أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كمال الجزولي - الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [6]















المزيد.....

الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [6]


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 4865 - 2015 / 7 / 13 - 00:54
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [6]
مَائَةُ عامٍ مِنْ عُزْلَةِ الدُّرُوسِ المُهْدَرَة
(مَبْحَثٌ فِي قِيمَةِ الاعْتِبَارِ التَّارِيخِي)

بقلم/ كمال الجزولي

"إلى رُوحِ جَدِّي لأمِّي مُحَمَّد وَدْ عَبْدَ الكَريمْ الأَنصَـاري الذي
عَاشَ لأكـثَرَ مِن نِصـفِ قَرْنٍ بَعْدَ (كَرَرِي)، راكِـلاً الدُّنيا بِمَا
فِيهَا، ومُتَرَقِّباً القِيامَةَ، فِي كُلِّ مَـرَّةٍ، يَومَ الجُّمُعَةِ القَادِمَةْ"!

***
تزامن اندياح جحافل الأنصار على شوارع الخرطوم مع انتهاء
مؤتمر برلين من تقسيم العالم إلى متروبولات ومستعمرات!

استدار منطق "المهديَّة الثَّورة" ليشكِّل مأزق
"المهديَّة الدَّولة" من حيث وجوب هدم الوجود .. لا تغييره!

يقع ناقصاً، بل ظالماً، أيُّ تثمين للخليفة ما لم يستصحب
استحالة الدَّعوة التي أورثه إيَّاها المهدي لاعتزال الحياة الدُّنيا!

انقضت سنوات الثَّورة ولمَّا تكن قد انقضت رسالتها في تصدير دعوتها
إلى عالم كانت رأسماليَّته تتهيَّأ للدُّخول في مرحلتها الإمبرياليَّة!


(17)
لعلَّ من أبرز الأمثلة على تشدُّد الإمام الثَّائر في التمسُّك بمنظومة مبادئ العدل والمساواة التي تتمحور حول قيَمة "الزَّهد"، بالغاً ما بلغ نباح الفرص المواتية بقطاف المصالح "الدنيويَّة"، أنه فضَّل مصادمة أرستقراطيَّة الكبابيش "النوراب"، والثَّورة لمَّا تزل، بعدُ، طريَّة العود، وفي أشدِّ الاحتياج للسَّند والمؤازرة، الماديَّتين على وجه الخصوص، من مضخاتهما الرَّئيسة في المجتمع، على أن يساوم، ولو قدر قيراط، بشئ من تلك المبادئ والقيَم. فقد أصدر منشوراً يخاطب الكبابيش، ضمن آخرين، في أوَّل سنة 1300هـ، الموافق 3 أبريل سنة 1883م، طالباً "ألا يتشاجر اثنان في طريق الزَّرع، ولا يدَّعى أحد وراثة الأرض من آبائه وأجداده ليأخذ عنها خراجاً، أو يقيم بها من هو ساكن لأجل ذلك" (الأحكام والآداب للإمام محمد احمد المهدى ـ ضمن: ع ع إبراهيم؛ الصِّراع بين المهدى والعلماء، ص 81 ـ 83). كمـا طـلب مـن الكبابيش، في ذات المنشور، أن يردُّوا ما نهبوا من دفع الله ود محمَّد الجَّهني، وأن يكفُّوا، عموماً، عن نهب أموال المسلمين (نفسه).
وربَّما كان من الضروري أن نشير هنا إلى المكانة الخاصَّة التي شغلتها "الأرض" ضمن مفهوم "الثَّروة" عند "النُّوراب"، وما ارتبط بها من مفاهيم "الدَّار" و"التـَّبَع"، فضلاً عن مفهوم "القيمان"، مِمَّا توفَّر عبد الله على إبراهيم على تقصِّيه في مبحثه القيِّم "المهديَّة والكبابيش: نحو مشروعيَّة للمعارضة"، وذلك من أجل تقدير أفضل لمدى التَّهديد الذي انطوى عليه "زهد" المهديَّة الطهراني ذاك لمجمل البنى الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والأخلاقيَّة التي عرفها المجتمع الكبَّاشي، كمثال، منذ مطالع القـرن الثامـن عشـر (الصراع بين ..، ص 71 ـ 93).

