منذر خدام
الحوار المتمدن-العدد: 1360 - 2005 / 10 / 27 - 13:11
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
وأخيرا صدر تقرير القاضي الألماني ديتلف ميلتس المكلف من مجلس الأمن بموجب القرار 1595 للتحقيق بجريمة اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق الشهيد رفيق الحريري، بعد أن سلمه إلى السيد كوفي أنان الذي وزعه بدوره على أعضاء مجلس الأمن، وقدم نسخة منه إلى الحكومة اللبنانية، وكان من المفترض أن يقدم نسخة منه إلى الحكومة السورية باعتبارها الجهة الأكثر تضررا من حادثة الاغتيال، والجهة التي وضعت في قفص الاتهام منذ لحظة وقوع الجريمة من قبل العديد من القوى اللبنانية في صخب إعلامي لافت، حتى بات اتهام بعضهم للنظام السوري، يشي بنوع من الحقد والكراهية تجاه سورية الكيان السياسي، وتجاه الشعب السوري ذاته، الذي دفع من أبنائه العاملين في لبنان ثمنا لذلك. أقول بعد أن صدر التقرير ونشرته وسائل الإعلام المختلفة، وزال التوتر المصاحب للترقب، سارعت قوى لبنانية وغير لبنانية وخصوصا في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بريطانيا وفرنسا، إلى اعتبار التقرير وكأنه دليل قاطع على تورط بعض السوريين في جريمة الاغتيال، والاستفادة من التقرير كذريعة لخلق مناخ ضاغط على سورية وشعبها، لتحقيق مآرب سياسية تتجاوز بكثير الجانب الجنائي والقضائي للقضية. ومع أن التقرير ذاته لا يشكل إدانة لأحد، فهو مجرد تحقيق، فالإدانة والتجريم هي من اختصاص المحاكم، وكان قد لاحظ ذلك في آخر فقرة منه، إذ جاء في الفقرة 210 والأخيرة، حسب النص الذي نشرته جريدة المستقبل اللبنانية: ".... إن اللجنة ترى أن جميع الأشخاص، بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بجرائم يجب أن يعتبروا أبرياء إلى أن تثبت إدانتهم في محاكمة عادلة". إذن نحن إزاء نتائج تحقيق غير مكتملة حسبما ذكر التقرير في أكثر من موضع فيه، وأكثر من ذلك لا تزال عملية التحقيق مستمرة سواء من الجانب اللبناني أو الجانب الدولي، بعد التمديد الجديد لبعثة المحقق ميلتس، هذا عداك عن العديد من الوقائع الواردة في التقرير المشكوك في مصداقيتها وفي أغراضها، مع ذلك سارعت بعض الأطراف اللبنانية بطريقة غير مسؤولة ولافتة إلى اعتبار أن الحقيقة أصبحت مكتملة، وهي تشير إلى تورط بعض المسؤولين الأمنيين السوريين فيها، وعلى ما يبدو أن بعضهم لم يكن بحاجة إلى تقرير ميلتس سوى لتأكيد ما كان يعتقد به منذ حادثة الاغتيال المشؤومة. وإذا كنا نلمس بعض العذر لأقرباء الشهيد وأصدقائه، فليس من عزر للقوى السياسية الفاعلة في الساحة اللبنانية، سواء تلك التي كانت حليفة للنظام السوري حتى الأمس القريب، أو حتى تلك التي كانت على خلاف معه، لأن القضية في غاية الخطورة، ويمكن أن يدفع لبنان قبل سورية ثمنا باهظا لها. نحن هنا لا نبرئ ساحة أحد، ولا ندافع عن بعض المسؤولين في الجهاز الأمني السوري، خصوصا وأن الشعب السوري قبل غيره كان ولا يزال يختبر هول سطوتهم، بل تنبيها إلى المخاطر الجمة التي سوف تنجم عن محاولة بعض الجهات الخارجية تسييس التقرير، واستخدامه مدخلا للتدخل في الشأن الداخلي السوري، وفرض