|
في ذكرى خديعة الحادي عشر من سبتمبر
رمضان عيسى الليموني
الحوار المتمدن-العدد: 4925 - 2015 / 9 / 14 - 16:49
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
تلعب العلامات التي تصنع خطاباً موازياً لخطاب الكلمة كما أشار رولان بارت دوراً في التأثير غير المحصّن للمتلقي، حيث تؤدي دوراً حاسماً في عملية إلهاء المتلقي عن افتراض تساؤل حول الدوافع التي دفعت بصورٍ معينة دون أخرى في المقدمة إزاء حدثٍ ما، حيث تتحول الصورة الإشهارية إلى ناتج نهائي لمجمل الانطباعات الذاتية التي تتكون لدى المتلقي إزاء هذا الحدث، أو إزاء موقف أو معتقدٍ ما، وترتبط هذه الانطباعات بعواطف الفرد واتجاهاته واعتقاداته التي تتأثر حتماً بالأساطير الدائية التي تكمن خطورتها في فاعلية استثارة انفعالات المتلقي الذي يتوسل بالرؤية البصرية التي تحدد للذات أشكال ردود أفعالها مما يعطل تماماً التحليل والإحالة المنطقية للإدراك، وتمثّل الصورة بشكلٍ خاص وسيلةً للاستثارة الانفعالية والحسية أكثر من كونها تدفع المتلقي على التأمل في قصديةٍ واضحةٍ لتحييد العقل وإلهاءه عن التوسّل بالمقولات والأفكار والمعتقدات لتفسير الصورة، وهو ما يُضفي طابع التقبل السهل لكل ما يراه المتلقي بل ومسايرة افتراض الخطاب الإشهاري بأن كل ما يقدّم حقيقي ولا يمكن التشكك في واقعيته. لقد توسّلت العديد من الخطابات الإشهارية بالصور المرئية لإقناع المتلقي بواقعية ما يتضمنه الخطاب بآلياته في التحكّم والتوجيه بل والتضليل وفي قدرته الأسطورية على خلق حاجات للاستهلاك بشكليها الفعلي والرمزي، وقد دُعّمت بعض الخطابات بوقائع وهميّة ومزيْفةٍ استطاعت أن تغيّر مسار تاريخ العديد من الأمم والحضارات، وهو الأمر الذي تولّد في الخطاب الإشهاري الذي توّلي تغطية الحدث الأشهر في مطلع القرن الواحد والعشرين وهو حدث انهيار برجي التجارة العالمي في الولايات المتحدة الأمريكية والذي اتخذ ذريعة لشّن حرب شرسة وبربرية على دولتي العراق وأفغانستان تحت مزاعم " الحرب على الإرهاب" والتي كان لها أثارها المدمرة على تلك الدول. في الساعة 8:45 دقيقة من صباح يوم الثلاثاء الحادي عشر من سبتمبر من عام 2001 ارتطمت الطائرة البوينج 747 بالبرج الأول لمركز التجارة العالمي في نيويورك ثم تبعه بعد ذلك البرج الثاني المجاور له، لقد أصيبت الإنسانية بمشاعر استياء بالغة الصدمة مما شاهده من دمارٍ وذعرٍ وإزهاقٍ للأرواح التي سقطت في حادث انهيار برجي التجارة العالمي، فقد استطاعت الصور التي تم بثّها لانهيار البرجين سحابة كثيفة من الانفعالات والشعور بالصدمة والهلع، فقد تمكّنت تماماً من خلق انطباع بصري لا يمكنه أن يتشكك في واقعية الحادثة التي نفذها إرهابيون منتمون لبعض الجماعات الجهادية الإسلامية النابعة من الشرق الأوسط، وتمكّن الخطاب الإشهاري وقتئذ كذلك من الترويج لعدد هائل من الحقائق المزيّفة واللعب بدلالات الحدث، قليلون هم الذين تشككوا في إمكانية حدوث الواقعة، لكنّ الكثيرين لم يتوافر لهم الوقت للبحث والتأمل، فقد أُغرقوا في سيلٍ من التحليلات السياسية والبرامج الحوارية والتقارير الصحافية والأمنية والتي تؤكد جميعها ضلوع عناصر من تنظيم القاعدة في تنفيذ الهجوم " الإرهابي"( ) على برجي التجارة العالمي، لكنّ وبعد سنواتٍ قد خفت تماماً ذلك المفعول السحري الذي أحدثته الصور في الوعي الجمعي العالمي، فبدأت تساؤلاتٍ عديدة تثار حول تلك المصادفة العجيبة التي أتاحت فرصة إلتقاط صور حيّة للحظة انهيار البرجين وقد لوحظ الثبات الانفعالي الهائل الذي تمتع به مصوّر تلك الحادثة بالقدر الذي أوحى بكونه كان مدرباً وعلى درايةٍ تامة بتلك اللحظة التي استعدّ لها