أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - الملك لقمان . الجزء الثاني. (9) شهاب من السموات العليا!















المزيد.....



الملك لقمان . الجزء الثاني. (9) شهاب من السموات العليا!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4807 - 2015 / 5 / 15 - 14:44
المحور: الادب والفن
    


(9)
شهاب من السَّماوات العُليا!

غابت الشمس فتلألات السَّماء بآلاف النّجوم وحَلّق فيها عشرات الأقمار ليعُمَّ الجوّ نورٌ أخّاذ، وشرعت "أستير" تتلوّى على أنغام موسيقى راقصة فأذهلت الملوك والملكات، وطار صواب ملك الملوك فهتف إلى الملك لقمان تخاطراً:
"أخ يا مولاي تأبّت عليّ هذه الحوريّة الآدميّة ولولا مخافتي من غضبك لنلتها عنوة وجعلتها تروي لأحفاد أحفادها خُرافيّة هذه المضاجعة!"
فهتف الملك لقمان:
"الله لا يسلّمك ألن تترك امرأة من شرّك، حتى أستير راودتها عن نفسها؟"
"ماذا أفعل يا مولاي؟ كيف سأقاوم إغراء هذا الجمال الكامِل بعد ثلاثة آلاف عام من...!!"
"يا أخي عندك عشرات الجميلات ويمكنك أن تُحضِر الآلاف إن شئت ألا يكفيك ذلك؟"
"لا يا مولاي، كل جمال وله خصوصيّته ونكهته ومتعته، وكُلّما ضاجعت امرأة جديدة شعرت بمحبّة الله وأحسست أنّه قريب مِنّي!"
"ألم تجد غير الجسد لتتقرّب به إلى الله؟"
"الله جميل كامل ويحبُّ الجمال وما يسمو نحو الكمال يا مولاي، ويحبُّ من يسعى إليهما!"
فوجئ الملك لقمان بهذا الكلام من ملك الملوك فهتف:
"هذه أفكار جديدة عليك أيّها الملك"
"من يعرف أفكار مولاي ليس من العسير عليه أن يقتبس شيئاً منها!"
"هل سمعتني أقول ذلك؟"
"سمعتك تقول ما يشبهه أو لعلّه يكاد أن يكون نفسه يا مولاي"
"الله لا يسلّمك يا بعيد! وماذا فعلت للمرأة حين تأبّت عليك؟"
"انتقمت منها بأن استحضرت حوريّة ذات جمال قد لا يوجد مثله في السموات والكواكب كُلّها يا مولاي، تعمّدت أن أطرحها في الحديقة على مرأى منها، أوحت لي أنّها ابتعدت لكني عرفت أنّها تختلس النّظرات من بين أغصان الأشجار، فقد داخت ووقعت أرضاً حين رأت قضيباً تخرُّ له النّساء ساجدات ولم تر مثله في حياتها يا مولاي"
"الله يخرب بيتك يا شيخ، هل بدأت تعذب المرأة مُنذ الآن وهي ضيفة عندنا؟"
"كانت متمتّعة يا مولاي، هل هذا تعذيب أيضاً؟"
"وكيف استحضرت هذه الحوريّة؟"
"ألن تغضب عليّ يا مولاي؟"
"لا لن أغضب"
"طلبت إلى قواي أن تُحضِر لي أجمل حوريّة يمكن أن يجسّدها خيال مولاي فعجزت عن ذلك لأنّه فوق قدرتها، فوبختها فأحضرت لي ما قدرِت عليه!
"وكيف كانت؟"
"لا أظن أنني قادر على وصف جمالها يا مولاي، لكن في ميسوري القول أنّها ليست مخلوقة من طين، بل من مسك وعنبر وكافور وزعفران وفل وقرنفل، وجسمها شفّاف إلى حد أنك تستطيع أن تتمارى في خدّها، وترى الماء من روحها، وتبدو لك عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير إذا ما دققت النّظر!"
"الله لا يسلم فيك ولا عظم، حتى خيالي أخذت تستغله أيها العفريت، ثمّ كيف احتملت حوريّة بهذا الجمال والرقّة جلافتك وغلاظتك وثخانة وطول بلواك؟!"
"كُنت ناعِماً ورقيقاً معها يا مولاي، داعبتها وقبّلتها وتعبّدت بجسدها دون أن أولجه فيها يا مولاي!"
"وأين هيّ الآن؟"
"أسكنتها جناحاً خاصّاً ووضعت في خدمتها عشر أميرات يا مولاي"
"ألن تحضرها كي نراها؟"
"أخاف عليها من ضيوفك هؤلاء يا مولاي أن يفتكوا بها أو أن يُغمى عليهم إذا ما رأوا جمالها!"
ودنت "أستير" من الملك لقمان بملابسها الشّفافة التي تفضح بعض أسرار جسدها، وانحنت عليه وراحت تنثني وتتلوّى كأفعى أمام ناي ساحِر هندي وتهزّ نهدين استعصيا على الترهّل وتاقا إلى الرّضاعة، وتموّج بطناً ذا سُرّة تتوسل إلى شفاه تلثمها، وترقّص ردفين ينضحان شهوة وتشوّقاً إلى المداعبة!
أحسَّ الملك لقمان بنسمة راعشة اجتاحت جسدة كُلّه، فقاوم رغبته في اشتهاء جسدها، وضمَّ رأس الملكة نور السَّماء وحاوَل أن يستكين إليه.
أثارت "أستير" غيرة الملكات المُطوّرات فنهضن إلى الرّقص، فألبسهن الملك لقمان ثياباً ملائمة، وشرعن يهززن أردافهن في محاولة مُضحكة لتقليدها.
انشغل الملك لقمان بمراقبة الطّريقة التي يتناول بها ضيوفه الطّعام، وقد تعمّد أن يضع أمامهم شوكاً وسكاكين ليرى كيف سيستعملونها، وفعلاً استخدموها كبشر متحضّرين، هتف تخاطراً إلى الملكة نور السَّماء فاقترحت عليه أن يسألهم بعض الأسئلة في المعرفة، فشرع في ذلك على الفور مبتدئاً بسؤال بسيط:
"من منكم يعرف ما هي الزّراعة يا أصحاب الجلالة؟!"
فهتف ملك السّود:
"الزّراعة ما تنبته الأرض يا مولاي"
فقال الملك لقمان "جيّد" ونظر إلى الملك الأبيض فقال:
"ما تنبته الأرض بمساعدة الإنسان يا مولاي"
فهتف الملك لقمان "أحسنت أيّها الملك" ونظر إلى الملك عجاج العاصفة، فقال:
"الزّراعة هي ما يفعله الإنسان لتحسين وإكثار ما تنبته الأرض يا مولاي!"
فهتف الملك لقمان:
"ممتاز أيّها الملك، وكيف يمكن أن يتم ذلك؟"
"لا بُدَّ من فرز أنواع النّباتات عن بعضها البعض يا مولاي، واستصلاح الأراضي الملائمة لذلك، فالحبوب مثلاُ يمكن زرع كل نوع منها على حِدَة. ويمكن عمل ذلك مع الخضار والفواكه ومختلف الأشجار المثمرة وغير المثمرة".
"ممتاز! من منكم يعرف كيف تُحرث الأرض؟"
فأخذ الملوك يضحكون فتساءَل الملك لقمان:
"ما المضحك في الأمر يا جماعة؟"
فقال الملك عجاج:
"أنت تسألنا أسئلة بسيطة يا مولاي!"
"حقَّاً؟"
"أجل يا مولاي، فكُلّنا نعرف أن الأرض تُحرَث بمحراث يجرّه ثوران!"
ضحكت الملكة نور السَّماء وضغطت بيدها على يد الملك لقمان:
"ألا يمكن أن يجرّه حصان أو حماران أو فيل مثلاً؟"
"بلى ممكن يا مولاي"
"وهل المحراث الذي ستستخدمونه من الخشب أم ماذا؟"
"لا يا مولاي من الحديد المقوّى!"
