أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواد الكنجي - البحث عن الزمن المفقود رواية العصر لمارسيل بروست















المزيد.....



البحث عن الزمن المفقود رواية العصر لمارسيل بروست


فواد الكنجي

الحوار المتمدن-العدد: 4809 - 2015 / 5 / 17 - 10:18
المحور: الادب والفن
    


مارسيل بروست (1871-1922( روائي فرنسي من أبرز أعماله سلسلة روايات) البحث عن الزمن المفقود ) كتبت باللغة الفرنسية والتي تتألف من سبعة أجزاء نشرت بين عامي1913 و1927، وهي اليوم لا تعتبر من أشهر الأعمال الأدبية الفرنسية فحسب بل من أشهر الأعمال الأدبية عالميا.
بدأ مارسيل بروست بكتابة هذا العمل في عام 1909ولم يتمكن بروست استكمال تنقيح المجلدات الثلاثة الأخيرة من روايته والتي تتكون من سبعة مجلدات بسبب وفاته، فقام شقيقه (روبرت ) فيما بعد بتحريرها ونشرها .
وقد ترجمة الرواية إلى اللغة الإنكليزية من قبل عدة مترجمين في أوقات مختلفة تحت اسم (الموت قبل الانتهاء من الماضي) لحين ان قام المترجم (سكوت مونكريف كورونا) ترجمتها بين عام 1922 و1931 ) فترجم من الرواية (6 ) أجزاء لكنه توفي هو الأخر قبل إتمام ترجمة الجزء السابع تحت اسم (ذكرى الأشياء السابقة) ولكن عندما عاد ( كلمارتين ) بعد تنقيح الترجمة و أعاد ترجمة الأجزاء السبعة كاملة ونشرها غير عنوان الرواية، بترجمة أكثر حرفية، تحت عنوان )البحث عن الزمن المفقود)، وفي عام 1995 قامت دار ( بنجوين ) بتكليف ( كريستوفر برندر غاست ) إعادة ترجمة الرواية و أعادت نشرها عام 2002 بعد تجديد التنقيح على الرواية معتمدا على المسودات التي تركها بروست والتي كانت بحوزة أخيه .
فالرواية بالمجلدات السبعة أخذت من الكاتب مارسيل بروست فترة طويلة في كتابتها وقد توقف مرارا وتكرارا والى الانقطاع عن الكتابة والاقتصار على كتابة مسودات ثم المتابعة وكان في كثير من الأحيان يكتب أجزاء من نهاية الرواية في وقت الذي هو مازال يكتب في الجزء الأول، فترك بروست مسودات كثيرة كان في ذهنه حتما صورة واضحة لعمله هذا ولكن وفاته وعدم اكتمال تنظيم المسودة الأخيرة هو ما أربك العمل لان رؤية الناشرين واعتمادهم على مسودات متفرقة غير مؤرخه و مرقمه سببت الكثير من مشاكل بإخراج الرواية بشكلها الصحيح، فان كان الجزء الأول والثاني والثالث تابع بروست هو بنفسه نشرها فإننا نلاحظ إثناء نشره هذا الأجزاء والتي كان مقرراً أن تنشر عام 1913 غير أن رفض العديد من الناشرين لها حال دون ذلك فـ(دار غاليمار) رفضت طبعها بسبب كونها خروج على المألوف الروائي السائد في حينه بسبب تناوله موضوع المثلية الجنسية، وهكذا ظل بروست يبحث عن ناشر يرضى بنشر الجزء الأول من الرواية والذي جاء تحت عنوان (جانب منزل سوان) فلم يعثر، فاضطر إلى نشره على نفقته الخاصة، غير أن الكتاب لم يظفر بالتقدير الجدير به، إذ استقبله معظم الجمهور بدون اكتراث أو عداء، ولكن أعجب به قراء ذو حس أدبي مما اضطر بروست الى تقديم الرواية إلى الأديب الفرنسي (أندريه جيد ) لمراجعة الجزء الأولى والثاني لنشرها لأنه- أي اندريه جيد - كان آنذاك اسما لامعا في عالم النشر فكتب إلى بروست قائلاً : " ..كل الذين رفضوا نشر هذه الرواية ملزمون بتقديم الاعتذار عن الخطأ الذي وقعوا فيه وتقديم التهاني إلى بروست، فلعدة أيام كنت لا أستطيع وضع الكتاب من يدي.. " . وفورا نشر (اندريه جيد) هذا الاعتراف عرضت(دار غاليمار( على بروست نشر الرواية لكنه رفض مفضلاً البقاء مع الناشر (غراسيه) اما الجزء الثاني فقد كان مقرراً له أن ينشر عام 1914 غير أن وقوع الحرب العالمية الأولى واستدعاء الناشر (غراسيه ) للخدمة العسكرية أدى إلى إقفال دار النشر وتأجيل نشر هذا الجزء من الرواية حتى عام 1919، اما الجزء الثالث وهو الجزء الذي يتحدث عن الحرب العالمية الأولى فقد نشر رغم أخذه فترة طويل قبل النشر، وحينما دفع بروست الجزء الرابع إلى النشر عام 1921 مع توصية إلى الناشر بمراجعته والتريث في نشره حتى يتم بروست كتابة الجزء الأخير منه , غير أن وفاة بروست المفاجئة عام 1922 حالت دون تقديم ذلك الجزء للطبع فتركت المسودات دون أن يتمكن من وضع اللمسات الأخيرة عليها ولهذا جاءت مقاطع ما تبقى من الأجزاء الثلاثة الأخيرة، غير متساوية في جودتها، بسبب ان أخوه( روبرت ) الذي اعتمد فحسب على جمع المسودات العديدة ليخرجها بالشكل النهائي للرواية رغم انه لم تكن لديه تصورا واضحا عن أفكار بروست وما يدور في خلده، بقدر ما همه هو قبض مبالغ ماليه منها لان دور النشر كانت تراقب إعمال بروست وتقدم له عروض مغرية بعد أن ذاعت شهرته ، لأننا وجدنا بان بروست كثيرا ما كان يغير من المسودات يقدم ويؤخر ويضيف وفق رؤيته الخاصة ولهذا جاءت مقاطع هذا الأجزاء - أي الأجزاء الثلاثة الأخيرة – مبعثره في طرح تسلسل الإحداث و غير متساوية في جودتها بسبب تقدم وتأخر في كثير من جوانب الإحداث في الرواية وهو السبب الذي جعل الناشرين المتعاقبين لنشر الرواية أن يطالوا أخ بروست بالسماح لهم بمراجعة المسودات الرواية بأنفسهم مباشرة عند كل إعادة طبع، ولهذا نجد تبايناً ملحوظا واختلافا كبيرا في الرواية بين طبعة وأخرى.
