أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - ماهية ومكونات الإنسان في القرءان الكريم: الفصل الثالث: النفس















المزيد.....


ماهية ومكونات الإنسان في القرءان الكريم: الفصل الثالث: النفس


نهرو عبد الصبور طنطاوي

الحوار المتمدن-العدد: 5121 - 2016 / 4 / 2 - 03:53
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


لقد حيرت النفس الإنسانية الفلاسفة والمفكرين قديما وحديثا، الغربيين منهم والشرقيين، ظنا منهم أن الإنسان يتكون من ثنائي: "نفس" جوهر لامادي و"بدن" مادي، هذا التصور الخاطئ جعل كثيرين عبر التاريخ الإنساني يعتقدون أن النفس هي شيء مستقل عن البدن أو الجسم، وظهر ذلك في أقوال الفلاسفة في الماضي والحاضر، حيث منهم من جعل النفس مبدءاً خارجيا لحركة البدن، وهي مصدر السلوك الإنساني، وقسم النفس إلى ثلاثة أقسام: "النفس العاقلة، النفس الغاضبة، النفس الشهوانية". ومنهم من جعل النفس صورة للبدن، ومنهم من قال إن النفس هي جوهر كامل مستقل ومفارق للبدن، أو جوهر قائم بذاته محرك خارجي للبدن، ومنهم من يرى أن النفس تؤثر في البدن من خلال روح حيوانية ساكنة في القلب، هذه الروح هي جوهر جسمي تبطل وتموت ببطلان وموت البدن، بينما النفس هي جوهر غير جسمي وتبقى بعد موت البدن ولا تبطل ببطلانه.

ومنهم من ظن أن النفس هي عبارة عن العقل، وقسم العقل إلى عدة عقول: "العقل الهيولاني الانفعالي أو الفعال، العقل بالملكة، العقل الناظر، العقل المستفاد أو المكمل". وأن هذا العقل الذي هو النفس يبقى بعد الموت، وأن العقل هو الإنسان على الحقيقة، وإن الموت ليس أكثر من ترك النفس آلتها التي هي البدن أو الجسم، فإذا حدث الموت تركت النفس الجسم وفارقته. ومنهم من يرى أن العقل والنفس جوهران روحيان لذلك يتمتعان بالخلود، ومنهم من يرى أن الجسم شرط في وجود النفس، فأما بقاء النفس وخلودها لا حاجة لها في وجود الجسم، بل إن من الفلاسفة من ذهب إلى أن البعث بعد الموت لن يكون للأبدان، إنما البعث يكون فحسب للنفس لا للبدن، وممن قال بهذا "ابن سينا" في رسالة الصلاة حيث قال: (ثواب البدن لا يتوقع في العالم الروحاني ولا ينتظر في القيامة لأنه غير مبعوث بعد الموت فمثله مثل النبات إذا مات اندرس وفنى لا يبعث أبداً. وأما الفعل الحيواني فهو الحركة والخيال وحفظ جميع البدن بحسن تدبيره وأمره اللازم، وفعله الخاص الشهوة والغضب فحسب... فليس له انتظار الثواب، ومن عدم فيضه فلا يبعث بعد الموت. وإنما النفس الناطقة له بعث بعد الموت، وأعني بالموت مفارقته عن الجسم، وبالبعث مواصلته لتلك الجواهر الروحانية وثوابه وسعادته بعدهما).

بل إن من الفلاسفة كأفلاطون من شطح به فكره فظن أن النفس إلهية خالدة وليس لها أصل نشأت منه ولا تخضع للفساد ولا للفناء، وإذا كانت النفس إلهية فعلينا أن نتعلق بها وحدها لأن النفس هي التشبه بالإله بقدر الطاقة الإنسانية ولكن الإنسان ليس نفساً فقط بل هو نفس وبدن ولكل منهما مطالب ولذلك لن يكون الإنسان ما دام على قيد الحياة ومتصلاً بالبدن حكيماً بل محباً للحكمة أي فيلسوف فقط وإذا انفصل عن البدن عند الموت بلغت النفس الحكمة فالموت للرجل الصالح مطية لحياة أفضل لأنها حياة النفس. أما أرسطو فتتلخص رؤيته في أن النفس صورة الجسم لا يمكن أن تنفصل عنه ولا يمكن أن تكون نفس بلا بدن والعلاقة بينهما ليست علاقة ميكانيكية بل علاقة كل شيء بوظيفته ويقول : إن ملكات النفس من إحساس وحس مشترك تفنى بفناء الجسم ما عدا العقل الفاعل فإنه لا يهلك وهو أزلي أبدي لا أول له ولا نهاية له وقد جاء من الخارج إلى الجسم ويفارقه عند الموت ,جاء من الله لأن الله هو العقل المطلق.