"جيّد أيّها الملك"
وهتفت الملكة تخاطراً:
"حرام عليك يا حبيبي أنت وضعتهم في عصور متخلّفة!"
وتجاهل الملك لقمان هُتَاف الملكة وسأل الملوك:
"من منكم يعرف ما هي الكهرباء؟"
فهزّ الملوك رؤوسهم سلباً، فسألهم عن الصِّناعة، فتبيّن له أنّهم تلقّوا منه معرفة متوسطة عنها، ثمَّ بدأ يُصعّب الأسئلة بأن سألهم عن الأُسرة ليجيبوا إجابات مختلفة، فقد قال ملك السّود: إن الأُسرة هي العشيرة، وقال ملك البيض: إنّها القبيلة، أمّا الملك عجاج فقد قصرها على الزّوج وزوجاته وأولاده. فعقد لقمان الأسئلة أكثر بأن سألهم عن المعرفة، فقال ملك السود:
"المعرفة هي مجموعة المكتسبات العقليّة التي يحصّلها المرء خلال حياته!"
وقال ملك البيض:
"المعرفة هي مجموعة المفاهيم والأفكار والمعارف المختلفة التي توصّل إليها البشر".
وقال الملك عجاج:
"المعرفة هي الإدراك العقلي للوجود وما فيه!"
فوجئ الملك لقمان بالإجابات، فسأل الملوك عمّا إذا بدأت المعرفة قبل الوجود الإنساني أم بعده، فأجابوا جميعاً بأنّها وجدت بعده، وحين سأل عمّا إذا تولَد المعرفة مع المرء أم أنّها تكتسب؟ أجابوا جميعاً بأنّها تكتسب، فسأل كيف؟ فقال الملك عجاج بالفعل والتعلّم واللمس والإحساس والتجربة والممارسة والرّؤية والسَّمع والشّم والذّوق والتأمّل والتبصّر والغريزة!
فوجئ الملك لقمان بإجابة الملك عجاج وبهذا التّباين في الوعي الذي صار الملوك عليه، وأدرك أنّ إمكانيّة إيجاد وعي متشابه لديهم في كل شيء مسألة مستحيلة تماماً، فسأل سؤالاً – كان يأمل أن يكون السُّؤال الأخير – عمّا إذا كانت المعرفة ثابتة أم مُتغيّرة؟
فأجاب ملك السّود أنّها ثابتة، وأجاب ملك البيض أن ثمّة حقائق ثابتة وثمّة حقائق هُناك احتمال كبير لتغيّرها مع تغيّر الزَّمن، أمّا الملك عجاج فقد صعق الملك لقمان حين أجاب أنّه لا توجد معرفة ثابتة بل متغيّرة باستمرار حسب تغيّر الزّمن وتطوّر المفاهيم، وليس بالضرورة أن تتغيّر المعرفة كل عام مثلاً، إذ ثمّة حقائق يمكن أن تدوم آلاف الأعوام لكنها لا تلبث أن تتغيّر شيئاً فشيئاً إلى أن تؤديّ إلى حقائق أُخرى، وهكذا إلى ما لا نهاية!.
خاطر الملك لقمان الملكة نور السَّماء هاتفاً:
"أنا لا أعرف ماذا فعلت بهؤلاء الناس، وكيف أوجدت لديهم هذا التبّاين والتناقض في الوعي، فكيف بمن لا يعرف ما هي الكهرباء أن يرى أنّ المعرفة لم توجد إلاَّ بعد الوجود الإنساني، وأنْ يرى أنّه لا توجد حقيقة ثابتة؟ فأنا شخصياً أعتقد أنّه توجد حقيقة ثابتة، كأن أرى أن حاصل (5+5=10) أو أن أرى أنّ الماء هو الماء ولن يصير جماداً مثلاً! فمن أين جاء الملك عجاج بهذه الأفكار وأنا لم أمنحه إلاَّ معرفة محدودة؟!".
فأجابت الملكة:
"ما أدراك يا حبيبي، قد يأتي يوم وتتغيّر قوانين الرّياضيات ورموز الأرقام وحاصل جمعها أو طرحها أو ضربها، وقد يصير الماء حجراً أو ناراً!"
"لكن من أين أتى بهذه الأفكار؟"
"هذا ما لا أعرفه يا حبيبي"
"أي مأزق هذا الذي وضعت نفسي فيه؟"
ووجّه الملك لقمان سؤالاً جديداً على ضوء ما سمعه:
"ما رأيكم بالوجود الإلهي يا أصحاب الجلالة، فهل هو حقيقة ثابتة أم متغيّرة أم غير موجودة أصلاً؟"
فقال ملك السود:
"الوجود الإلهي حقيقة أزليّة يا مولاي"
وقال ملك البيض:
"إن الحقيقة الإلهيّة قد تصحُّ في بعض وجوهها وقد لا تصح في الوجوه الأُخرى".
وقال الملك عجاج:
"إنَّ الحقيقة الإلهيّة كغيرها من الحقائق قابلة للتغيّر وربّما للزّوال يا مولاي!!"
فهتف الملك لقمان وهو يُفاجأ ثانية بما لم يتخيّل على الإطلاق أنّه سيصدر عن الملك عجاج:
"هل هذا يعني أيّها الملك أنّ البشر جميعاً قد يتوصّلون يوماً إلى نفي وجود الله؟!"
فهتف الملك عجاج بثقة:
"أجل أيّها الملك!"
ولم يعد الملك لقمان قادراً على فهم ما جرى، فقد شاهد نفسَه أمام نفسِه قبل أن يخرج له ملك الملوك مِن القمقم، وقبل أن يصعد إلى السَّماء، بل قبل أن يفكّر في الانتحار، أصلح من وضع جلسته في المقعد على مائدة الطعام، وألقى رأسه على يد الملكة وأغمض عينيه وراح يتنفّس بعمق. خاطرته الملكة:
"لا تتعب نفسك يا حبيبي"
فخاطرها مُصِرّاً على ما يقوله:
"لقد اقتنعت تماماً الآن يا حبيبتي أنني إمّا في حُلم أو أنني أتخيّل، أو أنّ ما هو إلى جانبك هو روحي أو جسدي، وليس مهمّاً أن يكون قبل انتحاري أو بعده، فالنّبي محمد حسب قول أم المؤمنين عائشة سرى إلى المسجد الأقصى بروحه ولم يسرِ بجسده، وحسب قول معاوية بن أبي سُفيان أنّ الإسراء كان رؤيا، حتّى أنّ الله تعالى اعتبره كذلك حين قال في كتابه "وما جعلنا الرّؤيا التي أريناك إلاّ فتنة للناس" فلماذا لا يكون كلُّ ما يجري معي شيئاً من هذا القبيل، أو من قبيل قيامه يسوع المسيح من قبره وصعوده إلى السَّماء؟‍!"
وقررت الملكة نور السَّماء حسم المسألة بتوقّع كُل الاحتمالات:
"حتى لو كان الأمر كذلك يا حبيبي، فأنت هُوَ أنت إن نهضت من بين الأحياء أو من بين الأموات، وحُلمك هو أنت وخيالك هو أنت، وروحك هو أنت وجسدك هو أنت، قال تعالى في الخَبرِ عن إبراهيم عليه السَّلام إذ قال لابنه:
"يَا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك" ثمَّ مضى ليذبحه فافتداه الله بكبش. وقال الحسن بن علي كرّم الله وجهيهما" فعرفت أنّ الوحي من الله يأتي الأنبياء إيقاظاً ونياماً!" فأرح نفسك واطمئن يا حبيبي، فأنت لقمان إن كنت روحاً أو جسداً وإن كنت تحلم أو تتخيّل، فلا تدعني أقول فيك ما قاله شاعر العرب قبل أكثر من ألف عام:
ذو العقل يشقى في النّعيم بعقله
وأخو الجهالة في الشّقاوةِ ينعمُ"
فهتف الملك لقمان:
"يبدو أنني سأشقى إلى الأبد يا حبيبتي حتّى لو تبوّأت مكان الله نفسه!"