بكاميرته وأخذ موقعه بثبات. وإذا كانت الصورّ التي تم بثّها لحادث الحادي عشر من سبتمبر استطاعت ببراعةٍ حشد الرأي العام العالمي داخل شرنقة تأثير الصورة لتبني الخطاب الإشهاري الذي صنعته الإدارة الأمريكية لتمرر عزمها لمحاربة الإرهاب هناك على أراضيه في أفغانستان والعراق فإنّ ثمة صورة حيّة أخرى قد لاقت تفاوتاً في ردود الأفعال وذلك عندما نشرت صحيفة الصن في مايو 2005 صوراً فوتوغرافية للرئيس الراحل صدّام حسين بملابسه الداخلية بعد تلك الصور التي نُشرت عن القبض على صدّام حسين والفحص الطبي الذي أجرته عليه القوّات الأمريكية بشكل بدا أمام ملايين المتلقين خالياً من الاحترام ومراعاة حقوق الإنسان، إنّ ردود الفعل متفاوتة التأثير قد اختلفت نوعاً ما؛ فبينما أثارت مشاعر استياء الملايين من العرب وغيرهم نتيجةً لتلك المعاملة غير الآدمية وغير المهنية لاقها الرئيس الراحل صدّام حسين على يد القوات الأمريكية، نجد مشاعر الاستياء تلك مختلفة تماماً لدى الشعب الأمريكي والمسئولين الأمريكيين الذين اعتبروا نشر تلك الصور مثّل خرقاً للقواعد العسكرية الأمريكية والتي قد يكون لها أثرٌ خطير على الجنود الأمريكان في العراق، وتركّز الخطاب على إبراز العدد الضخّم من الجنود الأمريكان الذين قتلوا نتيجة نشر جريدة الصن البريطانية لتلك الصور. لقد راهنت الصور المرئية لحادث انهيار برجي التجارة العالمي على البُعد الأيقوني للبرجين الذين تحولا من المجرد إلى المحسوس الذي تجلى فيها الواقع في صور خيالية أضفى عليها الخطاب الإشهاري لوكالات الأنباء قوّة ساحرية تمّكنت من توجيه وتزييف للحدث الذي قامت الصورة المرئية له باختزال الواقع من خلال انتقاء مضمون الخطاب الإشهاري مع التوظيف المبهر للتقنيات عليه كي يبلغ أقصى درجات التأثير المشابة لتأثير التسليم والإيمان الديني( )، ومرّة أخرى فقد تذبذبت مشاعر الغضب والاستياء لدى المتلقي عند مشاهدة تصوير مرئي للحظة إعدام الرئيس العراقي السابق صدّام حسين في ساعة مبكرة من صباح عيد الأضحى الذي يحتفي به المسلمون في جميع أرجاء العالم ويمثّل حدثاً غاية في القداسة والاهتمام، وبعد سنواتٍ تفاجئ العالم ببيان عسكري أمريكي يعلن عن مقتل زعيم تنظيم القاعدة " أسامة بن لادن" دون أن يتضمن البيان تصويراً لتلك اللحظة التي اعتبرتها الولايات الأمريكية مهمة وفارقة في تاريخها بعد أن استطاعت القضاء على أبرز عدو للولايات المتحدة الأمريكية. إنّ وسائط الإعلام الجديد تُشْحن بشكلٍ شبه يومي بمقاطع مصوّرة لممارسات ما يُطلق عليها" التنظيمات الإسلامية الجهادية( تنظيم القاعدة سابقاً، داعش حالياً، وبوكو حرام)، حيث تكشف تلك الصور المرئية المدى غير الإنساني للمعاملة الوحشية التي ترتكبها تلك الجماعات بحق المدنيين العزّل والأبرياء سواء بقطع الرقاب باستخدام سكيناً مميزةً، أو باستخدام الأسلحة النارية، إنّ تلك المفارقات تدفع إلى إثارة علامة استفهام حول لغز الخطاب الإشهاري الانتقائي لبعض الصور المرئية دون غيرها؟ وهو ما يدفعنا إلى إعادة مشاهدة الصور المرئية للحادي عشر من سبتمبر للإجابة على تساؤلٍ بسيط مفاده: ماذا فعلت الصورة بالمتلقي لحادث الحادي عشر من سبتمبر؟ في الحقيقة لقد فجّرت الصور التي تم بثّها لتلك الحادثة كمٍّ هائلٍ من المشاعر الانفعالية لدى المتلقي بقصد تمرير العديد من المعلومات المزيّفة لأبعد مدى أمكن للخطاب الإشهاري وقتها الوصول إليه، فقد تمّكن هذا الكمّ من الصور المرئية والثابتة لحادثة انهيار برجي التجارة العالمي والمبنى رقم 7 الذي يبعد عنهما بمسافةٍ وكذلك الانهيار الجزئي بمبنى البنتاجون أن يوجّه فيضاً هائلاً من المشاعر الانفعالية للمتلقي في اتجاه كسب التأييد والاقتناع بالحرب على " الإرهاب "، ونجحت في إلهاء المتلقي عن تلك الجرائم الإرهابية التي مارستها الولايات المتحدة الأمريكية بحق الشعب العراقي منذ حرب الخليج الثانية، حتى أنّه عندما نشرت صحيفة الديلي ميرور صوراً تبرز المعاملة السيئة التي يتلقاها السجناء العراقيين على أيدي الجنود البريطانيين تمكّنت القوات العسكرية البريطانية عبر خطابها بإقناع المتلقي بزيف تلك الصور وعدم واقعيتها، في الوقت الذي لم تهتم وكالات الأنباء العالمية بنشر صورٍ تكشف الآثار المدمرة نتيجة الاجتياح الوحشي لمدينة الفالوجة في نوفمبر 2004 والذي راح ضحيّته ما يقرب من 600 قتيل، ولم تجرأ أي مؤسسة إعلامية عالمية أن تفضح تلك الممارسات البربرية لقوات المارينز الأمريكي التي قصفت المنازل والمستشفيات ومهاجمة المسنين والأطفال بصورة وحشيةٍ، في الوقت الذي حظيت فيه الصور المرئية لحدث انهيار برجي التجارة العالمي بأعلى نسبة اهتمام للمتلقي في جميع أنحاء العالم والذين ظلّوا مصابين بذعرٍ ورعبٍ بالغ القوّة نتيجة لتلك المشاهد المريعة التي استهلكلها المتلقين لهذه الحادثة دون أن تتوافر لهم فرصة التساؤل عن إمكانية حدوث هذا الانهيار السريع بتلك الكيفية التي حدث بها، غير أنه وبعد عدة سنوات راح العديد من الخبراء المعماريين في العالم بكشف الخديعة الكبرى وعملية التزييف التاريخية التي مارسها الخطاب الإشهاري لتلك الحادثة، فقد كشف هؤلاء الخبراء حقيقة معمارية مفادها أن البرجين قد صمما بكشلٍ يسمح لهما بمقاومة أي اصطدامٍ مع طائرةٍ مدنية بحجم تلك الطائرة التي قد اصطدمت بالبرجين وأدعت وسائط الإعلام بأنهما سبب تحطّم وانهيار البرجين، كذلك فإن البرجين لا يمكن أن تؤثر فيهما حرارة النيرات التي اندلعت بعفل وقود الطائرة التي تفجّرت، بالإضافة إلى أن سرعة انهيار الأبنية الثلاثة بشكلٍ عامودي دون أن تواجه الطوابق العليا أية مقاومة من الطوابق السفلى إنما لا يمكن أن يحدث تماماً دون زرع عبوّات متفجرة في الأعمدة الرئيسية للمبنى ذاته وهو الأمر الذي أكده شهود عيان من رجال الإطفاء في نيويورك عندما تحدثوا عن سماعهم لسلسلة انفجارات في كل مبنى من الأعلى إلى الأسفل، ناهيك عن عشرات التساؤلات عن حجم الطائرة التي يُفترض أنها قد ضربت مبنى البنتاجون وأحدثت به ثقباً أكّد الخبراء أنه لا يتناسب بالمرة مع حجم تلك الطائرة التي أدعت الحكومة الأمريكية أنها قد ارتطمت بالمبنى. لقد استطاع الخطاب الإشهاري للحادثة أن يفتك كليةً عبر كثافة الدلالات والرموز والصور بوعي وإدراك المتلقي، وأن يدّمر تماماً أية عملية تنوي القيام بعملية تحليل منطقي للحادثة في لحظة جريانها، حيث اعتمد الخطاب على درجة عالية من الشحن الانفعالي والشعوري لدى المتلقين، غير أنه وبعد خفوت تلك الفورة الشعورية تنبّه الكثيرين إلى فضيحة مراسلة قناة بي بي سي من منطقة الانهيار عندما أشارت إلى اندلاع النيران بالمبنى رقم 7( مبنى الإخوة سلولومن) والذي يبعد عن البرجين بمسافةٍ وذلك قبل اندلاع النيران به بحوالي 23 دقيقة بينما كان المبنى في الخلفية وراءها لازال قائماً، برغم أن المبنى لم يتعرض لأي هجوم بالطائرات ولم تمتد إليه النيران المتصاعدة من برجي التجارة نظراً لبعد المسافة عنهما، وهنا أشار بعض المحليين إلى وجود بصمات هليوود في صناعة تلك الصور خاصة أنهم قد أعادوا التذكير بالفيلم الشهير الذي أنتج عام 1988 بعنوان" Day Hard " من بطولة الممثل بروس ويلس والذي يتضمن سيناريو ضرب البرجين، بالإضافة إلى لقطة من فيلم ماتريكس الذي أنتج عام 1999 حيث يظهر في المشهد صورة إنتهاء صلاحية جواز سفل البطل New في الحادي عشر من سبتمبر عام 2001.