وقد لخص لنا الدكتور "محمد عمر الفقيه" في بحثه: "مفهوم النفس الإنسانية بين النظريات الوضعية والحقائق" ما ذكره الفلاسفة المسلمون عن النفس الإنسانية وأنهم لم يختلفوا كثيرا عما قاله الفلاسفة القدماء:

يقول الكندي (801-866م ) : ( تعتبر النفس بسيطة ذات شرف وكمال، عظيمة الشأن، جوهرها من جوهر الباري عز وجل ، كقياس ضياء الشمس من الشمس.
وكأن النفس منسلة أو مقطوعة من النفس الإلهية).

ويرى الجاحظ(775 –868م ): (أن ضياء النفس كضياء دخل من كوة وحكم النفس كحكم الضياء .النفس من جنس النسيم ، بفساده تفسد الأبدان ، وبصلاحه تصلح).

وذهب الفارابي (872- 950م) إلى أن النفس شيء غير الجسم فقال : ( أن النفس الإنسانية جوهر بسيط ليس بجسم، وهي غير جسمانية بل هي استكمال لجسم طبيعي آلي أو عضوي . وهذه النفس صدرت بعد نشوء البدن البشري).

ويعرف ابن حزم (995-1064) : النفس فيقول : بأنها (المدركة للأمور المدبرة للجسد، الفعَالة ، العاقلة ، المميزة ، المخاطبة ، المكلفة ، وهي جسم علوي، فلكي، خفيف للغاية).

ويقول إخوان الصفا (القرن العاشر الميلادي): (النفس وجدت قبل البدن وأنها كانت في عالم خاص بها قبل حلولها فيه، وأنها حية بذاتها لا تفسد بفساده، وأنها تظل محبوسة في البدن لا تفارقه إلا بالموت الذي يعتبر ميلاداً لها).

ويقول الغزالي (1058-1111م): في الإحياء (إن النفس جوهر، وذلك ثابت من جهة الشرع والعقل، أما الشرع فجميع خطابات الشرع تدل على أن النفس جوهر وكذلك العقوبات الواردة في الشرع بعد الممات تدل على أن النفس جوهر، فان الألم وان حل بالبدن فلأجل النفس، ثم للنفس عذاب آخر يخصها وذلك كالخزي والحسرة وألم الفراق).

ويرى ابن رشد (1126-1198) أن النفس صورة لجسم آلي، وذلك أنه إذا كان كل جسم مركب من مادة وصورة وكان الذي بهذه الصفة في الحيوان هو النفس والبدن وكان ظاهراً من أمر النفس أنها ليست بمادة للجسم الطبيعي، فتبين أنها صورة ولا الصورة الطبيعية هي كمالات أول للأجسام التي هي صورة).

ويرى الرازي (1150-1210 ) (أن النفس الإنسانية ليست جسماً ولا حالةً في الجسم فهي جوهر مفارق).

ويقول ابن عربي (1165 –1240): (إن الإنسان له ثلاث أنفس: نباتية وبها يشترك مع الجمادات، ونفس حيوانية وبها يشترك مع البهائم ، ونفس ناطقة وبها ينفصل عن هذين الموجودين ويصح عليه اسم الإنسانية وبها يتميز في الملكوت).

ويقول الشهرستاني ( -548ه) : (إن النفس الإنسانية جوهر ليس بجسم ولا قائم بجسم. وأن إدراكها قد يكون بآلات وقد يكون بذاتها بغير آلات . وأنها واحدة وقواها كثيرة، وأنها حادثة مع حدوث البدن وباقية بعد فناء البدن).