(18)
إنقضت سنوات (المهديَّة الثَّورة)، ولمَّا تكن قد انقضت، بعدُ، رسالتها التي لم تقتصر، أصلاً، على تحرير السُّودان، فحسـب، بل حملت على عاتقهـا، أيضـاً، ومنذ البداية، عبء (تُقرأ: مأزق) تحرير البلدان الإسلاميَّة، بأسرها، من حكم آل عثمان وغيرهم من الأجانب، والانطلاق بدعوة المهديَّة، من ثمَّ، لتصديرها إلى عالم كانت رأسماليَّته، وقتها، تتهيَّأ للدُّخول في مرحلتها الإمبرياليَّة، وتصدير الرساميل الضَّخمة، من فوق سنام كلِّ الاحتكارات الهائلة، والتروستات العملاقة، بعد أن أتخمت في الغرب، حتَّى أسنانها، بمنجزات التَّنافس "الحُر"، والثَّورة الصِّناعيَّة، والقدرات غير المحدودة الآخذة في التَّعمُّق والتَّمدُّد، رأسيَّاً وأفقيَّاً، لرأس المال المالي، إبن سفاح الرِّباط غير المقدَّس بين رأس المال الصِّناعي ورأس المال البنكي، يحدوها الأمل في تجاوز أزمتها، أوان ذاك، بتجديد مصادرها للخـام، وتوسـيع أسواقهـا للتَّصـريف. فبأيِّ معيار، إذن، يمكن وزن ذلك العبء الذي حملته "المهديَّة الدَّولة" على عاتقها، في إطار محدِّداتها العقائديَّة الصَّارمة، وفي ضوء أشراطها التَّاريخيَّة المعلومة، محليَّاً، وإقليميَّاً، وعالميَّاً؟!

(19)
أطفأت القاعة الفخيمة التي شهدت انعقاد "مؤتمر برلين"، بمبادرة من ألمانيا وفرنسا، ثريَّاتها الكريستاليَّة الضَّخمة التي ظلت أنوارها المبهرة تتلاصف تحت قبَّتها على مدى الأشهر الشِّتائيَّة الثلاثة، من نوفمبر 1884م إلى فبراير 1885م. وعلى حين كان مندوبو الدُّول الأربع عشرة المشاركة في ذلك المؤتمر يجمعون أوراقهم، بحرص، من على الطاولات، ويعيدونها، بعناية، إلى الإضبارات، ويزنِّرونها، ثمَّ يحكمون وضع معاطفهم وقبُّعاتهم استعداداً للرَّحيل، كانت لا تزال كلُّ العبارات والكلمات الطنانة التي انشحنت بها قراراتهم، من سنخ "حريَّة التِّجارة في حوض الكنغو"، و"حريَّة الملاحة عبر الأنهار الأفريقيَّة"، وما إلى ذلك، غير كافية، البتَّة، لمداراة الهدف الأساسي من المؤتمر: اقتسام مناطق النُّفوذ في وسط أفريقيا بين ضواري الإمبرياليَّة العالميَّة، وتدشين مرحلة جديدة تخزى تاريخ العالم باختزالها لواقع علاقاته الجيوبوليتيكيَّة، على أعتاب القرن العشرين، إلى محض "متروبولات" و"مستعمرات"!
في نفس تلك اللحظة، للعجب، كانت جحافل "الفقراء الذين لا يُعبأ بهم" تنداح على شوارع الخرطوم، مدينة التُّرك، لتستكمل حلقات انتصارها المؤزَّر على جيوش الصَّلف الأجنبيِّ، بقيادة غردون باشا، ولتمسح عرق النَّضال المتفصِّد من الجِّباه الأنصاريَّة النَّبيلة، ولتغسل آخر قطرات الدَّم الغازي العالقة، وقتئذٍ، بصفحات السُّيوف الوطنيَّة الماجدة، ولتعلن ميلاد الدَّولة الوطنيَّة الموحَّدة المستقلة الأولى في تاريخ السُّودان ـ دولة المهديَّة.
وبالحق، فإن ما أنجزته "الثَّورة" كان، عند ذلك الحد، كافياً لإعلان انتصارها الحاسم، بكلِّ المعايير، والدُّخول في مرحلتها التالية: بناء "الدَّولة" لإعمار ما خرَّبه الترك، وتحقيق "الوجود المغاير"، كمردود مستحق لأولئك الكادحين الذين جعلوا ذلك الانتصار ممكناً ببلائهم وفدائهم العظيمين.

