تواصل حوار القرآن مع الواقع

طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 5285 - 2016 / 9 / 14 - 03:29
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    

لم يـُـفوّتْ القرآن أية فرصة إلاّ وتحاور مع الواقع ، ومن هنا تبدو أهمية كتب التفسير لمعرفة أسباب نزول بعض الآيات مثل آية ((ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليـُـخزى الفاسقين)) (الحشر/5) وأخرج البخارى وغيره عن ابن عمر قال : إنّ رسول الله حرق نخل بنى النضير، وقطع وادى البويرة، فأنزل الله الآية المذكورة. وأخرج أبو يعلى عن جابر قال : رخـّـص لهم فى قطع النخل ثـمّ شـدّد عليهم ، فأتوا النبى وقالوا: يا رسول الله هل علينا إثم فيما قطعناه أو تركناه ؟ فنزلتْ الآية المذكورة. وأخرج ابن اسحاق عن زيد بن رومان قال : لما نزل رسول الله ببنى النضير، تحصـّـنوا منه فى الحصون، فأمر بقطع النخل والتحريق فيها. فنادوه : يا محمد قد كنتَ تـُـنهى عن الفساد وتعيبه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟ فنزلتْ الآية المذكورة. وأخرج ابن جرير ومجاهد مثله. وهذه الآية وأسباب نزولها تؤكد على:
أولا: أنها نزلتْ بعد أنْ أمر النبى بحرق نخل بنى النضير.
ثانيـًـا : أنها نزلتْ لترد على سؤال أتباع محمد الذين سألوه: هل علينا إثم فيما قطعناه أو تركناه؟ (نفس الألفاظ الواردة فى الآية) كما أنها نزلتْ لترد على أهالى بنى النضير الذين أحرق محمد نخلهم : قد كنتَ تــُـنهى عن الفساد وتعيبه.. إلخ فنزلتْ الآية لتؤكد على أنّ ما تـمّ من حرق النخل إنما كان ((بإذن الله)) وبالتالى فإنّ المعترضين (أصحاب النخل) من الفاسدين.
والسؤال الذى يتوقف العقل الحر أمامه هو: هل (الله) مع العدل أم مع الظلم؟ فما جريمة هؤلاء الذين أحرق محمد وجيشه نخلهم؟ وبغض النظرعن هذه الأسئلة الشائكة التى يتجنبها الأصوليون، فإنّ المهم هو التأكيد على حوار القرآن مع الواقع، وأنّ هذه الآية وأمثالها لم تكن سابقة التجهيز، والأهم أنها تؤكد على أنّ الدعوة الإسلامية (فى بدايتها) كانت تتطلب استخدام الحسم والقوة لردع المُـخالفين لها.
000
وعن أسباب نزول الآية رقم 11 من سورة الجمعة كتب السيوطى : أخرج الشيخان (مسلم والبخارى) عن جابر قال : كان النبى يخطب يوم الجمعة فأقلبتْ عير (= جمال) قدمتْ فخرج الناس إليها حتى لم يبق مع الرسول إلاّ إثنى عشر رجلا ، فأنزل الله الآية المذكورة ونصها ((وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها وتركوك قائمًـا قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين)) (الجمعة/ 11) وأخرج ابن جريرعن جابر أيضـًـا قال : كان الجوارى (الأدق لغويـًـا كانت الجوارى) إذا نكحوا (مكتوبة هكذا) يمرون بالكير والمزامير ويتركون النبى (أى الأمريْن معـًـا) التجارة واللهو. وأخرجه ابن المُـنذرعن جابر لقصة النكاح وقدوم العير (قافلة التجارة) فإنها نزلتْ فى الأمريْن.. واختتم بعض من تناولوا هذه الآية قائلا ((فلله الحمد))
وهكذا يكون للواقع (المادى) صداه وتأثيره على أسباب نزول تلك الآية، التى ردّدتْ ما حدث بالحرف والمعنى، حيث ألفاظ : التجارة واللهو. ولأنّ نبى الإسلام حزن وتأثر من موقف الذين تركوه على المنبر، فإنّ (الله) أراد أنْ يـُـخفــّـف عن نبيه فقال له لا تحزن لأنّ ((ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة والله خير الرازقين)) وبينما هذا هو نص الآية فإنّ عتاة الأصوليين الإسلاميين لا يعملون بها، فأغلبهم يمارسون التجارة ويستمتعون بملذات الدنيا. وكانت المفارقة أنّ البعض علــّـق على هذه الآية (فلله الحمد))