ويقول ابن قيم الجوزية (1292-1350م) : ( إن النفس جسم مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس، وهو جنس نوراني علوي خفيف حي متحرك).

ومما سبق يتبين أن معظم الذين تناولوا مفهوم النفس الإنسانية توصلوا إلى أنها أمر معنوي لا يخضع للحواس، وهي مباينة للجسم الإنساني، ولكنها مسيطرة عليه وموجهة لكل أوجه النشاط الإنساني) انتهى.

كذلك رواد الفلسفة الحديثة الذين تناولوا طبيعة النفس الإنسانية قد استمدوا مقولاتهم ونظرتهم للنفس الإنسانية من الفلسفات القديمة ولم يأتوا بجديد عليها، فآراء ديكارت ومن سار على دربه ترى أن النفس جوهرا مفارقا للمادة، وقد سبقه في ذلك الشرقيون وأفلاطون الذي كان يقول بثنائية النفس والبدن. كذلك الفلاسفة الماديون من رواد الفلسفة الحديثة الذين أنكروا جوهر النفس والعقل كتوماس هوبز وغيره لم تكن بالآراء الجديدة فقد سبقهم الفلاسفة اليونانيون الماديون القدماء كديموقريطس وغيره.

بكل تأكيد كل ما سبق من مقولات للفلاسفة حول ثنائية الإنسان وأنه يتكون من: "نفس" جوهر مفارق و"جسم" مادي هو محض هراء وكلام فارغ لم يدل عليه دليل علمي واحد، ولكن ترى ما الذي جعل الفلاسفة والمفكرين عبر التاريخ الإنساني يتوهمون أن الإنسان يتكون من ثنائية: "النفس" الجوهر المفارق و"الجسم" المادي؟؟، أليس هناك شيئا ما جديرا بالاعتبار جعل هؤلاء وغيرهم يتوهمون مثل ذلك الوهم أو يظنون مثل ذلك الظن، خاصة والمثل الشائع يقول: (لا دخان بغير نيران)؟. بكل تأكيد هناك من الأشياء في الإنسان ذاته حملت كثيراً من الناس على الظن بأن الإنسان له نفس مفارقة لبدنه، وتلك النفس هي التي تسيطر على ذلك البدن وتوجهه وتتحكم به، وليس للبدن أي سيطرة تذكر على ذلك الجوهر المفارق الذي يسمى نفسا، ولكن يا ترى ما هي تلك الأشياء التي خيلت للإنسان أن له جوهر مفارق للبدن يسمى "نفس"؟.
الجواب: هي: (التفكير، الشك، الوعي، الفهم، التخيل، الإرادة، الرغبة، الإحساس، الإدراك، التذكر، الذاكرة، الأحلام، الإلهام، الحدس، ووو...إلخ). حيث رأوا أن هذه الأشياء لا يمكن أن تكون من خصائص الجسم المادي ولا من صفاته، إذ كيف للجسم المادي أن تكون له هذه الخصائص والصفات غير المادية _وفق فهمهم_؟، فمن هنا توهم كثير من الناس أن هناك جوهر لا مادي قائم بذاته ومفارق للجسم المادي اسمه "النفس"، هذا الجوهر من خصائصه وصفاته أنه يقوم بعملية التفكير، الشك، الوعي، الفهم، التخيل، الإرادة، الرغبة، الإحساس، الإدراك، التذكر، الذاكرة، الأحلام، الإلهام، الحدس، ووو...إلخ.

وفي المقابل كان هناك الفلاسفة الماديين من أمثال "توماس هوبز" فهو يعد من أوائل الفلاسفة الماديين في الفلسفة الحديثة، فهو ينكر أن يكون للإنسان جوهر لامادي في الإنسان ويرى أنه من المقولات الغامضة والمتناقضة، فهو لا يعتقد بجوهرية النفس ومفارقتها للبدن، إذ "توماس هوبز" يتخذ من "الحواس" مصدرا وحيدا للمعرفة، وما لا يخضع للحس فلا وجود له.
ثم جاء "ديفيد هيوم" وهو من الفلاسفة الماديين ورغم أنه اعترف بأن النفس تختلف في طبيعتها عن الجسم لكنها لا تحتاج إلى جوهر لامادي مفارق للجسم تتمثل فيه، ونفى أن يكون هناك أي جوهر لامادي للنفس مفارق للجسم. ومع ذلك وجد "ديفيد هيوم" صعوبة بالغة في تفسير ذاكرة الإنسان وكيف تتحد الإدراكات المتعاقبة في الذهن وبقاء الصور العلمية فيه. وفي الحقيقة إن الذاكرة الإنسانية كانت ومازالت من أهم المعضلات التي تواجه جميع الفلاسفة الماديين ولا يجدون لها تفسيرا معتبرا مقبولا في ظل انكارهم لوجود شيء جوهري لامادي يقبع وراء الحواس.