فالرواية ( البحث عن الزمن المفقود ) بالمجلدات او الأجزاء السبعة تأتي على الشكل الأتي، الجزء الأول يحمل عنوان (جانب منزل سوان) وسوان هو شخص يهودي عاش في المجتمع الفرنسي يسلط بروست الضوء عليه ليكون محور رئيسيا في هذا الجزء، اما الجزء الثاني ويحمل عنوان ( فتيات في ظل زهره ) وهو الجزء الذي حصل بروست على جائزة (غونكور) للعام 1919، اما الجزء الثالث ويحمل عنوان ( إلى جيرمونت ) وقد نشر عام 1921 ، وهو يتحدث عن الحرب والخدمة العسكرية ،والجزء الرابع يحمل عنوان ( سدوم وعموره ) وهو الجزء يبحث عن المثلية الجنسية , والجزء الخامس يحمل عنوان ( السجين ) دفع هذا الجزء إلى النشر من قبل روبرت شقيق مارسيل بروست عام 1923 وتظهر فيه شخصية (ألبرتين) .. تلك الشخصية التي ظهرت بشكل هامشي في الجزء الأول من الرواية الذي حمل عنوان ( إلى سوان ) لاكنا نجدها تصبح شخصية رئيسية ومحورية في الجزء الخامس من الرواية الذي يحمل تحفظات كثيرة على انهيار الطبقة الأرستقراطية الفرنسية ولا يتوقع خيرا من صعود الطبقة البرجوازية إلى الحكم ، والجزء السادس يحمل عنوان ( الهارب ) أو ( ألبرتين في أرض الشتات ) وتم دفعه إلى النشر عام 1925 وفيه يسلط الضوء عن الفكر والمبادئ الصهيونية ، اما الجزء السابع والأخير فيحمل عنوان ( استعادة أزمنة كثيرة ) تم دفعه إلى النشر عام 1927 ويتحدث عن باريس خلال فترة الحرب العالمية الأولى .
لقد ستغرق مارسيل برست كتابة روايته الضخمة هذه (البحث عن الزمن الضائع) ثلاثة عشر عاما واصل فيها بروست العمل فيها تارة بشكل يومي وتارة ينقع عن الكتابة لفترة طويلة وقد ترك- كما قلنا- بروست مسودات كثيرة وحينما توفى بقى عمل الرواية مفتوح لأنه لم ينهيه بشكل قاطعا، اذ لم يعثر الناشرين في مسوداته ما يشير إلى ذلك ، وظلت نهاية الرواية مفتوحة، فهل جاء ذلك مصادفة ام انه خطط لذلك ..لا نعلم ..؟ بكون بروست قد حدد موقفه من الكتابة مسبقا بقوله بان " الكتابة يجب تكون مفتوحة على كل الجهات، أن تكون سفرا من دون بداية ونهاية، وعلى الكاتب أن يحلم بمثل هذا السفر دائما .."وهكذا وجدنا نهاية الرواية البحث عن الزمن المفقود .
فمارسيل بروست في عموم روايته يسلط الضوء على الإعمال الأدبية التي كانت منشورة ومتداولة آنذاك، فيعلق و يكتب ملاحظاته الفنية والأدبية عنها ، فقد وردت في الجزء الثاني من روايته ( البحث عن الزمن مفقود ) المسمى (في ظلال ربيع الفتيات) ملاحظته متسائلا "عن مدى تأثير الأعمال الأدبية والفنية في المناخ الأدبي العام من حيث خلق جيل جديد صاعد،هو ابن شرعي لهذه الطفرة الإبداعية، فالعمل الفريد كالقائد الذي يتقدم المسيرة ويفتح الطريق لمن يأتي ما بعده" وهذا الكلام يوحي على ما يبدو أن مارسيل بروست كان يتنبأ بما سيحدث قبل أن تخرج روايته الضخمة إلى الوجود، عن مدى الخسارة التي ستقع على الأجيال المقبلة ، إذا لم يلتفت إلى أهمية روايته بالنسبة لروايات ذلك العصر لأنه أرخ عدد هائل من الروايات والكتب الفلسفية التي كما قلنا كانت متداولة في عصره ، ناقدا لها او طارحا ما وردة فيها من الإحداث، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، نراه يسلط الضوء عن روميو وجوليت لشكسبير فيقول:
" يستطيع روميو هذا وجوليت هذه ان يعتقدا ان حبهما ليس نزوة لحظة عابه بل قدر حقيقي أعدته تناغمات مزاجهما لا مزاجهما الخاص فحسب بل مزاج من سلف منهما والوراثة الأكثر إغراقا في الماضي الى حد ان الشخص الذي يقترن بهم يخصهما مثل الولادة وقد اجتذبهما بقوة شبيهة بتلك التي نواجه العوالم .."
