وليد يوسف عطو
الحوار المتمدن-العدد: 5290 - 2016 / 9 / 20 - 16:31
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
تقول الباحثة والناقدة العراقية فاطمة المحسن في كتابها( تمثلات الحداثة في ثقافة العراق ), ان فكرةالمثقف ( ابن الشعب )وصلت ذروتها بظهور الشاعر مظفر النواب نهاية الخمسينات :
(فما يتوق اليه مثقفو اليسار من تداخل بين الثقافة العارفة والشعبية قد تحقق على يده ).
كتب النواب شعره بلهجة اهل اهوارجنوب العراق ولاقت قصائده اهتماما استثنائيا . وبعد نشر ديوانه الاول ( للريل وحمد )بداية الستينات توسعت دائرة معجبيه من الشباب والطلبة وغدا مظفر النواب اقرب الى ايقونة ثقافة .ظلت عبارة سعدي يوسف التي قالها عن قصيدة للريل وحمد تتردد في النصوص التي كتبت عن النواب وشعره :
(اضع جبين شعري كله على طريق ( الريل وحمد ))..
خرج شعر مظفر النواب بين فطرة العالم البدائي عالم الهور مع عالم الحداثة , وبقي النواب لسان الثورة والثوار خصوصا نهاية الستينات حيث برز اليسار الجديد وانشق الشيوعيون بين مؤيد للكفاح المسلح ومعارض له .انتمى مظفر النواب الى الثوارفي والهور وجبال كردستان ,فكان شعره الثوري يزخر بالعنف والدماء.
ولكنه من جهة اخرى كان شاعر الحب بامتياز في ثقافة تفتقد الى نصوص الحب المتميزة على امتداد تاريخها الحديث .لقد حرث النواب بقصائده في ارض بكرا لم يسبقه اليه احد . ارض تزخر بمفردات وعوالم الشهوات الروحية والجسدية.
وكتب الكثير من قصائده بصوت فتاة الهورحيث يصبح للقصيدة مفرداتها الخاصة الامر الذي اثبت قدرته على احداث نقلة نوعية في كتابة الشعر .لقد كان النواب من ابناء بغداد وهنالك فرق كبير بين عامية بغداد وعامية اهل الريف في جنوب العراق . فعامية بغداد والموصل هي عامية خشنة بحسب توصيف مظفر النواب .
تبدت الحداثة في قصائد النواب بجراة غير مسبوقة , قصيدة (فضائحية ) بتعبير الناقدة فاطمة المحسن , ولكن لادليل يملك ضدها من يريد ادانتها ,ذلك ان عوالمها تفيض بالرموز والدلالات والايحاءات لعالم الحب الجسدي .
انها ابنة الثورة في الستينات من القرن العشرين وكانت على درجة عالية من التوافق مع موجات الحريات التي اكتسحت الشارع والادب والفن في العراق . ان عالم الهور وهو عالم فطري اغترف من خزينه ,كان فضاءا مفتوحا لايحتوي على اقنعة المدينة وسياجاتها الفكرية , فالهور يصل الارض بالسماء , وممراته التي تتجول فيها زوارق الفتيات والفتيان وتضيع بين القصب والبردي والحياة البسيطة حيث يتعايش فيها الناس مع الحيوانات في افق حرية الطبيعة رغم التقاليد القبلية الصارمة .
استطاع النواب في قصائده توظيف هذه الطبيعة .
قبل ان يذهب النواب الى الهور كان يكتب باللهجة المحكية البغدادية , وكان يقول عن شعره البغدادي :
(كان شعرا عاديا ليس فيه الكثير مما يستحق الوقوف عنده ). يقول النواب في زيارته لاهوار النواب ( هذه الزيارة ايقظت في الاستعمال الجديد للعامية ,الاستعمال الذي فيه الكثير من الفن الذي يرقى الى المستوى العالمي .ايقظتني على هذا الجو الذي فيه موسقةعالية , فيه لون ,وانا عندي ميل للموسقة العالية .. كما ان جو الجاموس , الطبيعة , امورا موحية. المراة في الهور تتحدث مع الجاموسة ساعة او ساعتين .. ثم طبيعة الحياة وبساطتها).
وفي خياره لعامية الهور , يقول عن العاميات الاخرى:
(العاميات الاخرى خشنة , عامية الموصل اسوا , مثلا الشاعر ملا عبود الكرخي , حلو لكن كلمته ولفظه خشنة ).