وهتف هاتف في دخيلته ينذره باستنفار قواه لانطلاق شهاب هائل الحجم نحوه مِن السَّماوات العُليا، فسأل عن سرعته، فأجابه أنها عالية جدّاً، وأنّه سيجتاز مسافة تبعد عن السَّماء التي هم فيها آلاف الملايين من السِّنين الضوئية، وأبلغ الهاتف الملك لقمان أنّ نهايته ستكون حتميّة إذا لم تنجح قواه في التصدّي له. وحاول الملك لقمان أن يعرف من يهتف إليه غير أنّ الصوت توقّف عن الهتاف.
أدركت الملكة أنّ شيئاً ما قد حدث حين رأت الملك يتوقّف فَجأة عن محاورتها أو الإصغاء إليها.
أوعز الملك لقمان إلى بعض قواه لتستنفر كُلَّ طاقاتها وتطلعه على أخبار الشّهاب أوّلاً بأوّل دون أن تتصدى له، وحاول أن يخفي قلقه فيما الملكة تتساءَل:
"هل حدث شيء يا حبيبي؟"
"لا يا حبيبتي لا تقلقي، يبدو أنّه شهاب خرج عن مساره وقد يقترب من السَّماء التي نحن فيها الآن".
وابتعد عن الموضوع بأن سأل الملوك عمّا إذا بلغوا بلاد الحُمر، فأجاب الملك عجاج أنّهم بلغوها.
ألقى الملك لقمان نظرة إلى أسفل فشاهد آلاف المشاعل تتحرّك على الأرض، فسأل الملوك:
"هل لديكم فكرة أين يتّجه حملة المشاعِل هؤلاء؟"
فأجاب الملوك بالنّفي.
"أليس لديكم فكرة عن دينهم؟"
فقال الملك عجاج:
"نسمع أنّهم يعبدون الشّمس والأقمار يا مولاي ويقدّسون النّساء!"
استغرب الملك لقمان ذلك وتساءَ ل:
"كم هو غريب أمر كوكبكم هذا الذي يوجد عليه بشر لا يعبدون شيئاً ولا يعرفون حتّى ما هي العبادة، بينما آخرون يعبدون الطوطم وآخرون يعبدون الشّمس والأقمار"
هبطت المركبة لينزل الملك لقمان والملكة نور السَّماء وحدهما.
حلّقا فوق أرتال حملة المشاعل إلى أن بلغا ساحة كبيرة في أرض خالية من الأشجار وشبه منبسطة، أحيطت بخصوص بدائيّة أُقيمت من أغصان الأشجار بأشكالٍ مخروطيّة وهرميّة.
كان الآلاف من حملة المشاعل يتجّمعون في السَّاحة وينصبون حلقات الرَّقص العنيف. أضاء الملك لقمان المكان إضاءَ ة خفيّة وراح يحلّق فوقه هو والملكة، كان الآلاف من الرّجال والنّساء يتناثرون هُنا وهُناك ويمارسون الجنس بَأوضاع مختلفة، فيما كان آخرون ينتظمون في الحلقات الراقصة التي بدت إحداها كبيرة، وقد أُحيطت بالنساء وأُنيرت بالمشاعل المغروسة في الأرض، فيما كان الرّجال يرقصون في وسطها على أنغام طبول بدائيّة، ويبدو أنّ النّسوة يخترن من يبرع في الرّقص أكثر من غيره ويقتدنه للمضاجعة.
هتف الملك لقمان:
"يبدو أنّ هذا أوّل معبد للشمس والقمر على الكوكب، ويبدو أن الناس هُنا متطوّرون أكثر من الذين مررنا عليهم"
كانت الملكة قلقة من قصّة الشّهاب متخوّفة من أن ينساها الملك، وقد استنفرت كُل قواها وأخبرت أباها وأمّها وملك الملوك والملك دامرداس ليستنفروا قواهم، فلم تجب الملك لقمان بل تساءَ لت:
"أين أصبح الشّهاب يا حبيبي؟"
"ما زال يبعد عنّا أكثر من ألف مليون سنة ضوئية يا حبيبتي، لا تقلقي"
"هل طلبت إلى بعض القوى مواجهته؟"
"لا، لن أواجهه إلاَّ إذا دخل سماءنا يا حبيبتي"
"هل تتوقع أن يحترق ويتناثر بفعل عوامل طبيعيّة قبل أن يصل سماءنا؟"
"إن لم يكن مسيّراً من قوى ملائكيّة أو إلهيّة فالأمر ممكن، وإذا ما دخل سماءَنا فليس من الصّعب مواجهته"
"هل أنت متأكّد من ذلك يا حبيبي؟"
"أجل يا حبيبتي"
"هل سألتهم كم يبلغ طولُه وعرضه؟"
"قيل لي أن طوله لا يقل عن مائة ألف ميل، وعرضه حوالي عشرين ألف ميل!"
"يا إلهي هذا مذنّب وليس شهاباً، كيف يمكن أن تصبر عليه إلى أن يدخل مدار سمائنا، فقد يدمّرنا في اللحظة التي سيجتاز فيها السَّدائم المحيطة بسمائنا"
"لا تخافي يا حبيبتي!"
قال الملك لقمان ذلك وهاتف يهتف في دخيلته ليخبره أنّ الشّهاب يدمّر كل السّدائم الطبيعيّة التي يواجهها في مساره، وينجم عن ذلك بريق هائل.
قالت الملكة:
"قد يؤثر تدميره على النظام الشمسي في هذه السَّماء"
"سألت عن كل شيء يا حبيبتي وقيل لي أنّه لا يؤثّر، وسأختار فضاءً مُناسباً لتدميره"
وعادت الملكة لتلح على إمكانيّة القوى اللقمانيّة:
"هل تأكّدت من أنّ قواك قادرة على تدميره؟"
"أجل يا حبيبتي تأكدّت"
"ومن تعتقد أنّ له مصلحة في قتلك يا حبيبي؟"
فوجئ الملك بمعرفتها بما يجري:
"من قال لك يا حبيبتي أنّ الشّهاب منطلق نحوي؟!"
"هذا أمر لا يمكن أن يُخفى عليّ يا حبيبي!"
"ربّما الملاك إسرافيل يا حبيبتي"
"هل تظن أنّه سمع الهُتَاف الذي دار بينك وبين الملاك إبليس؟"
"بالتأكيد، فكل الملائكة استمعوا إلى الهُتاف"
"لقد أخفتني أكثر، فقدرة إسرافيل ثاني قدرة في الأكوان والسماوات بعد قدرة الله، وما هذا الشّهاب إلاّ شذرة لا تكاد تذكر منها، ولا أظن أننا سننتصر عليه يوماً إذا ما شرع فعلاً في خوض حرب ضدّنا!
"لِمَ هذا التشاؤم يا حبيبتي؟ سننتصر لأن الله معنا!"
"أحمد الله أنّك تعود إليه بالسُّرعة التي يغادر روحك فيها"
"لم يغادرني الله يوماً يا حبيبتي ولم أغادره حتّى في ذروة إلحادي!"
"إنّي أتضرّع إليه أن يحل في روحك بكل جبروته وأن يملأ نفسك بكل عظمته لعلّك لا تعود إلى الشَّكِ يوماً، ويظل اليقين هاجسك".
"وأنا أتضرّع إليه وأتوسّل يا حبيبتي.. هيّا لنهبط إلى معبد الشَّمس، أو لعلّه معبد القمر؟"
"ليكن ما يكون، وآمل أن تكون مهمتك سهلة هذه المرّة، وإيّاك أن تشغلك عن مواجهة الشّهاب المرعب المنطلق نحونا".