لقد وظّفت الولايات المتحدة الأمريكية الخطاب الإشهاري لحادثة انهيار برجي التجارة العالمي ببراعةٍ لصناعة حربٍ على دولتي العراق وأفغانستان تحت شعار" الحرب ضد الإرهاب"، فالخطاب الإشهاري للحادي عشر من سبتمبر قضى وقتها تماماً على أية محاولة لإخضاعه للتأويل والتفسير والبحث عن معقولية حدوثه حيث خُدع الملايين من المتلقين في جميع أرجاء العالم بمنطقية حدوثه ومصداقيته عبر تكرار الصور الثابتة والمرئية وإشباعها بالتحليلات السياسية والمناقشات الحوارية على القنوات الفضائية والمقالات الصحافية التي عملت على صناعة إجماع عالمي بأهمية محاربة الإرهاب وتحوّل مدلول خطاب الحرب على الإرهاب إلى مدلولٍ مغلق لا يمكن تجزئته بغرض تحليله أو تفسيره، حيث أدرك صنّاع تلك الحرب " أنّ الحرب عرضٌ تلفزيوني يبثّ عبر الفضائيات لجمهورٍ واسع.. فالحرب بشموليّتها نوع من التواصل الجماعي، وهي بجزئيّتها نوع من الاستعراض( )، لأنه كان يفتقر للكثير من الدلائل التي تثبت تورّض تنظيم القاعدة في هجوم الحادي عشر من سبتمبر، ولم تؤكد أيٍ من التحقيقات التي أجرتها السلطات الأمريكية ضلوع عناصر من تنظيم القاعدة في تلك الهجمات، غير أنّ الأمر كان محسوماً على ما يبدو ولم يتبقى سوى صناعة مسرحٍ للأحداث ليتم تبرير الحرب على الإرهاب، نعم لقد كان الأمر محسوماً فحركة طالبان التي لم يكن للإدارة الأمريكية أية مشاكل معها قد فقدت تماماً سيطرتها على الأراضي الأفغانية مع قيام جماعة المجاهدين " تنظيم القاعدة" بفرض سيطرتهم على كامل المنطقة الشمالية الأفغانية، ومن ثم فإن فقدان حركة طالبان للسيطرة يعني حدوث حالةٍ من عدم الاستقرار في تلك المنطقة وهو ما يهدد مصالح الشركات، حيث قد أحجمت الشركات العاملة في مجال النفط والطاقة عن تمويل مشروعات مد خطوط النفط والغاز من بحر قزوين الذي يحتفظ بمخزونٍ هائلٍ من الوقود الحفري والذي كان يمثل أهمية استراتيجية للولايات المتحدة الأمريكية خاصة بعدما تخلّصت من الاتحاد السوفيتي الذي كان يمثّل عقبة أمام الوصول إلى ذلك المخزون الاحتياطي الهائل ولتعزيز التواجد الأمريكي في تلك المنطقة أقامت الولايات المتحدة بحلول فبراير 2002 قواعد عسكرية أمريكية دائمة في جميع جمهوريات آسيا الوسطى فضلاً عن أفغانستان التي كانت حكومة ما بعد طالبان بها تحظى بالمباركة الأمريكية مثلما كانت تحظى حركة طالبان في عقد التسعينيات من القرن الماضي، لقد كشفت سوءات تلك الحرب أنها كانت بمثابة عملية لرجوع الدول العظمى مرّة أخرى إلى خانة الاستراتيجية الاستعمارية، وقد مثّلت كذلك زيادة للقوة الاقتصادية الأمريكية التي كانت تسيطر على ثلث مصادر الثروة في العالم ويوجد بها أكبر الشركات العملاقة مثل ميكروسوفت وموتورولا وفورد وكوكاكولا وماكدونالز في الوقت الذي أخذت الولايات المتحدة على عاتقها ضمان الاستقرار الاقتصادي لنظام الرأسمالية الاستهلاكية العالمي، وبغرض ذلك تم صناعة الحادي عشر من سبتمبر، فمصالح الشركات هي التي تحظى بالأولوية القصوى في سياسات الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد يومين حادثة برجي مركز التجارة العالمي اجتمع أعضاء الكونجرس الأمريكي لتوجيه رسالة إلى ما سموّهم " الجماهير المصعوقة "، وقال أحد أعضاء الكونجرس