|
ألفريد فرج .. في وداع الخيال
أحمد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1406 - 2005 / 12 / 21 - 05:41
المحور:
الادب والفن
أحزن رحيل الكاتب المسرحي العملاق ألفريد فرج في 4 ديسمبر كل من يعرف قدره ويحترم دوره الرائد المتفرد . وكان عندي للتأسف العميق على رحيله سبب إضافي هو شعوري بأن ذلك الكاتب العملاق قد طوى صدره - منذ سنوات طويلة – على مرارة لم يعرب عنها منذ خروجه من مصر إلي الجزائر وعمله هناك من 1974 حتى 1979 ، ثم رحيله إلي لندن ، وأخيرا عودته للقاهرة في عام 1988 ، لكن مع سفر مستمر إلي لندن، واحتفاظه بشقة له هناك توحي بأنه لم يعد يأتمن الزمن على شئ . ربما أصبح من الصعب الآن أن نعرف ما الذي لم يقله ألفريد فرج ، ولكن أحد أصدقائه أشار في مقال إلي مزاج سوداوي استولى علي الكاتب الكبير . وكانت مقالات ألفريد فرج المنتظمة التي جامل فيها الصغار والكبار تعبيرا عن شعوره العميق بأنه لا جدوى من أي شئ ، وتعبيرا عن شعوره بأن الحقيقة التي بدأ حياته بالصراع من أجلها ، قد انطفأت ، ولم يعد أحد بحاجة إليها ، بعد أن غمرت الظلمة كل شيء . ومع رحيل ألفريد فرج ، يستخلصون لنا منه فقط صورة الكاتب الكبير المطلة بحياد وهدوء على العالم ، الصورة التي لا تشبه إبداع ألفريد فرج ولا حياته ولا صراعه من أجل الجمال والعدل . يقول الكاتب الروسي أنطون تشيخوف إن المبدع يموت نصف موت ، لأن روحه الحية تظل من بعده في أعماله . لقد رحل ألفريد فرج ، وترك لنا مسرحياته النادرة المثال أو ما قال عنه هو نفسه ذات مرة " الخاطرة السحرية " . وقد أشار ألفريد فرج كثيرا إلي أهمية " ألف ليلة وليلة " كمرجع لفن الكتابة قبل أن يقول عنها جابريل جارثيا ماركيز إنها أهم كتاب قرأه على الإطلاق . وكانت العودة إلي التراث مفتاحا لخلق المسرح المصري عند ذلك الكاتب العظيم ، قبل أن يتحدث توفيق الحكيم عن " قالبنا المسرحي " وضرورة الاتجاه إلي المسرح الشعبي وقبل أن يتحدث يوسف إدريس عن القضية ذاتها ، وقبل أن يشير د . على الراعي لذلك في كتابه " الكوميديا المرتجلة ". لقد بدأ ألفريد فرج حياته الفكرية والفنية بانخراطه في صفوف اليسار المصري بحثا عن أحلام العدل والتطور، وقدم أولي مسرحياته " صيحة مصر " عام 1956 ، ثم مسرحية " سقوط فرعون " عام 1957 ، وفيهما كان يستلهم تاريخ مصر الفرعوني ، ثم فتحت أبواب المعتقلات في يناير 59 لتنطبق على كبار الكتاب والمثقفين وكان من بينهم ألفريد فرج الذي كتب رائعته " حلاق بغداد " داخل المعتقل حيث جرى عرضها هناك قبل أن تعرض على المسرح القومي عام 1964 . وفي " حلاق بغداد " تحول ألفريد فرج من التراث الفرعوني إلي ألف ليلة وليلة ، ليصبح أحد أبرز وألمع كتاب المسرح في الستينات . في تلك الفترة كما يرى الدكتور على الراعي كانت هناك ثلاثة اتجاهات: المسرحية الاجتماعية النقدية التي وضع أساسها بقوة نعمان عاشور ، ومعه سعد الدين وهبة ، ولطفي الخولي ، وغيرهم ، ثم ما يسميه الراعي " المسرحية التراثية " التي تستفيد من التراث الشعبي والتي كتبها نجيب سرور ، وشوقي عبد الحكيم ، ومحمود دياب برائعته " ليالي الحصاد " وأيضا الفريد فرج بمسرحيته " الزير سالم " . الاتجاه الثالث هو المسرح الشعري الذي كتب فيه عبد الرحمن الشرقاوي ، ثم بلغ به صلاح عبد الصبور ذروة التطور . ورغم أن تلك الكوكبة من الكتاب قد خلقت وأنشأت المسرح المصري في الستينات بعد جيل طه