ويبقى السؤال معلقا، إذا كان (التفكير، الشك، الوعي، الفهم، التخيل، الإرادة، الرغبة، الإحساس، الإدراك، التذكر، الذاكرة، الأحلام، الإلهام، الحدس، ووو...إلخ). هي أشياء ليست من خصائص الجسم المادي، وإذا كانت مقولة وجود جوهر لامادي مفارق للجسم مسئول عن هذه الخصائص هي مقولة محض هراء ولا يدل عليها دليل علمي واحد فكيف تتم هذه الانفعالات والخصائص داخل الجسم المادي الذي لا يمكن له أن يكون محلا لهذه الخصائص والصفات؟؟.
الجواب: إن كل هذه التفاعلات من تفكير، شك، وعي، فهم، تخيل، إرادة، رغبة، إحساس، إدراك، تذكر، ذاكرة، أحلام، إلهام، حدس، ووو...إلخ، المسئول عن كل هذه التفاعلات في الإنسان هو "الروح" وليس الجوهر المفارق الذي يسمونه "نفساً"، وسوف نفصل هذا تفصيلا علميا موضوعيا في فصل "الروح" إن شاء الله.

## ماهية النفس الإنسانية في اللسان العربي وفي القرءان الكريم:

أولا: مفهوم "النفس" في لسان قوم الرسول:

الفعل "نَفَسَ" هو ما اشتقت منه كافة الكلمات التي تحتوي بنيتها على هذا الفعل الثلاثي، والفعل " نَفَسَ" يدل على خروج الريح من أنف الإنسان أو فمه، و"النَفَسْ" أو "عملية التنفس" عبارة عن نقل الأكسجين من خارج الجسم إلى الخلايا في أنسجة الجسم. والعكس نقل ثاني أكسيد الكربون من خلايا الأنسجة إلى الخارج. وتوقف النفس هو حالة مميتة للإنسان، وتحدث عندما لا يتوافر الأكسجين لأنسجة الجسم بكمية كافية. وقد ينجم هذا النقص عن قلة الأكسجين في الهواء المستنشق، أو عن عائق او إصابة في جهاز التنفس. و بدون مدد كاف من الأكسجين تتلف الأنسجة بسرعة، فالخلايا العصبية الحيوية في الدماغ قد تموت بعد انقطاع الأكسجين عنها لمدة ثلاث دقائق فقط. وبالتالي نعلم من هذا أن "النَفَسْ" هو أسمى وأثمن شيء لاستمرار حياة الإنسان، فقد يستغني الإنسان عن الماء والطعام لعدة أيام، لكنه لا يستطيع أن يستغني عن "النَفَسْ" لبضع دقائق.

لهذا كل ما كان له قيمة عالية وثمن غال اشتقوا له من الفعل "نَفَسَ" كلمة تدل على ارتفاع قيمته وغلو ثمنه، فقالوا: "شيءٌ نَفيسٌ" أي ذا قيمة مرتفعة، و"هذا أَنْفَسُ مالي"، أي أحبُّهُ وأكثره ثمنا وقيمة وأكرمُهُ عندي. و"نَفُسَ الشيء بضم الفاء نَفاسَةً، أي صار نفيساً مرغوباً فيه. و"نافَسْتُ في الشيء مُنافسةً"، إذا رغبت فيه لنفسك على وجه المباراة في الكرم. و"تنافسوا فيه"، أي رغِب كل منهم أن يتخذه لنفسه. ويقال: "نَفَّسَ الله عنه كربته"، أي فرَّجها، وكأن ما به من كرب كان بمثابة انقطاع النفس عنه ولما فرج الله عنه الكرب كأنما أعاد له النفس. ويقال للمرأة التي ولدت "امرأة نفساء" أي خرج منها نَفْس ذكراً كان أو أنثى.