مردداً ما جاء في رسالة الرئيس " علينا أن نمنح الناس الثقة من أجل العودة إلى أعمالهم والذهاب إلى المخازن وشرائ البضائع، أيها الناس أخرجوا واستعدوا لعيدي الشكر والميلاد، واخرجوا وشاركوا في المجتمع وكونوا نشطين"، إنّ قيام أعضاء الكونجرس بحثّ المواطنين وقبل كل شيء على التسوّق والعمل تمثّل شهادة قويّة على مدى أهمية الاستهلاك في فعالية الاقتصاد الأمريكي، فبدلاً من توجيه خطابٍ لطمأنة المواطنين على أمنهم واستقرارهم، توجهت الحكومة والشركات إلى المستهلك من أجل الدفع به نحو مواصلة الاستهلاك، ولا شكّ أن احتياطات الطاقة مثّلت عاملاً مهماً لدفع واشنطن نحو الحرب في أفغانستان، ولكنّ هناك كذلك اعتبارات سياسية مهمّة تشير إلى ضرورة تلك الحرب بالنسبة لواشنطن وذلك من أجل تأكيد هيمنتها على العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر في منطقة تمثّل خطراً في المستقبل على الولايات المتحدة الأمريكية، فبعد خفوت تلك الخطورة النابعة من القوة الاقتصادية التي تمتّعت بها اليابان في التسعينيات، بدت الصين تمثّل التهديد الأساسي الذي يواجه الرأسمالية الأمريكية في المستقبل، يقول جون ميرشمير المحلل الأمريكي للعلاقات الدولية:" لفهم تلك القوّة التي ستصبح عليها الصين إذا ما استمر اقتصادها في النمو السريع، يمكننا مقارنة الصين بالولايات المتحدة الأمريكية حيث يبلغ الناتج القومي الأمريكي 7.9 ترليون دولار، وإذا تساوى دخل الفرد في الصين مع مثيله في كوريا فإن الناتج القومي للصين سوف يتفوق على الناتج القومي للولايات المتحدة بحوالي 35%، أما إذا بلغ دخل الفرد في الصين نصف مثيله في اليابان فإن الناتج القومي الصيني سوف يتعدى ضعف مثيله الأمريكي، من الجدير بالذكر أن الناتج القومي للاتحاد السوفييتي كان يبلغ نصف الناتج القومي الأمريكي خلال الحرب الباردة، بإختصار، هناك إمكانية أن تصبح الصين أقوى من الولايات التحدة ذاتها"( ). ومن ثم سيكون على الولايات المتحدة الأمريكية أن تبني قواعد عسكرية وتتمركز بثقلٍ شديد حتى تحول دون توسّع قوّة الصين، لذا فإن حادثة الحادي عشر من سبتمبر قد فتحت نافذة لإتاحة الفرصة أمام استغلال التفوّق العسكري الأمريكي لتحسين وضع الرأسمالية الأمريكية على المدى البعيد. وهكذا تم الدفع العنيف للخطاب الإشهاري لإعلان الحرب على " الإرهاب " في أفغانستان والعراق، فقامت المحطات التليفزيونية والإذاعية ووكالات الأنباء والصحافة بتكرار الرسالة الترويجية لتبرير الحرب القادمة على تنظيم القاعدة بصورة دائمة ومستمرة ولفترةٍ طويلة، بغرض محاصرة المستهلك/ المتلقي في كل مكانٍ بتلك الرسائل إلى أن لاقى الخطاب حفاوة وقبولاً من الرأي العام الأمريكي للحرب على الإرهاب من أجل حماية المواطنين الأمريكيين وحماية المصالح الأمريكية ضد الجماعات الجهادية، ومن ثم كان الرأي العام الأمريكي بحاجةٍ إلى خطاب إشهاري يكرّس الفكرة النمطية عن الإسلام التي غرستها وسائل الإعلام في الغرب على مدار سنوات ماضية، ومن ثم فتكرار صور لحظة انهيار البرجين والمصحوبة بسحاباتٍ كثيفة من التحليلات السياسية من شأنه أن يتيح رؤية الإسلام كواقعٍ مجسّد، فيبقى الإسلام في الذاكرة المشتركة للمواطنين الأمريكين مجرد دين لا عقلاني ويدعم