(20)
لكن، لئن كان ذلك هو منطق "التَّاريخ"، فإن منطق "المهديَّة الثَّورة" استدار ليشكِّل مأزق "المهديَّة الدَّولة" الأكبر، وليفرض عليها أن تعيد ترتيب أولويَّاتها لترمي بثقلها كله، لا على طريق "تثوير" ذلك "الوجود"، بل لتعريضه لـ "الهدم"، جملة وتفصيلاً، بذريعة استكمال رسالتها الكبرى على الوجه المار ذكره: "هدم هذه الدُّنيا"، و"بناء العالم الآتي"، وحمل قيَم ومبادئ الدَّعوة، ولو على حدود السِّيوف وأسنَّة الرِّماح، إلى جميع البلدان، خصوصاً الإسلاميَّة، لتحريرها على نموذج السُّودان!
كان ذلك العبء، في تلك المناخات الجَّديدة التي خيَّمت على عالم الربع الأخير من القرن التاسع عشر، هو، على وجه الدِّقَّة، التَّحدِّى الأكبر الذي واجه الخليفة، منذ أوَّل بيعته فور وفاة قائد الثَّورة وإمام الثُّوَّار، فى 9 رمضان سنة 1302هـ، الموافق 22 يونيو سنة 1885م، بعد مرور أقلِّ من خمسة أشهر على انتصارها، وإعلان دولتها، فى 9 ربيع الثانى سنة 1302هـ الموافق 26 يناير سنة 1885م. لذا، فإن أيَّ تثمين لسياسات "المهديَّة الدَّولة"، تحت قيادة الخليفة عبد الله، يقع ناقصاً، بل ظالماً، ما لم يستصحب عِظم المسؤوليَّة الأيديولوجيَّة التي تكاد تلامس حواف الاستحالة، والتي ألزمتها بها القوانين الباطنيَّة لـ "المهديَّة الثَّورة"، وفكرها، تحت قيادة الإمام الثَّائر، خصوصاً في ما يتَّصل بامتداداتها الإقليميَّة، وبعدها العالمي، بالدرجة التي جعلت الهمَّ الرِّساليَّ "الكونيَّ" يطغى على الشَّأن "الدَّاخليِّ"، فيقلصه في ميزان الأهميَّة، على خطره، إلى محض محطة عبور transit تكاد لحظةُ بلوغها لا تفي بأكثر من الشُّروع في تجاوزها!
كان سيِّدى الإمام المهدي، عليه السلام، هو الذي حدَّد، بنفسه، هذه المعايير، ضمن النَّسقين الفكري والسِّياسي للدَّعوة. ففي رسالته الشَّهيرة، مثلاً، إلى توفيق باشا، خـديوي مصـر، خاطـبه بقـوله:
ـ ".. أظهــرني الله طبق الوعد الصَّادق رحمة لعباده لأنقذهم .. وبشَّرني سيِّد الوجود (صلعم) بالنَّصر .. وأخبرني بأنِّي أملك جميع الأرض .. و .. هذا أوان المؤمن المصدِّق بوعد الله لا يرى لجميع ما في الحياة الدُّنيا من الفانيات قيمة، ولا يأسف على ما فاته .. وإنَّما يكون مطمح نظـره إلى ما عند الله من النَّوال في دار الكرامة والأفضال .. فدقِّق النَّظر، واجمع عليك فكرك .. ولا تغـتر بقـوَّة حصن بلدك .. ومظاهـرة دول أهل الكفر لك .. وقد حرَّرت إليك هذا الكتاب وأنا بالخرطوم شفقة عليك .. وها أنا قادم على جهتك بجنود الله عن قريب إن شاء الله تعالى، فإن أمر السُّودان قد انتهى" (رسالة المهدي إلى خديوي مصر ـ ضمن: ن شقير؛ تاريخ السُّودان، ص 590 ـ 594).
فى إطار ذلك المشهد ، وفى ذلك الظرف التَّاريخي الحرِج، أخذت في التَّكشُّف، رويداً رويداً، ملامح الصِّدام المحتوم بين المشروعين: الإمبريالي القائم في "تصدير رأس المال"، والمهدوي القائم في "تصدير الثَّورة"!

