أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - بورتريه للعامل (ع . س . ح)















المزيد.....

بورتريه للعامل (ع . س . ح)


طلعت رضوان

الحوار المتمدن-العدد: 5043 - 2016 / 1 / 13 - 22:21
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


بورتريه للعامل (ع . س . ح)
طلعت رضوان
العامل (ع . س . ح) هو من العمال الذين يُـطلق عليهم (فراشين أو سعاة) فى الوزارات والمصالح الحكومية. وقد امتـدتْ صلتى به طوال عملى فى الوزارة التى كنتُ أعمل بها ، وحتى بعد خروجى على المعاش . كانت مهمته تنظيف المكاتب قبل وصول الموظفين . وبعد ذلك يتولى توزيع المُـكاتبات أو النشرات على المكاتب داخل الإدارة ، والتنقل بين الأرشيف ومكتب الآلة الكاتبة (قبل انتشار الكمبيوتر) وبينما كان السعاة والفراشون لا يُـمانعون فى شراء السندويتشات والسجائر إلخ للموظفين ، كان (ع . س . ح) يرفض تلبية طلبات الموظفين الخاصة.. وكان على لسانه جملة واحدة لا تتغيّـر ((أنا هنا لنظافة المكاتب وتوزيع البوستة.. مش عشان أجيب سندوتشات للموظفين))
كان (ع . س . ح) كلــّـما رأى فى يدى مجلة أو صحيفة أو كتابـًـا يسألنى عن المكتوب فيما أقرأ.. وكان يطلب منى (إستعارة) الكتاب أو المجلة أو الصحيفة ، فكنتُ أستجيب لطلبه ، وفى اليوم التالى يأتى ومعه الكتاب أو المجلة أو الصحيفة ، وعندما كنتُ أسأله عما قرأ ، كان ينطلق ويسترسل فى الكلام ، وكنتُ أشعر من كلامه أنه مثل أى قارىء يقرأ ليفهم ، وليس مجرد قارىء (يقتل وقت الفراغ أو للتسلية) وقد تأكــّـد ذلك عندما كان يُـبدى رأيه الخاص فيما قرأ ، سواء بالاتفاق أو بالاختلاف . وأكثر من ذلك كانت له آراؤه الخاصة بالشئون السياسية والاقتصادية ومُـجمل الأحوال المعيشية. ثم تطوّرتْ العلاقة بيننا أكثر عندما طلب منى بعض الروايات والقصص القصيرة ، فكان شديد الاعجاب بكتابات الأديب يوسف إدريس ، وخاصة مجموعة قصص (بيت من لحم) و(لغة الآى الآى) ورواية الحرام ، وكانت المُـفاجأة أنه أبدى تحفظات كثيرة على كتابات الأديب نجيب محفوظ . وعندما سألته عن السبب قال إنه لا يشعر بالصدق فى كتابات نجيب محفوظ ، مثلما يشعر به فى كتابات يوسف إدريس . ولما طلب منى بعض كتبى ، فكان لا يخجل ولا يـُـحاول مُـجاملتى وهو يعترض و(ينتقد) بعض ما قرأ.. وأشهد أننى استفدتُ كثيرًا من ملاحظاته.
ولكن عندما نشرتْ لى صحيفة الدستور (20/8/1997- الإصدار الأول) مقالى المعنون (كفيل مصرى لكل مواطن خليجى على أرض مصر) فرح به كثيرًا (رغم أنه لم يـُـسافر إلى أية دولة عربية) وعندما قامتْ زميلتى السيدة (ن . ن) بتصوير المقال وطبعتْ منه عدة نسخ ، تولى (ع . س . ح) توزيعه على الزملاء فى المكاتب .
وبعد أنْ توطــّـدتْ علاقتى به ، علمتُ منه أنه يعمل جزارًا فى المدبح العمومى التابع لمنطقة مصر القديمة ، فسألته : طيب ليه وافقت إنك تشتغل فراش فى الوزارة ؟ قال : عشان مستقبل الأولاد.. ولما استفسرتُ منه قال : عشان المعاش.. فى المدبح ما فيش معاش.. وكل قرش ييجى بينصرف أول بأول .
كان زواجى فى أواخر السبعينيات من القرن العشرين ، وكان (ع . س . ح) أحد الزملاء الذين دعوتهم لحضور حفل الزفاف فى شقة أسرة زوجتى ، وفوجئتُ به وقد أحضر معه (فرقة) من الموسيقيين والمطربين من أبناء منطقة مصر القديمة لإحياء الفرح.. فكانت ليلة من الليالى التى احتفظتْ بها ذاكرتى رغم مرور السنين ، كما احتفظتُ بالصور الفوتوغرافية لحفل الزفاف وكانت له أكثر من صورة أعود إليها من حين لآخر.
بعد انتهاء إجازة الزواج قـدّم لى (ع . س . ح) ورقة لحمة (أيام الورق المقوى ، قبل انتشار الأكياس البلاستيك غير الصحية) سألته عن ثمن اللحمة.. ضحك وقال ((دى هديه)) وعندما ألححتُ حتى يأخذ ثمن اللحم ضحك وقال ((بعد ما تاكل نبقا نتحاسب)) ولم أفهم ما يرمى إليه.. يبدو أنه أدرك دهشتى من غموض كلامه فقال ((الورقه دى فيها بيض العجل.. كل وانبسط وادع لى)) كان جهلى أشبه بجهل المهندس الذى يـُـجرى عملية جراحية لمريض ، أو الجراح الذى يـُـخطــّـط الرسم الهندسى لأى عقار.. استفسرتُ منه فقال ((بيض العجل بيقوى الواحد لما ينام مع مراته)) ثم شرح لى كيفية (تحمير بيض العجل بالسمنه البلدى) ولأنّ تلك الواقعة حدثتْ منذ حوالىْ أربعين سنة ، فإننى لا أستطيع تذكر فوائد (بيض العجل) وهل تلك الفوائد حقيقية أم هى ضمن الفلوكلور الشعبى ؟
