أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد لفته محل - نقد نقد المجتمع العراقي















المزيد.....


نقد نقد المجتمع العراقي


محمد لفته محل

الحوار المتمدن-العدد: 5023 - 2015 / 12 / 24 - 19:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


المجتمع العراقي يحتاج إلى نهضة شاملة معرفية واجتماعية واقتصادية حتى يخرج من تخلفه وبؤسه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الذي تراكم عبر السنوات العثمانية والملكية والجمهورية انتهاءا بالدكتاتورية الصدامية والحكم الطائفي الذي جاء به الاحتلال، وهذه مسلمات يتفق عليها كثير من المثقفين الذين شرعوا في مراجعة نقدية شاملة لقيمنا وتصوراتنا وبنانا الاجتماعية، وهذا النقد على أهميته يرتكب بعض الأخطاء التي يجب التنويه عليها، والمقال هذا يدخل في مهمة ما تسميه الأدبيات الغربية نقد النقد، وهو نقد اجتماعي بالأساس لا يتعكز بالفلسفة والمثاليات.
كثير من المثقفين يضع العقل في منطقة ميتافيزيقية كأنه إله متعالي على الواقع بلا ذاكرة ولا موروث ويستطيع النظر بحياد وبرود إلى الظروف المحيطة به ويتعامل معها بموضوعية بدون أدنى انفعال أو تأثر أو تفاعل، وهو يستطيع أن يغير الفرد من الجهل إلى العلم ومن التخلف إلى التقدم ومن الخطأ إلى الصواب بمجرد التفكير والتعلم والمعرفة، بضغطة زر منه كأنه العصا السحرية، هذا ما يصوره لنا من صورة براقة مؤلهة للعقل كبديل عن الدين كما يقول البعض وهو في حقيقته ما هو إلا نقل الالوهة من الدين إلى العقل لتبقى المشكلة ذاتها وإن تغيرت المسميات.
إن العقل ليس كائنا مستقلا عن البدن والواقع والتاريخ والمجتمع بل هو نتاج لهذه الحواضن كلها وان كان يستطيع نقدها، فهي التي تصنع طريقة تفكيره لذلك وجدت فلسفة صينية وفلسفة هندية وفلسفة عربية وفلسفة أوربية الخ وتغيرت القيم من مجتمع لمجتمع رغم أن العقل متماثل فسيولوجيا، وهذا بفعل تأثير الثقافة الجمعية على العقل، ولو ترك العقل لوحده بدون تأثيرات خارجية لما أبدع أي شيء يذكر، فالأقوام البدائية لم تنتج عبقريا واحد على مدى التاريخ بل كان إبداعه كإنتاج الأدوات بدافع الضرورة العملية، ولولا الاتصال الحضاري وتلاقح الثقافات لما أبدع العقل أي شيء ولبقي خاضع للموروث، ولبقيت المجتمعات ساكنة على حالها، وحتى في الاتصال الحضاري بين الأمم يبقى العقل محافظ تجاه الغريب والأجنبي ويتأثر ببطء وأحيانا لاشعوريا، هذا عدا التأثير النفسي للرغبات انفعاليا على أحكامه كما في حالات الحب والإعجاب والحسد والغيرة والكره حين يصدر أحكاما مبالغة وعاطفية، وكذلك تأثير المصالح التي تجعل العقل يبتكر الحيل والتبريرات التي بموجبها يسوغ لنفسه الخطأ والممنوع والمحظور، وكما يقول (سيغموند فرويد) (فالبرهان لم يقم قط لا على أن العقل البشري تمتع في يوم من الأيام بقدرة خاصة على تمييز الحقيقة ولا على ان الفكر البشري نزع ذات يوم بالتخصيص إلى القبول بالحقيقة. إنما نعلم، على العكس، ان الذهن البشري يضيع ويتيه بسهولة فائقة بغير ما شعور منا، واننا لنصدق بسرعة كل ما يداهن رغباتنا ويدغدغ أوهامنا من دون أن نكترث للحقيقة ونعبأ بها)(1) ويقول عالم الاجتماع (علي الوردي) (إن نمط التفكير نفسه يخضع للعوامل النفسية والاجتماعية المحيطة به. إن نمط التفكير، بعبارة أخرى، هو أحدى الصفات التي تتألف منها الشخصية، وهو إذن مثلها صنيعة الظروف المحيطة به.)