وهناك كم هال من شخصيات روايات يذكرها عبر سرده للرواية كناقد وباحث يركز على القيم الفلسفية بما تطرحه تلك الملفات وهو يمض في ذلك البحث وشعوره بأنه يهدى إلى الأجيال الصاعدة والمقبلة هذه الطفرة التي تفتح لهم سبلا جديدة في التعبير الإبداعي ، وإذا كان في مقدورهم أن يمثلوها أو يتجاوزوها.
لقد نذر بروست حياته للأدب حتى صارت عبدا لها ، فهو الذي يقول:
"..الحياة الحق، الحياة التي انكشفت أخيرا واتضحت، الحياة الوحيدة المعيشة بالفعل هي الأدب".
ففى الجزء الأخير من الرواية يصرح بروست في احدي المقاطع فيقول:
"ان الحياة الحقيقية، الحياة التي تم أخيرا اكتشافها وتوضيحها، الحياة الوحيدة المعيشة بامتلاء، هي الأدب..".
وهكذا ظل يكتب ويطرح فلسفته في الحياة بعمق أفكاره ، ولكن الموت خطف حياته وهو في عمر 51 عام فلم يشهد نشرها وهو لطالما حلم بذالك .
فرواية البحث عن الزمن المفقود رواية تتحدث عن الحب والغيرة والشذوذ والسادية والانتهاك، والرغبة والحِداد، والحقيقة والفن، والانتهازية والتكبر، وعن الزمن بشكل خاص، الزمن الذي يمضي، ومحاولات لاستحضاره، فالرواية تتحرى في صميم المفاهيم الفلسفة، ولو أن بروست كان ينكر على نفسه صفة الفيلسوف بالرغم من أن عمله كان يتغذى بالأسئلة فلسفية يطرحها في مجمل عمله هذا ، وهو ما يفسر محاورة الفلاسفة لأثره منذ ما يقارب القرن، من (رولان بارت) و(تيودور أدورنو) و(جان بول سارتر) و(روني جيرار) إلى (رجيس دوبري) و(جان فرنسوا روفيل) و (ألان باديو)، للوقوف على خصائص هذا العمل الفريد، وتلمس أفكار الأعلام الذين تأثر بهم روست من (أفلاطون) و( ليبنيتز) و( سبينوزا ) إلى( شوبنهاور) و(برجسون) و( فرويد) ، وتحليل مقاطع من تلك الرائعة الأدبية ، ولما كانت هذه الرواية مقاربة فريدة لصيرورة الزمن، تحفل بالتأملات والأفكار الفلسفية وسبر لأعماق النفس الإنسانية، فقد اهتم بها الفلاسفة أيضا منذ صدورها وانتشارها، ولا يزالون الى يومنا هذا يقرئون نقاط القوة فيها إلى يومنا هذا .
ومما يطرحه بروست من الأفكار الفلسفية نقتطف منها :
"..إن اتفاق الآراء والنظريات لا يؤدي إلى تداني المثقفين قدر ما يؤدي إلى تدانيهم ائتلافُ الأرواح والأذواق والأمزجة. وقد يظهر المرء امتعاضًا وغيظًا إذا وافقه على رأيٍ يتعز به إنسانٌ يعتقد أنه فاسدُ الذوق، جامدُ الروح، ثقيلُ الظل، حتى ليكاد من امتعاضه وغيظه أن يتهم الرأي الذي شاكلته فيه، ووافقه عليه مَن يستثقل من الناس، إلا إذا كان صاحب الرأي سياسيًّا فيخفي غير ما يُظهر؛ لأن همَّ السياسي كسب الأنصار وإن كان يستثقلهم، أو إذا كان صاحب الرأي فيه ذلك الشعور بالنقص الذي يدفعه إلى العطف على كل مَن يردد رأيه ويوافقه عليه، وإن كان يخالف ذوقه ومزاجه. ومع ذلك، فإن الرغبة في احتكار الرأي لنفسه ولمن وافق مزاجه وذوقه نوعٌ من الأثرة وحب الذات..."
