أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -28-















المزيد.....

حدث في قطار آخن -28-


علي دريوسي

الحوار المتمدن-العدد: 5036 - 2016 / 1 / 6 - 17:28
المحور: الادب والفن
    


سأقتلهما دون أن أبلغهما عن نيتي تلك، سأقتلهما بطريقة أرحم مما فعل الحفيد مع الجد، سأقتلهما وأتقدم بطلبٍ للجوء الإنساني كما فعل الحفيد في السويد، في حالتي هذه سأرفع طلباً للجوء في مقاطعة أخرى من ألمانيا...

"بسبب قطعة أرض صغيرة في سهل شريعة الغاب، في لحظة عهر سليمانيّ... أطلق الشبيح الأبله الرصاص على جده العجوز! حدث القتل وجهاً لوجه، زحف الجد المسكين حتى لامسَ قدمي حفيده، تمسّح بهما، نظرَ لوجه الحفيد القبيح نظرة استعطاف!... استمر الحفيد بإطلاق الرصاص عليه دون رأفة... مات العجوز وهو يمسك ببجامة حفيده الأهتر، كانت رغبته الأخيرة أن يسمع صوت العتابا القادم من الغاب، كم تمنى لو يسمعه لمرةٍ أخيرة!
في الصباح الباكر، ترّحم أهالي القرية على رأس الجد المعلق على سياج الأرض الشائك..."

هل أبلغ الحفيد المجرم ضحيته مسبقاً عن وقت موتها المفجِّع؟
ألا يستحق الحفيد تزيين عنقه بحبل المَشْنَقَة؟
هل أخطأ زميلي "رايمو" الألماني بترك زوجته حرّة؟
ألم ينبغي عليه قتلها في المطبخ؟

"كانَ شاباً لطيفاً رغم عذاباته اليومية مع سرطان مخ العظام، تخلّتْ عنه زوجته وبقي ودوداً، رفعت ضد مرضه دعوى طلاق، تفاقّمتْ حالته وبقي يعملُ أكثر من ثماني ساعاتٍ كل يوم، دافع عن أطروحة الدكتوراه في الجامعة التقنية بتقدير ممتاز وبقي متواضعاً مع زملائه، ظل رايمو كما عهده الزملاء وفياً لعمله ومقاوماً عنيداً لمرضه حتى الساعات الأخيرة، أمضى أسبوعه الأخير في المشفى الجامعي... يجلس الزملاء في المعهد وقت الفطور اليومي، يفتقدون حضوره ويتحاشون الحديث عنه، في اليوم الأخير، في الساعة الأخيرة، أخبرهم رئيس المعهد بأنّ عليهم الذهاب إلى المشفى مع باقة ورد..."

لا زيارة المريض في البيت ولا الإطمئنان عليه تلفونياً من الأشياء المألوفة، حتى من قبل أقرب الناس إليه! أما زيارته في المشفى فلا تحدث إلا نادراً، فقط حين يقترب من الوداع... حتى أن الأصدقاء والأقرباء يتحاشون الخوض بحالته الصحية... هذا ما يحدث على الأقل في ألمانيا، هذا ما لاحظته وعشته، لعلها تجربة فردية ولعلني مخطئ!

في الغربة ينتابني الإحساس أحياناً بأنّ أحد أصدقائي الشرقيين قد أَلَمَّتْ به وعكة صحية، لكني أتجنب السؤال عنه بشكل مباشر، ثقتي بقوته وقدرته على قرف رقبة الغربة، ومضاجعة آلام البعد عن وطنه حتى الشبع، واستعادة صحته من جديد كبيرة جداً.


أشعر بأنني أموت، لا تقلقوا، سأكتب لكم كل ما أفكر به قبل أن أودّعكم، لدي ما يكفي من الأقلام والعزيمة لأكتب عن كل ما حدث في قطار آخن، ذاكِرَةُ القَلَمِ لا تَموتُ، ما يَكْتُبُهُ القَلَمُ لا يَموتُ، هو اللِّسَانُ الثاني بعد اِنْتِهاء حَياة الْمَرْءِ، حياتي...
لن أندم على موتي بسبب جرعة كوكايين زائدة عن الحاجة، إذا بقيت وفياً لمبادئي لا أحتاج عندها للندم، ولن أضطر للاهتمام بأعدائي، لأنهم سيتساقطون مثل القراد ذات ثمانية أرجل والمشبعة بالدماء.