ومن هنا أشتق قوم الرسول "العرب" من الفعل "نَفَسَ" اسم "نَفْسْ" على الفرد الآدمي وسمي بذلك لأن "النَّفَسْ" بفتح النون والفاء هو الوظيفة الحيوية الأكثر قيمة وثمنا واحتياجا لاستمرار حياة الإنسان، وبتعطل عملية التنفس لبضع دقائق يموت الإنسان فوراً. لهذا اشتقت العرب من عملية "التنفس" التي هي أهم وأثمن وأغلى ما به تستمر حياة الإنسان كلمة "نفس" اسماً تطلقه على الفرد الآدمي. لهذا أطلقت العرب كلمة "نَفْسْ" على جُملةُ الشْيءِ وكليته وحقِيقتُه وعَيْنُه وكُنْهُه وجَوْهَرُه، لأن عملية "التنفس" بصلاحها وسلامتها يبقى جملة الإنسان وكليته على قيد الحياة، وبفسادها وتعطلها يفقد الإنسان جملته وكليته ويموت فوراً. لهذا يُقَالُ: جَاءَنِي المَلِكُ بِنَفْسِه، أي: بجملته وكليته وحقيقته وعينه وكنهه وجوهره. ويقال: رأَيْتُ فلاناً نَفْسَه، أي: جملته وكليته وحقيقته وعينه وكنهه وجوهره. فالنَفْس هو اسم تطلقه العرب الذين نزل القرءان بلسانهم على الفرد الآدمي بجملته وكليته دون استثناء لشيء منه، وتعني به كذلك فرداً آدمياً بعينه وكنهه وذاته ولا تعني فرداً آخر غيره، مثال: "رأيت خالداً نفسه" و"جاءني زيد نفسه"، أي جاءني زيد كله وجملته دون استثناء شيء منه، جاءني زيد بعينه وكنهه وحقيقته لا أحد غيره. وبالتالي فالاسم "نَفْس" كانت العرب تطلقه على الفرد الآدمي كله بعينه وحقيقته وجسده وشكله وشحمه ولحمه، ولم تكن العرب تعني بكلمة: "نَفْس" جزءاً محددا أو جانباً بعينه من الفرد الآدمي، فلم تكن تعني بالاسم "نَفْس" الجانب الجوهري المستقل المفارق لبدن الإنسان كما يزعم ويهرف ويخرف الفلاسفة والمفكرون ومن سار سيرهم، فنفس الإنسان الفرد هي شيء واحد لا يتجزأ ولا يتبعض وتعني كامل الفرد الإنسان ببدنه وكنهه وكليته وجملته وحقيقته.

ثانياً : مفهوم "النفس" في القرءان الكريم:

وهكذا القرءان الكريم تحدث عن النفس الإنسانية بكونها كامل الفرد الإنساني بجملته وكليته ببدنه وشكله وكامل تكوينه، ولم يتحدث عن النفس الإنسانية قاصدا بها جزءاً بعينه أو جانباً محدداً كجوهره المستقل المفارق للبدن كما يزعم الزاعمون، وهذه هي بعض آيات القرءان الكريم التي تحدثت عن النفس الإنسانية بكونها كامل الفرد الإنساني بجملته جسدا وفكرا وسلوكا وأعمالا وأقولا وآثارا:

قال تعالى:
(اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا). (42_ الزمر).
وقال تعالى:
(وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ). (145_ آل عمران).
وقال تعالى:
(كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ). (185_ آل عمران).
ونحن لا نرى الموت يأتي إلا على كامل الإنسان بكليته وجملته بدنه وكلامه وأفعاله وأفكاره وحركته وكل شيء فيه، وليس ذلك الجوهر المستقل المفارق للبدن كما يزعم الزاعمون.

وقال تعالى:
(لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا). (286_ البقرة).
وتكليف النفس هو تكليف لكامل الإنسان بجملته وكليته، فكلفه بالصلاة والزكاة والصيام والحج والطهارة والجهاد والقتال والصدق وقول الحق والأكل من الطيبات وعدم الإسراف ووو...إلخ، وكلها تكاليف تقع على البدن.