ويقول أيضا :
"...مما كنت أتعجب له أن (بلوش) كان كثيرًا ما يذم من لا يستحق بعض ذمه أو كله حبًّا للذم، لا لسببٍ آخر، كما أنه كان يمدح من لا يستحق كل مدحه أو بعضه. وقد يختلف تفسير هذه الظاهرة منه، فلعله كان يتخذ من مدح الممدوح وسيلة يخدع بها السامع كي يقبل ذم من يذمه؛ إذ إن مدحه الناس قد يبعد عن الأذهان أنه حقود، سيِّئ الرأي في الناس، فإذا ذم بعضهم تلمسوا له عذرًا، أو لعل التفسير أنه كان يرى في مدح الممدوح تكفيرًا عن ذم المذموم، أو لعل الدافِعَينِ كانا يمتزجان في نفسه، أو قد يكون المدح والذم استجابةً منه للحالة الغالبة على نفسه من راحةٍ، أو تعبٍ، أو حزنٍ، أو سرورٍ، أو غيظٍ عامٍّ يحيله على إنسانٍ معين، أو ارتياحٍ عامٍّ يشمل به نفس إنسان آخر، فيصير مدحًا. وهذه الصفات كلها تُشاهد في الناس..." و يقول :
".. كان (بلوش) يُقسم ويحلف لا أملًا في إقناع الناس بصدق الكذب الذي كان يُنمِّقه بالقسم، فما أظن أنه كان يأمل ذلك، وإنما كان يُقسم بدافع أشبه بالهيستريا، وانسياقًا مع الشعور المتغلب على نفسه وجسمه. وذلك الدافع إلى الحلف والقسم كان يمنحه لذة شديدة في تزيين الكذب بالحلف، وتجميله بالقسم، وكان وهو يحلف يتخيل لمن يراه أنه يفيض حنانًا ورقةً ويذوب لطافا، وإن كان موضوع الحلف يخالف كل ذلك، وكأنما كان ينتشي من عذوبة الإحساس الغالب عليه، والذي دفعه إلى الحلف كذبًا. وبعضهم إذا حلف كذبًا يخالف عذوبة حلف (بلوش) بالكذب، فإن بعض الناس من إحساسه أنه كاذب، ومن غيظه وخوفه أن يعرف السامع ذلك يحلف كذبًا وكأنه يلتهم سامعه، ويقسم كذبًا وكأنه يكاد يبتلع ذلك السامع، كأنه بالعنف يريد أن يخيفه فيصدقه..."

فمارسيل في كتابته هذه الرواية ركز على نظرته إلى العالم عبر تفتت الزمن رواية حيث خلق شخصيات متفسخة ومتآكلة ومندثرة وبهذا المعنى نختار هذا المقطع من الرواية حيث يقول:
".. ولم تبدُ الشيخوخة على بعض الرجال وبعض النساء، فبقيتْ استدارتهم واستدارتهن ممشوقة، وبقيتْ وجوههم ووجوههن شابةً أيضًا. ولكنك إنْ وقفت قرب وجوههم الصقيلةِ البشرة والناعمةِ الحدود لتكلِّمهم، لظهرتْ مختلفةً جدًّا، كما يحدث لبقعة نباتية ولنقطة ماء أو دم عندما توضع تحت المجهر. وميَّزتُ لطخًا زيتيه عديدة تعلو الجلد الذي ظننته صقيلاً، فتقززت نفسي. ولم تقاوم الخطوط هذا التكبير ألمجهري. كان خط الأنف ينكسر إذا اقتربتَ، وتفلطح، ويخضع لغزو الدوائر الزيتية نفسها كباقي الوجه؛ وعن كثب كانت العيون تغور تحت جيوب تُدمِّر تشابُهَ الوجه الحالي مع الوجه السابق الذي ظننتَ أنكَ وجدتَه. هكذا بدا لي هؤلاء المدعوون: كانوا شبابًا إنْ نظرتُ إليهم من بعيد، وكانت أعمارهم تزداد مع التكبير ألمجهري لوجوههم ومع المراقبة الممكنة لشتى مستوياتها؛ كانت الأعمار منوط بالمشاهِد الذي ينبغي عليه أن يحتلَّ موقعًا مناسبًا ليرصد تلك الوجوه ويسلِّط نظراتِه البعيدة التي تصغِّر الأشياء، شأنها شأن العدسة التي يختارها البصريُّ للمتقدمين في السن؛ إنها تنظر إلى الشيخوخة كما تنظر إلى الفقاعات داخل نقطة ماء. ولم تنجم كثيرًا عن التقدم في السن، بل عن التقدم في درجات السلَّم، كما يراها المُراقِب.." فالزمن عنده نراه يمضي الى مراحل كمراحل التي يمر بها عمر الإنسان نحو الزوال فيقول ".. ان زمنها - على الرغم من تشبثها به - قد انتهى أو كاد، ولابد من انتظار الشيخوخة البائسة والموت والزوال.."
ورغم ان الرواية (البحث عن الزمن الضائع) لم تكن سيرة ذاتية، إلا أنها تستمد كثيراً من شخصياتها وأحداثها من واقعه ،فهنا يركز على شخصية (فيردوران) فيقول عنها:
".. كانت السيدة (فيردوران) لا تدعو إلى منزلها من الضيف إلا من يوافقها على كل رأيٍ مهما كان سخيفًا، وعلى كل قولٍ مهما كان باطلًا محالًا، فلم يبق لها من الزوار غير المستذلين المستضعفين، وكانت تقول لهم: إن فلانة النبيلة الثرية لا يزورها الضيوف والزوار إلا لأنها تدفع أجرًا كبيرًا لمن يزورها على زيارته لها، وبالرغم من أنهم كانوا يعرفون أن الناس يتلهفون ويتوقون إلى زيارة تلك النبيلة الثرية، وأن قصة دفعها أجرًا لمن يزورها قصة ملفقة باطلة، فإن أمثالهم من المحرومين الذين تستذلهم السيدة (فيردوران) لآرائها وأقوالها كانوا يستطيعون أن يحملوا نفوسهم على نسيان الحقيقة وإنكارها، ويستطيعون أن يصدقوا قولها على تلك النبيلة الثرية، وكان يحلو لهم ادعاء الترفع عن زيارة نبيلة تدفع أجرًا لمن يزورها على زيارته، كما أوهموا أنفسهم وصدقوا.