إملاءات على الدولة السورية وشعبها على الضد من مصالحهما ومبادئهما. أعتقد جازما أن استشهاد السيد الحريري ما كان ليحظى بهذا الاهتمام الدولي الكبير بحيث يرغم مجلس الأمن ذاته للتدخل في القضية وتدويلها، لولا أن وجدت فيها بعض الدوائر الأمريكية والصهيونية مصلحة كبيرة فيها. لقد سبق أن اغتيل في الساحة اللبنانية رؤساء للدولة وسياسيون مرموقون، ولم تحرك هذه الجهات ساكناً، بل راح في الصراعات السياسية الداخلية في رواندا وبوروندي أكثر من مليون شخص ولم تحرك أمريكا ولا الأمم المتحدة ساكناً. ولا يزال الشعب الفلسطيني يعاني ما يعاني من هول الاحتلال لأكثر من عقود خمسة، وقد شرد من أرضه، ومع أن الأمم المتحدة كانت قد أصدرت العديد من القرارات لإنصاف هذا الشعب الذي راح ضحية المؤامرات الدولية، مع ذلك كانت أمريكا وغيرها من الدول الأوربية، بالإضافة إلى الكيان الصهيوني يحولون دون تطبيقها. نحن هنا لا نقلل من أهمية الشهيد رفيق الحريري، فهو شخصية لبنانية وعربية كبيرة ومرموقة، وبالتأكيد خسر لبنان وسورية والعرب، باستشهاده رجل دولة وطني من الطراز الرفيع، بل نلفت النظر إلى خطورة استغلال جريمة اغتياله لفرض مزيد من الهيمنة الأمريكية والصهيونية على المنطقة على الضد من مصالح شعوبها. فالمطالب الأمريكية تجاه سورية ولبنان أكثر من واضحة، فهي تركز على نزع سلاح حزب الله، وعلى عدم استضافة بعض القوى الفلسطينية في سورية، وضبط الحدود السورية العراقية لمنع المتسللين العرب والأجانب إلى العراق على حد زعمهم. لا يوجد بين هذه المطالب، مطلب واحد جدي يتعلق بضرورة احترام حقوق الإنسان، أو إجراء تحولات حقيقية باتجاه الديمقراطية..، بل ذرائع فحسب، يمكنها أن ترميها في سلة المهملات متى شاءت، أو متى حققت مطالبها، ولدينا نموذج صارخ وهو ليبيا.
فيما يخص حزب الله تدرك أمريكا قبل غيرها أنه ليس من السهل نزع سلاحه في الظروف الراهنة، وأن ما عجزت عنه إسرائيل رغم جبروتها العسكري، لن تستطيع سورية تحقيقه، عداك عن أن مسألة سلاح حزب الله هو شأن لبناني داخلي.
أما بالنسبة لاستضافة سورية لبعض القادة الفلسطينيين، فهي أيضا ذريعة لا أكثر للضغط على سورية واستجرار تنازلات منها على الضد من مصالح شعبها، فأمريكا وغيرها تدرك أن في سورية أكثر من نصف مليون مواطن فلسطيني ساهمت بصورة مباشرة أو غير مباشرة في تشريدهم من وطنهم، وتحول دون عودتهم إليه، من خلال دعمها اللامحدود للكيان الصهيوني. ثم هل تسمح أمريكا وحليفتها إسرائيل بعودتهم إلى قطاع غزة الذي حرره الفلسطينيون بدمائهم وتضحياتهم، سؤال نضعه برسم أمريكا ومروجي سياساتها في المنطقة.
وفيما يتعلق بضبط الحدود السورية العراقية، أعتقد جازما أن على أمريكا والحكومة العراقية أن توجه الشكر إلى سورية والدول العربية الأخرى المحيطة بالعراق، إذ لولا ضبطها لحدودها لكان عشرات الآلاف من الإرهابيين قد تسللوا إلى العراق. باختصار إن ما تطالب به أمريكا ليس سوى ذرائع لتحقيق مطالب أخرى ذات صلة بالمشروع الاستراتيجي الأمريكي الصهيوني، وإعادة إنعاش كل البنى ما قبل الوطنية، تحت ستار من الديمقراطية المزيفة، وخير مثال على ذلك ما نشاهده في العراق.
