أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!















المزيد.....



ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4806 - 2015 / 5 / 14 - 17:01
المحور: الادب والفن
    


(8)
عقلٌ طوطمي!
أصعد الملك لقمان الملكين والملكتين معه إلى المركبة واستضافهم في إحدى الشُّرْفات.. كان الملكان مشدوهين بجمال الملكتين بعد تحوّلهما، وجمال النّساء اللواتي شاهداهن على المركبة.
أقلعت المركبة بسرعة تفوق سرعة الصوت بحوالي خمس مرات، قاصدة بلاد قبائل السُّمر. كان السُّمر قد خرجوا للصيد في الغابات وراحوا يطاردون الحيوانات بما فيها القردة المتطورّة وينصبون لها الكمائن أو يحاصرونها بإشعال النار في أطراف الغابة وملاحقتها من الجهات الأُخرى.
هبط الملك لقمان والملكة نور السَّماء على العرش الطائر ليحلّقا فوق غابة كبيرة كانت النيران تشتعل في أطرافها والحيوانات تُحاصَرُ خلفها، وترتد هاربة ناحية منتصف الغابة لتفاجأ بآلاف الرّماح والسّهام تنطلق نحوها دون تمييز، فتهرب يميناً أو شمالاً لتفاجأ بالنيران أو بجماعات مهاجمة أُخرى، فتضطر إلى خوض صراع انتحاري رهيب، يُصرع فيه الكثير منها بينما تنجح بعض الحيوانات القويّة في اختراق الحصار والفرار، خاصّة وأنّ المهاجمين كانوا يخلون لها الطريق بتمترسهم خلف الأشجار إذا ما عجزوا عن مواجهتها.
أنزل الملك لقمان مطراً غزيراً فأطفأ النار وأتاح لمن بقي سالماً من الحيوانات الخروج من الحِصار والهروب، وحين شاهد الرّجال السُّمر العرش يهبط نحوهم، والمركبة وحُرّاسها ومرافقوها يحلّقون في السَّماء تخلّوا عن الحيوانات التي اصطادوها وولّوا الأدبار، غير أن عرش الملك ظلَّ يُلاحقهم ويهبط نحوهم إلى أن اقترب منهم، فمنحهم الأمان وأشار إليهم بالتّوقف، فتوقّفوا.
هبط الملك والملكة من العَرش ليحطّا أمام مجموعة من الرّجال كانوا يسترون عوراتهم بجلود الحيوانات ويحملون رماحاً ونبالاً، ولم يكن بينهم نساء، وبدا واضحاً أنّهم يستحمّون، فلم يكونوا قذرين بشكل ظاهر، وكانت شعورهم طويلة بعض الشيء.
اكتسب الملك لقمان لغتهم بدلاً من أن يمنحهم لغة وخاطبهم متسائلاً:
"أين مليككم أيّها الرّجال؟"
فانبرى من بينهم شاب قوي البُنية وتقدّم بضع خطوات وتوقف ليجيب وهو يُركّز عقب رمحه في الأرض:
"وماذا تريد منه؟"
"أريد أن أتحدّث إليه"
"ألن تأسره أو تقتله؟"
"لا اطمئن، لن أفعل له شيئاً"
"وعن ماذا ستتحدّث إليه؟"
"عن شؤون الكوكب"
"هل تقسم أنّك لن تقتله ولن تُسيء إليه؟"
"بماذا سأقسم؟"
"بطوطمنا!"
"وما هو طوطمكم؟"
"النّسر الكبير!"
"النّسر الكبير؟ لعلّك تقصد العنقاء؟"
"بل النّسر الكبير"
"هل انحدرت قبائلكم منه؟"
"هذا ما قاله لنا أجدادنا!"
"وماذا عن القردة والكناغر والأسود والحيتان والخفافيش وغيرها، أليس بينكم من يتّخذ منها طواطم؟"
"توجد قبائل أُخرى من السُّمر والحمر تتخذ منها أو من بعض النّباتات طواطم لها"
"وهل تعبدون طوطمكم؟"
فضحك الشاب وهو يهتف:
"ولماذا هو طوطمنا إذا لم نعبده؟
"حسناً أيّها الشاب، أقسم بطوطمكم والطواطم كُلّها ألاّ أُسيء إلى ملككم"
ويبدو أنّ الشاب اقتنع أخيراً بكلام الملك لقمان:
"ملكنا في قصره في المدينة أيّها السيّد!"
"أُف، هل لديكم مدينة؟"
"أجل أيّها السيّد"
"هل تصحبونا إليه أم نرسل من يأتي به إلينا؟"