(إن الإنسان حين يفكر إنما يجري في تفكيره على نمط ما أوحى إليه المجتمع الذي نشأ وعاش فيه. فإذا وجدناه أحيانا يخالف مجتمعه في بعض آرائه، فمرجع ذلك إلى تأثير عوامل جاءت إليه من مجتمع آخر، عن طريق السفر أو القراءة أو السماع أو غيره. أما الإنسان المحصور في نطاق مجتمعه الضيق، وهو لا يعرف غيره، فليس من الممكن أن يخالف مجتمعه في التفكير إلا نادرا.)(2) (أن أصحاب المنهج "العقلاني" اعتادوا أن يعيشوا بتفكيرهم الاجتماعي في أبراج عاجية، فإذا أتيح لهم أن يمروا بالأزقة والأسواق وخالطوا العامة نظروا إليهم نظرة استعلاء وشموخ وأخذوا يشمئزون مما يجدونه بينهم من عادات "سخيفة" أو عقائد "باطلة". أنهم يظنون أن العامة إنما صاروا كذلك لجهلهم وسوء تفكيرهم وهم قادرون إذن أن يصلحوا أنفسهم إذا استعملوا عقولهم وفكروا تفكيرا سليما.)(فالمجتمع في نظر تلك الفلسفة ليس سوى مجموعة من الأفراد، وكل فرد له "عقل" يرشده إلى الطريق الرشاد أو الضلال. ومعنى هذا أن المشاكل الاجتماعية هي مشاكل "عقلية" بالدرجة الأولى، فإذا صلحت عقول الأفراد صلحت أخلاقهم واستقام نظام المجتمع بها فلا مشاكل فيه ولا هم يحزنون!)(3).(خلاصة القول إننا حين نرى الناس منغمسين في عادات "سخيفة" أو عقائد "باطلة" لا يكفي في إصلاحهم أن ندعوهم إلى التفكير السليم. فهم أذا فكروا لا يستطيعون أن يتوصلوا بتفكيرهم إلى غير ما اعتادوا عليه، وهم في الوقت ذاته يعتقدون اعتقادا جازما بأن تفكيرهم هذا سليم جدا وأننا نحن أصحاب التفكير السقيم.
يحسب الإنسان عادة أنه حر في تفكيره، بينما هو في الواقع مقيد فيه إلى حد كبير. انه يقع تحت تأثير عوامل شتى تقيد من حرية تفكيره ولكنه لا يشعر بها في كثير من الأحيان إذ هي كامنة في أعماق "اللاشعور" منه، وهو قد يغضب حين ينبهه أحد إليها.)(4) (الإنسان لا يفكر بعقله المجرد، بل هو يفكر بعقل مجتمعه. فهو ينظر في الأمور، ويميز بين الحسن والقبيح منها، حسب ما يوحي به المجتمع إليه. إن تفكيره يجري في نطاق القوالب والخطوط التي صنعها المجتمع له. وإذا جاءه أحد يحاول إرشاده إلى تفكير آخر، ظن انه جاء ليدله على طريق الخطأ أو الظلال.) (لا ننكر وجود أفراد خرجوا على قيم مجتمعهم وإطاره الفكري. وهذا أمر يكثر حدوثه في المجتمعات "المفتوحة" التي تتصارع فيها الأفكار وتلتقي فيها الاتجاهات المختلفة. أما المجتمعات "المغلقة" التي تعيش في عزلة نسبية، وتسيطر عليها ثقافة اجتماعية موحدة، فمن الصعب على الإنسان أن يفكر أو يسلك خلاف ما اعتاد عليه ونشأ فيه.)(5)(الإنسان هو نتاج ظروفه الاجتماعية أكثر مما هو نتاج نسبه أو وراثته الطبيعية، فإذا نشأ الإنسان في بيئة، تسلط عليه ضغط اجتماعي، أو "قسر اجتماعي" على حد تعبير دركهايم، وصار يؤثر على تكوين تفكيره وعاداته من حيث يشعر أو لا يشعر. والإنسان لا يستطيع أن يتخلص من تأثير ذلك الضغط الاجتماعي عليه مهما حاول.)(6). ويستخلص الوردي أن تغيير ظروف الإنسان يؤدي إلى تغيير أفكاره وسلوكه وكما يقول (ان من يريد اصلاح عقائد الناس ينبغي أن يصلح في الوقت نفسه احوالهم المعاشية وظروفهم الاجتماعية والنفسية. فالعقائد انما نشأت نتيجة لتلك الاحوال والظروف. وهي لم تنشأ نتيجة المنطق والتفكير المجرد)(7) عذرا كوني أطلت الاقتباس لأني أردت التوضيح أن مثقفي الأمس هم مثقفي اليوم لازالوا بذات العقلية، ولا زالوا محتاجين لنقد الوردي ذاته.