وهكذا تستطيع النفس أن تقبل المحال الباطل الذي لا يخفى بطلانه إذا كان فيه ما يرضي زهوها، أو حسدها، أو حقدها، أو حتى ما يرضي رياء الموحَى بالباطل إذا رجَتْ من ذلك المُوحي بالباطل عطفًا، أو خيرًا، أو ما يرضي أهواءها وخواطرها السانحة التي تعتز بها".
فهذه الشخصية وكل شخصيات الرواية البحث عن الزمن المفقود استمدها بروست من تجاربه وذكرياته الشخصية ويتخللها عدد من الأفكار المحورية التي تتكرر في أشكال مختلفة عبر جميع الأجزاء روايته ، مثل الإغراء الدائم للأرستقراطية الفرنسية، والشذوذ الجنسي، وفكرة (الحب) التي اعتبرها بروست نوعا من المرض أو الوهم، ثم موضوع الزمن الذي اعتبره بروست السيد النهائي للإنسان والكون لان بروست كان يحس بأنه مريض وغريب الأطوار، لكن لم يكن ليقبل بان يقيم تصوره عن الحب او أن يعرفه انطلاقا من خصائص حياته الشخصية، ذلك ان الحب المتبادل لم يحسه بروست، وقلما يتصوره، وان افترض إن الآخرين يحسونه فهو لا يهتم لذلك، لان تجربته في الطفولة ومشاعره في حب اتجاه من يحب وما عان منه عكس سلبا في حياته. ففي العام 1886 ولم يكن له من العمر سوى 15 سنة أحب حبا يائسا جعله يتمنى الموت، لقد أحب (ماري دوبينارادكي) ذات الجمال الخارق ولكن لم تلتفت إليه ولم تبالي بحبه ، ثم عندما كان لا يزال موظفا في (كوندروسه ) لدى (كلومينيل) إحدى العاهرات الشهيرات آنذاك لقد عجب بها ولكن دون جدوى، وبعد ذلك بقليل في صيف 1891 اظهر شغفا شديدا بـ(جان بوكه) لأكنها تزوجت بعد وقت قصير . وفي الشتاء من العام نفسه كان يرافق (لورهايمان) في نزهاتها الصباحية، وتعرف إليها لثلاث سنوات خلت، عندما كانت عشيقة خاله (لويس فيي)، كان يذهب ليراها في قصرها الصغير في شارع (لابيروز) حيث( سفاسي سوان) - احدى شخصيات روايته – وكان يعاني من عذاب الغيرة بالقرب من( اوديت). كما تأثر بروست بفتنة (ماري فينالي )شقيقة صديقه (هوارس فينالي) ويعتقد انه كان يفكر فيها عندما كتب (السونامة في ضوء القمر) التي ظهرت في كتابه (الملذات و الأيام) اولى منشوراته، فالعديد من النصوص المقتطفة من(الملذات والأيام) ترتكز على الكشف عن حقائق اللذة المنفرة وآثارها في النفس ، وفي العام 1893 كتب بروست أقصوصة نشرها في (المجلة البيضاء) التي كانت تصدر في باريس تضمنت موضوع (سدوم وعمورة) حيث يسلط الضوء على المثلية الجنسية
وهو الأمر الذي أبعده عن حب والاهتمام بالفتيات واخذ يميل إلى مثلي جنسيا من الشبان ويتعلق بهم وكان يختار ممن يمتلك جمال أنثويا وكل ارتباطاته المثلية بهم تكاد أن تكون من نموذج واحد ، وهذا الأمر الذي خلق لديه شعورا بتبكيت ضميره مع ما يرافقه من شعور بالذنب وفي وقت ذاته كان يشعر بنوع من العاطفة الجياشة نحو الشخص الذي يهيم به، وربما تكون بعض صداقات بروست مع هؤلاء المثليين قد حافظت حتى النهاية على صفة الطهارة الميئوس منها، فذلك أمر ممكن وغير بعيد الاحتمال، في وقت نفسه كان لمفهوم (العيب) و (العار) نصيبا من سيرته، والدليل على ذلك بكون هنالك رسالتين كتبهما بروست وهو في صف الفلسفة، حيث امسكهما السيد (فيري) بين يديه، دون ان يكون له الحق في نشرهما، يقول السيد فيري أن بروست يتحدث في الرسالتين وبلهجة التواطؤ عن الشبان الذين يلهون جنسيا مع صديق، واجدين في ذلك إرضاء لتذوقهم الجمال، فهو يدرك أن سمة طبعه الرئيسة هي الحاجة لأن يكون محبوبا، ولمزيد من الملامسة والتدليل كما يقر بان الصفة التي يرغبها في الرجل مفاتنه النسائية، وعندما سأل كيف يتصور السعادة أجاب:
"..أخشى إلا يكون ذلك ساميا بالقدر الكافي، فلا أجرؤ على قوله..".
ومن هنا يمكننا القول بان منذ هذه الفترة، لم يعد ينخدع فيما يخالج نفسه، لقد عرف ان هوى بشعا قد تملكه وانه لن يتمكن من التخلص منه، وفكرة (الرذيلة) تلح عليه باستمرار لكن بروست كان يؤمن بفلسفة خاصة في كيفية التخلص من ( آثامه) في العلاقات البشرية من خلال الزمن فيقول:
" ..ان الزمن يهدم كل شيء، فيحمل الأنا المتعددة المتتالية مع الحب الكامن في كل منها. وإذ تذيب( الأنا والحب ) يذيب معهما الإثم الذي يغلفانه، ولدى تلبيته متأخرة دوما لرغباتي في الحب والتي تأتي دوما في اللحظة التي تكون قد تشكلت فيها رغبات أخرى، يقيم الزمن بيت آثامي والواقع عدم ملائمة فان جوهرية تمحي بواسطتها فعلا تلك الآثام.." .