(21)
وإذن "فإن أمر السُّودان قد انتهى" بمحض انتصار "الثَّورة" وإعلان "الدَّولة"، على حدِّ تعبير الإمام المهدي! كان ذلك هو المعطى الفكري شديد التَّناقض والتَّعقيد، والكامن في صلب المشروع السِّياسي الاقتصادي الاجتماعي للدَّولة الوليدة، في عين اللحظة التي تمَّت فيها البيعة لسيِّدي ود تورشين، وفى حدود المستوى المتاح من الوعي الاجتماعي العام بالعصر، وبالذَّات، وبالآخر. فلئن كان مفهوم "الدَّولة" ينطوى، في بعض تعميماته، على دلالة الآليَّة التي تبرز، في درجة معيَّنة من التَّطوُّر، كضرورة لا غنى عنها للتَّحكُّم بحركة إعمار "الحياة الدُّنيا"، وإدارة علاقات النَّاس الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة في إطار نشاطهم الرَّامي لإنتاج الخيرات الماديَّة، تلبيةً لحاجاتهم البشريَّة، باعتبار ذلك بمثابة المحدِّد الأساسي والأهمُّ لكلِّ التغيُّرات التي تقع في مسار تطوُّر المجتمع، وفى ظلِّ القدر المعقول من عوامل ديمومة واستقرار هذا المجتمع، فإن مشروع "المهديَّة الدَّولة"، رغم كلِّ ما بذل الخليفة من جهد في تنظيمها، وما أبدى رجاله من عبقريَّة فذَّة في هذا الشَّأن، ظلَّ مطروحاً، بإلحاح، على خط التَّناقض الجَّوهري مع هذا المفهوم، حيث كان، عليه رحمة الله ورضوانه، مكبَّلاً، تماماً، بثوابت الخطاب المهدوي الصَّارم الذي لا محيد عنه، والذي شاد مرجعيَّته الفلسفيَّة الأساسيَّة على "الزُّهد" المطلق في "جاه الدُّنيا الفاني"، و"متاعها الخسيس"، والطلب الصَّادق لـ "نعيم الآخرة" وحده، دون سواه، دَعْ البُعد الخارجي المتمثل في واجب "تصدير" هذه القيَم والمعاني إلى العالم بأسره، ولو بـ "قوَّة السِّلاح"!
هكذا تحتَّم أن تصطبغ كلُّ ترتيبات الدَّولة بصبغة هذا المشروع المتوطن في معنى "الإعراض المطلق" عن الدُّنيا، والتطلع لـ "الاستشهاد" بإلحاح! ومن ثمَّ فُرض على السُّيوف أن تبقى مسلولة لا تهجع في أغمادها حتَّى بعد انتصار "المهديَّة الثَّورة"، وأن تتسارع وتائر تأسيس "المهديَّة الدَّولة"، وبالأخص حاضرتها أم درمان، لا كخليَّة حركة مدنيَّة تكدح في "إعمار الحياة"، وتحرس استقرارها وتطورها بمبادئ المساواة، والإخاء، والشُّورى، وحكم القسط، وسائر قيَم العدالة الاجتماعيَّة، وإنما كثُكنة عسكريَّة ضخمة لجنود في حالة طوارىء مستمرَّة، وجاهزيَّة دائمة stand by للقتال في أيَّة بقعة في العالم يُطلب منهم "تحريرها" و"أسلمتها"، أو "الشَّهادة" دون ذلك، علاوة على ما هو مفترض فيهم، أصلاً، وفق ذات المنطق، من "إعراض تام عن هذه الدَّار الفانية التي لا تزن عند الله جناح بعوضة" (رسالة المهدي إلى أهل مراكش المستوطنين مصر، المرجع نفسه، ص 594).