أعرف أنّ موتي قادم ولن أندم إلاّ على رغيف الْخُبْز المُغمَّس في مَرَقِ البندورة...

"في مرحلة المدرسة الابتدائية، في الصف الثالث تحديداً ولاحقاً في الصف الخامس الابتدائي، في الاستراحة-الفرصة الفاصلة بين حصتين دراسيتين في الساعة التاسعة صباحاً أو في الساعة الواحدة والنصف ظهراً، في ذلك الوقت كان يرافق صديقه أحياناً إلى منزلهم الكائن في الطابق الثاني بجانب مبنى البلدية في تلك الحارة الغامضة... الأم تطبخ كالعادة في طنجرة ألمنيوم كبيرة على وابور الكاز كمية من البندورة... ما أن يصلا حتى تُغطّس والدته رغيف خبز عميقاً في الطنجرة حتى التَبَلْبُل، التَعَرّق والتعب! تقسمه قسمين وتُناول كل منهما حصته..."

أعرف أنّني سأموت اليوم في بيتٍ غريب جدرانه من الكوكايين ولن أحن إلى أي شيء بعد موتي، طالما أنّ ما حننت إليه مكثفاً في حياتي القصيرة لم يتحقق!

رَائِحَة العطر الخفيف لامرأةٍ رشيقة في يَوم ربيعي في مدينة ساحلية...
رَائِحَة البطيخ الأحمر في يَومٍ صيفي على شاطئ البحر...
رَائِحَة الحقل المَحْصود تواً في يَومٍ خريفي في ضيعة جبلية...
رَائِحَة الزيتون الأخضر والبيض المقلي في وقت الفطور في يَومٍ شتوي...
رَائِحَة الشِوالات -أم قلم أحمر- المعبَّأة بحَبَّات الزيتون والمُكدَّسة في باحة الدار قبل ترحيلها إلى المعصرة في مواسم الزيتون...
رَائِحَة الذاكرة...
رَائِحَة زهر الليمون والسيجارة الأولى...
رَائِحَة الصبّار والتوت على الشجر...
رَائِحَة الزِبْل المستخدم في تسميد الأرض وإصلاح أشجار الزيتون...
رَائِحَة الشمس والسماء...
رَائِحَة التراب بعد أول يوم ماطر...
رَائِحَة دروس الحساب والقراءة...
رَائِحَة فستان أمي وخيزرانة أبي والحب الأول...
رَائِحَة الجدوقية...
رَائِحَة الثورة والحرب...
هي الرَوَائح الطَيِّبَة التي ما زلت أحن إليها قبل موتي...
هل شَمَمْتها سابينه؟
هل شَمَمْتها هنيلوري؟


أشعر بالموت، قلبي لا يسعفني على البقاء، سأموت لوحدي، بموتي تموت ذكرياتي... يؤسفني فقط أني لم أفلح بغربلتها بعد، بعضها ما زال يعصف بروحي وعقلي، يُوجع جسدي…

"ما زالت لديه ذكريات عنيفة، غنية وصاعقة كإعصار! تستحق الترتيب، الاهتمام وإعطاؤها الشكل التعبيري الأسمى... ما زالت لديه ذكريات أخرى فارغة وهزيلة كأحاديث البرجوازية الصغيرة التافهة في بعض شوارع مدن الشرق وأحيائها وأبوابها، شوارع بغداد والحمراء وأحياء الأمريكان والإنكليز والفرنسيين مثلاً..."

لم أعد أقوى على الكلام، سأغادر الحياة بصمت، لو يسمح الله لي بالبقاء سأعتذر منه وأعده ألّا أكرِّر ما اقترفت اليوم من ذنوبٍ، سأمتنع عن تناول الخمر والسجائر والكوكايين، سأمتنع عن مغازلة الغريبات، سأواظب على زيارة بيوته، لكن مانفع الحياة دون خمر وسجائر ونساء وأصدقاء؟ دعني أموت أيها الله الجميل، لن أعتذر منك، لن أعدك بشيء... ألا يكفيك ما خسرت من أصدقاء؟

"لم تُمسك أصابعه أبداً ورق الكوتشينة/الشدّة، لم يُمارس يوماً لعبة كرة القدم! لم يستطع حتى بصرياً متابعة اللعبتين... بل يشعر بالاختناق عند سماع صوت المعلق الرياضي وضجيج اللاعبين في اللعبتين... لهذا كله، خسر الكثير من مشاريع الأصدقاء والمعارف في القرية، في معسكرات الطلائع، في معسكرات الفتوة، في التدريب العسكري الجامعي ومعسكراته وحتى أثناء خدمة العلم والوطن..."