"لا تقلقي يا حبيبتي، ما دام كل شيء يسير حسب مشيئة الله"
كان الناس ينظرون إلى المركبة التي بدت لهم كمجموعة أضواء تحلّق في السَّماء، وحين شاهدوا الملك والملكة توقّفوا عن طقوسهم وأخذوا يتحفّزون استعداداً لمواجهة غير متوقّعة، فقد أخذ بعضهم عصيهم ورماحهم فيما راح آخرون ينزعون المشاعل من الأرض ليقاتلوا بها.
رفع الملك لُقمان يديه الاثنتين قليلاً في محاولة لإقناع الناس أنّه رسول سلام، وهبط هو والملكة على مقربة من حشد من الرّجال وقفوا إلى جانبي مجموعة من النّساء بينهن امرأة جملية عارية الصَّدر جلست على مقعد من القصب فُرِش بالفرو، ووضعت على رأسها تاجاً بقرني ثور! وتدلّت على صدرها قلادتان إحداهما من الصَّدَف والأُخرى من الحلزون!.
اكتسب الملك لقمان لغتهم التي تبيّن له أنّها أرقى من لغة قبائل السُّمر، وردّ على الجميع تحيّة المساء رافقها بحركة من يده، فردّوا على تحيّته بأصوات غير متهدّجة توحي بالطمأنينة.
دنا الملك بضع خطوات هو والملكة نور السَّماء ليقفا في مواجهة المرأة الجالسة على المقعد، وهتف:
"أنا رسول سلام جئت لأقيم سلاماً بين سُكّان هذا الكوكب وأمنحهم الخير والبركة والمعرفة"
ونهضت المرأة عن مقعدها وهتفت:
"الرّبّة" نور القمر وضياء الشّمس ترحّب بضيفها الرّسول ورفيقته في بلادها"
وأَمرت بإحضار مقعدين إلى جانبها ودعتهما للجلوس.
قال الملك وهو يجلس:
"إنّي أعتذر أيّتها الربّة لتسببنا في إيقاف طقوسكم المقدّسة بقدومنا المُفاجئ"
فقالت الرّبة بصوت هادئ:
"إنّها طقوس نمارسها كل يوم أيّها الرّسول الكريم ويمكننا أن نستأنفها طالما عرفنا أنكّم رُسل خير"
"كم يُسعدنا ذلك أيّتها الرّبّة!"
وأشارت الرّبّة نور القمر وضياء الشّمس بحركة من يدها لتُستأنف الطّقوس، فألقى الرّجال نبالهم ورماحهم خارج السَّاحة وأعادوا المشاعل إلى مواضعها وشرعوا في الرّقص على إيقاعات الطّبول لتتحلّق النّساء من حولهم جلوساً، فيما استأنف من كانوا يمارسون الحُبُّ طقوسهم.
أخذت بعض الأقمار تغيب مما أضعف الإنارة في المكان، وكان الملك لقمان قد أوقف إنارته الخفيّة بعد هبوطه.
هاتفته الملكة نور السّماء وإحساس ينتابه بأن مهمّته مع هذه الرّبة ستكون سهلة:
"يبدو لي يا حبيبي أنّ الربّة هي الأجمل بين النّساء"
فهاتفها قائلاً:
"كيف بدا لك ذلك على نور هذه الأضواء الضّعيفة؟"
"يمكنك أن تنير المكان أكثر إذا أحببت أن تتأكد"
"إذا كانت دلالة اسمها ترتبط بجمالها فهي الأجمل قطعاً!"
والتفت الملك لُقمان إلى الرّبة وسألها:
"هل ترغب جلالة الرّبّة في أن أنير لها المكان بشكل أفضل؟"
وبدا أنّ الرّبّة لم تُفاجأ بالسؤال، فقالت:
"أكون ممتنة للرسول الكريم"
أطفأ الملك لقمان المشاعل ونثر في الوقت نفسه في فضاء المكان آلاف المصابيح الحُمر التي بدت كالشّموع، فأضفت على الأجواء جمالاً رائعاً.
تعالت هُتافات الدّهشة من الرّجال والنّساء فيما الرّبة تهتف متسائلة:
"هل يجيد الرّسول الكريم فنون السحر؟"
فهتف الملك لقمان:
"لا أيّتها الرّبة"
"ما هذا إذن أيّها الرّسول؟"
"هذه قدرة إلهي أيّتها الرّبّة"
"هل إلهك أعظم منّي أيّها الرّسول"
"عفواً أيّتها الربّة فأنا لا أعرف ما هي قدرتك"
"أنا ربّة الشمس والأقمار والنّجوم، ربّة السَّماء والأرض. الماء والهواء، الخِصب والحكمة، النور والظّلام، الحيوان والنّبات الخير والجمال!"
"والإنسان من ربّهُ أيّتها الرّبة؟"
"الإنسان هو الرّب الصغير ابن الأرباب الأربعة الكبار!"
"ومن هُم الأرباب الأربعة الكبار أيّتها الرّبّة؟"
"الأقمار والأرض والشمس والسماء"
"هؤلاء أكثر من أربعة أيّتها الرّبة"
"لا أيّها الرّسول فالأقمار كُلّها ليست إلا قمراً واحداً!"
واستغرب الملك ما يسمعه وتابع تساؤلاته:
"وكيف يكون الإنسان ابناً لأربعة أرباب؟"
"الشمس والسَّماء يشكّلان جسداً واحداً هو الذكر، والأقمار والأرض يشكّلان جسداً واحداً هو الأنثى، ومن مضاجعتهما الأولى جاء ربّنا النّبات ومن مضاجعتهما الثانية جاء ربّنا الحيوان، ومن مضاجعتهما الثالثة جاءت ربّتنا الأُنثى الأولى، ومن مضاجعتهما الرابعة جاء ربّنا الذّكر الأول، ومن مضاجعتهما الخامسة جاء ربّنا النجم الأول، وظلاَّ يتضاجعان وكُلّما تضاجعا أنجبا نجماً ربّاً إلى أن امتلأت السماء بالنجوم، أمّا الربّان الذكر والأنثى فقد ظلاّ يتضاجعان على جسد الأرض وينجبان الأرباب، وما زالوا يتضاجعون كما ترى وينجبون الرّبّات والأرباب!"
وجد الملك لقمان نفسه في متاهة غير معقولة أين منها متاهة الملك عجاج. هتفت الملكة تخاطُره:
"هل هذا معبد عشتاري بدائي يا حبيبي أم صومعة متصوّفين من طراز فريد!"
فخاطرها الملك:
"يبدو أنني سأضيع في هذا العالم يا حبيبتي"
وراح يتأكّد من الرّبّة:
"هل أُفهم من كلامك أيّتها الرّبّة أن كل كائن بحد ذاته هو رب وابن رب ورب الكائنات كُلّها في الوقت نفسه؟!"
فهتفت الرّبّة:
"أجل أيّها الرّسول الكريم، لكنْ هُناك أرباب صغار وأرباب كبار وأرباب أكبر!"
لم يكن الملك يتوقّع أنّه سيجد فهماً كهذا الفهم على كوكب بدائي، فبدا في غاية الدّهشة:
"وهل أنتِ الرّبّة الأكبر والأقدر في هذه البلاد؟"
"أجل أيّها الرّسول فأنا أمثل الآباء السّماويين على الأرض ومقدرتهم هي مقدرتي!"
"وماذا عن أُمّك وأبيك الأرضيين؟"
"أمّي كانت ربّة كبيرة وماتت، غير أنّ روحها حَلّت في هذه الفتاة عندما ولدت (وأشارت إلى فتاة كانت تقف إلى جانبها) أمّا أبي أيّها الرّسول الكريم فلا أعرفه، فنحن كما ترى المرأة تضاجع رجلاً كُلَّ يوم غير الرّجل الذي ضاجعته بالأمس".
