أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -29-















المزيد.....

حدث في قطار آخن -29-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5039 - 2016 / 1 / 9 - 02:17
المحور: الادب والفن
    


يقول نيتشه ما معناه: "في داخل كل رجل حقيقي يختفي طفل يريد أن يلعب."
سأموت قبل أن أصبح أباً... سأموت قبل أن يختفي في داخلي طفل يريد أن يلعب... سأموت قبل أن أصبح رجلاً حقيقياً... سأموت قبل أن أعثر على الرجل الحقيقي في مجتمعنا... سأموت قبل أن أعود للبحث عنه... يكفيني أنّ هناك في القرية من بحث عنه ووجده...


"أشعل الصبي فريد شمعة، دخل بها في عز ظهيرة يوم صيفي إلى بيت طيني مهجور في حارة شعبية مسكونة، فقط زقاق ضيق يفصل البيت عن خمارة الضيعة، هناك على إحدى درجات مدخل الخمارة جلس الصبي ضاهي يمج سيجارته ليخفف من حدة العرق الفلش الذي يشربه من شدة الوجع، رائحة العرق تفوح في الجوار، نظر باتجاه البيت المهجور، لمح الشاب فريد يهم بالدخول! صرخ عالياً: ماذا تفعل في هذا المكان أيها الفيلسوف!؟
رفع فريد نظره إلى مصدر الصوت، وضع سبابته على فمه راجياً محدّثه الهدوء، همس: أبحث عن الإنسان الحقيقي في هذا المجتمع! أرغب أن أتعرّف على معدن شعبي، أهلي وناسي، أرجو منك ألا تثير الشبهات حولي، سأحكي لك لاحقاً، انتظرني...
طلب ضاهي من خمارة الشيخ رويش بطحة عرق ثانية، وجلس ينتظر المعرفة. مرت ساعة من الزمن... فجأةً خرج فريد بوجه مغبر وشعر منكوش ... نهض ضاهي عن جلسته ملهوفاً، سأل: قل لي يا فيلسوف، ماذا وجدت؟ كيف وجدت شعبنا وناسنا؟
رد فريد على ابن قريته بصوت عميق: رأيت الشعب مسطحاً، يائساً كشبه منحرف في كتاب جبر، الشعب يكره ذاته! الشعب لا يرغب بالتطور! الناس لا يُعتمد عليها!
سأل ضاهي: وهل وجدت الإنسان الحقيقي؟
فريد: نعم، نعم لقد وجدته!
ضاهي: قل لي بسرعة، أرجوك، من هو الإنسان الحقيقي في هذا المجتمع؟
فريد: إنه أنتَ يا ضاهي!"


سأموت لأزور أرض الأموات التي لا أعرف عنها شيئاً، رغم أنني لم أتعرّف على أرض الأحياء بعد، سأموت ليكتبوا عني: "كان رجلاً حقيقياً، جمعتنا معه ذكريات طيبة نستطيع أن نحكي الكثير منها، نتذكر ساعات سعيدة وأحداث ممتعة أمضيناها معه وهو في وسطنا، في الأعياد والاحتفالات الصغيرة بمناسبات عائلية أوصداقية أو اجتماعية، حينئذ كان يملأ الكون بضحكته، بروحه الحلوة، ببريق عينيه وبصوته الذي مازال يصدح في هذا العالم الفسيح..."
هناك أيضاً ذكريات غريبة عنهم، لن يحكون عنها، إنها ذكرياته الحميمية مع الكوكايين والسجائر والنساء...


أنا جائع وحزين وخائف، لن أموت إذا جاءت الممرضة سابينه في الوقت المتبقي، لن أموت إذا أسعفتني برفقة الشرطية، قد يُغمى عليّ في الطريق إلى المستشفى لكني حتماً لن أموت، جسدي الرياضي سيقاوم، ذاكرتي ستمانع، أحلامي التي لم أحققها بعد ستناهض فكرة الموت الكوكاييني، سأعمل ما في وسعي لأهرب من هذا البيت وأبدأ الحياة من جديد، أمامي مسؤوليات كبيرة، لن أخون المحتاجين من حولي، سأبقى خائفاً مثل صديقي السلبي لكني لن أعود إلى موتي الذي جئت منه، ما يزال الوقت مبكراً ... فالشجاعة لا تعني عدم الخوف وإنما مجابهته والتغلب عليه! ... فقط أولئك الذين يمكن لهم أن يشعرون بالخوف لديهم القدرة أيضاً على إثبات الشجاعة... كما تفلسف الراهب البوذي دالاي لاما؟


