أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولي - الذَّاكِرَةُ الحَقيقيَّةُ تِرياقُ الذَّاكِرَةِ المُخْتَرَعَة!















المزيد.....

الذَّاكِرَةُ الحَقيقيَّةُ تِرياقُ الذَّاكِرَةِ المُخْتَرَعَة!


كمال الجزولي

الحوار المتمدن-العدد: 4856 - 2015 / 7 / 4 - 04:26
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


(1)
ظلَّ المدنيُّون، دائماً، وفي كلِّ أنحاء العالم، حطب نار الحروب الدَّوليَّة، والنِّزاعات المسلحة الدَّاخليَّة، وكثيراً ما تُحسب أعدادهم بالملايين. تقع أكبر الخسائر عليهم، بالأساس، بينما غالباً ما يفوز العسكريون المحترفون وحدهم، قتلى أو جرحى، بتكريم حكوماتهم لهم، ورعايتها لأسرهم، وإطلاقها ألقاب البطولة عليهم، وألقاب الشَّهادة، قطعاً، في البلدان الإسلاميَّة، ظالمين كانوا أو مظلومين، وسواءً قاتلوا دفاعاً عن حقٍّ أو عن باطل.
كذلك ظلَّ مواطنو الدُّول التي لا تقيم وزناً للحريَّات العامَّة، والحقوق الأساسيَّة، عرضة لكلِّ صنوف العسف والقهر التي تمثِّل سياسة ثابتة لأنظمتها، وتشغل مكانة القلب من مخططاتها الأيديولوجيَّة، والسِّياسيَّة، والأمنيَّة، والدَّعائيَّة، القائمة على فرض رُؤيتها الأحاديَّة، وتشديد قبضتها الشُّموليَّة، حتَّى لو أفضى ذلك لحرب أهليَّة، أو لإشعال الحرائق في طول البلاد وعرضها، الأمر الذي تشيع، في إثره، حالات مزرية من جرائم الحرب، والانتهاكات الجَّسيمة للقانون الدَّولي الإنساني، شاملة، في العادة، القتل، والاغتصاب، والتَّعذيب، وهدم المساكن، ونهب الماشية والممتلكات الأخرى، دَعْ التَّنكيل بالمعارضين السِّياسيِّين، والقادة النِّقابيِّين، ونشطاء المجتمع المدني، بل وحتَّى المواطنين العادِّيين، والملاحقة المنهجيَّة للخصوم، والمشتبه فيهم، وإخضاعهم للاعتقال الإداري، والحبس الانفرادي، بلا محاكمات، وللتَّعذيب البدني والنَّفسي، بل وليس نادراً للتَّصفيات الجَّسديَّة، وإلى ذلك تعريض الكثيرين للاختفاءات القسريَّة، وللتَّشريد من الخدمة، ولقطع الأرزاق، ولشتَّى أنواع الإذلال، والمعاملة المهينة، غير الإنسانيَّة، والحاطة بالكرامة.