كثير من التجمعات الثقافية عن الواقع العراقي ترفع شعار (العقل أو العقلانية) كمبدأ لها في مشروعها التوعوي والنهضوي، حتى بات هذا المبدأ من المسلمات الغير مشكوك بها، فالنناقش هذه الأطروحة التي سماعها يوحي بأن الشعب العراقي ليس عاقلا أو بلا تفكير، فهل صحيح هذا القول؟ ترى ماذا نحكم على الفاسدين من أصحاب الشهادات العليا سواء كانوا أساتذة جامعيين مرتشين أو صحفيون يكتبون لخدمة النظام، وماذا نسمي المثقف الطائفي؟ ماذا نحكم على رجل الدين المسلح بالمنطق الأرسطي وفن الخطابة ويستطيع التأثير بالمئات، بينما المثقف لا يستطيع التأثير بخمسة أفراد؟ هل هم أغبياء ويحتاجون للعقل؟ وهل صحيح أن المواطن بلا تفكير وهو ينظم معيشته ودخله مساويا للمثقف عيشة ورفاهية إن لم يكن أفضل منه كما في غالب الأحوال؟ وفي متوسط الأحوال صاحب شهادة جامعية مساوية للمثقف؟ بماذا ستنتهي الإجابة على هذه الأسئلة؟ ستخلص إلى أن المثقف هو الغبي وليس العامة! لكن كيف حدث ذلك؟ هل يعقل هذا؟ الجواب لان المقدمة كانت خاطئة التي انبنت على العقل والعقلانية. يقول هادي العلوي (ولعل أهل العلم والعقل عندما تتسع عليهم المعرفة بالحقائق ينتابهم شعور بالاشمئزاز من جهل العامة فيتمايزوا عنها. وكثيرا ما تصبح كلمة عامي صفة مثيرة للاستهجان لما يقترن بها من الجهل. وهم لا يفرقون بين الجهل والأمية فالعوام أميون أي لا يحسنون القراءة والكتابة لكنهم قد لا يكونوا جهلة بالضرورة لأنهم يزاولون مهناً وصناعات تحتاج إلى الفكر والمهارة ومن يملك الفكر والمهارة لا يسمى جاهلاً وإنما يسمى أمياً إذا كان لا يقرأ ولا يكتب. والعوام أيضا يشتملون على وعي اجتماعي طبقي وسياسي) وهي ليست مصدر إزعاج بل هم في الحقيقة من مصادر الوعي(8).
إن مشكلتنا الأساسية هي أن واقعنا الحاضر السياسي والاقتصادي لم يقدم لنا شيئا ولم يشبع حاجاتنا وحقوقنا الاساسية، فلذلك اعتمدنا على ذاكرتنا التاريخية الدينية والقبلية كعزاء بديل عن الحاضر البائس الذي يرسف بالاستبداد والحروب والجوع والإذلال والانتهاكات، وتغيير هذا الوضع هو نقطة البدء، لان أعطاء الحقوق وفرص العيش والعمل والرفاهية كفيل بإحداث تغيير ثقافي في البنية المعرفية الجمعية العراقية بحيث لا يعود الأسلاف هم موردنا بدل الحاضر.
لقد باتت فرضية (قلة الوعي) فرضية بائسة وفاشلة لا تصلح لتفسير أي شيء بينما نحن استخدمناها لتفسير كل شيء، فالطائفية قلة وعي، والفساد قلة وعي، والدين قلة وعي وهكذا دواليك لينتهي قائلها هو ذاته قليل الوعي، وهي تفسير سهل إطلاقه وتبدوا كبديهية لا تحتاج لمراجعة، وهذا سبب فشلها، ترى ما هو المقصود بالوعي هل التفكير أم التعليم أم الثقافة؟ وما أسباب قلة الوعي (هذا المصطلح الغامض) وإذا كان الوعي هو وعي الأشياء وإدراكها فهذا نشاط فيزيولوجي يمارسه كل دماغ سليم، عندها سيكون معنى فرضية قلة الوعي أن هناك خلل فسلجي في أدمغة الناس! إذن يجب أن نتخلى عن هذه الفرضية ونبحث عن فرضيات أخرى تفسر الظواهر الاجتماعية السلبية. غالبا ما يتخذ المثقف العراقي موقفا نقديا متعاليا من الظاهرة أو الموضوع المنقود دون أن يحلل الظاهرة أو الموضوع من الداخل ويفهم مفاعيله ومحركاته، وهو يكتفي بالنقد الخارجي الذي ينتهي بتسخيفه دون ان يكلف نفسه سبب عجز هذا النقد عن تغيير الظاهرة أو الموضوع وبقاء ديمومته، ويكتفي بعبارات نمطية مثل (قلة الوعي، الجهل، الحاجة) مكتفيا باللقاء الكرة في ملعب الناس وانتظار المبادرة منهم! فيستقيل المثقف من مسؤوليته تجاه المجتمع، عندها يغدوا كل شيء عدا كونه مثقف. النقد لاشك مهم لكن يجب أن يرافق النقد "التحليل والتفسير" حتى يكون نقدنا من داخل الظاهرة وليس من خارجها، أما النقد من خارج الظاهرة قبل تحليلها من الداخل يوقعنا بأخطاء نقدية جسيمة، وهذا الشيء واضح في نقدنا للدين الذي نكتفي بنقده من الخارج دون التعمق بماهية "المقدس" الذي هو مفتاح الدين. إن مخالطة الناس كتاب يجب أن يقرأه كل مثقف حتى لا ينعزل في أبراج عاجية ومواقف وتصورات مثالية فانزل أيها المثقف من برجك واخرج من نرجسيتك وتواضع لتؤدي رسالتك.
إن الذين يتهمون الشعب العراقي بالجهل وعدم العقلانية لكونه مثلا شعب طائفي لا يعترف بالآخر وغير متسامح الخ ترى من أنتج الطائفية بالكتب وسوقها على المنابر والإعلام وأسس لها أحزاب حكمت سياسيا وخيرت المواطن بين القبول بإيديولوجيتها أو العزل؟ أليست النخبة المثقفة المتواطئة هي من قامت بهذا التأسيس الفقهي والتاريخي والإعلامي الضخم؟ أم أن العراقي هو من قام بتأليف الكتب الفقهية والتاريخية وفتح القنوات فضائية؟ إن المواطن ليس مشغولا بالفكر المجرد بل بالفكر العملي لكي يعيش ويؤمن مستقبله، والفكر المجرد من إنتاج النخبة عموما، فلماذا يتهم الشعب بالجهل ويبرئ النخبة دائما؟ وماذا تريد من شعب فرض عليه حكم سياسي مذهبي وإمبراطوريتان مذهبيتان مجاورة احتلته مرات، وصراع تاريخي مذهبي على أرضه؟ ماذا تريدون من هذا المواطن المسلوب الإرادة أن يفعل حتى لا تتهموه بالجهل والغباء؟ طبعا هو مطالب بالتغيير وليس شتمه أو اتهامه بالجهل، ونقطة البدء كما قلت بتغيير ظروفه المعيشية وتحسين فرصه بالعمل وإعطائه حقوقه المدنية والإنسانية عندها سنطالبه بالتغيير لأننا هيئنا الوضع له.