كان (ع . س . ح) به عيب خطير وهو إدمان التأخير عن مواعيد العمل الرسمية ، وكذلك كثرة الغياب دون تقديم طلب إجازة.. فكان كثيرًا ما يتعرّض للحرمان من المكافآت والحوافز. فى تلك الفترة كنتُ أنا المسئول عن دفتر الحضور والانصراف ، فكنتُ كثيرًا ما أحاول (تغطية) موقف (ع . س . ح) فإذا حضر بعد الموعد الرسمى (ولم يلحظه أحد من جواسيس الإدارة) كنتُ أسمح له بالتوقيع وكأنه حضر فى الموعد الرسمى ، كما كنتُ المسئول عن إجازات الموظفين والعمال ، فكنتُ أحسب أيام غياب (ع . س . ح) إجازة عارضة مهما تعدّدتْ الأيام وتجاوزتْ الحد المسموح به قانونــًـا (سبعة أيام فى السنة) ولكن مدير الإدارة (بوشاية من أحد الجواسيس) طلب دفتر الحضور والإنصراف ، ورصد (بنفسه) عدد أيام غــــــــــــــياب (ع . س . ح) فكان الرقم 28 يومًا.. فقال لى : هىّ الأجازه العارضه 28 يوم فى السنه.. وحوّلنى للتحقيق أنا والعامل (ع . س . ح)
لا أعرف لماذا كنتُ أتعاطف مع العمال.. هل هى ظروفهم المعيشية وراتبهم الضئيل وقربى منهم والتعرف على مُـشكلاتهم العائلية ، أم تلك هى طبيعتى بغض النظر عن أية اعتبارات اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية. ورغم تعرضى للكثير من المشاكل مع مدير عام الإدارة ، بسبب (تسيبى) وأننى أنا المدير وليس هو- كما كان يقول لى - ورغم تحذيره لى بأنّ تصرفاتى مع العمال والموظفين وتساهلى معهم سوف تؤثر على مستقبلى الوظيفى إلخ ، رغم كل ذلك لم أستطع التخلص من ذلك التعاطف الطبيعى معهم ، و(تغطية) موقفهم فى الحضور والانصراف وفى الإجازات .
وفى يوم من الأيام حضر (ع . س . ح) مُـتأخرًا عن موعد الحضور بأكثر من ساعة.. ومن حـُـسن حظى لم أكن قد وقــّـعتُ باسمه فى خانة الحضور. ولما حضر طلبه المدير العام ، وإذا بالإدارة كلها تتجمّـع لتسمع شتائم المدير العام للعامل الذى تماسك أعصابه ولم يرد عليه.. فكانت دهشتى ، حيث تصوّرتُ أنّ (ابن المدبح) لن يسكت على تلك الإهانات.. وانتهى الموقف بتحويله إلى إدارة الشئون القانونية للتحقيق معه حول كثرة غيابه.
بعد انصراف الموظفين (وكنتُ آخر المُـنصرفين بطبيعة عملى) جاء (ع . س . ح) وجلس بجانبى وقال لى : عاوزك بكره تييجى بدرى.. سألته : ليه ؟ قال : لما تييجى ح تعرف.. حاولتُ أنْ أعرف سبب طلبه هذا فأصرّ على الرفض.
المُـعتاد أنْ يحضر العمال قبل الموظفين بساعة لتنظيف المكاتب.. والوحيد الذى كان يحضر مع الفراشين السيد مدير عام الإدارة ، فكان العمال والموظفون يسخرون قائلين ((أصل مراته طارداه من البيت)) أو ((أصله بيوزع اللبن على الزباين قبل ما ييجى الوزاره))
حضرتُ مُـبكرًا كما طلب منى (ع . س . ح) بعد أنْ تبادلنا تحية الصباح تركنى ودخل مكتب مدير عام الإدارة.. كان مكتبى فى مواجهة مكتب المدير العام.. وإذا بى أسمع صرخات المدير العام لمدة دقائق.. خرج (ع . س . ح) وجلس بجانبى.. سألته : إنتَ عملتْ إيه ؟ قال : ((رديتْ الإهانه.. إديته علقه عشان بعد كدا يتعلــّـم يعرف يمسك لسانه)) قلتُ له بس اللى إنت عملته يمكن يوديك للنيابه الإداريه.. قال ((مش مهم)) وبعد فترة قصيرة أضاف ((بس أنا مُــتأكــّـد إنه مش ح يبلــّـغ عنى ولا ح يحكى لحد علا اللى حصل له)) استغربتُ من كلامه فقال ((نمرة واحد ما فيش شهود .. نمرة اتنين ح ينكسف يقول فى البلاغ إنْ واحد فراش ضربه)) تركته يقوم بعمله وخرجتُ من الوزارة وجلستُ على مقهى قريب ، حتى موعد حضور الموظفين ، وحتى لا يُـلاحظ أحد وجودى أثناء ما حدث للسيد مدير عام الإدارة .
كانت المفاجأة أنّ ما توقــّـعه (ع . س . ح) هو ما حدث ، حيث أنّ السيد مدير عام الإدارة لم يتقـدّم بأى بلاغ.. بل إنه غادر الإدارة قبل وصول الموظفين.. وطلب منى إبلاغ رئيسه (وكيل الوزارة) أنّ لديه (ظرف عائلى) اضطره للإنصراف . أما المُـفاجأة الثانية فكانت أنّ مُـعاملته للعامل (ع . س . ح) تغيّرتْ تمامًـا ، فكان يقول لى إنّ (ع . س . ح) ظروفه صعبة.. وحاول أنْ تتساهل معه فى حكاية الحضور والانصراف.. وكانت المُـفاجأة الثالثة أنّ العامل ابن المدبح لم يستمرىء ولم يستغل (ذلك الكرم) المُـفاجىء من السيد مدير عام الإدارة ، وإنما كان يُـحاول الانضباط فى الحضور والإنصراف ، والإلتزام بالإجازات الرسمية فقط .
خرجتُ على المعاش قبل منه بعدة سنوات.. وكنتُ أزوره فى بيته فيأخذنى (بناءً على طلب منى) إلى (المدبح) والجلوس مع العمال ، والمشى فى شوارع ذلك الحى العتيق العريق.. وعندما كنا نسترجع (أيام الوزارة) كانت ضحكاتنا تشد انتباه كل من حولنا .
***