000
ومن بين الأمور المُـلفتة للانتباه أنّ سورة التغابن (كما كتب السيوطى) نزلتْ كلها بمكة، بينما أواخر السورة نزلتْ بالمدينة. والآية هى ((يا أيها الذين آمنوا إنّ من أزواجكم وأولادكم عدوًا لكم فاحذروهم)) (التغابن/14) وهذه الآية نزلتْ فى عوف بن مالك الأشجعى الذى كان ذا أهل وولد ، فكان إذا أراد الغزو (مع النبى) بكوا وقالوا له : إلى من تدعنا؟ فيرق لهم . وبعد ذلك نزلتْ آية ((إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجرعظيم)) (التغابن/ 15)
وبغض النظرعن موقف أولاد عوف بن مالك الأشجعى، الذى تأثر ببكاء أولاده وهو يتهيـّـأ للغزو مع النبى وسؤالهم له : إلى من تدعنا فرقّ لهم، فإنّ السؤال الذى يطرأ على العقل الحر هو: هل بكاء الأطفال وخوفهم على والدهم الذاهب إلى الحرب (وقد يعود إليهم وقد يـُـقتل فى المعركة) يستدعى أنْ يكون الأولاد والزوجات أعداء لرب الأسرة؟ ويكونوا فتنة؟ وبالتالى على رب الأسرة الحذرمنهم؟ أم أنّ ظروف تثبيت الدعوة المحمدية هى التى استوجبتْ ذلك الخطاب؟
ولأنّ نبى الإسلام كان يستعد لتكوين جيشه لقتال (المشركين) فإنّ مما له مغزى ما رواه البخارى عن البراء قال لما نزلتْ آية ((لا يستوى القاعدون من المؤمنين)) قال النبى ادع فلانــًـا فجاءه ومعه الدواة واللوح والكتف وقال : اكتب (لا يستوى القاعدون من المؤمنين والمجاهدون فى سبيل الله) وكان ابن مكتوم يجلس خلف النبى فقال : يا رسول الله أنا ضرير، فنزلتْ مكانها ((لا يستوى القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر..إلخ)) (النساء/95)
وفى هذا المثال تأكيد على أهمية حوار القرآن مع الواقع، فلولا تدخل ابن مكتوم (الرجل الضرير) أثناء كتابة الآية، وما أبداه بشأن المكفوفين الذين لا يستطيعون خوض المعارك فى جيش النبى، كانت الآية (قبل ملحوظة ابن مكتوم واستجابة النبى لتلك الملحوظة) سوف تشمل المبصرين والمكفوفين. وبناءً على ذلك يمكن استخلاص فائدتيْن : الأولى أهمية حوار القرآن مع الواقع، الثانية : أهمية كتب تفسير القرآن لمعرفة أسباب نزول العديد من الآيات ذات الصلة بالواقع الاجتماعى مع بداية الدعوة للإسلام.
ومما يسترعى الانتباه أنّ ابن مكتوم نزلتْ فى شأنه آيتان أخريان هما ((عبس وتولى أنْ جاءه الأعمى)) (عبس/ 1، 2) وعن هاتيْن الآيتيْن أخرج الترمذى والحاكم عن عائشة قالت : أنزل الله فى ابن مكتوم الأعمى (عبس وتولى) وقد أتى رسول الله فجعل يقول : يا رسول الله أرشدنى ، وعند الرسول رجل من عظماء (المشركين) فجعل رسول الله يعرض عنه ويـُـقبل على الآخر ويقول له : أترى بما أقول بأسـًـا ؟ فيقول : لا، فنزلتْ (عبس وتولى أنْ جاءه الأعمى) وأخرج أبويعلى مثله عن أنس.
وعن أسباب نزول آية ((لمن شاء منكم أنْ يستقيم)) (التكوير/28) أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم عن سليمان بن موسى قال : لما نزلت الآية المذكورة قال أبوجهل : ذاك إلينا ، إنْ شئنا استقمنا ، وإنْ شئنا لم نستقم ، فأنزل الله ((وما تشاؤون إلاّ أنْ يشاء الله رب العالمين)) (التكور/29) وأخرج آخرون عن أبى هريرة مثله. وهكذا تتأكــّـد (واقعية) الآيات التى كانت تتحاور مع الواقع الاجتماعى ، وتتأكــّـد (حقيقة) أنّ الأصوليين الإسلاميين يكرهون كتب تفسير القرآن ، وخاصة أسباب النزول.

#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات