أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولي - الدَّوْلَةُ: في الإِبَانَةِ حَوْلَ المَفْهُوْمِ والمُصْطَلَح!















المزيد.....

الدَّوْلَةُ: في الإِبَانَةِ حَوْلَ المَفْهُوْمِ والمُصْطَلَح!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 4898 - 2015 / 8 / 16 - 18:41
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(1)
لعلَّ أحد أخطر وجوه أزمة "الفكر السِّياسي" في بلادنا أن أغلب تمظهراته عبارة عن "سياسة" بلا "فكر"، وأن أكثر ما يدور من حوارات داخل تحالف المعارضة نفسها، دَعْ ما بينها وبين السُّلطة، لا يقوم، أساساً، على قواسم أوليَّة ضروريَّة في ما يتَّصل، قبل كلِّ شئ، بالمفاهيم والمصطلحات، ومن ثمَّ لا يعدو كونه "حوار طرشان" يعجُّ، في غالبه، بأنماط مزرية من "سوء التَّفاهم" السِّياسي المحض، والذي يسمع كلٌّ فيه صوته وحده، ولا يقيم وزناً لما يصدر عن الآخر!
من ثمَّ، ولإصلاح شروط هذه الحوارات، وبالنَّظر لما يمور من نزاعات دمويَّة يؤمَّل أن تلعب السِّياسة الدَّور الأكبر في بلوغ أمواجها سواحل آمنة، وبرغم حدَّة التقاطع بين المعارضة والسُّلطة، حيناً، وفي ما بين فصائل المعارضة نفسها، أخطر الأحيان، فإن أحوج ما نحتاجه، بحقٍّ، هو التَّوافق على قواسم مشتركة لا غنى عنها بشأن المفاهيم والمصطلحات التي يُفترض أن تشكِّل أساس لغة هذه الحوارات، وترميزاتها المعجميَّة والدَّلاليَّة.

(2)
لنأخذ، على سبيل المثال، مفهوم ومصطلح "الدَّولة" كأحد أكثر المفاهيم والمصطلحات تردُّداً في هذه الحوارات، ونحاول، ابتداءً، وقبل أي حديث عن رؤية الشِّيوعيِّين، مثلاً، لـ "الدَّولة المدنيَّة"، وخلافه، تسليط شحنة من الضَّوء على أعمِّ المنطلقات المعرفيَّة الماركسيَّة التأسيسيَّة لمفهوم ومصطلح "الدَّولة"، باعتبارها قمينة بحوار يتَّسِمُ بالوضوح، والإفصاح، والإبانة، واستقامة الطَّرح، كي يتفق النَّاس، إنْ اتفقوا، على بصيرة، أو يختلفوا، إنْ فعلوا، أيضاً، على بصيرة.
وقد يجدر بنا، ابتداءً، في أولى عتبات هذه الرُّؤية، أن نشير إلى أن ظاهرة "الدَّولة" شغلت، وما تزال تشغل، علماء السِّياسة من شتَّى الجِّنسيَّات، والمدارس الفلسفيَّة، والاتِّجاهات الفكريَّة، حيث راكموا حولها نتاجات ضخمة من النَّظريَّات المتَّسقة حيناً، والمختلفة أغلب الأحيان، في تفسير عوامل نشأتها، والكشف عن محدِّدات خصائصها، واستجلاء الفروق الجَّوهريَّة المائزة بين أشكالها المختلفة، والعمليَّات الباطنيَّة المؤثِّرة في مجرى سيرورتها، وتطوُّرها، ومآلاتها، وما إلى ذلك. ورُبَّما كان أكثر ما اتُّفق عليه تماماً، وسط الكثير الذي اختُلف حوله بحدَّة، في هذا الإرث المعرفي والفكري، أن العناصر الأساسيَّة المكوِّنة لـ "الدَّولة"، كظاهرة تاريخيَّة نشأت في مرحلة معيَّنة من تطوُّر التَّنظيم الاجتماعي، إنَّما تنحصر في وجود الشَّعب، والإقليم، ومؤسَّسة السُّلطة القابضة.
مع ذلك، ومع تطوُّر المعرفة، وما بلغته علوم التَّاريخ، والاقتصاد، والاجتماع، والأنثروبولوجيا، وغيرها، أخذت تتراجع، من جهة، دون أن تنقضي نهائيَّاً، الأفكار المثاليَّة، والنَّظريَّات الأسطوريَّة البالية في تفسـير ظاهرة "الدَّولة" كما لو كانت "آلة" محايدة، نزيهة، ومجرَّدة من الغرض، بينما أخذ ينجلى، من جهة أخرى، دون أن يسود تماماً، النَّظر إليها باعتبارها "تنظيماً" ينسِّق "سلطة" الطبقة السَّائدة اقتصاديَّاً، وسياسيَّاً، واجتماعيَّاً، و"جهازاً وظيفيَّاً" يشكِّل "الرُّكن" الأساسي من أركان هذه "السُّلطة"، ويعكس دلالة "جهاز القمع"، حسب كارل ماركس، أو "احتكار العنف المشروع"، وفق ماكس فيبر، أو "ضرورة المُلك"، بالمصطلح القديم لعالِم الاجتماع العربي عبد الرَّحمن بن خلدون، وذلك على سبيل المثال.
وقد يسارع قائل إلى وصف هذا النَّظر بـ "الأيديولوجيا" المحضة، وكأن في ذلك لعنة أو سُبَّة، بالاستناد إلى ما أضحى يشيع في الفكر البورجوازي، مؤخَّراً، من أن انهيار "النَّمط الستاليني" في تجربة البناء الاشتراكي ليس سوى دليل على "موت الأيديولوجيا"! غير أن الذين يردِّدون ذلك يصدرون، في الواقع، إمَّا عن عقل أسطوري، أو عن تفكير رغبي، فليس ثمَّة سبيل لتصوُّر الفصل بين أيَّة "عمليَّات عقليَّة" وبين "المنحى الأيديولوجي" الذي يؤثِّر عليها، ويحدِّد اتِّجاهها، باعتباره تركيبة من النظريَّات، والمعتقدات، والتَّصوُّرات، والرُّؤى، والأفكار، والنُّظم المكوِّنة للوعي، والمؤثِّرة فيه. لكن هذه التَّركيبة لا تنبني، دائماً، على معطيات "موضوعيَّة"، بل قد تنبني، أحياناً، على أوهام "ذاتيَّة"؛ وكذلك المنحى الذي تنتجه، فقد يمثِّل "معرفة أيديولوجيَّة حقيقيَّة"، وقد يمثِّل "معرفة أيديولوجيَّة زائفة". والأمر كذلك، فإن أكثر ما يحتاجه تصويب فكرنا السِّياسي هو "موضوعيَّة" التَّعامل مع المعطيات المادِّيَّة الباردة للتَّاريخ، والاجتماع، وما إليهما، والنَّأي عن التَّعويل على التَّصوُّرات الذَّاتيَّة، المثاليَّة، الأسطوريَّة.
وهكذا، فإن "الدَّولة"، في بؤرة هذا النَّظر، ليست، حسب إنجلز، بالقوَّة المفروضة على المجتمع من خارجه، ولا هي بـ "واقع الفكرة الأخلاقيَّة"، أو "صورة العقل"، كما يدَّعي هيغل. إنها الإفصاح الأكمل عن أن المجتمع بلغ درجة من التَّطور أوقعته في تناقض مع ذاته لا يمكنه حله، وانقسم إلى طبقات ذات مصالح متضادَّة يعجزه التَّوفيق بينها، ولكي لا تفترس هذه المتضادات بعضها البعض، اقتضى الأمر قوة تقف، ظاهريَّاً، فوق المجتمع، تلطِّف الاصطدام، وتبقي عليه ضمن حدود "النظام". فـ "الدَّولة" تنبثق عن المجتمع، ومع ذلك تنفصل عنه، وتضع نفسها فوقه! (ف. إنجلز؛ أصل العائلة والملكية الخاصة والدَّولة، ص ١-;-٧-;-٧-;- – ١-;-٧-;-٨-;-).