ويبقى السؤال ماذا فعل نظامنا العتيد في سورية للرد على هذه الهجمة الشرسة؟ وكيف هو حال سورية الدولة والشعب؟
إن الملاحظ لسلوك السلطات السورية، ولخطابها منذ حصول جريمة الاغتيال وحتى صدور تقرير ميلتس، تتملكه الدهشة لطريقة تعامل السلطات السورية مع الحدث، ومع ما ترتب عليه من تدويل للتحقيق، وحتى صدور التقرير، مع العلم أنه لن يكون التقرير الأخير والنهائي، بل ثمة غيره في عهدة ميلتس كما يقال، وهناك تحقيق لم ينته بعد، وربما يكون المخفي أعظم وأشد خطورة!!. تتناسى السلطات السورية أن قواتها العسكرية والأمنية كانت موجودة في لبنان ساعة وقوع الجريمة، وبالتالي من المستحيل عدم تحميلها في الحد الأدنى بعض المسؤوليات المعنوية والسياسية عن حصول جريمة الاغتيال، خصوصا بعد أن تكشفت طبيعة وعمق العلاقات الأمنية السورية اللبنانية. واللافت في هذا الخصوص أنها تركت شعبها تتقاذفه الإشاعات والأقاويل دون محاولة تحصينه برد مقنع، أو بسياسة نشطة وفاعلة لتفنيد ادعاءات الآخرين، مع أنها حاولت تلافي بعض القصور مؤخرا بعد صدور تقرير ميلتس، فكان رد مندوبنا في الأمم المتحدة على التقرير قويا ومقنعاً، وكان أيضا تعليق المسؤول القانوني في وزارة الخارجية السورية، مساهمة جيدة في تفنيد التقرير ذاته.
وإذا كان من المتوقع في الستقبل أن تتعامل السلطة السورية بجدية ونشاط مع لجنة التحقيق، لتغلق ما يمكن أن يشكل بوابات سياسية للتدخل في الشؤون الداخلية السورية من قبل القوى الخارجية، وتحديدا الأمريكية لزعزعة الاستقرار الداخلي، أو لتحقيق مطالب معينة على الضد من مصلحة الشعب السورية، فإنه من الأهمية بمكان لملاقاة مخاطر المرحلة القادمة، وتحصين الداخل السوري ضد هذه التدخلات، بل تقويته لمواجهتها إذا اقتضت الضرورة أن تبادر السلطة السورية إلى فتح حوار شامل مع قوى المعارضة الوطنية الديمقراطية، خصوصا، وأنه أصبح لديها وجهة نظر متكاملة فيما يتعلق بضرورة التغيير في سورية، وبمهامه ووسائلة وطرائقه، وهي وجهة نظر مفتوحة ومنفتحة على الجميع بمن فيهم أهل السلطة. وإذ تقوم السلطة بذلك فإنها توجه رسائل قوية جدا للداخل قبل الخارج، وتساهم في تفعيل قوى الشعب السورية لإنقاذ سورية مما هي فيه من وهن وضعف تسبب به الاستبداد المزمن، ومفاعيل التدخلات الخارجية. ومما له دلالة كبيرة، في هذا السياق، على الجدية والمصداقية أن تبادر السلطة إلى إطلاق سراح جميع المساجين السياسيين، والعفو الشامل عمن غادروا الوطن كرها أو طوعا، وتأمين عودتهم إلى وطنهم بصورة لائقة وكريمة، وإغلاق ملف الاعتقال السياسي نهائيا.
كلمة أخيرة، فإننا نتوقع من السلطة تغليب مصلحة سورية الوطن والدولة والشعب، على مصالح بعض الأفراد في أجهزتها الأمنية، في حال ثبت بالدليل القاطع إدانتهم في جريمة اغتيال السيد رفيق الحريري، فهم في هذه الحالة ليسوا أكثر من خونة مجرمين يستحقون القصاص العادل، على حد قول السيد الرئيس.
#منذر_خدام (هاشتاغ)
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