولكننا لم نفتح الباب إلا حين قرأ لنا من وراء الباب قصيدته الشهيرة الجميلة " رجعوا التلامذة يا عم حمزة للجد تاني " . واعتبرنا حينذاك أننا كتبنا تلك القصيدة ، حين اعتقلنا نجم ، اعتقالا أهليا لصالح الشعب والثورة !

(4)

عام 1969 ، انتقلت من معتقل طرة إلي سجن القناطر . وهناك وجدت أحمد نجم والشيخ إمام . وكان معنا أيضا زميل يدعى فرانسيس كرولوس ، وفلاح طيب يدعى أحمد سويلم ، كان كلما ثار نقاش حول الأدب والفن ، يستوقفنا بنظرة ماكرة ، مبتسما قائلا بزهو : " لكن يا زملاء ، مهما كان ، الأدب للشعب ، ولا إيه؟" ثم يدير عينيه بيننا ليرى وقع كلماته المدهشة . سجن القناطر كان يتبع نظاما قاسيا ، لا زيارات ، ولا صحف ، ولا طوابير فسحة . فقط نصف ساعة يوميا من الخامسة إلي الخامسة والنصف عصرا تمشية سريعة حول الزنازين ، وانتهى الأمر . ولما ضقنا بهذه الحال ، فكرنا في إضراب عن الطعام لنحصل على حقنا في زيارات ، وصحف . وقلت لنجم : ما رأيك ؟ صاح نجم بحماسه لكل شئ : " طبعا يا أحمد ، دول ح يموتونا هنا أولاد الكلب، وصدقني ، ما حدش ح يحس بينا " . أقول : " يعني موافق يا نجم على إضراب عن الطعام ، يوم الثلاثاء بعد عشرة أيام؟ " يقول لي : " الله ! أنت غبي يا جدع ؟ طبعا موافق ، ما فيش حل تاني مع أولاد الجزمة دول " . ماشي . اتفقنا جميعا ، وقبل الإضراب بيوم قال لي فرانسيس كرولوس : " والنبي يا أحمد أكد على نجم موعد الإضراب غدا " . في طابور التمشية ذكرت نجم بأننا غدا سندخل الإضراب ، فإذا به يضع يديه في خاصرته ويصرخ : " إضراب إيه يا أولاد الكلب ؟ عاوزين تموتوني ؟ ده عندي قرحة في معدتي ولو ما أكلتش نص ساعة أموت ؟ أنتو خلاص ما عندكوش ضمير ؟ " ! . هكذا انتهى مشروعنا الثوري الكبير ، وظللنا داخل السجن من دون زيارات ، ولا طعام منزلي ، ولا صحف ، إلي أن فوجئنا ذات يوم بشخص شديد الأناقة ، والوجاهة ، والكبرياء يدخل منطقة الزنازين ، كأنه متجه إلي فندق هيلتون . وحين سألنا الشاويشية ، قالوا همسا : " ده اللواء صفوت بيه ، لواء طيار ، جابوه في الرجلين " . الرجل الذي دخل بكل هذه الوجاهة ، صعقنا جميعا حين سمعنا صوت بكاءه من داخل زنزانته وهو يقول : " ده كلام ؟ أنا صفوت تبهدلوني كده ؟ " . وفيما بعد اتضح أنه سجن لمجرد أنه كان قريبا لشخص آخر . كان نجم يقرأ في الليل داخل زنزانته ، وأنا أيضا ، أقرأ مسترشدا بعبارة سويلم " الأدب للشعب " ، أما اللواء صفوت فكانت " الكلمات المتقاطعة " هي حرفته الأولى والأخيرة ، لا يعرف سواها في الحياة . لكن من أين له بالصحف التي تحتوي على الكلمات المتقاطعة ؟ . وكان اللواء يثير إشفاقنا الطيب عليه ، بصيحته المتعجبة المتألمة ليلا في وحدته : " ده أنا صفوت ؟ ! تعملوا فيه كده ؟ " .
ذات يوم قال اللواء صفوت لنجم أثناء التمشية : اكتب لي كلمات متقاطعة . وأخرج نجم ورقة وقلما وكتب بالفعل ، وأعطى الورقة لسيادة اللواء . وكانت زنزانتي تقع بين زنزانة نجم واللواء صفوت . في الليل أخذ اللواء يطرق جدار زنزانتي ، وهو يصيح بي : " من فضلك اسأل نجم ، ثلاثة أفقي ، اسم مطرب عربي من أربعة حروف : حليم ، ولا فريد ؟" رحت بدوري أطرق جدار زنزانة نجم : " يا نجم ، اللواء يسألك ، اسم مطرب عربي من أربعة حروف ، حليم ، ولا فريد ؟ " . فوجئت بصوت نجم مستثارا مغتاظا من خلف الجدار : " الله .. ده ابن .. أنا أكتب له الكلمات المتقاطعة بالنهار ، وأحلها له بالليل ؟ .. قل له .. كذا ! " . بالطبع لم أستطع أن أقول لسيادة اللواء كلمة " كذا " ، وظللت ألح على نجم بصيحاتي إلي أن اعترف لي أن المطرب هو فريد !