(2)
لكن، لم تذهـب سُـدى صرخة الاحتجاج الدَّاوية التي ما انفكَّت تطلقها شعوب الأرض، على مدى عشرات السَّنوات، ضدَّ هذه الطاحونة الرَّهيبة، معتبرة ممارساتها التي تعلك بها أرواح المدنيِّين وأجسادهم، خلال المواجهات الحربيَّة، جرائم تستوجب المساءلة الجَّنائيَّة، لا السِّياسيَّة فحسـب، وإن لـم تقـع نتائج هذه الصَّرخة نفـرة واحـدة، وإنَّما تدرَّجـت، ببـطء، حيث تطوَّر القانون والقضاء الجَّنائيَّين الدَّوليَّين من إنشاء المحاكم الخاصَّة المؤقَّتة Ad Hock Tribunals، كمحكمتي نورمبرج وطوكيو في عقابيل الحرب الثَّانية، ومحاكم يوغسلافيا السَّابقة، ورواندا، وسيراليون، وغيرها، خلال العقدين الماضيين، إلى تأسيس المحكمة الجَّنائيَّة الدَّوليَّة الدَّائمة في 1998م، لتدخل حيِّز النفاذ في 2002م.
من جهة أخرى، وبالإضافة إلى كلِّ ذلك، أفضت المواقف السِّياسيَّة القويَّة للحكومات الدِّيموقراطيَّة، وللأحزاب التَّقدُّميَّة والليبراليَّة، وللمنظمات والشَّخصيَّات المدنيَّة المدافعة عن حقوق الإنسان، وبالذَّات خلال الرُّبع الأخير من القرن المنصرم، إلى اجتراح شكل مستحدث من العدالة يحقِّق إبراء جراح الضَّحايا، خصوصاً لدى وقوع تغيير إيجابي في الأنظمة الحاكمة يفترض، كضرورة قصوى، وكشرط لا غنى عنه، إنفاذ بعض التَّرتيبات، خلال فترات "انتقال" محدَّدة، من حرب إلى سلام، أو من شموليَّة إلى ديموقراطيَّة؛ الأمر الذي جرى التَّواضع، عالميَّاً، على تسميته بـ "العدالة الانتقاليَّة".
يقتضي كلا هذين النَّوعين من مجابهة تركة الماضي المثقلة بالعسف، سواء في صورتها الحربيَّة أو صورتها الشُّموليَّة، وسواء جرت هذه المجابهة من خلال آليَّة "القضاء الجَّنائي الدَّولي" أو آليَّة "العدالة الانتقاليَّة"، إنفاذ ترتيبات محدَّدة، تضمن الكشف عن حقيقة ما جرى، ولفظ العنف نهائيَّاً، وتفادي نزعة الانتقام، واعتماد الوسائل الدِّيموقراطيَّة في تقصِّى الحقيقة، وأداء "واجب الذَّاكرة"، وفق علم النَّفس الاجتماعي، وجبر أضرار الضحايا، بإعادة الاعتبار لهم، مادِّيَّاً ومعنويَّاً، ونقل الشَّعب بأسره من خانة "الرَّعايا" إلى خانة "المواطنين" متساويِّي الحقوق والواجبات، وابتداع الإصلاحات الكفيلة، على صعيد السُّلطات كافة، التنفيذيَّة والتَّشريعيَّة والقضائيَّة، فضلاً عن الخدمة المدنيَّة، والقوَّات النِّظامية، وعلاقات السِّياسة والتَّساكن بين مختلف مكوِّنات الأمَّة، وغيرها، بقطع الطريق أمام أيِّ انتهاكات في المستقبل، وضمان ألا يتكرَّر ذلك، أي بإجراء "مصالحة" كاملة، ليس مع "نظام حكم" محدَّد، كما قد يتبادر للأذهان خطأ، بل مع "التَّاريخ الوطني" و"الذَّاكرة الوطنيَّة"!
وإذن، فإن المفهوم المركزي في كلِّ هذه التَّرتيبات هو "أداء واجب الذَّاكرة"، إذ أن "القضاء الجَّنائي الدَّولي" و"العدالة الانتقاليَّة" كليهما منهاج عمل يستهدف تصفية تركة "الماضي"، باعتبار ذلك شرطاً أساسيَّاً للتَّغيير السِّياسي الشَّامل. ولا جدال في أن "الماضي" مفهوم زماني يرتبط، وثيقاً، بمفهوم "الذَّاكرة"، وبدون أداء هذا الواجب ستظلُّ أيُّ ترتيبات يراد بها تجاوز "الماضي" تدور في فراغ شكلاني لانهائي، بلا أيِّ مضمون أو هدف.

(3)
وبما أن "التَّذكُّر"، علميَّا، هو استرجاع، في المُخ، للمعلومات والخبرات والمهارات، بمعنى إعادة بناء تجارب "الماضي"، فإن "الذَّاكرة"، التي تُعتبر ظاهرة فيزيولوجيَّة وسيكولوجيَّة في آن واحد، هي مجموع طاقات المُخ التي يتحقَّق عن طريقها هذا الاسترجاع، أي أنها هي المصدر الرَّئيس للمعرفة المسترجَعة. وتتضافر، لأجل تفعيل هذا المصدر، جميع خلايا الجِّهاز العصبي المنتشرة في كلِّ أجزاء الجِّسم، والتي باستثارتها تتشكَّل "الذَّاكرة" التي لا يوجد نموذج نهائي للكيفيَّة التي تعمل بها. غير أن العلماء توصَّلوا إلي أن أيَّ نموذج مثالي، على هذا الصَّعيد، لا بد أن يستصحب عامل الوعي "الذَّاتي" الذي يتضمن الرَّغبات، والأحاسيس، والمؤثِّرات الفرديَّة "الخاصَّة".