الإرهاب، لا فرق هنا بين المعتدل والمتطرف فالكل يجب أن يكونوا سواء، فيجب فقط تكثيف الإضاءة على مشاهد أسر ضحايا برجي التجارة العالمي وعائلاتهم حتى يكتمل الاستنفار الشعوري للمشهد. لكنّ المثير للدهشة ذلك التناقض البارز في ردود الأفعال النفسية والانفعالية عند بثّ صور مرئية للحظة إعدام الرئيس العراقي السابق صدام حسين والذي تم بثّه بسرعة مذهلةٍ دون وقتٍ زمني بين لحظة تنفيذ حكم الإعدام ولحظة بثّ الشريط المسجل في جميع وكالات الأنباء العالمية صبيحة عيد الأضحى، فهناك من تلقي النبأ بسعادة بالغة مثّل نجاحاً للقوات الأمريكية في إسقاط النظام الديكتاتوري في العراق، وعلى جانب آخر أصيب العديد بمشاعر الخيبة والاستياء نتيجة للتوقيت الذي تم فيه تنفيذ حكم الإعدام، وتفهّمت الملايين خاصة من العرب والمسلمين الوجه البشع للنظام العالمي الجديد الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية ورأوا تطبيقاً عملياً لفسلفة الفوضى الخلاقة التي ابتدعتها إدارة جورش بوش الأبن، وقد مثّل الإسراع في بثّ لحظة إعدام الرئيس الراحل صدام حسين دلالة للإشارة إلى تلك القوّة التي احتكرتها الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها بقيادة العالم لتعلن منذئذٍ عن وقوع الشرق الأوسط في كامل قبضتها وعن قدرتها على خوض أي حرب لتكسير خلايا القوّة التي من الممكن أن تظهر في أي لحظة في العالم وتعمل على تهديد مصالح الشركات الأمريكية، وهي فكرةٍ تحتاج كثيراً إلى صناعة مسرح عملياتٍ ومشاهد مرئية تبدو واقعية تغذّيها وتدعم شرعية الحروب التي من الممكن أن تخوضها الولايات المتحدة ضد أي نظام في أي وقت، ويستخدم الخطاب الإشهاري الأمريكي للحرب على الإرهاب تلك الفاعلية التي تكْمن في الصورة التي تتخطى الحواجز الجغرافية والزمانية حتى تجعل المجال الإنساني خاضعاً تحت تأثير سلطتها المطلقة العابرة للحدود، مما يتماهى مع مشروعية تلك الحروب التي تشنّها الولايات المتحدة خارج الحدود الأمريكية، التي عبّر عنها مبكرّاً وزير الدفاع الأمريكي وليام كوهين عام 1999 عندما قال " أنّ الولايات المتحدة الأمريكية سوف تستخدم القوّة العسكرية بإرادتها المنفردة لحماية مصالحها الحيوية التي تتضمن الولوج الحرّ إلى الأسواق الرئيسية، وإلى مصادر الطاقة وغيرها من الموارد الاستراتيجية"( ). لقد أضاف الخطاب الإشهاري( المصوّر) لإعدام الرئيس العراقي صدام حسين فيضاً شعورياً بالرعب والاستسلام لمنطق الليبرالية الجديدة والذي استلهم كل تراث الاستعمار القديم، حيث يمثّل احتلال العراق إعلاناً عن صناعة واقعٍ جديد في المنطقة العربية أكثر رعباً مما يمكن أن يتخيله حاكم دولةٍ إذا ما حاول أن يعارض مصالح الشركات الأمريكية التي تقود الرأسمالية العالمية، دون أن يكون في الاعتبار أية أهمية لردود الأفعال السلبية والحانقة للمسلمين جراء عدم احترام قدسية ذلك اليوم الذي نفّذت فيه قوات الاحتلال الأمريكي الإعدام، وبعد سنوات قد عاد ذلك المشهد إلى الأذهان مرة أخرى مثيراً علامة استفهام ضخمةٍ حيث قد رفضت الإدارة الأمريكية برئاسة باراك أوباما نشر صور مقتل زعيم تنظيم القاعدة " أسامة بن لادن" بحجة بشاعة تلك الصور والتي قد تؤدي إلى تعرّض المصالح الأمريكية والشعب