نضال الربضي
الحوار المتمدن-العدد: 5144 - 2016 / 4 / 26 - 18:50
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
قراءة في اللادينية – 8 –"ضوء على الإيمان" مُستتبـَعاً من: علم النفس – مدرسة: كارل جوستاف يونج.
تنظر ُ هذه السلسلة من المقالات في المنظومة الدينية ككُل، و تعرضها بالتَّقابُل ِ مع المنظومة اللادينية، لمقارنة الأولى بالثانية، و لتُظهر َالسلسلة اختلافهما الجوهري في تفسير الوجود، و مُكوِّنات الحياة، و وزن و تأثير عناصر الفعل في شبكة التفاعل البشرية البيئية كاملة ً. أحرص ُ منهجا ً على الابتعاد ِ عن تناول ِ عقائِد مُحدَّدة أو أحداثٍ دينية ٍ بعينها، لأن المنظومة َ الدينية َ نفسَها هدفي، فهي تقوم ُ على مبادِئ و تستخدم ُ أدوات ٍ و تُنشئ وعيا ً ينبغي التَّعرُّض لهم بالنقد و التشريح و التفكيك حتى يستطيع َ الباحث ُ و المُتسائل ُ و الشاكُّ و الراغب في الاستنارة أن يصل َ إلى الجذور الحقيقية لما ورثه من مُسلـَّـمات ٍ و ثوابت، فالعقائد المُحدَّدة و الأحداث ُ الدينية و الطقوس التَّعبُّدية ما هي إلَّا مظاهر للجوهر، و صور للماهية، و سوف َ يجدُ الإيمان ُ و الدين ُ المُبرِّرات و المُسوِّغات لوجودها،و البدائل التحليلية لأي ِّ نقد ٍ يتناولها، ما دام أن جوهرها الذي تنبثق ُ عنه ما زال بعيدا ً عن التناوُل.
إذا ً نحو َ الجوهر ِ ننطلق لنفهم َ ما بُني عليه!
تقوم ُ المنظومة ُ الدينية ُ على الإيمان كأهم ِّ ركيزة ٍ لها، و يعمل ُ كأساس ٍ و أداة ٍ في نفس الوقت، فبدونه لا يمكن ُ أن تُقبل َ العقائد و يُسلَّم َ بالأحداث و الخوارق و النبوءات، و يحتاجُه المُتعبِّد ليستمر َ في قبول المنظومة ِ إذا تعارضت مع الواقع ِ و العلم و المنطق. لا بدَّ لنا إذا ً أن نسألَ: ما الذي يجعل ُ الإيمان مُمكنا ً؟
سأرتكز ُ في الإجابة ِ على هذا السؤال على القواعدِ الأساسية ِ التالية:
- أولا ً: نعلم ُ من علوم البيولوجيا أن الإنسان َ يتصرَّف ُ وفقا ً لطبيعته، و لا يمكن ُ له ُ أن يأتي بما هو خارج ٌ عنها، فعلى سبيل المثال:
يستطيع الإنسان أن يُحرِّك رقبته يمينا ً و يسارا ً لكنه لا يستطيع أن يُديرها دورة ً كاملة ً، فطبيعة ُ تركيبه الجسدي (الفسيولوجي) لا تسمح ُ بذلك، و بنفس الطريقة نقول أنه يستطيع ُ الركض لكنه لا يستطيع الطيران، لأن ذات الطبيعة منحته رجلين و لم تمنحه ُ جناحين.
- ثانيا ً: نعلم ُ من علوم النفس و الاجتماع و الأنثروبولوجيا أن الإنسان َ يمتلِك ُ بُنى ً نفسية ً مُعيَّنة و أدوات تفاعل إنسانية، تمُكِّنُه ُ من إشباع ِ حاجاتِه الأساسية: مأكل، مشرب، ملبس، و حاجاتِه النفسية الإجتماعية الأعلى: انتماء لمجموعة، تميُّز ضمن المجموعة، سُلطة على المجموعة. و بالتالي فإن َّ كل َ فعل ٍ يقوم ُ به لا بُد َّ أن يكون َ له أصل ٌ نفسي يجعلُه مُمكنا ً، و لولا هذا الأصل ما كان َ الفعل ُ ممكنا ً.