(4)
ولأن جدل "الخاص والعام" يعمل في المستوى السِّياسي، كما في المستوى الفكري، فثمَّة ما يُعرف، الآن، بـ "سياسات الذَّاكرة". وتشير الباحثة الأمريكيَّة ساندرا هيل إلى أنه ليس ثمَّة ما هو أكثر تأثيراً من هذه "السِّياسات" على مسارات الصِّراع الاجتماعي، ونتائجه، نظريَّاً وتطبيقيَّاً، حيث تواجه الشُّعوب، عادة، أنظمتها القمعيَّة، تأكيداً أو دحضاً لقصص "الماضي"، على حين تسعى مثل هذه الأنظمة، من جانبها، حثيثاً، لاغتيال "ذاكرة" شعوبها بمحاولة تسفيه دعاواها عن "الماضي"، أو استعمار هذا "الماضي"، أو خلق "ماضٍ زائف"، جملة وتفصيلاً، بتغيير أسماء الأشخاص، والأماكن، وطمس المعالم التَّاريخيَّة، وحظر لغات بعينها، وفرض تعاليم "تديُّنيَّة" معيَّنة، وأعراف ثقافيَّة محدَّدة، وما إلى ذلك من استرتيجيَّات مصمِّمة، خصِّيصاً، لاختراع "ذاكرة بديلة"، أو لفرض "النِّسيان" بالعُنف!
على أن الشُّعوب ما فتئت تقاوم، ببسالة، للحفاظ على "ذاكرتها الجَّمعيَّة". وتضرب هيل مثلاً بحركة "أمَّهات البلازا" اللائي قاومن، في الأرجنتين، كلَّ العمليَّات التي مارستها الحكومة للدَّفع نحو نسيان من اختفوا قسريَّاً إبان الديكتاتوريَّة العسكريَّة، ومحاولاتها المستميتة، عبثاً، لفرض اقتصاد سياسي معقد يعيد تركيب سياق أفعالها، وبذا استطعن إلحاق الهزيمة بالنِّظام، وتحويل عاطفة الأمومة إلى "ذكريات" يتحدَّين بها التَّاريخ الذي ترويه السُّلطة، زوراً، ليشيِّدن التَّاريخ الآخر الحقيقي الذي يدحضه.

(5)
هكذا، ورغم أن نهج مجابهة تركة "الماضي"، بعد إحداث التَّغيير بطبيعة الحال، يشمل، على هذه الخلفيَّة "العلميَّة" و"السِّياسيَّة"، مختلف أشكال المعالجات، إلا أن إحياء "ذكرى" الضَّحايا، وتكريمهم، بالتَّشاور معهم أو مع ذويهم، يمثِّل إحدى أهمِّ هذه المعالجات، بإنشاء "النُّصُب التِّذكاريَّة"، و"متاحف الذَّاكرة"، كالمتحف الذي أقيم، مثلاً، داخل مصنع للبطاريَّات بسربينيتسا، في البوسنة، حيث وُضعت، رمزيَّأً، متعلقات 20 من أصل 8000 ضحيَّة من المسلمين الذين تمَّت تصفيتهم هناك من جانب الصِّرب، وإلى ذلك تحويل المواقع التي كانت، في "الماضي"، معسكرات اعتقال وتعذيب سرِّيَّة، إلى "منتزهات تذكاريَّة"، كما في نموذج منطقة "تازممرت" بالمغرب، فضلاً عن تفعيل الحوار الوطني البنَّاء حول ذلك "الماضي"، حيث المطلوب هو العفو، لا النسيان.
***