"الدَّولة"، إذن، هي نتاج ومظهر استعصاء التَّناقضات الطبقيَّة، تنشأ حيث، وعندما، وبمقدار ما تكون هذه التناقضات في حالة لا يمكن معها التوفيق بينها؛ بل إن "الدَّولة" نفسها هي أكبر برهان على هذه الحالة (ف. لينين؛ الدَّولة والثَّورة، ص 3).
لكن المفارقة، هنا، تكمن، حسب لينين، في أن هذه الحقيقة المعرفيَّة الأيديولوجيَّة هي التي تشكِّل النقطة التي يبدأ منها، بالتَّحديد، تشويه الأيديولوجيين البورجوازيِّين الصِّغار، بالذَّات، للماركسيَّة، حيث يُضطرُّون، تحت ضغط الوقائع التَّاريخيَّة القاطعة، إلى الاعتراف بأن "الدَّولة" لا توجد إلا حيث توجد التَّناقضات الطبقيَّة، والنِّضال الطبقي، فيعمدون إلى "تصحيح" ماركس، بحيث تبدو "الدَّولة" هيئة لـ "التَّوفيق" الطبقي! مع أن ماركس يرى، بعكس ذلك تماماً، أنه لا يمكن لـ "الدَّولة" أن تنشأ، أو تبقى، إذا كان هذا "التَّوفيق" ممكناً! فـ "الدَّولة"، برأي ماركس، هي هيئة للسَّيادة الطبقيَّة، هيئة لظلم طبقة من قِبَل طبقة أخرى، تكوينٌ أو "نظامٌ" يوطِّد هذا الظلم، وإنْ أضفى عليه مسحة "القانون"، و"تلطيف" صدام الطبقات؛ بينما "النِّظام"، و"تلطيف" الصدام، برأي البرجوازيِّين الصِّغار، هو "التَّوفيق" الطبقي، لا ظلم طبقة لأخرى؛ أو حرمان الطبقات المظلومة من بعض وسائل النِّضال لإسقاط الظالمين (نفسه).

(3)
والواقع أنه، منذ وقوع "الانقسام التَّاريخي" في مرحلة متأخرة من مراحل تطوُّر البنية الاجتماعيَّة البدائيَّة، ما بين "أقليَّة تملك" و"أغلبية تكدح"، تلاشى بعيداً، في إرث المجتمعات القبليَّة التي كانت تنتج وتدافع عن حياتها، جماعيَّاً، شكل "التَّسيير" المستند إلى "الرِّضاء العام"، والتقدير الجَّماعي "العفوي" للملكات الفرديَّة التي كانت تؤهِّل بعض الأشخاص، كالشِّيوخ، والحكماء، والفرسان، مثلاً، لأداء وظيفة الإشراف على ذلك "التَّسيير"، كونهم كانوا يجمعون في ذواتهم بين فرادة الخصائص الشَّخصيَّة وبين امتيازات "السُّلطة" المعنويَّة، دون أن يكون لديهم أيُّ نفوذ "مادِّي" لإملاء إرادتهم على الآخرين، من جهة، ودون أن ينتقص ذلك من الطابع الجَّماعي لـ "التَّسيير"، من جهة أخرى.
ويتَّفق مفكِّرون من مختلف المشارب على أن ذلك "الانقسام" الاجتماعي شكَّل بداية اللحظة التَّاريخيَّة التي برز فيها احتياج "السُّلطة" لأن تتأسَّس على قيمة أخرى غير "الامتياز" الشَّخصي، حيث تكفَّل بالكشف عن فداحة الهُوَّة بين "الخصائص الشَّخصيَّة" وبين "المهام" التي يوكل لمثل تلك "الخصائص" أن تنهض بها. عندها لم يتبق، وفق أطرف استنتاجات بوردو، مثلاً، "سوى حلَّيْن ممكنين لتفسير القدرة التي تتضمَّنها قرارات الحَّكام: فإما تأليه القائد لإقامة توازن بين سلطته وصفاته الشَّخصيَّة، وإما وضع أساس السُّلطة في مكانه الصَّحيح، خارج الحُكَّام، في مؤسَّسة قادرة على تحمُّل الخصائص التي تتعدَّى قوَّة البشر دون أن تترنَّح!" (جورج بوردو؛ الدَّولة، المؤسَّسة الجَّامعيَّة للدِّراسات والنَّشر والتَّوزيع، بيروت 1985م، ص 75).
مهما يكن من أمر، فمع تلاشي شكل "التَّسيير البدائي الجَّماعي" في التَّاريخ، ظهرت الحاجة المُلِحَّة إلى هذا الجِّهاز الوظيفي الحديث، "الدَّولة"، ليقطـع، تاريخيَّاً، مع شكل التَّنظيم "القَبَلي"، وليصبح التَّفريق مقبولاً، ولو بشكل نظريٍّ غالب، بين "السُّلطة" وبين "الأشخاص" الذين يمارسونها. ولئن كان المتخصِّصون، الآن، يعقلون هذا التَّفريق في إطار "النَّظريَّة القانونيَّة للدَّولة"، فإن لدى غير المتخصِّصين فهمهم القائم، حسب بوردو، على وجود ما يعطي "سلطة" هؤلاء الأشخاص قيمتها من خارجها. ولعلَّ هذا ما يفسِّر تصوُّر البعض لـ "الدَّولة" بأنها ليست سوى عقلنة للتفسير "السِّحري" للسُّلطة، "فبما أننا لم نعد نثق بالخرافات والعجائب .. نطلب من بناء فكريٍّ عقلاني مـا كـان ينتظـره النَّـاس فـي العصـور القـديـمـة مـن الخـرافـة والميثيولوجـيا" (نفسـه، ص 76).

(4)
لقد أُهرق حبر كثير، حتى الآن، في التَّنظير الأيديولوجي "الأسطوري" لـ "الدَّولة"، كي تبدو، للوهلة الأولى، وكأنها تعمـل وفق ضمانات محـدَّدة تتلخَّص في كونها تنتصب فوق الجميع؛ وتتجاوز مزالق "التَّفويض العفوي" العام، القائم، بطابعه القَبَلي والعشائري القديم، على الإقرار الجَّماعي بخصائص بعض الأشخاص، كالفرسان وغيرهم، باعتبارها المؤهِّل والمصدر المعتمَد لمشروعيَّة إشرافهم على "تسيير" نشاط الجَّماعة؛ فضلاً عن استطاعتها الارتقاء، كنموذج إدارة، إلى نمط مؤسَّسي حديث، يتشكَّل وفق هايراركيَّة مدعومة بـ "فصائل مسلحة" تتكفَّل بصيانة "النِّظام العام"، وتغطَّي كلفتُها من أموال الضَّرائب.
لكن، لأن حقل "التَّاريخ" ظلَّ، دائماً، بمثابة المختبر الحقيقي لأيِّ "أيديولوجيا"، فلقد صار إلى افتضاح صريح، منذ زمن طويل، أن ما يُسمَّى بـ "النِّظام العام" لا يعدو منظومة القيم والقواعد التي يُراد منها دعم "سلطة" المستحوزين على "الثَّروة"، وأن مهمَّة الفصائل المسلحة (تُقرأ: القامعة) هي حماية "مصالح" الطبقات والفئات الاجتماعية السَّائدة اقتصاديَّاً وسياسيَّاً. وباختصـار فإن "الدَّولة، التي قامت لتكون المركز المتجرِّد للسُّلطة، تتحوَّل لتصبح العذر للذين يحكمون باسمها، ولكن .. مصالحهم (هي) التي تملي القرارات التي تُنسب إليها" (نفسه ، ص 14).