الأمريكي وقوّاته لمزيدٍ من العمليات الانتقامية الإرهابية، في الوقت الذي قد تم نشر صور مقتل ابني صدام حسين رغم بشاعتها، لكّن الخطاب الإعلامي الأمريكي قد ساق حجّة مزيّفةٍ مفادها أن الحاجة لإثبات مقتل صدام وابنيه للشعب العراقي كانت الدافع الحقيقي وراء نشر صورهما، إذن لماذا لم تكن هناك حاجة لإثبات مقتل زعيم تنظيم القاعدة للعالم والذي تكلّفت الولايات المتحدة ملايين الدولارات والآلاف من الجنود القتلى في سبيل القضاء على تنظيم القاعدة حسب مزاعمهم؟ إنّ الإجابة ببساطة تشير إلى أن الإدارة الأمريكية كانت قد فشلت في إثبات دلائل خطابها السابق بمزاعمه التي روّجت لضرورة الحرب على العراق وذلك بغرض تدمير أسلحة الدمار الشامل التي زعمت أن صدّام حسين هدّد بها مصالح الولايات المتحدة وبعض الدول المجاورة، وفي أعقاب الغزو الأمريكي للعراق في مارس 2003 وبعد تفتيش كل مكان على أرض العراق لم تستطع الإدارة الأمريكية أن تثبت مزاعمها بشأن أسلحة الدمار الشامل، فروّجت لمزاعم أخرى تهدف إلى قيامها " بتغيير النظام " بغرض ترسيخ الديمقراطية وإرساء مبادئ حقوق الإنسان ومن ثمّ فإن بثّ صور إعدام الرئيس الراحل صدام حسين ومقتل ابنيه كان داعماً لمحاولة الإدارة الأمريكية بعد إحساسها بالفشل الذريع والتورط في الحرب على العراق لأن تثبت للعالم أنها نجحت في إسقاط النظام الديكتاتوري وإحلال نظام أخر ديمقراطي محله، وهو ما يسهم كذلك في بسط النفوذ الأمريكي في العراق لملئ الفراغ الشاسع الذي خلّفه سقوط نظام الرئيس الراحل صدام حسين من أجل إحلال الحرية والديمقراطية في العراق وهو ما يُعدّ تنفيذاً عملياً لسياسة بوش الأبن الذي أعلن عن قيامه بمحاربة " محور الشر" الذي يمتد من طهران إلى بيونج يانج ولتبرير إمكانية شنّ حروباً وقائيةً ضد الأرهاب الذي له امتداد عالمي، تأكيداً لاستراتيجية الأمن القومي للعام 2002 في حق الولايات المتحدة في التصرّف عسكرياً في أي مكان في العالم، إنّ عدم نشر صور مقتل " أسامة بن لادن "- إن كان قد حدث فعلا – مكافأة لتنظيم القاعدة الذي قدّم فرصة عظيمة للولايات المتحدة الأمريكية لتحقيق سياسة الاجتياح " التي يمكن بواسطتها التغّلب على الإرهابيين من خلال نقل الحرب إليهم، في مطاردتهم حيثما يقيمون ويخططون ويختبئون، والتوضيح للدول التي ترعاهم وتأويهم أنه توجد عواقب لمثل هذه الأفعال"( ) كما أكد وزير الدفاع رونالد رامسفلد في خريف 2003 والتي تأكدت في" استراتيجية الأمن القومي" للعام 2006، وهي ذات الدلالات المتوافقة مع مضمون الخطاب الإشهاري لتنظيم القاعدة الذي كان يؤكد على ضرورة ممارسة أقصى قدر من التهديد للمصالح الأمريكية بغرض استفزازها لدخول الأراضي الأفغانية لمحاربة تنظيم القاعدة، وهو ما يمثّل للتنظيم حسب مزاعمهم فرصة سانحة لهزيمة القوات الأمريكية دون بذل عناء الذهاب إلى الأراضي الأمريكية نفسها. لم تكن مصالح الشركات هنا بمعزلٍ عن اهتمام استراتيجية الأمن القومي الأمريكي فقد أوجز المبدأ العام في مقدمة بوش للاستراتيجية لعام 2002 أن " الولايات المتحدة ستغتنم هذه الفرصة السانحة لبسط فوائد الحرية عبر العالم، سنعمل بنشاطٍ لجلب الأمل من خلال إحلال الديمقراطية والنمو والأسواق الحرّة والتجارة الحرّة في كل زاوية