أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف الصفار - صباح تموزي















المزيد.....

صباح تموزي


يوسف الصفار

الحوار المتمدن-العدد: 5223 - 2016 / 7 / 14 - 21:52
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


صباح تموزي ..
يتفرع عن الشارع الضيق الوحيد والرئيسي في جانب الكرخ زقاق طويل متعرج كافعى الاكواندا ينتهي عند شاطيء دجلة الغني بالزوارق الخشبية لصيادي الاسماك وحين يواجهك النهر يكون على يسارك مبنى السيف بكسر السين ( التقاعد العامة حاليا) الذي بسببه اطلق على هذا الزقاق الافعواني اسم باب السيف محلة صغيرة رفدتنا بادباء وفنانين وسياسين ومناضلين .. بيوتها ضيقة صغيرة جنباتها صماء نادرا ما تجد فيها شبابيك . او فوهات للتنفيس . عدا هوائيا ت ( بادكير ) تمتد من اعلى السطح الى غرفة تحت الارض اسمها السرداب .
كان السجين السياسي حين يخرج من السجن باعفاء مفاجىء او اطلاق سراح مشروط تلتف حوله النسوة من كافة الاعمار بالهلاهل البغدادية (الزغاريد ) المعهودة ناثرين الحلوى ( الملبس ) على رأسه وهو يتغنج في سيره وكانه عريس مساق الى عروسته في اول ليلة عرسه .
احد من هؤلاء السياسين الشباب كان يتخذ من بيوتات( باب السيف ) ملجأ يختفي به لايام او اشهر عن اعين الشرطة او البوليس السري فتجد النسوة الغريبات عليه يعملن في حوش البيت الواسع وهو قابع في غرفة صغيرة في الطابق العلوي مختفيا عن اعين الفضوليات من باقي نساء الطرف ( المحلة ). مرات يلتف حوله الصغار فيأخذ بتعليمهم لعبة الشطرنج وهم ينظرون اليه وكأنه مرسل اليهم من السماء تدهشهم حصافته الكلامية ومحياه الشبابي المتسمة تقاسيمها بجمالية المثقف وبهائها .
كان المثقف في زمن ما قبل ثورة 14 تموز يعني الكثير لابناء المحلة ونسائها وشبابها كانت الثقافة هي المؤشر لقيمة الانسان ودرجة تقدير المجتمع اليه .ذاك المجتمع الذي افتقدناه الان حيث لاينظر الى الانسان الا بمقدار مايملكه من اموال .
( باب السيف ) محلة كانت تسكنها طوائف متعددة فتجد فيها الصابئي والمسلم الشيعي والسني وليس بعيدا عنهم تجد المسيحيين والارمن و بعض من عوائل اليهود الذين اتخذوا من محلة الكريمات المجاورة للسفارة البريطانية مأوى وسكنى لهم .
كان تمثال مود ينتصب عند بوابة السفارة مقابل قصر توفيق السويدي الوزير المعروف ليس بعيدا عنه يلوح لنا تمثال فيصل الاول ممتطيا فرسه وعند ركن ساحتها تقبع مقهى اثرية مجاورة للاذاعة والتلفزيون من جلسائها كان يوسف عمر ومحمد القبانجي .
(يحى جواد) كان احد هؤلاء المثقفين الذين لم يكملوا تعليمهم الابتدائي ولكنه كان يمتلك عقل موسوعي ورؤية فكرية للحياة كان له دكان صغير يمارس به مهنة الخطاطة التي اجادها بتفوق اضافة الى قدراته الادبية والفنية الاخرى كالرسم والنحت . كان دكانه ملتقى لكثير من الادباء والمفكرين والفنانين والسياسين ايضا الذين بسببهم زج به السجون عدة مرات .
من الادباء الذين يتواجدون عنده دائماً الاديب والمفكر اليهودي انور شاؤل كان يمتلك مطبعة ويتمتع بروح من الانسانية والموهبة بالشعر والكتابة كذلك يلتقي عنده جعفر الخليلي الاديب النجفي المعروف والمفكر والاديب علي الشوك .
عند حدوث ثورة 14 تموز وسقوط تمثال مود وتمثال مؤسس الدولة العراقية فيصل الاول حدث هياج جماهيري عنيف اختلط به الدهماء بالمفكرين .. السياسي الحزبي والرجل العادي ..لم يتمكن الضباط او القائمين بالثورة من كبح جماحها توجت بما قام به احد ضباط الثورة العصابين والمتهورين من قتله العائلة المالكة والتمثيل بجثثهم .كلنا الان نتبرأ منها ونكيل الشتائم على الثورة والثوار لكننا لانعرف انها كانت نتاج عصبة متخلفة من ابناء الشعب بقى اكثرهم ذاهلا او مؤيدا بصمت بما حدث .اننا نستنكرها الان كحالة من تأنيب الظمير لاغير بعد ما آلت اليه الاحداث لاحقا و ما جرت على العراق والعراقيين من الويلات .
لكن هذه الافعال الهوجاء صاحبتها انتفاضة ثقافية وفنية واسعة فأخرجت لنا انامل جواد سليم نصب الحرية الرائع كما خطت لنا يد فائق حسن جدارية فسيفسائية رائعة للثورة والموجودة الان في ساحة الطيران .
انتقل (يحيى جواد ) من دكانه الصغير الى شقة مؤثثة في شارع الرشيد عند محلة رأس القرية ( المنطقة التي اغتيل بها الزعيم لاحقا ) فكانت كاليري فني يحوي مكتبة عامرة .. وملتقى ادبي وفكري من النادر ان نجد مثيلاً له الان .. لم يكن هذا الفنان حزبيا او ميالا للاحزاب لكنه تملكته كاكثر العراقين انذاك سمفونية حب الوطن والشعب والرؤية التقدمية للمستقبل المنشود .
في شباط 63 داهمت بيته في منطقة البياع عصابة من مراهقي الحرس القومي تشكلت له على اثرها غدة سرطانية في العمود الفقري قام باجراء جراحة غير ناجحة لها في بلغاريا افقدته القدرة على تحريك جزئه الايمن ..هذا الرجل الاعجوبة لم يستكين اخذ من جديد يتعلم كيفية الكتابة بيده اليسرى . ثم عاود الرسم بنفس اليد اليسرى ثم صنع لنفسه قطعة خشبية شبيه بالقبقاب وضع يده المشلولة فيها واخذ ينحت على الخشب فانتج من روائع المنحوتات الخشبية ما يبهر الابصار جعلت ( طارق عزيز) حينها كان وزير للثقافة يطلب مقابلته لصدام حسين .
استمر في حياته الفكرية الغنية في بيت اخيه في منطقة الداخلية فكانت غرفته ملتقى لكل من يطلب الثقافة بقيمها الحقيقية كان يشعرنا حينما نزوره وكأننا دخلنا الى حمام ثقافي تغتسل عنده ادمغتنا بشلال نقي من الثقافة كان يلوج معنا في كل المواضيع الفكرية فهو كاتب قصصي لة مجموعة قصصية اسمها ( الرعب والرجال ) الذي يتحدث بها عن محنته المرضية وقصة (امعاء المدينة ) التي تناول بها محلة (باب السيف ) بوصف رائع ..كنا حينما نتحدث معه عن الموسيقى يتناول خفاياها المعقدة وكأنه خريج احد اكادميات الموسيقى العالمية .
استمر يحيى جواد في معاناته التي ابتلي بها واثرت فيه اواخر حياته التي لم يتجاوز بها الخمسين الا ببضع سنين تاثيرا درماتيكيا خصوصا بعد ما اتت به الحرب العراقية الايرانية من تشتيت للجهد الثقافي حيث آثر اكثر المثقفين الى الهجرة او الابتعاد ما امكن عن معطيات الثقافة التي تحولت الى ثقافة حرب ودفاع عن البوابة الشرقية .
بحكم كثيرمن المشاكل التي عانى منها يحيى جواد كان يدخل فيما يشبه الاعتصام يمتنع خلالها عن الطعام الى ان يتدخل الاخرون ويساهموا بعملية انقاذ سريعة لحياته . في احد المرات حين حدثته عن الحرب ادركه صمت مخيف ثم قال لي :انني ارى في الافق طرقات مرعبة لمستقبل مبهم ومخيف .
فارقنا يحيى في اواخر الثمانينات ثم توفى بعده اخوه الوحيد وبحكم التكوين النفسي َفظّلت عائلة اخيه الهجرة الى المنافي تاريكين لوحاته ومخطوطاته الادبية وكل منحوتاته الخشبية تتلقى مصيرها المجهول .
هذه النبذة الحياتية تعطينا مدلول لحياة العراقين البائسة وفق هذا السفر المعقد الذي ابتدا بثورة تموز وما حيكت من مؤامرات من اجل اجهاضها ثم تبني الفكر القومي الشوفيني بديلا عنها.. معطيات ثقافية غريبة كالقومية باضيق طروحاتها ادت في النهاية الى افراغ العراق من قيمه الخيرة لننتهي الى ما نحن فيه الان .
في هذا السفر القصير الذي يعطينا مدلولات عن روحية تموز الثقافية نجد يحيى جواد مثلا حيا لها وللسنين العجاف التي لحقتها لا يسعني الا ان اسطر الاهداء الذي كتبه الاستاذ منذر الشاوي وزير العدل في عهد صدام على احد كتبه القانونية كأهداء الى صديقه يحيى جوا د : الى يحيى جواد الفنان في صورة نبي والنبي بصورة فنان اهدي كتابي ..