هكذا أضحى مصطلح "الدَّولة" يُستخدم، أكثر فأكثر، للدَّلالة على "أداة" التَّسلط السِّياسي لـ "الأقلية" التي تدَّعي خدمة "كلِّ" المجتمع، بينما هي، في حقيقتها، نتاج انقسام هذا المجتمع إلى طبقات تتمايز في ما بينها، وتتدافع، من مواقعها المختلفة، حول "السُّلطة" و"الثَّروة"، وما ينتسب إليهما، ويحيط بهما، من مفاهيم دينيَّة، وأخلاقيَّة، وثقافيَّة، وغيرها، في إطار منظومة القيم والمثل والمؤسَّسـات التي تشكِّل البنية الفوقيَّة للمجتمع superstructure، "وعندها تصبح الدَّولة .. ستاراً لمشروع تسلُّطي، على الأقل، إذا لم تكن ما رآه ماركس فيها عندما أدانها باعتبارها أداة للقمع. إن الوهم يولد الأسطورة، وهكذا الدَّولة، التي تمَّ تصوُّرها لتطهير السُّلطة من الضَّعف الإنساني، تصبح هي أداة تبريره" (نفسه).

(5)
وبعد؛ تتبقى كلمتان، في هذه العجالة، بشأن الخلط والتخليط اللذين يقعان، أحياناً، بين "الدَّولة" و"المجتمع المدني". فـ "الدَّولة"، في بعض وجوه التَّعقيد الذي يسِمُ ظاهرتها، تتبدَّى بوصفها فرعيَّة، أو ثانويَّة، إذ ليست هي التي "تحدِّد" هذا المجتمع، لجهتي "التَّكييف" و"التَّنظيم"، بل العكس هو الصَّحيح تماماً. لكن أنطونيو غرامشي يميِّز، في هذا المنظور، بين "الدَّولة" في الغرب الرَّأسمالي المتطوِّر، و"الدَّولة" المتخلفة اقتصاديَّاً واجتماعيَّاً. ففي الأخيرة، حيث "المجتمع المدني" هلامي وبدائي، كانت "الدَّولة"، دائماً، هي كلُّ شئ، بينما العلاقة بين الكيانين في الغرب الرَّأسمالي تتَّسِم بقدر من التَّوازن الذي يتيح لـ "المجتمع المدني" أن يتكشَّف عن هيكل قوي متماسك في ذات اللحظة التي تكون فيها "الدَّولة" في حالة ترنُّح، حيث أن الأخيرة ليست، في حقيقتها، سوى "حصن" أمامي تقوم خلفه سلسلة من "الحصون" المنيعة (كرَّاسات السِّجن، المجلد الثالث، ص169). وعلى هذا الطرح يتوقَّف الكثير، في ما يبدو، رغم أن غرامشي نفسه يعود، في مواضع أخرى، فلا يستبعد أن يحدث العكس، أحياناً، عندما يحيط "المجتمع المدني" بـ "الدَّولة"، ويحميها. وفي تفسير ذلك يشير المفكِّر الماركسي الإيطالي إلى نسبيَّة المسألة في الدُّول الرَّأسماليَّة المتقدِّمة التي تتَّسِم بالتَّمايز في تكوين كلٍّ منها. مع ذلك فالمشترك العام بينها هو ضمان استمرار "هيمنة" الرَّأسماليَّة بوسائل أكثر تعقيداً من مجرَّد "القمع" المباشر المعتمد لدى "الدُّول" المتخلفة، بما يضمن مزيجاً فعَّالاً من "الإكراه" و"القبول" لجهة الطبقات "المستغَلة"، وكلما أوغلت "الدَّولة" الرأسمالية في التَّقُّدم، كلما قل لجوئها للعنف المادِّي المجرَّد، وازداد تعويلها على كسب "رضا" المحكومين لأجل تكريس نفس أوضاع "الاستغلال" الطبقيَّة السَّائدة.
وبما أن الطبقة الحاكمة تستهدف بذلك تمرير "تسوية" خادعة، فإنها تعمد إلى التَّلويح بمساندة قضايا بعينها تمثِّل رغبات شائعة في أوساط المحكومين، بحيث تختلف تلك القضايا من مجتمع لآخر، وتتحدَّد بحسب الظروف في كلِّ مرحلة، ويجري التَّعويل، في باب التَّرويج لها، على أجهزة الإعلام السُّلطويَّة "تُقرأ: البروباغاندا الرَّسميَّة"!