وقال تعالى:
(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ). (164_ آل عمران)
أي من جنسهم البشري وليس من جنس آخر غير جنسهم.

وقال تعالى:
(وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً). (29_ النساء).
(مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ). (32_ المائدة).
فعل القتل كما تشاهده جموع البشرية يقع على بدن الإنسان وليس على جوهر لامادي مستقل عن بدن الإنسان.

وقال تعالى:
(وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ). (95_ النساء).
والجهاد بالنفس لا يتصور أن يكون بشيء غير البدن وجميع أدواته بدءا من الفكر والنظر والإيمان والأعمال والأقوال ووو...إلخ.

وقال تعالى:
(وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غمراك المَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ اليَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ). (93_ الأنعام).
ليس مقصودا بقول الملائكة هنا "أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ" أن هناك نفساً بداخل البدن سيقوم الظالمون بإخراجها من البدن ثم يموتون بعدها، كلا، إنما هو أسلوب تعجيزي تهكمي من الملائكة للظالمين، أي: يبسطوا إليهم أيديهم كإشارة لهم بأن هل تستطيعوا أن تخرجوا أنفسكم من غمرات الموت ومن بين أيدينا؟، فكأنهم يبسطوا لهم أيدهم كإشارة للخروج مثل أن تبسط يدك لشخص ما طالبا منه الخروج من المكان أو الدخول إليه، كذلك يبسط الملائكة أيديهم للظالمين قائلين لهم ساخرين منهم: (أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ).

وقال تعالى:
(قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَراًّ). (188_ الأعراف).
من المعلوم أن النفع والضر يلحق بكامل جسد الإنسان وكل مكوناته وتفاصيله.

وقال تعالى:
(وَرَاوَدَتْهُ الَتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ). (23_ يوسف).
كذلك من المعلوم أن امرأة العزيز لم تراود يوسف عن نفسه أي عن ذلك الجزء الجوهري اللامادي المستقل المفارق للبدن، كلا، إنما راودته عن كامل جسده بكليته وجملته وبكافة مكوناته وتفاصيله.

وقال تعالى:
(أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ المَاءَ إِلَى الأَرْضِ الجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ). (27_ السجدة).
كذلك من المعلوم أن الأنفس التي تأكل من الزرع هي الأبدان عن طريق الفم والجهاز الهضمي وليس الجزء الجوهري اللامادي المستقل المفارق للبدن الذي زعم وجوده الزاعمون.

وقال تعالى:
(وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ). (50_ الأحزاب).
كذلك من المعلوم أن المرأة التي تهب نفسها للنبي تهب بدنها وكليتها وجملتها ولن تهب له الجزء الجوهري اللامادي المستقل المفارق للبدن الذي زعم وجوده الزاعمون.

نخلص مما سبق أن النفس هي هوية الفرد الآدمي وكينونته وماهيته وفرادته وتميزه عن غيره من النفوس البشرية، هي بصمته الكلية الجامعة لكامل جملة أجزائه وتفصيلاته ومكوناته دون استثناء شيء منه، ليس فقط بصمة أصبعه أو صوته أو عينه، إنما بصمته الكلية الجامعة لكامل جملته التي تميزه عن غيره. فنفس زيد تختلف اختلافا كليا وجذريا عن نفس عمرو، فنفس زيد شيء ونفس عمرو شيء آخر تماما. فمثلا زيد يأكل وعمرو يأكل، لكن أكل زيد ونوعه ومقداره ومدته وكمه وكيفه وموعده ومصدره يختلف تماما عن أكل عمرو. وهكذا فكره وحبه وكرهه وإيمانه وقناعته وإدراكه وفهمه وبصيرته وخلقه وسلوكه ووو...إلخ. فكل واحدة من هذه المكونات تختلف تماما في كافة تفاصيلها عند زيد منها عند عمرو، وبالتالي فنفس زيد هي جملة زيد وجميع تفصيلاته ومكوناته وأجزائه لا يمكن أن تكون إلا لزيد وتختلف جذريا عن نفس عمرو.