#يوسف_الصفار (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- 14 تموز والصناعات الثقيلة ..الاسكندرية نموذجا ً
- انفجار الكرادة والتحليلات المتضاربة
- الله في الميزان
- موروث شعبي , تعنت فقهي واضطراب سياسي
- اللامنتمي الثوري
- الاعلام والرؤية العوراء
- الدين والاخلاق
- داعش والكائن الخرافي
- الفلسفة والانسان 4/4
- الفلسفة والانسان 3/4
- الفلسفة والانسان 2/4
- الفلسفة والانسان 1/4
- الثورة والانسان 2/2
- الثورة والانسان 1/2
- الله والانسان


المزيد.....




- أحدها ملطخ بدماء.. خيول عسكرية تعدو طليقة بدون فرسان في وسط ...
- -أمل جديد- لعلاج آثار التعرض للصدمات النفسية في الصغر
- شويغو يزور قاعدة فضائية ويعلن عزم موسكو إجراء 3 عمليات إطلاق ...
- الولايات المتحدة تدعو العراق إلى حماية القوات الأمريكية بعد ...
- ملك مصر السابق يعود لقصره في الإسكندرية!
- إعلام عبري: استقالة هاليفا قد تؤدي إلى استقالة رئيس الأركان ...
- السفير الروسي لدى واشنطن: الولايات المتحدة تبارك السرقة وتدو ...
- دعم عسكري أمريكي لأوكرانيا وإسرائيل.. تأجيج للحروب في العالم ...
- لم شمل 33 طفلا مع عائلاتهم في روسيا وأوكرانيا بوساطة قطرية
- الجيش الإسرائيلي ينشر مقطع فيديو يوثق غارات عنيفة على جنوب ل ...


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - يوسف الصفار - صباح تموزي