(6)
ختاماً، لا بُدَّ من التطرُّق، في السِّياق، وإنْ باقتضاب، إلى المقولة الماركسيَّة المعروفة بـ "اضمحلال الدَّولة"؛ لكن، لئن كنا نفذنا إليها من خلال أطروحة "ديكتاتوريَّة البروليتاريا"، فإنه يلزمنا، ابتداءً، لفت الأنظار إلى عدم استخدام أدبيَّات الشِّيوعيِّين السُّودانيِّين لهذا المصطلح. وهكذا، بتعبير إنجلز، "تستولي البروليتاريا على سلطة (الدَّولة)، وتبدأ بتحويل وسائل الإنتاج إليها؛ ولكنها بذلك تقضي على نفسها بوصفها بروليتاريا، وتقضي على كل الفوارق والتَّناقضات الطبقيَّة، كما تلغي (الدَّولة) نفسها، في ذات الوقت، بوصفها هذا". ويمضي إنجلز في شرح المسألة بقوله: "كان المجتمع الذي لا يزال يتحرَّك في إطار التناقضات الطبقيَّة يحتاج إلى الدَّولة، أي إلى (تنظيم) للطبقة المستغِلّة، في كلِّ مرحلة، للحفاظ على شروطها الخارجيَّة للإنتاج، بقصد إخضاع الطبقة المستغَلة بالقوَّة، في ظروف الاضطهاد التي يحدِّدها أسلوب الإنتاج القائم (العُبوديَّة أو القنانة أو العمل المأجور). لقد كانت (الدَّولة) هي الممثِّل الرَّسمي للمجتمع بأسره، كانت تركيزاً له في جسم منظور، ولكنها لم تكن كذلك إلاّ بمقدار ما كانت (دولة) تخصُّ تلك الطبقة التي كانت هي نفسها تمثِّل، في زمانها، المجتمع بأسره: دولة المواطنين من ملاك العبيد في العصور القديمة، و(دولة) النُّبلاء الإقطاعيِّين في القرون الوسطى؛ و(دولة) البُورجوازيَّة في عصرنا. لكن عندما تصبح (الدَّولة)، في نهاية المطاف، الممثل الحقيقي للمجتمع بأسره، فإنها تجعل من نفسها شيئاً لا لزوم له! إذ حالما لا تعود ثمَّة أيَّة طبقة اجتماعيَّة ينبغي إخضاعها، وحالما يزول الحكم الطبقي، والصِّراع في سبيل البقاء الفردي، ذلك الصِّراع النَّاشئ عن الفوضى الحاليَّة في الإنتاج، وكذلك الاصطدامات، وأعمال التطرُّف الناشئة عن ذلك الصِّراع، فإنه لا يتبقَّى ثمَّة من ينبغي قمعه، ولا يتبقَّى شيء يتطلب قوَّة خاصَّة للقمع، أي (الدَّولة). إن أوَّل عمل تبرز فيه (الدَّولة)، حقَّاً، بوصفها ممثِّلة للمجتمع بأسره، وهو الاستيلاء على وسائل الإنتاج باسم هذا المجتمع، هو، في الوقت نفسه، آخر عمل تقوم به بوصفها (دولة)، ويصبح تدخُّل (الدَّولة) في العلاقات الاجتماعيَّة أمراً لا لزوم له في مجال بعد آخر، ويخبو، بعد ذلك، بالتَّدريج، من تلقاء نفسه .. فـ (الدَّولة) لا تُلغى، إنَّما تضمحل". وهذا "الإضمحلال" الذي ينطوي على معنى التَّدرُّج هو ما يعتبره إنجلز، أيضاً، المعيار الذي ينبغي أن تقيَّم مسألة "نهاية الدَّولة" على أساسـه، فـي باب الـرَّد عـلى الفـوضـويِّين، وتابعيهم من الانتهازيين الذين يعمدون إلى تحريف الماركسيَّة بوضع مطلب "الإلغـاء" الفـوري لـ "الدَّولة"، بيـن عشـيَّـة وضحـاهـا، بديلاً عن "اضمحلالها" التَّدريجي لدى توفُّر أشراطه (ضـدَّ دوهـريـنج ـ "ثـورة السَّـيِّـد يـوجـيـن دوهـريـنـج في العـلوم"، ص 301 – 303).