(22)
بالنَّتيجة، فَرَضت أيديولوجيَّة "المهديَّة الثَّورة" على "المهديَّة الدَّولة" أن تتقدَّم العسكريَّة militarism لتحتل، بكلِّ خصائص الصَّرامة، والشِّدَّة، والمبالغة في الحزم، موقع الصَّدارة من النَّشاط الاجتماعي، وأن تطبع الحياة كلها بطابع الجَّفاء الغليظ الذي لا يعرف توسُّطاً في الدِّين أو الدُّنيا، ناهيك عن عدم واقعيَّته، وعدم تأهُّله لتقدير ميزان القوَّة على الصَّعيدين الإقليمي والدَّولي، وأن تتراجع إلى المرتبة الثَّانية كلُّ الأنشطة الإداريَّة، والتِّجاريَّة، والزِّراعيَّة، والحرفيَّة، والتَّعليميَّة، والثَّقافيَّة، والإبداعيَّة، بل وأن تتقلص حتَّى الممارسات المتَّصلة بالأمزجة الإنسانيَّة في أكثر صورها براءة، والاحتياج الطبيعي للتَّرويح عن النَّفس في أكثر تعبيراته بساطة، ليصبح كلُّ ذلك إمَّا محرَّماً تصعب ممارسته في العلن، وإمَّا مباحاً، ولكن مستلحقاً بالمجهود الحربي، مكرَّساً لخدمته، ومستمدَّاً مبرِّراته من مقتضياته.
وبالتَّبعيَّة أضحى منطقيَّاً، تماماً، أن تترجَّح كفَّة الكوادر العسكريَّة على كفَّة الكوادر المدنيَّة، لجهة السُّلطة، والنُّفوذ، والمكانة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة. وفاقمت من أثر كلِّ هذا وذاك عمليَّات التَّهجير الضَّخمة لـ "أولاد العرب" من مراتعهم الأصليَّة في الغرب إلى أم درمان والسُّهول الوسطى الزِّراعيَّة عموماً، في سياق الموازنات القبليَّة والجِّهويَّة التي لجأ الخليفة لانتهاجها، كما سلفت الإشارة، لأجل إعادة صياغة مركز الحكم في الوسط، وتعديل تركيبة بيئته التي لطالما اعتبرها غير مواتية لسلطته حال غلبة الأشراف، عشيرة المهدي، و"أولاد البلد" عليها. فقبائل "أولاد العرب" الرَّعويَّة كانت هي القوى التي تحمَّلت، بالأساس، العبء الأكبر من القتال أيَّام الثَّورة. ثمَّ ها هي الآن تُنتزع، قسراً، من دائرة نشاطها الرَّعوي، وتقاليد حياتها المتوطنة في الطلاقة التي لا تلائمها قيود الاستقرار الحضري، ليقذف بها إلى الوسط، فتشكِّل عبئاً إضافيَّاً على بيت المال، وتستنزف غلة الجَّزيرة التي حُبست عليها (م شبيكة؛ تاريخ شعوب وادي النيل، ص 698)، في واقع ثقافي وديموغرافي مغاير، بين قبائل زراعيَّة وتجاريَّة مستقرَّة، تتمتَّع بدرجة أعلى من الوعي الاجتماعي القومي، وتأهيل أكثر، تبعاً لذلك، في ما يتصل بقيادة المجتمع، وتسيير دفَّة الحكم، وبلورة فكرة الأمَّة (م س القدَّال؛ تاريخ السُّودان الحديث، ص 165 ـ 168)، ويسيطر عليها الإحساس بأنها الأكثر دراية بشؤون الإدارة، والدِّين، والتِّجارة (م شبيكة؛ السُّودان في قرن، ص 248).
سياسة التَّهجير تلك تتحمَّل، بالضَّرورة، وفضلاً عن مفاقمتها لشروخ الجَّبهة الدَّاخليَّة، وزر الدَّمار الذي حاق بالقطاعين الزِّراعي والرَّعوي، مِمَّا كان له أفدح الأثر في مجاعة سنة 1306هـ (1888م ـ 1889م) التي حصدت من الأنفس ما لم تحصد حروب المهديَّة مجتمعة (م شـبيكة؛ تاريخ شعوب ..، ص 698 ).
(نواصل)