#طلعت_رضوان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إغواء يوسف بين الواقع والخرافة
- لماذا تشويه الحضارة المصرية ؟
- لماذا تشويه الأنبياء العبريين ؟ (2)
- لماذا شوّه اليهود أنبياءهم ؟
- لماذا انحاز الرب العبرى للرعاة ؟
- الخروج من جزيرة العرب إلى العالم الخارجى
- كيف تكون الدعوة للدين بالسلاح ؟
- توالى انتصارات جيش محمد (4)
- تثبيت أركان الدعوة المحمدية (3)
- كيف انتصرت الدعوة المحمدية ؟ (2)
- كيف انتشر الإسلام ؟
- الآخرة فى أساطير الشعوب والديانة العبرية
- جذور الصراع بين الرعاة والزراع
- الولع بالدمار فى الأساطير وفى الديانة العبرية
- جذور أسطورة الطوفان
- التكوين الكنعانى والتكوين التوراتى
- الأساطير بين الأديان وانتاج الشعوب
- الديانة العبرية والموقف من مصر
- المخابرات الأمريكية وصناعة الإسلاميين
- زهران وخميس والبقرى


المزيد.....




- فريق سيف الإسلام القذافي السياسي: نستغرب صمت السفارات الغربي ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف مواقع العدو وتحقق إصابات ...
- “العيال الفرحة مش سايعاهم” .. تردد قناة طيور الجنة الجديد بج ...
- الأوقاف الإسلامية في فلسطين: 219 مستوطنا اقتحموا المسجد الأق ...
- أول أيام -الفصح اليهودي-.. القدس ثكنة عسكرية ومستوطنون يقتحم ...
- رغم تملقها اللوبي اليهودي.. رئيسة جامعة كولومبيا مطالبة بالا ...
- مستوطنون يقتحمون باحات الأقصى بأول أيام عيد الفصح اليهودي
- مصادر فلسطينية: مستعمرون يقتحمون المسجد الأقصى في أول أيام ع ...
- ماذا نعرف عن كتيبة نيتسح يهودا العسكرية الإسرائيلية المُهددة ...
- تهريب بالأكياس.. محاولات محمومة لذبح -قربان الفصح- اليهودي ب ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - طلعت رضوان - بورتريه للعامل (ع . س . ح)