من ضمن الاتهامات التي الصقت بالشعب العراقي وهي وصفه بالجبن! لكونه لم يثور على أوضاعه المتردية مثل تونس ومصر، وأريد أن أرد على هذا الادعاء أن عدم ثورة الشعب العراقي ضد السلطة الطائفية ليس جبنا بل لأنه منقسم اجتماعيا والسلطة صعدت إلى الحكم من خلال هذا الانقسام الطائفي القومي ذاته، ولكون القمع والتعسف السياسي، والانغلاق والعزلة عن المحيط العربي والعالمي والحصار الاقتصادي أدى لتخلف مجتمعنا عن المجتمع المدني ووسائل الضغط السلمي كالاحتجاجات والمظاهرات والإضرابات والعصيانات المدنية، ثانيا أي جبن هذا الذي لا يمنع المواطن العراقي برغم التفجيرات والاغتيالات والاعتقالات من الذهاب يوميا لعمله ووظيفته، ويخرج عصرا للمقهى أو لمنتزه أو زيارة؟ ألا يجدر بالجبان أن لا يفعل كل هذه الأشياء خوفا على حياته؟ وأخيرا وهو الأهم أن صفة الخوف تصح على الأفراد وليس على الجماعة فهي إذا خافت خاف الفرد، وعليه يجب أن يُرد على كل من يصف شعبنا بالجبان ويسكته، وهذا الدفاع ليس من مبدأ (انصر أخاك)، لكن من منطلق تشخيص حقيقي فيه نقر أن مجتمعنا متخلف اجتماعيا وهو سبب انقسامنا وتعصبنا وانغلاقنا.
بعد هذا النقد للنقد المثالي للمجتمع العراقي ترى ما هو النقد الصحيح البديل للنقد المثالي؟ هنا ساطرح النقد الاجتماعي الذي طرحه الوردي والذي سأكمله إلى حيث انتهى بحكم التغيرات التي مر بها المجتمع من زمن الوردي إلى الآن، أن مشكلة العراقي ليست في أفكاره بل في سلوكياته وتصوراته الموروثة التي نتجت عن تراكمات تاريخية سياسية واقتصادية واجتماعية والنقد يجب تحديدها ثم طرح الحلول. فالعراقي يتكلم بالمثاليات الأخلاقية ويعرف أنها ايجابية ويدرك الأخطاء ولا يجهلها، إلا انه بالواقع تحكمه مفاعيل سلوكية وتصورات موروثة لاشعورية تجعله يناقض أفكاره دون علمه، وهذه السلوكيات والتصورات الموروثة يمكن إجمالها كما يلي:
1_التسلط: اعتبار السلطة هي التسلط بسبب تبادل الأدوار الأبوي بين السلطة والعائلة في مجتمع أبوي حاضن لهما، لان الخوف والعنف هي أفضل وسيلة لتقويم الناس مثلما يجب تربية الطفل بالأسرة بالضرب، يجب ضبط الناس بنفس الطريقة بالحكم، لان الشعب العراقي لا يأتي إلا بالخوف لأننا شعب جبان كما نعتقد، والقضاء على الإرهاب يكون بالإعدام بالشوارع، وهكذا يصبح العنف المتدرج من التسلط جزء من الشخصية العراقية. وكثير يعتقد أن الديمقراطية خربت العراق والحل هو حل البرلمان والعودة للقائد القوي السبع، وهذا ذاته ما يجعل المجتمع العراقي ينتج الاستبداد والتأييد الجماهيري ل(صدام حسين) ول(نوري المالكي) خير دليل على ذلك، وطبعا التسلط يقود إلى الرضوخ لمن أعلى منه، وليس له إلا التملق والتزلف لاسترضاء السلطة وكسب مصالحه منها، فتراه اتكاليا رجائيا في خطابه مع السلطة (يرجى الموافقة على ..) كما يقول (حسين العادلي) يريد منها الوظيفة والخدمات والأمن دون أن يكلف نفسه بالمساهمة في تحقيق هذه المنجزات التي بالعكس يعمل على عرقلتها كما في النقطة الثالثة. فيعمم هذا الرضوخ على القدر والنصيب والقسمة.