"هل هذا يعني أنّ كل امرأة تضاجع كل رجال القبيلة؟"
"بل رجال القبائل كُلّها أيّها الرّسول، إلاّ إذا مات جسدها قبل أن تضاجعهم جميعاً"
"وهل تعتقدون أنّ الرّوح تحِلُّ في جسد مولود جديد أيّتها الرّبّة"
"أجل أيّها الرّسول فالرّوح لا تموت"
"وماذا عنك هل تضاجعين الرّجال جميعاً"
"لا أيُّها الرّسول أنا لا أُضاجع إلاَّ الأقوى والأجمل"
وراحت الأسئلة تزدحم في مخيّلة الملك لقمان، فيما الملكة تُخاطره هاتفة:
"يبدو لي يا حبيبي أنّ مهمّتك لن تكون سهلة كما توقّعت! ثم أين وصل الشّهاب هل نسيته يا حبيبي؟"
"لا، لا تخافي يا حبيبتي لم أنسه"
كان الرّجال قد انخرطوا في رقصٍ عنيف وراحوا يظهرون مفاتن أجسادِهم وقوّة عضلاتهم بحركات مثيرة، مما دَفع العديد من النّسوة إلى الشّروع في الرّقص المثير، فيما كان بعضهن يعجبن ببعض الرّاقصين فيقتدنهم إلى خارج السّاحة أو يطرحنهم فيها ليشرعوا معاً في طقوسهم الجنسيّة.
وتقدّم راقصان قويّان وراحا يتخطّمان برشاقة وقوّة أمام الرّبة والملكة نور السَّماء، ليعرضا جسديهما العاريين.
كتم الملك لقمان ضحكة في دخيلته فيما هتفت الملكة:
"مهمّتك تعقّدت كثيراً يا حبيبي"
وراح أحد الرّاقصين يستعرض جسده بوقاحة عجيبة مُثيرة أمام الملكة نور السَّماء، فيما هتفت الرّبّة مخاطبة الملكة:
"سنؤجّل حديثنا أيّها الرّسول الكريم إلى ما بعد انتهاء طقوسنا التعبّدية، تفضّلوا وشاركونا طقوسنا!"
ونهضت الرّبّة لتنزع ما كان يستر جسدها، وشرعت تتلّوى أمام الملك لقمان في رقص جنسيّ مُثير.
وجد الملك لقمان نفسه في وضعٍ محرج لم يعشه في حياته، فاعتذر بأدب:
"معذرة أيّتها الرّبّة فأنا لا أجرؤ على مواقعة الرّبات"
"وهذه الرّبّة التي معك ألم تواقعها؟"
"إنّها ليست ربّة أيتها الرّبّة"
"من هي بهذا الجمال أيّها الرّسول لا تكون إلاّ ربّة!"
ودنت الرّبّة من الملك أكثر من ذي قبل وهي تهزّ نهديها وتتلوّى فيما الرّاقص يحاصر الملكة بوقاحة غير معقولة، أمّا الراقص الآخر فقد ابتعد حين رأى أنّ الربّة مهتّمة بالضيف مع أنّه لم يرقص ولا يبدو فحلاً!
خاطرت الملكة الملك:
"يبدو أن هؤلاء القوم سيغتصبوننا يا حبيبي ما العمل؟"
ولم تكد تنهِ عبارتها إلاَّ والملك لقمان يستحضر امرأة عارية بدت وكأنّها هيلين الطّرواديّة لروعة جمالها ويدفعها في وجه الرّاقص ليبعده عن الملكة، ويدعو في الوقت نفسه ملك الملوك الذي هبط على الفور ومثُل أمام الرّبة مشهراً عضواً مُرعباً، وما أنّ رأته الرّبّة حتى شهقت من أعماقها وانقضت عليه لتحتويه بقبضتيها اللتين لم تطبقا عليه وتشرع في مصارعته وهي تهتف للملك لقمان:
"أنت حقّاً رسول إله عظيم أيّها الضيف الكريم وتمنح الخير والبركة!"
وخاطر الملك لقمان ملك الملوك:
"جاء وقتك أيّها الملك، لم أُفكر يوماً أنّ طاقتك الجنسيّة ستنقذني من مأزق كهذا!"
"آه يا مولاي ليتك تواجه دائماً بمآزق مثل هذا المأزق، هل أدوّخ لك الرّبة وتابعاتها؟"
"دوّخ من تُريد، لكن إيّاك أن تُثار غيرة الرّجال وينقضون عليك!"
"لا تخف يا مولاي!"
كان الرّاقص قد غَرِقَ في جسد "هيلين" وراح يتعبّد فيه بنهم بالغ، فيما النّسوة الأُخريات يتحلّقن حول الرَّبّة ويرقبن صراعها مع عضو ملك الملوك الخُرافي بعيون شرهة، غير أنّ غيرة الرّاقصين قد أُثيرت كما يبدو فانقضوا عليهن وشرعوا في مواقعتهن بعنف، ليكتمل الطّقس التعبّدّي!
غرقت الملكة نور السَّماء في الضّحك، هاتفها الملك:
"آن الأوان لمواجهة الشّهاب، سأبتعد عن ساحة المعبد، يمكنك أن تبقي إذا أحببت أن تتفرّجي على الطّقوس التعبديّة!"
فهتفت الملكة:
"وهل يُعقل أن أتركك وحدك يا حبيبي في مواجهة كهذه، لتذهب الطّقوس إلى الجحيم!"
"هيّا إذن"
* * *

وطارا ليبتعدا عن منطقة المعبد ويحلّقا في الفضاء.
نظر الملك إلى أعلى فشاهد الشّهاب يومض منطلقاً من أعالي السَّماوات، ونظرت الملكة بدورها لتراه فهتفت:
"إلى متى تنتظر يا حبيبي؟"
"ما يزال في سماء بعيدة عن سمائنا!"
"لماذا لا تفجّره فيها؟"
"ربّما لن يصل إلينا وربّما لا يقصدني، يجب أن أتأكد"
"ومتى ستتأكّد يا حبيبي؟"
"عندما يدخل سماء نا!"
وتناثرت مئات النّيازك والذّيول الملتهبة حين اصطدم الشّهاب بمواد في الفضاء اعترضت طريقه.
"يبدو أنّه يدمّر كُلَّ ما في طريقه ليفتته إلى شظايا مُنصهرة!"
"هذا أمر طبيعي يا حبيبتي، هل أنت خائفة؟"
"كثيراً يا حبيبي"
"تمالكي أعصابك"
وكان في ميسور الملكة أن تتمالك أعصابها لو لم يصطدم الشّهاب بمواد أُخرى في طريقه ويحيلها إلى آلاف الشّظايا الملتهبة، فالتصقت بجانب الملك لقمان وتشبّثت بيديها بعضده.
"أظن أنّه بدأ يقترب من سمائنا، فحجمه بدأ يتّضح لنا أكثر من قبل"
أجل يا حبيبتي لا تخافي"
وشرع الشّهاب يشقُّ السّدائم المحيطة بالسَّماء لتتناثر على جانبيه آلاف الشّظايا النيزكيّة، فبدا وكأنّه قارب هائل الحجم يمخر عباب محيط شاسع، ودوّى فجأة صوت راح يُرعِدُ في السَّماء:
"أين ستذهب منّي يا لقمان؟"
أطرقت الملكة للحظة وقد اجتاحها رُعب فظيع ثم هتفت:
"صوت من هذا يا حبيبي؟"
كان الملك لقمان مطرقاً وهو ينظر إلى الشِّهاب كيف يشقُّ السّدائم بقوّة خارقة وحشيّة ويحيلها إلى حمم منصهرة منقذفة في الفضاء.