- ثالثا ً: بالقياس على ما سبق لا بدَّ أن يكون َ للإيمان ِ جذر ٌ نفسي يجعلُه ُ مُمكنا ً و مُبرَّرا ً، بل و يضمن ُ استدامتَه أيضا ً.
يمكن ُ الخوض ُ في الجانب ِ النفسي من أكثر َ من مدخل، و اخترت ُ لمقالي هذا رُؤية ً مُستتبَعة ً من مدرسة العالم النفسي: كارل جوستاف يونج، و بالتحديد مما سمَّاها Archetypes و التي يمكن ُ ترجمتُها إلى العربية تحت التعابير التالية: "النَّماذِج الأصيلة" أو "الأُطر البدائية" أو حتَّى "الأنماط الأوَّلية" و لقد قدَّمتها في مقالي السابق الذي أوثِّق ُ رابِطه ُ في الأسفل لمن يرغب في التَّعرُّف على أثر هذه الأنماط في تطوير أخلاق المجموعة البشرية.
"النماذج الأصلية" هي َ بُنى ً نفسية (جمع بُنية، أي كينونة أو هيكلية أو كيان نفسي ينتُج عنه نمط إدراكي داخلي لموضوع في العالم الخارجي و سلوك، ردَّا ً على موثر ٍ ما) اكتسبها الجنس ُ البشري بشكل عام نتيجة َ تعرُّضه لذات المواقف خلال تاريخ ٍ تطوُّري طويل ٍ امتَّد َ عبر َ ملاين السنين. و سنسأل ُ حتما ً: كيف يشترك ُ جميع البشر ِ في ذات الأنماط النفسية؟
علينا أن نتذكَّر أن اشتراك َ المجموعة ِ البشريَّة ِ في الجينات يُنشأ ُ ذات ِ الإمكانيَّات لديهم: فالبشر جميعهم يمشون و لا يطيرون، و يتكلمون، و يفكِّرون، و يأكلون و يشربون و لهم خصائص ُ مُحدَّدة، كما أنَّهم يشتركون َ في المنشأ: الولادة، و التي بالضرورة تجعلُهم يمرُّون بذات الخبرات النفسية في الرَّحم، و كذلك َ بذات ِ الخبرات ِ حين فطامِهم، و حين َ فصلِهم عن أمَّهاتهم و خروجهم للعالم، و كذلك َ حين تُخضعهم الجماعة لطقوس ِ القبول (دخول مرحلة الرجولة، دخول مرحلة الأنوثة، و الاعتراف المجتمعي بالفرد الجديد)، و أيضا ً حينما يختبرون موت الأحبَّاء و الخِلَّان ِ و الأصدقاء.
هذه الخبرات النفسية المُشتركة بين البشر يستجيب ُ لها الفرد ُ بحسب ِ ما يمليه عليه جسده و كيمياؤه و تفاعُلاته الداخلية، و التي تنبع ُ جميعُها من قدرات ٍ جينية ٍ مُشتركة، فتنشأ ُ عن هذه الخبرات و الاستجابات أنماط ٌ نفسية مشتركة بين الجميع. و تخرج ُ عن هذه الأنماط الأوَّلية صور ٌ أوَّلية مشتركة أيضاً مثل صورة: الأم، الأب، الساحرة، الساحر، الحكيم، المُخادِع، البطل، الفتاة العذراء. و تُمثِّل ُ كل ُّ صورة ٍ منها خُلاصة الخبرة النفسية للمجموعة الإنسانية على مدى السنين و تُحدِّد ُ الاستجابة َ الأوَّلية من الفرد تجاه َ أي ِّ شخص ٍ في العالم الخارجي يتماهى مع هذه الصور.
ينبغي هُنا أن أُشير َ أنني لا أعني أبدا ً أن تصرُّفات ِ جميع البشر و ردود أفعالهم مُتطابقة تماما ً تجاه العالم الخارجي و ما فيه، لكنِّي أقول َ أن المبادئ النفسية التي تحكم ُ هذه الاستجابات واحدة كأساس بينما تختلف ردود الأفعال باختلاف البيئة و التربية و الثقافة و المُجتمع، فأرجو الانتباه إلى هذه النُقطة.