"كان شاباً طيباً، وسيماً، مهذباً وذكياً، كان فقيراً من مدينة دمرتها الحرب، في طفولته ومراهقته ساعد أمه التي تبيع الخضار في السوق... أحبَ ابنة الجيران، تخرّج من جامعته، ذهب مع أمه الخضرجية إلى بيت حبيبته ليطلب يدها، رفض الأب رؤيتهما وطلب من زوجته تقليعهما!
جاء إلى ألمانيا للتخصص في مجال التوافق الكهرومغناطيسي، عمل يومياً أكثر من اثنتي عشر ساعة متواصلة. استطاع الوصول إلى فكرة جديدة في مجال بحثه، سجلها براءة اختراع. أنهى دراسة الدكتوراه بنجاح. حصل على عرض عمل جيد في شركة محترمة لها مصلحة بمتابعة فكرة اختراعه، رفض توقيع العقد، جهَّزَ حقيبته للعودة إلى وطنه بشهادة دكتوراه وبعض نقود...
سأله صديق: هل تخبرني عن سر رغبتك الغريبة في العودة السريعة إلى أحضان الوطن؟
أجابه حرفياً: حبلت أمي بي في ليلة ظلماء من شدة الخوف، عندما دخل أبي إليها سكراناً، ثم ولدتني ذكراً بدافع الخوف، دخلتُ إلى الروضة بسبب الخوف، إلى المدرسة الإبتدائية من الخوف، كنت من التلاميذ الأوائل بسبب الخوف، انتسبت إلى الشبيبة ولاحقاً الحزب بسبب الخوف، حصلت على معدل عال في البكالوريا نتيجة للخوف، درست الهندسة خوفاً، تفوقت في دراستها خوفاً، وافقت على توقيع عقد جائر مع الدولة للحصول على منحة للدراسات العليا بفعل الخوف، أتيت إلى ألمانيا بسبب الخوف، درست وبحثت في موضوع مهم بسبب الخوف، حضرت كل الاجتماعات الطلابية التي قررتها السفارة من شدة الخوف، كنت طيلة الوقت مهذباً مع موظفي الجامعة في الوطن وموظفي السفارة في ألمانيا بسبب الخوف، اقتصدت بالمصروف ووفرت بعض النقود بدافع الخوف، تفوقت في دفاعي عن إطروحة الدكتوراه خوفاً، لم أبع براءة الاختراع خوفاً، رفضت توقيع عقد عمل بسبب الخوف، حجزت مقعداً على الطائرة السورية حصراً بسبب الخوف، سأعود للالتحاق بعملي كما حددت لي الوزارة بسبب الخوف، سأخدم هناك العسكرية الإلزامية بسبب الخوف، وسأزور الاجتماعات البعثية كلها بسبب الخوف...
وأضاف: هل علمت الآن لماذا سأعود إلى موتي الذي جئت منه؟
أجابه الصديق : بسبب الخوف.
ما أن دخل حارته الشعبية حتى سمع صوتاً يشبه صوت أبيها، حبيبته التي لم تتزوج بعد، يقول: السلام عليكم دكتورنا الغالي! وكْ يا جماعة أعطوا الطريق كي تمر الجماعة! كي يمر حضرة الدكتور، دكتورنا وحبيبنا وتاج راسنا... تشرفنا فيك دكتور... تفضل زورنا دكتور!"



يستجمع قواه، يصرخ بأعلى ما أوتي من قوة: أنا خائف والله، أين أنتما؟ أين تركتماني؟ أين أنت يا سابينه؟
يخمد صوته، يبرد قلبه، نبضات قلبه تكاد لا تسمع، يموت قلبه، يسقط في بئر عميق، يلمح رجلاً أو رجالاً ثلاثة يعبرون من النافذة، يناولون الممرضة علب حقن وأدوية، يتكلمون مع الشرطية بلغة غير مفهومة، يعودون أدراجهم من النافذة، يلمح طرفاً من جسد الممرضة، يرى الشرطية تداعب مؤخرتها بضربات خفيفة من العصا السوداء، يتساءل بينما قلبه يذوب، هل هما في مختبر للأدوية؟ هل نحن في عيادة نسائية؟