جاهد بكلّ قوّته وقواه وإيمانه بالله ليتمالك أعصابه ويحافظ على رباطة جأشِه، وهتف بصوت خفيض:
"لا أعرف يا حبيبتي رُبّما صوت إسرافيل"
"لِمَ لا تجيبه؟"
"ومِن أين سأمتلك هذا الصوت الهائل؟"
"استعن بقواك يا حبيبي"
وعاد الملك لُقمان إلى إطراقته وإذا بصوتٍ هائل يهتف في الفضاء مُجيباً:
"ماذا فعلت لك أيّها الهاتف لتقصدني دون غيري مِنَ البشر؟"
"لأنّك تجاوزت حدود البشر والجن والملائكة يا لقمان"
"بَم تجاوزتها أيّها الهاتف؟"
"ببحثك عن الحقيقة يا لقمان، واكتسابك قدرات خارقة لم تمنح من قبل إلاّ لملائكة معدودين، ألا تعرف هذا؟"
"وماذا يُضيرك في الأمر إن كان قد حدَث فِعلاً أيها الهاتف؟!"
"وماذا سيضيرني غير هذا يا لُقمان؟"
"لكني أيّها الهاتف إن كنت قد تجاوزت حدودي فلم أتجاوزها إلاَّ بمشيئة إلهي القدير، فلِمَ تُعارض مشيئة الله؟"
"بل مشيئة اللعين إبليس يا لُقمان"
"بل ميشئة إلهي أعوذ به مِنكَ!"
"إن كانت مشيئة إلهك فأرني اليوم قدرتك قبل أن أُحيل الكوكب الذي أنتَ عليه إلى دمارٍ شامِلٍ يتناثر حِمماً في الفضاء"
"لِمَ لا تنبذ الشرّ أيّها الهاتف وتسعى إلى المحبّة والخير لعَلَّ الله يستجيب إلى سعيك ويزرعهما في قلبك؟"
"لم يعد بيني وبينك إلاَّ الهول والحرب والدّمار يا لقمان، حتّى لو أدّى ذلك إلى تدمير الأكوان والسماوات كُلّها!"
"يا إلهي! لِمَ لا تكتفي بتدميري وحدي دون أن تؤذي غيري من الكائنات؟"
"لأنّ لعنتي حلّت وستحلُّ على كلّ كوكب تهبط عليه أو تطبق فيه تعاليمك يا لقمان"
"ولِمَ حلّت لعنتك وستحلُّ أيها الهاتف؟"
"لأنّك جعلت البشر والجن والملائكة يتلمّسون طريق الحقيقة!"
"يا إلهي! ولم أنتَ ضدّ ذلك أيّها الهاتف؟"
"كم أنت ساذج يا لقمان، أم أنّك تتظاهر بالسَّذاجة؟ ألم تدرك بعد أنَّ للحقيقة وجهين، وجّه لا يعرفه إلاَّ الله، ووجه لا يعرفه أحد غيري، ولن أسمح لأحد من الإنس والجنّ والملائكة أن يعرفهما".
"أهي مشيئتك؟"
"وحكمتي أيضاً يا لقمان"
"أيّة حكمة هذه التي تقضي بإفناء حياة كوكب نكاية بحياة كائن صغير مثلي، مستعد لأن يقدّم لك حياته مقابل ذلك"
"لقد فات الأوان يا لُقمان"
"إنّي أتوسَّل إليك"
ولم يجب الهاتف. فتساءَ ل الملك لقمان:
"ألا تخبرني من أنت أيّها الهاتف؟"
"لماذا تريد أن تعرف من أنا يا لقمان؟!"
"لعلّي أهديك إلى الله وأزرع المحبّة والخير في قلبك"
"أنا عدوّك اللدود يا لُقمان، والله موجود في قلبي قبل أن يوجد في قلبك!"
"وهل يُقدم من يوجد الله في قلبه على ما تفعله؟"
ولم يجب الهاتف، فقال الملك لقمان بقلب مُنفطر:
"إنّي أستعين بإلهي عليك"
وأطرق الملك لقمان للحظات لعّلَّ الهاتف يقول كلمة أخيرة، غير أنّه لم يقل.
أخذ الشّهاب يقترب كسهم هائل الحجم شاقاً السَّدائم أمامه، مُنيراً الفضاء من حوله.
التحمت الملكة نور السَّماء بجسد الملك لُقمان، فاحتواها بيديه وضمّها إلى صدره وهو يحدّق إلى السَّماء، ويهتف إلى الله من أعماق قلبه، متوسّلاً إليه بكلِّ خلجات جسده، وما يعتمل في نفسه، مستنهضاً كُلَّ قواه، هاتفاً في اللحظة الأخيرة:
"اللهم اجعلني قتيلاً لا قاتلاً – إذا كان بقائي سيؤدّي إلى فناء الحياة على أيٍ من الكواكب، واللهُمَّ انصرني على أعدائي إذا كان نصري سيؤدّي إلى بقاء الحياة، ورفع كلمة الحق، وسبر أغوار الحقيقة، وإظهارها للملأ"
انبثق من أعالي السَّماء شهاب هائل لا يقلُّ حجمه عن حجم ذاك الشّهاب، وانطلق يشقُّ الفضاء صاعِداً إلى أعلى بسرعة خياليّة تفوق سُرعة ذاك، ولم تمض سوى ثوان حتّى اصطدم الشّهابان في فراغ شاسع في الأعالي السَّماويّة البعيدة عن الأقمار، فنجم عن اصطدامهما برق مُشعّ أضاء السَّماء من أقصاها إلى أقصاها ليطمس نور الأقمار والنّجوم ويحيل السَّماء إلى ما هو أقرب إلى ضوء النّهار، وهو يتشظّى ويتشعّب في الفضاء منتشراً في كل الاتجاهات، ناثِراً ملايين النيازك المشعّة، ومحدثاً صوتاً كأنّه صوت ملايين الرّعود وقد قصفت في آن واحد، سمع الملك والملكة دويّه الذي ارتجت منه الكواكب والأقمار والنّجوم والأجرام التي ما لبثت أن أخذت تحمُّر شيئاً فشيئاً لتبدو كالمذنّبات وهي تتابع انقذافها في الفضاء، دون أن تصطدم بغير السَّدائم التي كانت تجتازها لينبعث منها شررٌ كالجمر المتناثر.
تنفّست الملكة نور السَّماء الصعداء ورفعت رأسها عن صدر الملك لقمان، وهي تتابع بنظراتها النيازك المنقذفة في الفضاء.
هتف الهاتف بصوته المدوّي:
"إن نجوت هذه المرّة يا لُقمان فلن تنجو في المرّة القادِمة"
ندّت عن الملكة نور السَّماء صرخة خفيفة، فربت الملك لُقمان على ظهرها وهو يهتف بالصوت المدوّي:
"سأنجو بقدرة إلهي أيّها الهاتف"
ولم يجب الهاتف، وكان جميع الملائكة قد استمعوا إلى الحوار الذي جرى بين الملك لُقمان والهاتف وشاهدوا المواجهة التي تمّت بين الشّهابين، والنَّصر الذي تحقق للملك لقمان، فشرعوا يمّجدون اسم الله في كافة السَّماوات والكواكب والأكوان. وكان ملك الملوك شمنهور الجبّار قد قطع معتذراً طقوس الجنس المقدّس، مؤكداً للربة "نور القمر وضياء الشمس" وأتباعها أنّ مولاه يواجه معركة مصيريّة لا يستطيع أن يقف متفرّجاً أو غارقاً في مُتعهِ خلالها، فأثنت الرّبة عليه وباركته!
وفيما كان الملك لقمان يحلّق عائداً وسط تهليل الملائكة في الأكوان، هاتفه الملاك إبليس مهنّئاً ومُشيراً إلى أنّ الصَّوت الذي هاتفه، كان شبيهاً بالصَّوت الذي خاطبه قبل خلق آدم وحوّاء إن لم تخنه ذاكرته. فشكره الملك لقمان وطلب إليه مساعدته في حَلّ بعض الألغاز المتعلّقة بالجن وخلق آدم وحوّاء، ولا سيّما أنَّ الهاتف ذكرَ الجنَّ إضافة إلى البشر والملائكة خلال هُتَافه، فهاتفه الملاك إبليس قائلاً:
"ما أعرفه يا أخي لُقمان أَنّ الله لم يخلِق جناً وشياطين، خاصّة بعد مُحادثتك مع الله وتأكيدك لي على أنّه لم ينزّل مرتبتي إلى جنّي"
"من أين جاءَ ت التسمية إذن؟"
"التسمية لم تأتِ إلاَّ بعد قصّة الأديم، إذ لم أَسمع بها قبل ذلك!"