يُقدِّم ُ الإيمان ُ نفسَه ُ كتفسير ٍ للوجود ِ و الحياة، و يُجذِّر ُ نفسه في المشاعر ِ النفسية المتلاطِمة و الجيَّاشة و الباحثة عن علاقتها بـ و تدعيم مركزيتها أمام: تفاعلات الحياة، و بالتالي يلتصق ُ بالضَّرورة في جميع ِ البُنى النفسية كتصديق ٍ على أصالة ِ وجودِها من جهة، و كمظهر ٍ يعكس ُ رغبة ً إنسانية ً بحتَة ً في إشباع الحاجات التي تتعامل معها هذه البُنى النفسية. فهل ينجح ُ فيما يروم؟
دعوني أُجيب ُ بمثال ٍ من الواقع:
أحد الأنماط الأوَّلية هو نمط ُ البطل، و يُمثِّل ُ في النفس البشرية خبرة َ المجموعة أمام َ حدث ٍ عظيم ٍ جلل كان يتهدَّد ُ وجودها فأوجد َ له ُ أحد الأفراد ِ حلَّا ً. إنَّه ُ نمط ُ: البطل المُخلِّص، و الذي يوجد ُ في كلِّ زمان ٍ و كل ِّ مكان ٍ و كُل ِّ مجموعة ٍ بالضرورة. إنه نمطُ التفرُّد ِ و القيادة و السبب ُ وراء النجاة ِ و البقاء و حفظ الهوية ِ و الكيان. لذلك نجد ُ الأديان َ بشكل ٍ عام تعتمد تقديس الشخصيات، فالتقديس هو المظهر ُ الديني للبُنية ِ النفسية ِ الأوَّلية ِ التي تتماهي مع شخصية ِ البطل.
و ستسأل عزيزي القارئ: إذا ً أليس هذا اعترافا ً بأن َّ المنظومة َ الدينية َ مُنسجمة ٌ مع الطبيعة ِ البشرية؟
و سيكون ُ الجواب: لا!
فالمنظومة ُ الدينية لا تخوض ُ في الأصول ِ النفسية للبُنى التي تتعامل معها، إنَّها لا تعرف ُ منشأها، و لا تفهم ُ الحاجات ِ الغريزية َ التي تُلبِّيها، و بالتالي لا يمكن ُ أن تُقدِّم حلولا ً مُشبعة ً لها، فالبُنية النفسية لقبول ِ شخصية القائد أو الزعيم أو البطل مُشتركة بين جميع البشر و لذلك فهم يقبلون الزعامة َ و القيادة َ و البطولة َ، و يرفعون رموزهم دوما ً، لكن َّ المنظومة اللادينية َ العلمانية قد استطاعت أن تفهم َ بقوَّة ِ علوم ِ النفس و الاجتماع و الأنثروبولوجيا أن وجود البطل يخدم ُ المجموعة َ و يحافظ ُ على هويتها، و بالتالي فهو بطل ٌ طالما حمل َ مسؤولية َ البطولة و خدم َ المجموعة َ، بالتالي أنشأت ِ المجتمعات ُ المُتحضِّرة دساتيرها بناء ً على احترام فردية المُنتمي للمجموعة و خير المجموعة العام، لا على تقديس خادم المجموعة و حصانته من النقد و المُساءلة، بينما اتَّخذت المنظومة ُ الدينية ُ المسار َ المُعاكِس تماماً، فرفعت البطل فوق المجموعة و منعت نقده و مُساءلته، و احتفظت بشخصه كنوع ٍ من الطوطم الذي يُحرَّم ُ الاقتراب منه فأفسدت تماما ً إدراك ماهيته و حجبت وظيفته و عطَّلت إشباع َ البُنية ِ النفسية التي يرتبط ُ بها، أي عملت بطريقة ٍ مُباشرة ضد َّ البُنية ِ التي نشأت عنها صورة ُ البطل.