تهاجمه صورٌ لأصدقاءٍ من الطفولة، يقع أرضاً، تصل المرأتان إليه، تسألانه ما بك يا أحمد؟
يفتح عينيه، يشير بيده المنهكة إلى قلبه، تتوسل عيناه المساعدة، يطلب إليهما بصوتٍ واهنٍ: اتصلا بالطبيب!
تنظر المرأتان لبعضهما، تتجاهلان ندائه الأخير، تغمز الممرضة للشرطية، يرفعانه من تحت إبطيه ويلقيان به على الأريكة، جسده يرتجف كعصفور ذبحه طفلٌ مشاكس بريشة من ريشه، تعود هينلوري بوعاء بلاستيكي أخضر اللون، ترفع سابينه قدميه تنزلهما برفق إلى الوعاء، الماء بارد، تبدأ بتدليكهما ينظر إليها شاكراً، يهمس بصعوبة: أرجوك أريد طبيب.
تُمسك هينلوري جهاز الهاتف تطلب رقماً تتكلم بلغةٍ غير مفهومة، تُدلِّك سابينه قدميه بلطف، تضغط عليهما برفق، تقول له بحنان: إنها تطلب الطبيب المناوب لأجلك.
يهمس: شكراً، أنا أثق بك رغم أني لا أعرفك، ليس لي إلا أن أثق بك!

تقف هينلوري خلف الأريكة، تحضن كتفيه بين يديها، تداعبهما بحنان، تغير موضعهما إلى منطقة الصدر تمسح صدره بحب، تقول له: لا تخف ستعود كما كنت، هكذا هي دائماً البدايات، كلنا مررنا من هنا.
يستعيد الجسد المنهك حرارته الضائعة رويداً رويداً، يستيقظ القلب من إغفاءته، تجفف سابينه قدميه، تصب هينلوري له فنجاناً كبيراً من الشاي البارد المر، تقول: اشرب يا أحمد.
يلتفت إلى مصدر الصوت، يهز رأسه موافقاً، يتناول الفنجان بيديه المتعبة، تساعده على تقريب الفنجان من شفتيه، يشرب شايه كأنه يشرب الماء.

- الشاي مرّ! يقول أحمد.
- يجب أن تشربه هكذا مراً وإلّا لن تَتَحسَّن حالتك. تقول هينلوري.

يبتسم في داخله بأسى، يخاطب نفسه: الآن وصلني الجواب على سؤالي الفضولي عن سر طناجر الشاي البارد في المطبخ، هكذا إذاً يستعملون الشاي البارد لمعالجة إصابات حرب الكوكايين والإِدْمان. سأشرب أيتها الحبيبتان، ليس لي إلّا أن أشرب، جسدي يعود من موته، أنهكتماه ثم أحييتماه، لكما تقديري وإعجابي، لم أعتقد أنّ الأمر بهذه البساطة! لذا تستحقان مني أنْ أشكركما.



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -28-
- حدث في قطار آخن -27-
- حدث في قطار آخن -26-
- حدث في قطار آخن -25-
- حدث في قطار آخن -24-
- حدث في قطار آخن -23-
- حدث في قطار آخن -22-
- حدث في قطار آخن -21-
- حدث في قطار آخن -20-
- حدث في قطار آخن -19-
- حدث في قطار آخن -18-
- حدث في قطار آخن -17-
- حدث في قطار آخن -16-
- حدث في قطار آخن -15-
- حدث في قطار آخن -14-
- حدث في قطار آخن -13-
- حدث في قطار آخن -12-
- حدث في قطار آخن -11-
- حدث في قطار آخن -10-
- حدث في قطار آخن -9-


المزيد.....




- وفاة المخرج ميشائيل فيرهوفن وساسة ألمانيا يشيدون بأعماله الف ...
- -الماتريكس 5-.. حكاية المصفوفة التي قلبت موازين سينما الخيال ...
- -باهبل مكة-.. سيرة مكة روائيا في حكايات عائلة السردار
- فنان خليجي شهير يتعرض لجلطة في الدماغ
- مقدّمة في فلسفة البلاغة عند العرب
- إعلام إسرائيلي: حماس منتصرة بمعركة الرواية وتحرك لمنع أوامر ...
- مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 مترجمة بجودة عالية فيديو لاروز ...
- الكشف عن المجلد الأول لـ-تاريخ روسيا-
- اللوحة -المفقودة- لغوستاف كليمت تباع بـ 30 مليون يورو
- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -29-