"ألا يمكن لمن أطلق هذه التسمية أن يكون قد خلق الجن والشياطين فيما بعد؟"
"والله إنّي لا أعرف يا أخي"
"وهل كنت تعرف حين أقدمت على خلق آدم وحوّاء أنّ الله قد منحك بعض القدرة على الخلق؟"
"نعم، لكني لم أكن أعرف سوى خلقِ النّبات والحيوان، وقد استعنت بما خلقه الله من نبات وحيوان في الجنّة"
"ألا تقول لي ماذا كانت مرتبتك عند الله بين الملائكة؟"
"لقد كنت الثاني بعد إسرافيل"
"آه، يا أخي إبليس، وماذا ستقول لي عن آدم وحوّاء، يبدو لي أنَّ هُناك أكثر من آدم وحوّاء اللّذين خلقتهما أنت؟!"
"ما أعرفه يا أخي لقمان أنّه لا يوجد كوكب عليه حياة بشريّة إلاّ وله آدمه وحوّاؤه بأسماء مختلفة، وإن لم يكونا من نسل آدم وحوّاء اللذين خلقتهما أنا، فهما من نسل آدم وحوّاء اللذين جاءا بفعل القوّة الكامنة الطبيعيّة!!"
"وما هي القوّة الكامِنة الطّبيعيّة يا أخي؟"
"إنَّها رغبة الطَّبيعة في التَّوحد مع الله ومساعدته على خلقِ ما يُريد له أن يُخلق"
"وهل خلقت هذه الطّبيعة آدمها وحوّاءَ ها قبل أن تخلق أنت آدمك وحوّاءَ ك؟"
"لا يا أخي، فما أعرفه أنّ آدمي وحوّائي كانا أوّل مخلوقين إنسانيين، وقد سبقت بخلقهما الطبيعة بما لا يقلُّ عن ثلاثة ملايين سنة!"
"ألا تظن أنّ الله قد خلق أيضاً آدمه وحوّاءَ ه؟"
"إن شئت الحق فأنا لا أعرف ذلك يا أخي!"
"وإسرافيل؟!"
"أيضاً لا أعرف يا أخي، وإن كنت أظن أن إسرافيل قادر على فعل ذلك إذا ما أراد!"
"آهٍ يا أخي إبليس، لا أعرف متى سأصل إلى الحقيقة، فكُلّما أمسكت خيطاً مِنها، ضاعت مِنّي مئات الخيوط"
"اصبر يا أخي فنحن في حاجة إليك"
"لِمَ لَمْ تحاول أنت البحث عن الحقيقة يا أخي؟"
"لأنني كنت أظنّ أنّي أعرفها!"
"وماذا عن المعرفة التي منحتها للمخلوقين اللذين خلقتهما، هل منحتهما معرفة متطوّرة؟"
"لا يا أخي، فأنا لم أكن قادراً على ذلك!"
"ألم يعرفا إشعال النار مثلاً بَعد أن خلقتهما؟"
"لا، لكنهما تعلّما ذلك فيما بعد، وربّما استناداً إلى المعرفة التي اكتسباها خلال وجودهما لبعض الوقت في الجنّة؟!"
"وماذا عن المعرفة اللاحقة لأجيالهما، هل اكتُسبت دون مساعدتك؟"
"أجل يا أخي، فلم أعد أتدخّل في شؤون ما خلقت!"
"وماذا عن الدين، ألم تعلّمهم دينك؟"
"بلى، علَمتهم، لكن أجيالهم اللاحقة تخلّت عنه!"
"ولِمَ لمْ تعد تتدخّل في شؤونهم يا أخي؟"
"لأنني أحبهم ولا أُريد أن أزعجهم، أو أفرض عليهم ما لا يُريدون"
"وماذا عن قابيل وهابيل يا أخي، هل أنجب آدمُك وحوّاؤك قابيل وهابيل؟!"
"لا يا أخي، بل "هاريد" وماريد""
"غريب! وهل قتل هاريد ماريد؟"
"لا يا أخي، لم يقتل أي منهما الآخر"
"ومن يكون آدم وحوّاء اللذان أنجبا قابيل وهابيل؟!"
"هذان من نسل جاء بعد ملايين السِّنين، يعود إلى نسل آدم وحوّاء اللذين خلقتهما أنا!"
"هل تقصد أنّهما لم يأتيا إلاَّ منذ بضعة آلاف من الأعوام؟!"
"نعم، وقد ظهرا لأوّل مَرّة في بلاد سومر وأكَّاد!"
"هل في مقدورك يا أخي أن تقول لي إلى أي آدم وحوّاء أنتمي أنا؟!"
"إلى آدم وحوّاء اللذين خلقتهما أنا!"
"أشكرك يا أخي، واعذرني إذا ما أثقلت عليك"
"العفو يا أخي"
* * *
هبط الملك لقمان والملكة نور السَّماء على الأرض ليجدا الرَّبّة نور القمر وضياء الشمس قد أوقفت طقوس العبادة المقدّسة تضامناً مع الملك لقمان أثناء مواجهته للشهاب. وصافحت الملك وهنّأته بالنصر، وأعلنت له أنّها آمنت به وبإلهه بعد أن شاهدت المواجهة التي جرت بين شهابه والشّهاب الآخر، فاعتذر لها الملك عمّا جرى وشكرها لإقدامها على هذا الموقف النّبيل، وتقديراً لها ولشعبها قام الملك بتطويرهم ليصبحوا في مستوى القبائل التي طوّرها، وملأ أرضهم بالخيرات.
وحين شاهدت الرَّبّة نفسها ترتدي أجمل الملابس وشعبها يرفل بثياب جديدة، ووعيها يتحوّل إلى وعي جديد أمرت الشّعب أن يسجد أمام الملك لقمان وخرّت بدورها ساجدة، فأنهضها الملك بيديه وأمر الشّعب أن ينهض.
وطلبت الرّبّة إلى الملك أن يسمح لها بتقبيله فسمح لها فقبلته قبلة على خدّه الأيسر وقبله على خدّه الأيمن، وقبّلها هو على جبينها وقال لها:
"لقد نزلت محبّتك في قلبي أكثر من غيرك من بني البشر أيّتها الرّبّة فتمنّي عليّ ما تريدين"
فقالت الرّبّة:
"إنّي لا أتمنّى إلا سلامة مولاي ونصره على جميع أعدائه"
فقال لها الملك:
"سلّمك إلهي أيّتها الرّبّة، لكن يجب أن تتمنّي عليّ، لأنّي أشعر برغبة لأن أقدّم لك شيئاً لم أقدمه لأحد قبلك"
فقالت الرّبّة:
"هل يقدر مولاي على بناء بيت لي وبيوت لشعبي؟"
فقال الملك لقمان:
"بإذن إلهي سأقدر"
وأطبق الملك بيديه على وجهه وراح يفكّر، فأدرك أنّه لا بُدّ من بناء بيوت لكلِّ سُكّان الكوكب. فرفع يديه عن وجهه ونظر غرباً على مدى البصر وإذا ببيوت جميلة من الحجر تنتصب كأنّها القصور في السّهول والسُّفوح والجبال، واستدار الملك لقمان نصف خطوة إلى الشّمال ونظر ليفعل الشيء نفسه، ثمَّ استدار إلى الشّرق ليفعل الشيء نفسه، ثمَّ إلى الجنوب ليفعل الشيء نفسه وليعلن بعد ذلك أنّ كافة أراضي الكوكب من أقصاه إلى أقصاه قد أُقيمت فيها البيوت التي تكفي لكلِّ الشّعوب والأمم والقبائل وتزيد.