منتصف الخمسينات ذهب النواب الى الهور وبدا كتابة شعره العامي الجديد بعد عودته مباشرة في العام 1956 وهي سنة الشروع بكتابة ديوانه الريل وحمد , ولم ينشر الا بعد 14 تموز 1958 حيث تصاعد المدالشعبي المؤيد للفلاحين خصوصا بعد اصدار قانون الاصلاح الزراعي .
وكان الشعر الشعبي والمحكية الادبية من مواضيع الخلاف بين الشيوعيين والقوميين ,حيث اعتبر القوميون ادخال هذا التراث تجاوزا على الفصحى وهي لغة القران ولسان العرب . كما ان العامية تزخر بالمفردات الاجنبية . في حين عد الشيوعيون تراث المحكية معبرا عن روح الشعب وهوية العراق . كانت لميعة عباس عمارة اشهر الشاعرات بعد نازك الملائكة قد كتبت قصائد بالعامية.
رغم ان النواب استخدم لهجة اهل الهور , لكن قصائده فهمها ابناء المدن ولم يفهمها اهل الريف في وقتها . انها نوع من الهجنة ,فكرة الحداثة التي مثلها النواب .فالنواب انسلخ عن طبقته ثقافيا , لكونه ينتسب الى عائلة بغدادية ثرية ومتعلمة , واراد الذهاب الى عالم الفلاحين ومجتمع صيادي الاسماك ومربي الجاموس . وتحدث بلغتهم ,بوصفه شيوعي ,ولكنه في واقع الحال , وكما تقول الناقدة فاطمة المحسن ,لم يكن معنيا بفكرة التحدث الى هؤلاء الفلاحين ,او توجيه ادبه اليهم , فاشعاره تتمثل عوالمهم وتخاطب جماهيرها ولكنها لاتنتسب اليهم . وقد يكتسب هذا الوضع قدرا من التناشز .
فالمثقفون وبينهم النواب ذهبوا الى الهور واشعلوا حرب العصابات هناك ,ولكن ماتبقى عن حاملي هذه الفكرة وبينهم النواب عادوا بخفي حنين .ولا يحتاج المرء الى الكثير من الفطنة لتخمين الاسباب , منهم في غمرة ايمانهم بادوارهم التاريخية نسوا انهم غرباء عن الكان وان بينهم وبين السكان شوطا قطعته اللغة والعادات والافكار .
تقول الناقدة فاطمة المحسن )ورغم ماتحفل به قصيدة النواب من مواضيع ثورية , فهو قد ادخل المحكية الريفية في غربة مع ذاتها بخلق فكرة الاحلال والابدال ,حيث نقل مفردات وصور المكان الريفي وعواطفه ورؤاه وتواريخه , بعد ان شتت نسيجه واعاد بناء قواعد الكلام فيه ,كي يجري تبنيه داخل ثقافة ( الحداثة)وهي مدينية بالضرورة , وتختلف ايقاعا وصورا ومزاجا عن الاصل .
كان عمل الشاعر اقرب الى فعل ( الترجمة ) بالمعنى اللغوي وليس الحرفي , باعتبار المحاكاة فيه تتضمن عنصر اللعب على الاصل حين تحل الذات الابداعية الجديدة فيه ,كما تتحقق عبره عملية التناص حيث يجري استخدام كل الامكانيات اللسانيةالتي تتحاور فيها او تتصارع الثقافة الشفاهية مع المدونة , البدائي او الفطري مع الحضري والتمدين .
فقصائد مظفر النواب الشعبية تحفل بالمجازات والاستعارات التي تحيل الى عالم لايقف بين الريف والمدينة قدر مايمتلك خصوصيته , فهو غريب عن الحالين , يثير فضول المثقفين ودهشتهم لما يزخر به من جمال بدائي , وحشي , ويقدم نفسه على مستوى الانتماء كما لو انه يحمل صوت الناس الذين يعيشون على الضفة الاخرى من الوطن , والشاعر يمد حبله واسطة لعبورهم نحو ثقافة كانت تجهلهم, ولا تملك حق اكتشافهم , لا لانها تتعالى عليهم فحسب, بل لانها لاتبحث عن المختلف ).
#وليد_يوسف_عطو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