حسين وتوفيق الحكيم ، إلا أن ألفريد فرج شغل موقعا خاصا للغاية ، باعتماده الأساسي على ذلك الطابع السحري لحكايات ألف ليلة وليلة ، ثم باعتماده على لغة فصحى شفافة ، لا تضع حاجزا بينها وبين المتلقي ، وبينما كانت ملامح الواقعية تفوح بقوة من مسرحيات نعمان عاشور " الناس اللي تحت " و "عيلة الدوغري " وغيرها ، وأيضا من مسرحيات يوسف إدريس الأولى " ملك القطن" و " جمهورية فرحات " ، كان ألفريد فرج يتألق بعالم خاص ، وجو سحري ، في مسرحياته : " حلاق بغداد " ، و " على جناح التبريزي وتابعه قفة " عام 1968 ، ثم روايته " أيام وليالي سندباد " عام 1987 ، وقبلها " بقبق الكسلان " ، وبعدها مسرحية " الأميرة والصعلوك " . في حينه كان الميل للاتجاه الواقعي في المسرح والقصة قويا للغاية ، وسائدا تقريبا ، على حين كان ألفريد فرج يتحدث – بشأن على جناح التبريزي – عن أن : " المؤثرات الفنية الواقعية لابد أن تحطم أجنحة " على جناح التبريزي وتابعه قفه " وتهوي بها من السماء إلي الأرض ، وعندئذ ستتحول هذه الخاطرة السحرية التي تستمد جمالها من طابع الحواديت الشعبية إلي مجرد قصة واقعية ورخيصة " . ويقول أيضا عن تلك المسرحية الرائعة : " قصدت أن أصوغ الحكايات من نغمات شعبية صافية وساذجة ، بالدق على أوتار عربية خالصة ، غير أني لابد هنا أن ألفت النظر إلي أن الإنسان منذ ألف عام حين صاغ حواديت ألف ليلة وليلة وقبلها ، وقبل أن يتمخض ذهنه عن الأفكار الاشتراكية والعدل الاجتماعي ، كان يحلم دائما في جده وهزله بالعدل المادي . إن ثنائي التبريزي وقفة حلم جميل أبهجني ، وأردت أن أبهج به غيري " . وفي تلك المسرحية المدهشة والجميلة تتقدم وتصفو كل أحلام ذلك الكاتب العظيم ، وتتقدم معها تصوراته الفنية والأدبية . إن التبريزي المفلس الذي فقد ثروته يعي أن لدي الإنسان سلاحا آخر ، هو الخيال ، وبه يمكن للإنسان أن يغير الواقع أو على الأقل أن يراه كما يشتهي ، فيترك لخياله العنان ليتصور مائدة عامرة بكل صنوف الطعام ، وحين يشد رحاله إلي بلاد بعيدة ، فإنه يتخيل أنه أمير تتبعه قافلة محملة بكل شئ ، فتنفتح أمامه أبواب المدينة ، وتجري أموالها بين يديه ، فيوزعها على الفقراء . وهكذا يتمكن التبريزي – بالخيال – من تغيير الواقع وإقرار العدل . ألم يقل عالم الذرة أينشتين ذات مرة إن " الخيال أهم من المعرفة أحيانا " ؟ . كانت منابع الخيال أهم عند ألفريد فرج من كل مظاهر الواقع الملموس ، ومن هنا كانت عبقريته . لكن الحياة التي توالت فيها الهزائم على الواقع المصري والعربي ، لم تترك لألفريد فرج سوى أفراح قليلة ، وأمل باهت في المستقبل . وكان آخر كتبه " شارع عماد الدين " الصادر عن دار الهلال ممتلئا بالأسف على أوضاع الثقافة المصرية الراهنة ، وفيه يقول : " في شارع عماد الدين أضاء المسرح بإبداع يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلى الكسار ، وبموسيقى سيد درويش ومحمد عبد الوهاب وأم كلثوم ، وتألقت فيه من النجوم منيرة المهدية والفنانة ملك ، وروز اليوسف وأمينة رزق وأحمد علام وحسين رياض واستيفان روستي ، إلي آخر قائمة العمالقة في دنيا الفن .. وطالما أحببت ذلك الشارع وأهله ، وتمنيت له مستقبلا كماضيه الحافل .. فهل كانت مصادفة أني التقيت بنبيل الألفي وحمدي غيث أول مرة هناك ، أو كانت مصادفة أني كثيرا ما التقيت بنعمان عاشور ويوسف إدريس وعبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي وصلاح أبوسيف وعبد المنعم مدبولي في مقاهيه؟ " . في كتابه ذلك ، كان ألفريد فرج يتأسف بمرارة على حال الثقافة ، وحال مصر ، ولكنه يتأسف بهدوء مثل كل الكتاب الكبار ، ويحلم بأن يكون شارع عماد الدين منتزها ثقافيا يعيد للفن وجهه المتألق . وبالرغم من قامة ألفريد فرج ، ودوره ، ظلت دكاترة المسرح الرسمي يماطلونه مؤخرا ويرفضون عرض مسرحيته " حلاق بغداد " على المسرح القومي ، حتى عرضها على مسرح السلام ، بينما كانت أبواب المسرح القومي مفتوحة على مصراعيها لمختلف الأعمال التي لا طعم لها ولا لون سوى طعم الزيف وقدرة العلاقات والمصالح على فرض نفسها وتنحية الفن الحقيقي ! قبل نحو عام أو أكثر من وفاة ألفريد فرج تسنى لي أن ألتقي به ، وأن أحس بمرارة لا يفصح عنها في نظراته المهذبة ، مرارة كاتب كبير وعظيم ، يشهد كيف تتحطم كل أحلام العدالة من حوله بحيث لم يعد في وسعه أن يبتهج بالحكايات الساحرة ، ولا أن يبهج بها أحدا. لقد رحل عنا كاتب عظيم ستزداد أعماله تألقا كلما مرت عليها يد الزمن ، كاتب قال ذات يوم عن نفسه " لقد حلقت أحلام المؤلف في سماوات العدل "، وهي أحلام من القوة والصدق بحيث تظل محلقة .
***
#أحمد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الوجه الآخر لفوز الإخوان في مصر
-
يوميات جندي أمريكي في العراق
-
من أين يأتي الحزن ؟
-
أقباط مصر .. هل يريدون الكثير ؟
-
أحداث باريس وكلمات ألبير كامي
-
الثقافة والطائرات
-
المسألة القبطية وماجرى في الاسكندرية
-
اللحظة الحرجة
-
علاء الأسواني وروايته التي أثارت ضجة
-
هي وأخواتها علماء العراق
-
الرواية اليوم
-
الانهيار الاقتصادي عصر مبارك
-
الثورة مع الاستعمار
-
فاجعة مسرح بني سويف
-
نجم .. من الذاكرة !
-
جغرافيا الفكر والثقافة
-
رواية الصحن لسميحة خريس
-
أقلام وأوراق
-
جابريل جارثيا ماركيز - قصيدة عن الحب
-
كنت في شرم الشيخ
المزيد.....
-
وفاة الفنان صلاح السعدني عن عمر يناهز الـ 81 عام ….تعرف على
...
-
البروفيسور منير السعيداني: واجبنا بناء علوم اجتماعية جديدة ل
...
-
الإعلان عن وفاة الفنان المصري صلاح السعدني بعد غياب طويل بسب
...
-
كأنها من قصة خيالية.. فنانة تغادر أمريكا للعيش في قرية فرنسي
...
-
وفاة الفنان المصري الكبير صلاح السعدني
-
-نظرة إلى المستقبل-.. مشاركة روسية لافتة في مهرجان -بكين- ال
...
-
فادي جودة شاعر فلسطيني أمريكي يفوز بجائزة جاكسون الشعرية لهذ
...
-
انتهى قبل أن يبدأ.. كوينتن تارانتينو يتخلى عن فيلم -الناقد ا
...
-
صورة فلسطينية تحتضن جثمان قريبتها في غزة تفوز بجائزة -مؤسسة
...
-
الجزيرة للدراسات يخصص تقريره السنوي لرصد وتحليل تداعيات -طوف
...
المزيد.....
-
صغار لكن..
/ سليمان جبران
-
لا ميّةُ العراق
/ نزار ماضي
-
تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي
/ لمى محمد
-
علي السوري -الحب بالأزرق-
/ لمى محمد
-
صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ
...
/ عبد الحسين شعبان
-
غابة ـ قصص قصيرة جدا
/ حسين جداونه
-
اسبوع الآلام "عشر روايات قصار
/ محمود شاهين
-
أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي
/ بدري حسون فريد
-
أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات
...
/ عبدالرؤوف بطيخ
-
مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية
/ علي ماجد شبو
المزيد.....
|