2_قدرية الحقوق: القبول بكل شيء حتى الظلم والفقر والمرض والشكر لله على كل حال، ويقارن نفسه بالأسوأ وليس الأحسن، واعتبار (الحق) (منّة) يتفضل بها الله أو الحاكم عليه، فيستكين وينتظر من السلطة أن تتكرم عليه بإعطائه حقوقه، وتعبر هذه القناعة السلبية أيضا بالشكوى والحزن بالفن، والتشائم من المستقبل (اليوم أحسن من باجر) وهذا بسبب الخلط بين الحقوق الدنيوية وقسمة الله، فالعراقي غالباً ما يشكر الظلم والحرمان اعتقاداً منه أنه قسمة الرب، في حين أنه حق دنيوي سلبه منه النظام الحاكم، فحين تقصر الحكومة بحقه بالعلاج أو الأمن أو التموين أو الوظيفة يفسر ذلك إما عقاب أو اختبار من الله له بدل الاحتجاج والمطالبة بحقه.
3_عدم احترام القانون: انتهاكه بالرشوة بالاختلاس بالسرقة، وضرب الطابور والإشارة الضوئية، التعدي على الممتلكات العامة، ألقاء النفايات بالأماكن العامة أو التدخين بها، التجاوز على أعمدة الكهرباء وأنابيب الماء المخصصة للمناطق الأخرى وهدر الماء والكهرباء والتهرب من دفع فواتيرها والتهرب من دفع الضرائب، الضوضاء في الأماكن العامة كصفارات السيارات أو تشغيل المسجل بدواعي دينية الخ إطلاق العيارات النارية بالهواء الخ.
4_عدم احترام الإنسان: الفضول أو التدخل بخصوصيات الآخرين أو التشهير بها، السخرية من معتقداتهم وآراءهم إن اختلفت معنا، وإباحة قتل الإنسان بالثأر أو من أجل الشرف، واحتقار المرأة والطفل والغريب والضعيف.
5_التقوقع بالأصل: (نسب، أسرة، منطقة، محافظة، ولاية) وتوريثه لصفات الأصل الأبدية إلى الخلف، وكما يقال (العرق دساس) فيحكم على كل أفراد العشيرة الفلانية على أساس أصلها (غدارة، كريمة، بخيلة، شجاعة، متهورة الخ) لذلك فإن أي اعتداء من أفراد هذا الأصل يكون كلهم مسؤولون عن هذا الاعتداء ويصبحون كلهم مستهدفين بالثار!. وكل من خارج أصلنا فهو غريب عندها يكون تقسيم الناس إلى أقرباء وغرباء على أساس هذا الأصل، سواء عشائريا أو طائفيا أو مناطقيا، فيسهل بث التفرقة والاقتتال والتعصب، ولا يعود وجود للمواطنة والوطنية، وأي شيء يحدث فليس لنا علاقة به (احنا شعلينه، او يا هو مالتنا)، وهو ما يجعلنا نتشبث بالقديم والارتياب بكل جديد.