في الغُرْبَة تخيفك أفواج الْحَمَامِ الرمادي، ترسو على القرميد البارد، على هياكل محطات القطارات القديمة، خفقانها يترك في الحلق غُصَّة، هَدِيلُها يملأ الفضاء غموضاً، لا يُطاق صباحاً، مثل السّعال الدّيكيّ! شهقاته تشبه شهقات الدِّيك، قرقفاته وخربشاته على أفاريزِ وبراويزِ النوافذ لا تقل وحْشِيَّة عن قرقعة أَجْرَاس الكَنَائِس في عطل نهاية الأسبوع.

في الغُرْبَة تخيفك اِمرأة لم تأتِ إلى موعدها معك في مركز قطع التذاكر في محطة قطار، اِمرأة لم تبادلك رقم الهاتف ولا عنوانها الإلكتروني، تقف مساءً في محطة قطار، تنظر إلى ساعة الموبايل، تمد رأسك من وراء كتف امرأة تبحلق في قائمة مواعيد الوصول، لقد تأخرت أكثر من نصف ساعة، القطار اللاحق سيصل بعد ساعة، تكتب لها رسالة سريعة، الرسالة لا تصلها، تحاول ثانية، الرسالة لا تطير إليها، تكتشف أن الرقم وهم، تغادر المحطة، تبحث بعيونك عن بديل للوهم، وتبقى المرأة التي تحلم بها وردة اوركيدا، يسافر إليها القلب، عبر الذكريات ونبع الحنين.

لماذا انتظرها في محطة القطار؟ ما الذي يدفعني كي أنتظر قطارها الثاني أو الثالث؟ ما الذي يجبرني أن أكون هنا؟ لماذا لا أعود؟ متى أعود؟ إلى أين سأعود؟

أرضُ طفولتي، ليستْ في مكان ما...
إنها فقطْ في داخلي،
لي وحدي...
لم يأخذها أحد مني.
وحده الطريق الموصل إليها محفوف بالمصاعب!
الشَّمْسُ لا تشرقُ هنا
إنّها أيضاً لا تَغرُبُ
الأَرْضُ ليستْ واضحةَ المَعالِمِ
لا ضَوْء للقَمَرِ هنا
هذا هو الحال
أنا أَعلم، وأنتَ تعلم
وبعدْ!
أنا لم أقل هذا.
أنا لن أعود!



#علي_دريوسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حدث في قطار آخن -27-
- حدث في قطار آخن -26-
- حدث في قطار آخن -25-
- حدث في قطار آخن -24-
- حدث في قطار آخن -23-
- حدث في قطار آخن -22-
- حدث في قطار آخن -21-
- حدث في قطار آخن -20-
- حدث في قطار آخن -19-
- حدث في قطار آخن -18-
- حدث في قطار آخن -17-
- حدث في قطار آخن -16-
- حدث في قطار آخن -15-
- حدث في قطار آخن -14-
- حدث في قطار آخن -13-
- حدث في قطار آخن -12-
- حدث في قطار آخن -11-
- حدث في قطار آخن -10-
- حدث في قطار آخن -9-
- حدث في قطار آخن -8-


المزيد.....




- هتستمتع بمسلسلات و أفلام و برامج هتخليك تنبسط من أول ما تشوف ...
- وفاة الفنان المصري المعروف صلاح السعدني عن عمر ناهز 81 عاما ...
- تعدد الروايات حول ما حدث في أصفهان
- انطلاق الدورة الـ38 لمعرض تونس الدولي للكتاب
- الثقافة الفلسطينية: 32 مؤسسة ثقافية تضررت جزئيا أو كليا في ح ...
- في وداع صلاح السعدني.. فنانون ينعون عمدة الدراما المصرية
- وفاة -عمدة الدراما المصرية- الممثل صلاح السعدني عن عمر ناهز ...
- موسكو.. افتتاح معرض عن العملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا
- فنان مصري يكشف سبب وفاة صلاح السعدني ولحظاته الأخيرة
- بنتُ السراب


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - علي دريوسي - حدث في قطار آخن -28-