(5)

كان أحمد نجم على مدى أكثر من ثلاثين عاما ضميرا للشعب المصري ، ولهمومه، وعاني في سبيل ذلك من المعتقلات ، والتشريد ، والمطاردة ، والتجويع ، كما عاني من كل ذلك عبد الله النديم ، وبيرم التونسي ، وآخرون ، وارتطم نجم بمغريات كثيرة جدا ، والمغريات أشد وطأة من السجن ، وكان يمكن لكل أبواب الثراء والشهرة التي فتحت أمام نجم أن تشتريه ، وأن تحطمه , وأن تحوله لشاعر مناسبات الحكومة والوزراء ، لكن نجم بقى ، ليكون شاعر الشعب المصري عن حق على امتداد نحو نصف القرن . هذه هي صورة أحمد فؤاد نجم عندي : شاعر كبير يستحق الاحترام والتقدير والحب ، وإنسان له قلب طفل ، لم يترك الزمن أية تجعيدة على قلبه ، لأن أحلام الناس ظلت النبع الذي يلهمه التجدد ، والمقاومة ، والشعر .

***





#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جغرافيا الفكر والثقافة
- رواية الصحن لسميحة خريس
- أقلام وأوراق
- جابريل جارثيا ماركيز - قصيدة عن الحب
- كنت في شرم الشيخ
- هذه الرواية - نادي القتال
- الفساد جملة واحدة مستمرة
- الليبراليون العرب .. من يخدعون ؟
- أدباء مصريون من أجل التغيير .. موقف أم وجود ؟
- الرقابة والثقافة في مصر
- مسيحيون من أجل القرآن
- حديقة - قصة قصيرة
- المستشار محمد بك نور .. الذي برأ طه حسين
- أيام واحات صنع الله إبراهيم
- التمويل الأجنبي عمالة صريحة
- جذور للكتابـة
- المادة 76 في حياة مصر الثقافية
- معرض القاهرة والكتب
- طول لسان رياض النوايسة
- في وداع كاتب شريف


المزيد.....




- فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ ...
- انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا ...
- صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة ...
- الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف ...
- حصريا.. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 المبارك وجميع القنوات ال ...
- الجامعة الأمريكية بالقاهرة تطلق مهرجانها الثقافي الأول
- الأسبوع المقبل.. الجامعة العربية تستضيف الجلسة الافتتاحية لم ...
- الأربعاء الأحمر -عودة الروح وبث الحياة
- أرقامًا قياسية.. فيلم شباب البومب يحقق أقوى إفتتاحية لـ فيلم ...
- -جوابي متوقع-.. -المنتدى- يسأل جمال سليمان رأيه في اللهجة ال ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - أحمد الخميسي - نجم .. من الذاكرة !