6_النرجسية الفردية والجماعية: العراقي يعتبر نفسه أفضل من غيره من أقرانه أو الغرباء ويبالغ بصفاته ومواقفه ويحب المدح والإطراء ويدعي لنفسه الشجاعة والمروئة والغلبة، ولا يحب الاستماع إلا لنفسه ويكره كل آخر يمدح نفسه ويبالغ بها، وفي الحوار يتكلم أكثر مما يسمع ويقاطع الآخر قبل أكمال فكرته، ولا سبيل أمام الآخر أما يقتنع برأيه أو يتهمه بالغباء والظلال والبدعة لان نرجسيته تمنعه من احترام الآخرين والشك بقيمته، ولهذا يفسر كل المواقف المضادة بالمؤامرة والدسائس والحسد والغيرة. فلا يعترف بالخطأ واعتباره جهل وعيب وقلة عقل، وهذا ما يقوده إلى العناد في مواقفه وآراءه، ويمهد لاستبداده، وعدم تعوده على ثقافة الاعتذار التي يعتبرها ضعف، ويلقي كل أخطائه (إن وقعت) إلى الخارج كالسحر والقدر والحسد والحظ، لأنه من اطهر واشرف وأشجع أصل فهو من الطائفية الناجية والعرق النبيل والدين الحق ومن خير أمة وأقدس ارض الخ.
7_الذرائعية في القيم: اعتبار الغلبة هي معيار القيم وغايتها حتى لو تعارضت مع الخير، فتراه يؤيد الشجاعة والجسارة والحيلة لأنها قيم قوة تؤدي إلى الفوز، وهي نتاج قيم البداوة، فهو ينظر إليها على أساس قيمتها العملية النفعية الشخصية، فترى العراقي يغير انتمائه الحزبي بحسب توجهات السلطة فيغير نمط سلوكه من ديني إلى علماني أو قومي إذا كان مستفيدا منها طبعا. ثم يقوم بنقل هذه النفعية إلى الدين الذي يختصره بالعبادة لأنها تزيد حسناته وتضمن خلاصه الأخروي، وتحسن وضعه المعاشي والحياتي (التوفيق الدنيوي) ولأنها تحسن صورته الاجتماعية كمؤمن مصلي، وهو ما يسمى بالأدبيات القديمة (عبادة التجار). أما المعاملات فيلتزم بها بحسب ما تدر عليه من منفعة أو سمعة هو بسبب عدم احترامنا للإنسان كما بينت.
8_التناشز في التفكير: سرعة التعميم والاستثناء والاستنتاج، الارتجال والانفعال في المواقف، فهو يعمم بأننا (كلنا منافقون أو حرامية أو أهل غيرة أو العالم كله ضدنا، ما كو شريف، ماكو ثقة)الخ ثم فجأة يستثني (بس احنا مسلمين، بس آني من أهل الله، بس فلان شريف، ما حد يريدنا الخير بس ..)الخ والاستنتاج دوما إننا بطبيعتنا سيئون أو بسبب ذنوبنا أو بسبب لعنة ولي أو رب أو لأننا جهلة، والارتجال والانفعال في المواقف كمعالجة الرشوة برفع الرواتب أو الإعدام المباشر أو القضاء على الإرهاب بالإعدامات الجماعية الفورية بالشوارع ودك المحافظات المتمردة بالقنابل، والتضارب بالآراء ثم تبديلها. كذلك يهيمن التاريخ الديني والقبلي (رغم التناقض بين البداوة والدين) على تفكيرنا وفهم حاضرنا فلا زالت أقوال السلف مقدسة تتكرر في أحاديثنا ونحاول إيجاد نموذج لكل جديد في الماضي لنتعامل معه، ونقلل قدر الإمكان من الاجتهاد، لان كل جديد قد يكون بدعة وشر علينا يضرب أصالتنا.
طبعا هذه الصفات ليس طبعية بالمجتمع العراقي ولها أسباب تاريخية واجتماعية، فالأصول البدوية مسؤولة عن النقطة 3،4،5،6،7، بينما بقية النقاط هي نتاج المدينة وقيمها النفعية وتأثير السياسة التي رسخت التسلط والرضوخ وجعلت التملق والنفاق وسيلة لاسترضائها الذي انعكس على أفكاره فيما بعد بالتناشز. وتجدر الإشارة إني حين شرعت بأخذ رأي أصدقائي وزملائي بالوظيفة حول ابرز عيوب الشخصية العراقية كانت النتيجة ملفته، فقد اتفق معي كلهم على وجود عيوب بالشخصية العراقية لكن عند السؤال عن ما هي هذه العيوب بانت الحيرة على جميعهم وكأن العيوب غير موجودة! وكانت الإجابات دفاعية اغلبها تقول (لا يوجد إنسان لا يخطئ، هذه العيوب موجودة في كل العرب، العراقي له ايجابيات وليس سلبيات فقط)الخ والذين اعترفوا بأخطائه غالبا ما أشاروا إلى نقطة واحد مثل (عدم الخوف من الله، الطغيان، التلون، يقول بغير ما يعمل) وهي كانت ارتجالية واضحة ولم تكون نتيجة تمحيص سابق! وهذا ربما يعود لنرجسية العراقي الجمعية والفردية التي لا تسمح له بالنظر في عيوبه والمكابرة عليها رغم علمه بوجود أخطاء يراها كل يوم في حياته.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
1_سيغموند فرويد، موسى والتوحيد، ترجمة جورج طرابيشي، دار الطليعة للطباعة والنشر بيروت، ص179.