***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [5]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [4]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [3]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [2]
- الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [1]
- الذَّاكِرَةُ الحَقيقيَّةُ تِرياقُ الذَّاكِرَةِ المُخْتَرَعَة ...
- تُركيا: عِبْرِةُ التَّصْوِيتِ العِقَابِي!
- شُبُهاتٌ حَوْلَ العَلمَانيَّة!
- خَرَاقَةُ السِّياسَةِ: دَارْفُورْ وتَقْرِيرُ المَصِيْر!
- شَلْ .. ضِدَّ العَالَم!
- للمَرَّةِ الأَلْفِ: بِدُونِ تَعْليمِها حُقُوقِ الإِنْسَانِ ف ...
- أَنْدرو مُوينْدا: خِطابُ الاسْتِفْزِازِ الأَفريقِي!
- الدِّينُ والعَلْمَانِيَّةُ بَيْنَ السِّيَاسَةِ والثَّقَافَة!
- محمود!
- مُؤْتَمَرُ الشَّارِقَةِ .. السُّودانِي!
- إِنْتَبِهْ .. أنْتَ مَوْعُودٌ بِتَخَلُّفٍ عَقْلِي!
- قِيَامَةُ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ 26 مَارِس!
- مَرحَباً بِجَهدِ شَبَكةِ صَيْحة الاستِنَاري!
- عَلِي عُثْمَانْ وَالحِقْدُ الطَّبَقِي فِي السُّودَان!
- مِن نِيو دَلْهِي إلَى الخُرْطومِ إلى بُوغُوتَا: العِلمُ لأجْ ...


المزيد.....




- مصر.. الدولار يعاود الصعود أمام الجنيه وخبراء: بسبب التوترات ...
- من الخليج الى باكستان وأفغانستان.. مشاهد مروعة للدمار الذي أ ...
- هل أغلقت الجزائر -مطعم كنتاكي-؟
- دون معرفة متى وأين وكيف.. رد إسرائيلي مرتقب على الاستهداف ال ...
- إغلاق مطعم الشيف يوسف ابن الرقة بعد -فاحت ريحة البارود-
- -آلاف الأرواح فقدت في قذيفة واحدة-
- هل يمكن أن يؤدي الصراع بين إسرائيل وإيران إلى حرب عالمية ثال ...
- العام العالمي للإبل - مسيرة للجمال قرب برج إيفل تثير جدلا في ...
- واشنطن ولندن تفرضان عقوبات على إيران تطال مصنعي مسيرات
- الفصل السابع والخمسون - د?يد


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - كمال الجزولي - الحَامِضُ مِنْ رَغْوَةِ الغَمَام [6]