#كمال_الجزولي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تُركيا: عِبْرِةُ التَّصْوِيتِ العِقَابِي!
- شُبُهاتٌ حَوْلَ العَلمَانيَّة!
- خَرَاقَةُ السِّياسَةِ: دَارْفُورْ وتَقْرِيرُ المَصِيْر!
- شَلْ .. ضِدَّ العَالَم!
- للمَرَّةِ الأَلْفِ: بِدُونِ تَعْليمِها حُقُوقِ الإِنْسَانِ ف ...
- أَنْدرو مُوينْدا: خِطابُ الاسْتِفْزِازِ الأَفريقِي!
- الدِّينُ والعَلْمَانِيَّةُ بَيْنَ السِّيَاسَةِ والثَّقَافَة!
- محمود!
- مُؤْتَمَرُ الشَّارِقَةِ .. السُّودانِي!
- إِنْتَبِهْ .. أنْتَ مَوْعُودٌ بِتَخَلُّفٍ عَقْلِي!
- قِيَامَةُ مُنْتَصَفِ لَيْلَةِ 26 مَارِس!
- مَرحَباً بِجَهدِ شَبَكةِ صَيْحة الاستِنَاري!
- عَلِي عُثْمَانْ وَالحِقْدُ الطَّبَقِي فِي السُّودَان!
- مِن نِيو دَلْهِي إلَى الخُرْطومِ إلى بُوغُوتَا: العِلمُ لأجْ ...
- بِانتِظارِ المِيلادِ الثَّالِث: مَنْ هُوَ -دَاعِشُ- اتِّحَاد ...
- فَارُوق وأَمِين: إِطلاقُ سَراحٍ أَمْ تَحْريرٌ بِالقَتْل؟!
- مَرْحَبَاً بِمحمَّد بَنيس وأَسئِلَتِهِ الشَّائِكَة!
- جُوزيف كُونِي: التَّقَرُّبُ إلى اللهِ زُلْفَى .. بِالسَّكاكِ ...
- شَمْلَلَةُ الدُّستور!
- ستيلا: صَفحَةٌ ماجِدةٌ فِي أَدَبِ الحَربِ الصَّافِع!


المزيد.....




- مكالمة هاتفية حدثت خلال لقاء محمد بن سلمان والسيناتور غراهام ...
- السعودية توقف المالكي لتحرشه بمواطن في مكة وتشهّر باسمه كامل ...
- دراسة: كل ذكرى جديدة نكوّنها تسبب ضررا لخلايا أدمغتنا
- كلب آلي أمريكي مزود بقاذف لهب (فيديو)
- -شياطين الغبار- تثير الفزع في المدينة المنورة (فيديو)
- مصادر فرنسية تكشف عن صفقة أسلحة لتجهيز عدد من الكتائب في الج ...
- ضابط استخبارات سابق يكشف عن آثار تورط فرنسي في معارك ماريوبو ...
- بولندا تنوي إعادة الأوكرانيين المتهربين من الخدمة العسكرية إ ...
- سوية الاستقبال في الولايات المتحدة لا تناسب أردوغان
- الغرب يثير هستيريا عسكرية ونووية


المزيد.....

- الفصل الثالث: في باطن الأرض من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الموجود والمفقود من عوامل الثورة في الربيع العربي / رسلان جادالله عامر
- 7 تشرين الأول وحرب الإبادة الصهيونية على مستعمًرة قطاع غزة / زهير الصباغ
- العراق وإيران: من العصر الإخميني إلى العصر الخميني / حميد الكفائي
- جريدة طريق الثورة، العدد 72، سبتمبر-أكتوبر 2022 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 73، أفريل-ماي 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 74، جوان-جويلية 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 75، أوت-سبتمبر 2023 / حزب الكادحين
- جريدة طريق الثورة، العدد 76، أكتوبر-نوفمبر 2023 / حزب الكادحين
- قصة اهل الكهف بين مصدرها الاصلي والقرآن والسردية الاسلامية / جدو جبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - كمال الجزولي - الذَّاكِرَةُ الحَقيقيَّةُ تِرياقُ الذَّاكِرَةِ المُخْتَرَعَة!