2_الدكتور علي الوردي، دراسة في طبيعة المجتمع العراقي، إصدارات دار الحوراء، 2005، ص192،193.
3_نفس المصدر، ص372،373.
4_نفس المصدر، ص374.
5_نفس المصدر، ص165.
6_نفس المصدر، ص164.
7_نفس المصدر، ص255.
8_هادي العلوي، مدارات صوفية، تراث الثورة المشاعية في الشرق، الأعمال الكاملة 12، المدى، الطبعة الثالثة 2014، ص45.



#محمد_لفته_محل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مراجعة في فكر هادي العلوي
- الحرام النوعي للأكل
- العراقي والعيد
- انطباعات عن ثورة التحرير العراقية
- العراقي والحيوانات
- العراقي والشارب
- الحرام النوعي للجنس
- التفسير الاجتماعي للتحية العراقية
- الحرام النوعي للشتائم العراقية
- التفسير الاجتماعي للكذب في المجتمع العراقي
- الحرام النوعي لسلوك المرحاض في المجتمع العراقي
- قيمة السلاح في المجتمع العراقي
- التفسير الاجتماعي للفساد بالعراق
- مدخل لدراسة علمية لفرضية الله
- ملاحظات في علم الاجتماع الإسلام
- علم اجتماع انتفاضة التحرير العراقية
- التحريف النوعي للجماعة الداعشية
- رؤية اجتماعية لزنا المحارم
- مفهوم الروح في المجتمع العراقي
- موجز الدراسات الإنسانية للظاهرة الدينية


المزيد.....




- وزير خارجية الأردن لـCNN: نتنياهو -أكثر المستفيدين- من التصع ...
- تقدم روسي بمحور دونيتسك.. وإقرار أمريكي بانهيار قوات كييف
- السلطات الأوكرانية: إصابة مواقع في ميناء -الجنوبي- قرب أوديس ...
- زاخاروفا: إستونيا تتجه إلى-نظام شمولي-
- الإعلام الحربي في حزب الله اللبناني ينشر ملخص عملياته خلال ا ...
- الدرك المغربي يطلق النار على كلب لإنقاذ فتاة قاصر مختطفة
- تنديد فلسطيني بالفيتو الأمريكي
- أردوغان ينتقد الفيتو الأمريكي
- كوريا الشمالية تختبر صاروخا جديدا للدفاع الجوي
- تظاهرات بمحيط سفارة إسرائيل في عمان


المزيد.....

- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف
- يوميات على هامش الحلم / عماد زولي
- نقض هيجل / هيبت بافي حلبجة
- العدالة الجنائية للأحداث الجانحين؛ الخريطة البنيوية للأطفال ... / بلال عوض سلامة
- المسار الكرونولوجي لمشكلة المعرفة عبر مجرى تاريخ الفكر الفلس ... / حبطيش وعلي
- الإنسان في النظرية الماركسية. لوسيان سيف 1974 / فصل تمفصل عل ... / سعيد العليمى
- أهمية العلوم الاجتماعية في وقتنا الحاضر- البحث في علم الاجتم ... / سعيد زيوش


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - محمد لفته محل - نقد نقد المجتمع العراقي