راقب عزيزي القارئ الحرِّيات ِ في الدول الغربية، و كيف َ يُعبِّر ُ الأفراد ُ عن فشل ِ رموزهم و غضبهم تجاه هذه الرموز بكل ِّ جُرأة ٍ و صراحة. إن الانسياب َ التلقائي للنقد في الدول العلمانية ما هو إلا صورة ٌ عن خيبة ِ الأمل ِ من فشل ِ الصورة ِ الواقعية للبطل في التماهي مع البُنية النفسية الأولية أو الأصلية المُختزنة في اللاوعي الجمعي و التي تفترض ُ فيه سلوكا ً حافظا ً للمجموعة، مُنسجما ً مع توقُّعاتها، مُحقِّقا ً لآمالها، مُؤثرا ً إيَّاها على نفسه، مُتجرِّدا ً من نرجسيته، خاضعا ً لرقابتها و سيطرتها، خادما ً لها على الدوام.
إن دراسة َ النقد ِ للصورة ِ الواقعية التي تُمثِّل ُ البُنية َ النفسية َ:البطل، في الغرب تُمكِّنُنا بشكل خاص من إدارك ِ حقيقة ِ الحاجات ِ النفسية للأفراد الذين يشكِّلون المجموعة المعروفة باسم: الدولة، و بالتالي فإن هذه البُنى النفسية المُشتركة لا بُد َّ لها من إشباع ٍ مُتشابِه ٍ على الصعيد الإنساني، و الذي يعمل في الدولة تحت مفهوم ِ: المواطنة، و منه ُ يجب ُ أن تنطلق َ التشريعات و القوانين ُ كونَه ُ المُشترك الجمعي لأفراد الدولة، و بالتالي و بالضرورة سينتفي أي ُّ حقٍّ لأي ِّ منظومة ٍ دينية ٍ في فرض ِ تشريعها الخاص على المجموعات الأخرى.
لا تستطيع ُ المنظومة ُ الدينية ُ أن تُقر َّ بمبدأ ِ المساواة ِ بين جميع البشر، حتَّى و إن بنت مُعتقداتِها على الاستجابة (أو الأصح على محاولة ِ الاستجابة ِ) للبُنى النفسية المُشتركة بينهم، فهي بطبعها جامِدة لا تتفاعَل ُ مع الحاجات المُتغيِّرة للجماعات و بالتالي الحلول الديناميكية المُطالبة بالتجديد. أما المنظومة ُ اللادينية فتشتمل ُ في ذاتها على الإنسانية ِ كمبدأ ٍ يُعرِّف ُ هويتها، و ينسجم ُ مع الطبيعة ِ البيولوجية التي تنشأ عنها – و كجزء ٍ منها - الطبيعة ُ النفسية و بُناها.
علينا دوماً أن نستكمل َ الغوص َ في أعماق النفس البشرية، نحو إخراج ِ ما تحتويه ِ من بُنى نفسية، و صور ٍ تنبثق ُ عنها تُشكِّل اللاشعور الفردي، و بغير ِ ذلك لن نستطيع َ أن نفهم ماهيتنا كبشر، و سنعجز ُ عن إيجاد ِ الحلول ِ للمشاكل ِ التي تواجهنا لأن َّ التشخيص َ الصحيح َ يغيب ُ حين َ تحضر ُ ادِّعاءات ُ اليقينيَّات ُ و القطعيَّات ُ و الثوابت ُ و المُسلَّمات غير المبنية على الدَّلائل و البراهين، أو مُضادَّاتها من المخاوف و الافتراضات و التوقُّعات و التشاؤمات و التكهُّنات، و سيظل ُ ظلام ُ النفس يدق ُّ باب الشعور و يفرض ُ سطوتَه عليه دون أن يعلم الأخير ُ بالأول، و سيصدق ُ فينا قول ُ كارل يونج:
"حتَّى يحين َ الوقت ُ الذي تُحَـوِّلُ فيه اللاشعور إلى شعور، سيستمرُ هذا اللاشعور في السيطرة على حياتكِ، و ستُسمِّيهِ: القَدَر"
Until you make the unconscious conscious, it will --dir--ect your life and you will call it fate.
-------------
مقالات ذات صلة:
قراءة في اللادينية – 7 - الأخلاق مُستتبـَعة ً من: علم النفس – مدرسة: كارل جوستاف يونج.
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=507470
#نضال_الربضي (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