لهذا نرى آيات القرءان لا تذكر كلمة النفس في عبارة إلا إذا كان المقصود منها هو كامل الإنسان الفرد الآدمي وجملته دون استثناء شيء منه. فمثلا نجد قوله تعالى: (كل نفس ذائقة الموت). ولم يقل كل إنسان ولا كل فرد ولا كل بشر ولا كل آدمي ولا كل جسد ولا كل بدن لأن الإنسان والبشر والآدمي والجسد والبدن هي أسماء لآجزاء وأبعاض وصفات وسمات في النفس، أما كلمة نفس فهي اسم جامع يشمل كامل الفرد وجملته دون استثناء لشيء منه. فموت النفس يعني أن جملة هذا المخلوق الفرد يموت، بدنه وقلبه ودماغه وكل شيء فيه كل شيء فيه يموت.

أما القول بأن الإنسان يتكون من جزء مادي هو البدن وجزء لامادي مفارق للبدن هو النفس إنما هو قول بلا علم ولا برهان ولا يدل عليه دليل علمي واحد.

(للحديث بقية في الفصل الرابع: الروح)


نهرو طنطاوي
كاتب وباحث في الفكر الإسلامي _ مدرس بالأزهر
مصر _ أسيوط
موبايل : 01064355385 _ 002
إيميل: [email protected]
فيس بوك: https://www.facebook.com/nehro.tantawi.7
مقالات وكتابات _ نهرو طنطاوي:
https://www.facebook.com/pages/%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%88%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AA-%D9%86%D9%87%D8%B1%D9%88-%D8%B7%D9%86%D8%B7%D8%A7%D9%88%D9%8A/311926502258563


(كتاب: ماهية ومكونات الإنسان في القرءان الكريم)

الفصل الأول: (خلق آدم)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=504807
الفصل الثاني: (من هو الإنسان؟)
http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=509227



#نهرو_عبد_الصبور_طنطاوي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ماهية ومكونات الإنسان: الفصل الثاني: من هو الإنسان؟
- ماهية ومكونات الإنسان في القرءان الكريم: الفصل الأول: (خلق آ ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السابع عشر: (هل نهى رسول الله ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل السادس عشر: (هل جمع الرسول الق ...
- السنة ما لها وما عليها: الفصل الخامس عشر: (القرءان الكريم رو ...
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب - الجزء السابع الأ ...
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب - الجزء السادس
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الخامس
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الرابع
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الثالث
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الثاني
- نقد العلمانية والعلمانيين المصريين والعرب – الجزء الأول
- (مسيحيون أم نصارى)؟ حوار رمضاني مع الأستاذ (أسعد أسعد)
- نبضة قلب في حياة ميتة
- لماذا توقفت عن كتابة مقالي اليومي في (روزاليوسف)؟
- (الإلحاد) هو الابن الشرعي للعقائد المسيحية
- (ليندي انغلاند) (أنجلينا جولي): يد تبطش والأخرى تداوي وتطبطب
- الفرق بين الإنسان الواقعي والإنسان الافتراضي
- الفرق بين -حقائق الأشياء- و-زخرف الكلمات- و-عوالمنا الخاصة-:
- آخر الهوامش: هوامش يومية على جدران الثورة المصرية -ثورة 25 ي ...


المزيد.....




- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...
- ماما جابت بيبي أجمل أغاني قناة طيور الجنة اضبطها الآن على تر ...
- اسلامي: المراكز النووية في البلاد محصنة امنيا مائة بالمائة
- تمثل من قتلوا أو أسروا يوم السابع من أكتوبر.. مقاعد فارغة عل ...
- تنبأ فلكيوهم بوقت وقوعها وأحصوا ضحاياها بالملايين ولم تُحدث ...
- منظمة يهودية تطالب بإقالة قائد شرطة لندن بعد منع رئيسها من ا ...
- تحذيرات من -قرابين الفصح- العبري ودعوات لحماية المسجد الأقصى ...
- شاهد: مع حلول عيد الفصح.. اليهود المتدينون يحرقون الخبز المخ ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - نهرو عبد الصبور طنطاوي - ماهية ومكونات الإنسان في القرءان الكريم: الفصل الثالث: النفس