ولكي نستكمل أهمِّ الاستجلاءات المعتمَدة عن غرامشي، أيضاً، في شأن العلاقة بين "الدَّولة" و"المجتمع المدني"، يلزمنا أن نشـير، مثلاً، إلى مبحث كريم أبو حلاوة الموسوم بـ "إعادة الاعتبار لمفهوم المجتمع المدني"، حيث يستند إلى تدقيق غرامشي لمفهوم "نهاية الدَّولة" بأنها غير منتهية بذاتها، وإنْ كان ممكناً تصوُّر ذلك عنها كـ "أداة"، بمعنى أن نشوء واختفاء هذه "الأداة" مشروطان بنشوء واختفاء "المجتمع" الذي تعبِّر عنه، وهذا ما دعاه غرامشي "الدَّولة الموسَّعة"، أي الظاهرة بشقّيْها المدني والسِّياسي (م/ عـالم الفكـر، ع/ 3، المجـلس الوطـني للثقافـة والفـنون والآداب، الكويت، يناير/مارس 1999م، ص 16 ـ وانظـر ضـمنه: Bobio, Norbirto-;- Civil Society in Gramci, 1988, p. 76 – 77).

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إنْكَارُ التَّعَدُّديَّةِ كَعْبُ آخيلِ الإِسْلامِ السِّياسِي ...
- الحِوَارُ السُّودَانِيُّ أَوْ .. عَجَلةُ التَّاريخِ المَعْطُ ...
- مِنْ سَايكِسْ بِيكو إِلى .. دَاعِش!
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [الأخيرة]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [7]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [6]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [5]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [4]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [3]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [2]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]
- الذَّاكِرَةُ الحَقيقيَّةُ تِرياقُ الذَّاكِرَةِ المُخْتَرَعَة ...
- تُركيا: عِبْرِةُ التَّصْوِيتِ العِقَابِي!
- شُبُهاتٌ حَوْلَ العَلمَانيَّة!
- خَرَاقَةُ السِّياسَةِ: دَارْفُورْ وتَقْرِيرُ المَصِيْر!
- شَلْ .. ضِدَّ العَالَم!
- للمَرَّةِ الأَلْفِ: بِدُونِ تَعْليمِها حُقُوقِ الإِنْسَانِ ف ...
- أَنْدرو مُوينْدا: خِطابُ الاسْتِفْزِازِ الأَفريقِي!
- الدِّينُ والعَلْمَانِيَّةُ بَيْنَ السِّيَاسَةِ والثَّقَافَة!
- محمود!


المزيد.....




- في اليابان.. قطارات بمقصورات خاصة بدءًا من عام 2026
- وانغ يي: لا يوجد علاج معجزة لحل الأزمة الأوكرانية
- مدينة سياحية شهيرة تفرض رسوم دخول للحد من أعداد السياح!
- أيهما أفضل، كثرة الاستحمام، أم التقليل منه؟
- قصف إسرائيلي جوي ومدفعي يؤدي إلى مقتل 9 فلسطينيين في غزة
- عبور أول سفينة شحن بعد انهيار جسر بالتيمور في الولايات المتح ...
- بلغاريا: القضاء يعيد النظر في ملف معارض سعودي مهدد بالترحيل ...
- غضب في لبنان بعد فيديو ضرب وسحل محامية أمام المحكمة
- لوحة كانت مفقودة للرسام غوستاف كليمت تُباع بـ32 مليون دولار ...
- حب بين الغيوم.. طيار يتقدم للزواج من مضيفة طيران أمام الركاب ...


المزيد.....

- في يوم العمَّال العالمي! / ادم عربي
- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولي - الدَّوْلَةُ: في الإِبَانَةِ حَوْلَ المَفْهُوْمِ والمُصْطَلَح!