وكان الملك لقمان قد ترك المنطقة المحيطة بالمكان الذي همّ فيه ليقيم عليها قصراً للرّبة، فأوعز إلى الشّعب بإخلاء المنطقة التي أمامه وإلى جانبيه، فراح الناس يبتعدون ويقفون وراءَه، وحين أشار بيده انتصب أمامه قصرٌ هائل الحجم بثلاثة أجنحة على شكل مستطيل مفتوح من الجهة التي أمامهم، وكل جناح بطول ألف متر ويضمَّ أربعة طوابق، كُلّ طابق يضمّ مائة حُجرة وقاعة ورواقاً وأربعة صالونات. وقد أُقيمت واجهات الأجنحة على أعمدة ضخمة علتها أقواس في غاية الجمال، وعلا القصر ثلاثة أبراج عالية أُقيمت في منتصف كل جناح، ومائة برج قصير، كل برج منها بطول مائة متر، ويضمُّ ثلاث قباب مُذهّبة يفصل بين كل قبّة وقبّة عمود من رُخام محاط ببلكونة دائريّة رُخاميّة. أمَّاً الأبراج الثلاثة العالية فكانت أطوَل من البروج تلك بمقدار الضّعف، وضمَّ كُلُّ برج ستّة قباب وست بلاكين. أمّا المساحة المستطيلة الواقعة بين الأجنحة الثلاثة وكذلك المساحة المحيطة بالقصر من كُلّ الجهات، فقد حوّلها الملك لقمان إلى حدائق غنّاء، تدفّقت منها الينابيع، وأينعت فيها أجمل الأشجار المثمرة، وانتظمت في ممراتها أجمل الورود والزّهور ونباتات الزينة وانتصبت فيها النّوافير ذات الأشكال البديعة، التي راحت ترذُّ الماء من حولها، وحلّقت أسراب العصافير المختلفة مزقزقة في فضائها، وغرّدت البلابل على الأشجار، حتّى بدت وكأنها قطعة من الجنّة.
وكانت الرّبّة نور القمر وضياء الشّمس مأخوذة بالدّهشة وقد أحسّت بالأرض تتحرّك تحت قدميها لتتحوّل إلى جزء من حديقة القصر، ولتجد نفسها تقف هي والملكة نور السَّماء والملك لقمان "وهيلين الطرواديّة" وبعض أبناء شعبها فيها.
وقبل أن تخرج الرَّبّة من دهشتها أتى لها الملك لقمان بجواد عربي أصيل رائع الجمال أُسرِج ظهره بسرج مُرصّع بالجواهر تدلّى منه ركابان من ذهب، وفوجئت الرّبة به يحكُّ كتفها برأسه ويهتف لها قائلاً:
"مرحباً أيّتها الرّبّة نور القمر وضياء الشمس"
فطار عقل الرّبّة وراحت تعانق الجواد، وما لبثت أن وجدت نفسها ترتفع عن الأرض لتمتطيه خنصره على جانب واحد، ونظراً لأن الجواد كان يعي ويتكلّم، فلم يضع الملك لقمان لجاماً في فمه، وكان من السَّهل على الرَّبّة أن تتحكّم به دون أن تمسك العنان الجلدي المرصّع بالأنجم الذَّهبيّة، إن أرادت.
نزلت الرّبة عن الجواد وراحت تتجوّل هي والملك والملكة في حدائق القصر. وأخبرها الملك لقمان بما جاء من أجله، فعرف منها أنّ هُناك مئاتِ الشّعوب ومئات الملوك والأرباب ومئات الأديان على هذا الكوكب، فلم يكن أمام الملك إلاّ إحضار الملوك والأرباب جميعاً، فأقدم على تطوير جميع السُّكان دون أن يراهم وأرسل رسلاً من الملائكة لإبلاغ الملوك والأرباب بضرورة حضورهم مؤتمر السّلام الذي يُعقد في بلاد الرّبّة نور القمر وضياء الشمس تحت إشراف الملك لقمان الذي قام بعون إلهه بتطويرهم وبناء البيوت لهم وإغداق الخيرات عليهم. فأحضر الملائكة قرابة ألف ملك ورب على خيول طائرة مجنّحة، دون أن تعترض دعوتهم أيّة عقبات.
استقبلت الرّبة الضيوف جميعاً وعقد المؤتمر في إحدى قاعات القصر التي أقام فيها الملك لقمان مُدرّجاً كبيراً.
لم يُفاجأ الملك لُقمان حين لم يعترض أحد على إتّحاد بلدان الكوكب والنّظام الذي اقترحه عليها، بعد الخيرات التي أغدقها عليها والأعمال التي أنجزها لها، المفاجأة كانت التكاثر الهائل في عدد السُّكّان، فماذا سيفعل سُكّان الكوكب بعد أن تفيض البلاد كُلّها بالناس؟ وعبثاً حاول الملك لقمان إيجاد حل لهذه المعضلة دون تحديد النّسل، حتّى بعد أن طُرحت إمكانيّة نقل فائض السّكان إلى كوكب آخر غير مأهول، فالمشكلة ستتكرر إلى أن تمتلئ الكواكب كُلّها بالبشر وحينئذٍ سينشب الصّراع من جديد ليفتك القوي بالضّعيف، وقد يهيمن في النّهاية من يُنجب أكثر، خاصّة إذا ما نزعت الأسلحة وتوّقفت الحُروب بين الكواكب. فكان لا بُدّ من تحديد النّسل. وبعد مُداولات طويلة أقنع الملك لقمان الملوك والأرباب بوجهة نظره، وعيّن ملاكاً لمساعدة المجلس على إدارة شؤون الكوكب وإقامة العدل بين سُكّانه، وقد انتخب مجلس الملوك والأرباب الرّبة نور القمر وضياء الشمس رئيسة له لمدّة أربعة أعوام غير قابلة للتجديد، بعد أن جعلت قصرها مقرّاً له مدى الحياة.
وأمرت الرّبّة بأن تُقام الأفراح والولائم احتفاء بالمناسبة وإحلال السَّلام والمحبّة والتّعاون بدلاً من كل ما كان سائداً في بلدان الكوكب.
اعتذر الملك لُقمان عن حضور الاحتفالات، فودّع الجميع وصعد هو والملكة نور السَّماء إلى مركبته، لينطلق إلى سماء جديدة ويوكل الكواكب التي يتجاوزها دون أن يهبط عليها إلى الملائكة.
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شاهينيات (115) السبي البابلي وتحرير قورش الفارسي لليهود.
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (7) الله ورسوله والعفاريت !!
- محمود شاهين : مخطوطات تبحث عن ناشر
- شاهينيات (114) ذكر العرب كغزاة لبني اسرائيل .
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (5) عويل في الغابات!
- شاهينيات (113) بعض قصص سليمان وبلقيس!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(4) تحطيم الأصنام !
- شاهينيات (112) أخبار الأيام أخبار مكررة عن شجرة العائلة التو ...
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...
- الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
- بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
- ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
- شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !
- ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطا ...


المزيد.....




- نيويورك: الممثل الأمريكي أليك بالدوين يضرب الهاتف من يد ناشط ...
- تواصل فعاليات مهرجان بريكس للأفلام
- السعودية تتصدر جوائز مهرجان هوليوود للفيلم العربي
- فنانون أيرلنديون يطالبون مواطنتهم بمقاطعة -يوروفيجن- والوقوف ...
- بلدية باريس تطلق اسم أيقونة الأغنية الأمازيغية الفنان الجزائ ...
- مظفر النَّواب.. الذَّوبان بجُهيمان وخمينيّ
- روسيا.. إقامة معرض لمسرح عرائس مذهل من إندونيسيا
- “بتخلي العيال تنعنش وتفرفش” .. تردد قناة وناسة كيدز وكيفية ا ...
- خرائط وأطالس.. الرحالة أوليا جلبي والتأليف العثماني في الجغر ...
- الإعلان الثاني جديد.. مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 157 الموسم ا ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - الملك لقمان . الجزء الثاني. (9) شهاب من السموات العليا!