وقد استطاع بروست من اجل مقتضيات مرضية شخصية بحته، إلى الدفاع عن ذنوبه (اللواطية) بقول:
".. إنا لست العشيق الذي تظنون، ما انا سوى كاتب، نموذج من ادب ( برنار باليسي ) الذي يحرق آخر حطبه، كي يضرم النار في إحزانه ثم يلقى بنفسه فيها، وبطيب خاطر ليحصل على طلاء أجمل..." .
والملاحظ ان هذا العون ذاته ضد( ألاثم) قد آمنت لبروست صورة أخرى معاكسة للسابقة، فبروست عبر هذا المفهوم يخضع آثامه الى إجراء مزدوجة في الإلغاء، فمن جهة يحمل الزمن الذي يهدم كل شيء، ماهية (الإثم) ذاتها ويذيبها مع الباقي، ومن جهة أخرى يحول (العمل الفني) هذا (الإثم) إلى جسم مجيد من الخلود الجمالي، وهكذا يلغي (الإثم) إلى أقصى حد حسب الوجود بواسطة الزمن وحسب القيمة بالتحول الجمالي بكون (الآثام) تحرق عبر الزمن وتتحول إلى الفن، وهذه هي جوهر الفلسفة في روايته البحث عن الزمن المجهول .
ومن هنا نفهم بان( الحب ) هو الذي قاد بروست إلى العزلة التي جعلته يكرس نفسه لعمله الفني، لتولد رائعته في أضخم عمل روائي، البحث عن الزمن المفقود، وليدة الآلام المتقدة التي سببها له الحب، فمارسيل الصغير الذي كان يجول من منتدى إلى آخر ويعطي صحيفة (الفيغارو) بعض الإخبار الهزيلة، أصبح مؤلف البحث عن الزمن المفقود ،اذ يقول :
".. لأن (الحب) جعله يتخلى عن كل ما تبقى لديه من مشاعر، وعن (الحب) نفسه الذي أدرك بطلانه وان أدرك ذلك متأخرا.
فالعمل الفني هو فعلا الخلاص، وربما كان الأوحد، فهو وحده يدفعه كما يضن خارج الزمن المفقود نحو الأزلية المستعادة، وهو وحده، يضفي نوعا من الخلود على الذي يبدو في النفس انه الأكثر ذاتية والأكثر عرضة للزوال في آن معا، وان كان العمل الفني هو الغاية، فالحب في مطلق الأحوال هو الوسيلة الوحيدة بالنسبة لأناس ، يظل عبثهم الفطري لا يغتفر ما دام (الحب) لم يوقفه، ملوحا لهم بستار السعادة الوهمي والمبرقش، وهم مجانين بطموحهم الى هذه السعادة التي لن يستطيع الشخص الذي يرجونها منه، أن يعطيهم إياها في حال من الأحوال، بل ربما يزودهم بما يذكر حبهم المفقود وأوهامه الضائعة، كذلك من فرط ما يكذب( الحب ) على من يحب، ومن هنا يكشف لنا الحقيقة الكبرى، وهي أن ( لا ) حقيقة خارج فكرنا وقلبنا، (الحب) وحده يعذبنا إلى درجة تجعلنا نعري الإنسان القديم الضائع في متاهات خيلائه وطموحه وعلاقاته الخداعة، ان كلانا مشدود بالتأكيد، الى وحدته الذاتية، وسجين في جزيرته الصغيرة الخاصة لكنه لن يدرك ذلك غير الحب، فنحن بالتأكيد معرضون لمختلف إشكال المعاناة، لكن اغلبها يرهقنا دون ان يقنعنا بأننا وحيدون نهائيا في معاناتنا، فالسجين له رفاقه ومحاميه وحتى قاضيه، والمريض له ممرضته وطبيبه، وحده الحب لأنه يشد كل قوانا نحو كائن آخر، يظهر لنا انه لا يوجد اي اتصال بين هذا الكائن وبيننا ويجعلنا نقطع صلاتنا الكاذبة بكل ما عداه."
فالحياة في مجراها كما صورها مارسيل بروست ليست إلا زمنا مفقودا وأوهاما زائلة، وليس من حقيقة تستحق من الوقف عندها سوى ( الذاكرة والفن ) هما السبيل الوحيد لاستعادة هذا الزمن المفقود وتحويل الأوهام إلى أشكال ملموسة من الجمال الأبدي عبر مواعظ أراد مارسيل بروست إرسالها في روايته رغبة منه لمخاطبة الجماهير بلغة الإرشاد والنص ومن ذلك نختار عدة فقرات من الرواية لنستشف مغزى محاوره عن قرب فهو يقول:
" .. بالرغم من شرور الناس وقسوتهم وتحاسدهم، فإن كل نفس بها جانب من الخير والحنان والكرم والرقة. وقد تجده غريبًا في النفس بين صفاتٍ تخالفه كما قد تجد الزهرة النادرة النفيسة غريبة في وادٍ موحش قفر مجدب، وإذا منعت الأثرة، ومنع حب النفس من ظهور جانب الخير من النفس، فإن تلك الرقة وذلك الحنان والكرم صفات موجودة مستترة، فهي موجودة بالرغم من خفائها، وقد تجد الرجل الفظ، الغليظ الطبع، القاسي إذا قرأ قصة مؤثرة يبكي لما حَلَّ بالضعفاء والأبرياء فيها من الآلام والظلم، حتى تفيض دموعه وتبلل وجهه، وهو قد لا يتورع في أعمال الحياة عن أن يفعل مثل ذلك الظلم الذي أثار عطفه وأراق دموعه عندما قرأ القصة، ولكن الإنسان إذا قسا أو ظلم سَوَّغ عمله، فإنه يعد نفسه دائمًا عادلًا، مهما كان قاسيًا ظالمًا، ويقول: إن القسوة قد تكون نوعًا من الرحمة. بمثل هذا القول يسوغ المرء إتيان ما يجلب له منفعته، أو يرضي نهمه وغضبه، بالرغم من جانب الرقة والعطف في نفسه...".