من زوايا العالم"، وهو ذات المسعى الذي تم التأكيد عليه في استراتيجية الأمن القومي لعام 2006 حيث " تسعى الولايات المتحدة حماية لأمتنا ووفاء لقيمنا، إلى بسط الحرية في جميع أنحاء العالم من خلال قيادة جهد دولي لوضع حدٍّ للاستبداد ولتسويق الديمقراطية الناجعة"، فكلما تعرّضت مصالح الشركات في أيّ مكان في العالم للمخاطر وجب التدخل الأمريكي العسكري الحاسم وغير المحدد وربما يؤكد ذلك ما ذكره بوش الأبن في مقدمته " لاستراتيجية الأمن القومي " للعام 2002 عندما قال" إنّ الحرب على الإرهابيين ذوي الامتداد العالمي تشكّل مشروعاً عالمياً ذا أمدٍ غير مؤكد" فهي حرب غير منتهية طالما هناك من يهدد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية أي في وجهها الخفي" مصالح الشركات" وهي محاولة لكسب رضا الشركات خاصة مع تزامن بدء انتخابات الكونجرس النصفية مع وقت إعلان " استراتيجية الأمن القومي" لعام 2002، وهو ذات التوقيت الذي بدأت فيه حملة إعلامية ضخمة لتصوير صدّام حسين رأس الخطر الذي يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط، وهي اللحظة التي تغيّر فيه مسار الليبرالية الجديدة فقد جاء في الصياغة الخطابية الرسمية للاستراتيجية السابقة " أنّ قواتنا يجب أن تكون قويّة بما فيه الكفاية لثني الخصوم المحتملين عن مواصلة بناء قوة عسكرية بأمل مضاهاة القوة الأمريكية أو تجاوزها"، إنّ الخطاب الإشهاري هنا يعلن عن " استراتيجية كبرى تنطلق من الالتزام الجوهري بالمحافظة على عالم أحادي القطب لا مكان فيه لندٍّ مزاحم للولايات المتحدة " أيّ لندٍّ مزاحم للرأسمالية الاستهلاكية في العالم.
#رمضان_عيسى_الليموني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا هاجم الغزالي سلطة الموقعين عن رب العالمين ؟
-
صناعة الخطاب الديني وأزمة التواصل
-
الفقراء... مازالوا ينتظرون
-
حرق داعش
-
مونتاج لشريط طويل 2
-
مونتاج لشريط طويل:
-
الصور القاتلة كيف تستخدم الصور في صناعة الحروب
-
التبصر الأعمق
-
أطفالنا يُسرقون منّا
-
الحياة التي يجب أن نعيشها
المزيد.....
-
نبيلة عبيد تعلن من الرياض عن عودتها للدراما في مسلسل سعودي
-
-نتعب لأجل بكرة وربنا هيحاسبنا-.. السيسي يتحدث عن أهمية الإن
...
-
-هرب من الحرب ليموت في الحرب-، من هو الأستاذ الجامعي اليمني
...
-
بعد تفجيرات البيجر- إيران تحظر اللاسلكي في الرحلات الجوية
-
-اليونيفيل-: إصابة جندي بإطلاق نار بسبب نشاط عسكري في الجوا
...
-
الكويت.. ضبط مواطنَين أحدهما ضابط و4 آسيويين متورطين بترويج
...
-
إيران تبلغ واشنطن ودول الشرق الأوسط بأنها سترد على أي هجوم إ
...
-
غزة.. المجازر تتواصل بمدارس القطاع
-
تركيا تجلي رعاياها وجرحى من لبنان
-
تي 72.. صمام أمان للقوات الروسية بدونباس
المزيد.....
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
-
الخطاب السياسي في مسرحية "بوابةالميناء" للسيد حافظ
/ ليندة زهير
-
لا تُعارضْ
/ ياسر يونس
-
التجربة المغربية في بناء الحزب الثوري
/ عبد السلام أديب
-
فكرة تدخل الدولة في السوق عند (جون رولز) و(روبرت نوزيك) (درا
...
/ نجم الدين فارس
-
The Unseen Flames: How World War III Has Already Begun
/ سامي القسيمي
المزيد.....
|