ويقول أيضا :
"..من طبيعة الكذب أن الكاذب مهما أتقن كذبه تبدر منه فلتة صغيرة في أثناء إحكام الكذب وحبكه، وهو يظن أن سامعه لا يهتم بالتأكد من صدقها، والبحث عن حقيقتها لصغر شأنها، ولكن سامعه قد يتتبعها بالبحث، ويتأكد من كذبها، فتكون سببًا في كشف كل كذبه، وتدعو إلى سوء الظن به، وسوء الرأي فيه، وقد تطلع هذه الفلتة الصغيرة سامعه بغتة على كذبه، فيفاجأ الكاذب مفاجأة غير سارة، ويحاول تفسيرها وتلافيها فلا يستطيع. وهذا كما يقال في المجرم الذي يفكر ويتخذ كل أهبة لمنع نسبة الجريمة إليه، ثم — وبالرغم من كل تفكيره واحتياطه — يترك أمرًا صغيرًا يدل عليه لا يَفطن له، ويكون السبب في كشف جرمه... ".
ويقول أيضا :
" ..متى أقنع الإنسان نفسه أنه ذو أخلاقٍ سامية، ثم حقد على إنسانٍ أو غضب عليه، فإنه ربما استطاع أن يحمل نفسه على ارتكاب أي عملٍ دنيء لإشباع حقده وإرضاء غضبه؛ إذ أي شيءٍ لا يكون مباحًا حلالًا للقديس الفاضل والمَلَك الطاهر الذي يراه في نفسه؟!...".
ويقول:
" ..ليس الإفحام في المجادلة والمحاجة دليلًا دائمًا على رجاحة رأي المناظر الذي أفحمك، فقد يفحمك المجادل فلا تستطيع الرد والقول، إذا كانت آراؤه لا اتصال لها بنفسك وعقلك، أو لا حقيقة لها على الإطلاق. أما المناظر اللبق فهو إذا أدلى بحجةٍ ورأيٍ راجحٍ قد يستطيع أن يجد جانبًا من عقلك يألف ذلك الرأي، وإن خالفته، فيستطيع أن يتصل بأفكارك ويُلقحها كما تُلقح الأشجار؛ ومن أجل ذلك كان (برجوت) إذا ناظرني أستطيع أن أرد عليه القول، ولكن رأيه كان يلقح رأيي، ويتداخل في نفسي، وكانت طريقته في المناظرة أن يرد على قولي بما يخالف رأيي، وكأنه لا يخالفه إلا في بعض الأمور دون بعضها، وموضع الاختلاف وأسباب الاختلاف؛ فتكون مقبولة أكثر مما تكون لو فصل بين رأيي ورأيه فصلًا تامًّا...".
ومن هنا نستشف بان أسلوب بروست يتميز بكونه يستخدم جمل طويلة في الغالب نصوص الرواية وببناء معقد، تتطلب من القارئ كثيرا من الجهد والتركيز. هذا الأسلوب يعكس حرص الكاتب على الإمساك بالواقع في شتى أبعاده، وسائر إمكانات إدراكه، وفي مختلف أوجه الشخصيات الروائية، التي انتقد انتماءاتها الفكرية والدينية فان كان بروست قد ولد من أب كاثوليكي وأم يهودية وبما أن اعتبار النسب يعود بالدرجة الأولى الى الأم لدى اليهود، فكان هؤلاء يعتبرونه واحداً منهم، وبالتفصيل أن بروست وضع ثلاث شخصيات يهودية ورئيسية في سلسلته الروائية غير أنه أعطى هذه الشخصيات صفات سلبية كالبخل والتكبّر وعدم الانخراط بشكل طبيعي في المجتمعات. ولكن حين تعرّض للنقد من قبل اليهود بخصوص هذا التفصيل، برر بروست بأن كل تلك الصفات في شخصياته اليهودية بسبب عدم شعورها بالأمان وإحساسها بالاضطهاد والخوف الشديد من الآخرين.
فبروست في روايته هذه يعتقد بان لا معنى للواقع في نظره خارج الإدراك ، سواء كان الشخص أو الشيء حقيقيا أم متخيلا، والإدراك لا يخص الشخصيات وحدها بل يخص المؤلف أيضا، فهو موجود في زوايا عديدة في داخل العمل الذي يكتبه يراقب الزمن الذي يمضي، ويصور وجهة نظره في اللحظة الحاضرة، ووجهة نظره في اللحظة الماضية، ووجهة نظره في اللحظة الماضية كما يعيشها في الحاضر وهذا ما نلتمسه في هذا المقطع من الرواية حيث يقول :
".. لعل من أسباب نسبة المحدث عيوب نفسه إلى غيره من الناس التلذذَ بالتحدُّث عن نفسه بطريقة غير صريحة، وهي طريقة تطهره من تلك العيوب في نظر بعض الناس كما يظن، وتعطيه لذة المعترف اعترافًا غير صريح، وغير محسوس، وكأنه يجد لذة في مباشرة عيوبه التي ينسبها إلى الناس من غير أن يؤاخذه الناس على تلك اللذة، ومن غير أن يفطنوا إليها، وكل إنسانٍ مشغول مهموم بصفات نفسه وميولها، فتلفته تلك الصفات إلى مثلها في غيره، أو يتوهم أنها لفتته، ويقنع نفسه ويخادعها في تلك أللفتات، وهو يحسب أنه يرى الناس مرآة لنفسه، فينسب إليهم ما لا يُزينُه، وعلاوة على ذلك فإن كل سيئة في نفس المحدث كأنها مهنة يعرف أسرارها، وكل عيبٍ كأنه حرفة يدرك خفاياها.
وكل صاحب مهنة أو حرفة مُولعٌ بالتحدث عن حرفته أو مهنته؛ لأنه يعرفها أكثر مما يعرف أي شيءٍ آخر، كما يحلو للطبيب أن يتحدث عن الطب، وللمعلم أن يتحدث عن التعليم، وللمحامي والقاضي أن يتحدثا عن القضاء والقوانين، وللنجار أن يتحدث عن النجارة، وللمزارع أن يتحدث عن الزراعة، وكذلك صاحب السيئة والعيب يتحدث عنهما كأنهما مهنة أو حرفة الكلام فيهما غالب على لسانه، ولكنه ينسبهما إلى الناس بقصد التجمل والترفع..." .
وأخيرا فان أكثر المحللين الفرويديين اعتبروا بروست في روايته البحث عن الزمن المفقود كان يعاني من صعوبة في تقبّل الحاضر، فهو الملتفت دوماً إلى الوراء ، غير أن البعض الآخر اعتبر أن بروست أسس لمفهوم مغاير للزمن وقد طرح بذلك أسئلة فلسفية ووجودية جوهرية وأساسية وهي كيف لنا أن نرضى بتقبّل واقع أن اللحظات والثواني الآنية هي في جري متواصل للتربع في الماضي، وبالتالي كيف نتنكر لها ما أن تصير في ما نسميه الماضي..! ولما التطلع إلى المستقبل المجهول الذي لا نعرف ما يحمله لنا..!
فالماضي آمنٌ بالنسبة إلى بروست وتقديس لحظات السعادة والحب التي نعيشها أو عشناها هو رد الاعتبار لها ولأهميتها. وفي المجمل فان رواية ( البحث عن الزمن المفقود ) مليئة بالأفكار وملاحظات القيمة ما يجعلها حقا من الروايات العظيمة التي لا يمكن الاستغناء عن قراءتها.



#فواد_الكنجي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفن التجريدي عند النحات هنري مور
- سلفادور دالي و لوركا ، الشذوذ والإبداع
- حقوق المرأة العاملة.. خطوات نحو تحقيق الذات
- في الذكرى المئوية لمذابح الأرمن والأشوريين في تركيا
- افتخروا لأنكم أشوريين وحافظوا على لغتكم و ثقافتكم و تاريخكم، ...
- العراق والأزمة الإنسانية في مخيمات النازحين
- مستقبل الأرمن في العراق
- ربيع الدم ربيعهم .. و ربيع الزهر ربيعنا
- حلف ناتو والحاضنة التركية والتأمر على الشرق الأوسط
- داعش، تجر أذيال الهزيمة في العراق
- اثار نمرود (كالح) أعظم موقع اثري لحضارة الأشورية يدمره داعش
- الخريف العربي انتكاسة في حقوق المرأة وحريتها
- داعش و جريمة التاريخ في تدمير الآثار الأشورية
- داعش تصاعد في سوريا حملتها البربرية ضد القرى الأشورية في الح ...
- مجزرة مسيحيو مصر الأقباط .. وجرائم داعش .. وسكوت واشنطن
- مفهوم الفن وفلسفة الإبداع عند الفنان التشكيلي
- الوحدات القتالية .. صحوة أشورية
- معركة كركوك وانتصار البشمركة
- كركوك لن تكون موصل ...
- عراق اليسار


المزيد.....




- بدر بن عبد المحسن.. الأمير الشاعر
- “مين هي شيكا” تردد قناة وناسة الجديد 2024 عبر القمر الصناعي ...
- -النشيد الأوروبي-.. الاحتفال بمرور 200 عام على إطلاق السيمفو ...
- بأكبر مشاركة دولية في تاريخه.. انطلاق معرض الدوحة للكتاب بدو ...
- فرصة -تاريخية- لخريجي اللغة العربية في السنغال
- الشريط الإعلاني لجهاز -آيباد برو- يثير سخط الفنانين
- التضحية بالمريض والمعالج لأجل الحبكة.. كيف خذلت السينما الطب ...
- السويد.. سفينة -حنظلة- ترسو في مالمو عشية الاحتجاج على مشارك ...
- تابعها من بيتك بالمجان.. موعد عرض مسلسل المؤسس عثمان الحلقة ...
- ليبيا.. إطلاق فعاليات بنغازي -عاصمة الثقافة الإسلامية- عام 2 ...


المزيد.....

- أبسن: الحداثة .. الجماليات .. الشخصيات النسائية / رضا الظاهر
- السلام على محمود درويش " شعر" / محمود شاهين
- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - فواد الكنجي - البحث عن الزمن المفقود رواية العصر لمارسيل بروست