"أبونا الملك لا يأتي إلى أحد، كل النّاس يأتون إليه!"
تعجّب الملك لقمان لهذه الكِبرياء التي عند الملك، وتساءل:
"هل الملك أبوكم؟"
"أجل، وهو ممثل طوطمنا على الأرض"
وأدرك الملك لقمان حقيقة كانت غائبة عن باله، فالأب إله أيضاً وليس ملكاً فحسب.
"وهل هُوَ أبوكم كُلّكم؟"
"أجل!"
"كم زوجة لديه؟"
"كُلّ النّساء زوجاته!"
"وكُلّ الرّجال أبنائه؟"
"أجل!"
"عجيب، والنّساء ألسن بناته؟"
"أجل إنّهن بناته!"
"أي أنهن زوجاته وبناته في الوقت نفسه؟ غريب! ألا يترك نساء لكم وللرجال الآخرين؟"
"بلى، فهو لا ينكح المرأة إلاّ مَرّة واحدة، ويتركها لأبنائه"
"والواحد منكم ينكحها مرة واحدة ويتركها لغيره أيضاً؟"
"حسبما يريد أيّها السيّد"
"أيُّ عالمٍ هذا؟ ألا يوجد لأبيكم نسوة خاصّات به ولا يمسسهن غيره؟"
"بل يوجد لديه مائة!"
"وأنتم من أبناء هؤلاء المائة؟"
"بعضنا من أبنائهن وبعضنا من غيرهن"
"ألا تفرّقون بين أخواتكم وأمّهاتكم وغيرهن من النّساء؟"
"لا، لا نفرّق، نحن ننكح الجميع!"
"حتّى الأم والبنت؟"
"أجل!"
"ألا يوجد عندكم محرّمات؟"
"لا، لا يوجد شيء محرّم إلا قتل الملك الأب!"
"أيوه! إذن نذهب نحن إلى أبيكم بصفته ملككم وإلهكم، وإن كنت أعتقد أيّها الشاب أنني ملك أهم من أبيكم وكان يجب أن يحضر هُوَ إليّ!"
فانزعج الشاب وهتف بلهجة غلبت عليها الكبرياء والعُنجهيّة:
"لا يوجد في الدّنيا ملك أهم وأعظم من أبي!"
"ألأنه أبوك؟"
"بل لأنّه عظيم الُعظماء!"
"ما هي حدود مقدرته؟"
"مقدرته ومقدرة طوطمنا لا تُحد!"
"مثلاً؟"
"أنهّما يقدران على كُلّ شيء وعلّمانا إشعال النار وصنع الرّماح والنّبال وحفر الكهوف ورسم الحيوانات والبشر على الصخور، وغير ذلك كثير"
"هل لدى أبيك مركبة طائرة ويستطيع أن يطير مثلي وأن ينزل الأمطار كما فعلت أنا حين أطفأت نيرانكم لأنقذ الوحوش؟"
"لا، لكن جدّي الطوطم يطير وينزل الأمطار ويقدر على فعل كل شيء"
"هل رأيت جدّك هذا ينزل الأمطار؟"
"ومن يقدر على إنزالها غيره؟"
وعبثاً حاول الملك لقمان أن يجد وسيلة يتفاهم بها مع هذا العقل، ويعرف حدود وعيه ومعرفته.
"ألم تراني أيّها الشاب أنزل الأمطار، فكيف تقول أنه لا يقدر على ذلك غير طوطمك؟"
"لقد شاء هو أن تنزل!"
"يا أخي أنا وإلهي من شاءا وليس طوطمك النّسر!"
"بل طوطمي!"
"لا حولَ ولا قوّة إلاّ بالله.. طيّب! ما رأيك أيّها الشاب أن تدعو أنت طوطمك لأن يقوم بعمل ما، وأنا سأدعو إلهي، وسنرى من يستجيب إلهه له"
"إلهي قد لا يستجيب لي أيّها السيّد"
"لماذا؟"
"هو في الغالب لا يستجيب إلاّ لأبي لأنّه ممثله على الأرض!"
"وهل يستجيب لأبيك فعلاً؟"
"أجل، لأن أبي يقول ذلك"
"ولماذا استجاب لي وأنزل الأمطار على النار وأنا لا أؤمن به؟!"
"هو لم يستجب لك، هو شاء أن تنزل!"
"ألم يشأ أن تنزل إلاّ في اللحظة التي شئت فيها أنا؟"
"هذه حكمته!"
ونفخ الملك لقمان من فمه غاضباً:
"يبدو لي أنَّ التَفاهم معك مستحيل أيّها الشاب.. على أيّة حال أنا سأطلب الآن إلى إلهي أن يقصف الرَّعد بدويّ هائل فوق هذا المكان، لقد طلبت أيّها الشاب فاحترس أن ينشطر جسدك من شدّة القصف أو أن تخسف بك وبإخوتك الأرض.
والتمع برق هائل في سماء خالية من الغيوم وقصف رعدٌ خرَّ من جرّاء دويّة الشاب وأخوته وجميع السُّمر منبطحين على الأرض وقد أخفوا رؤوسهم بأيديهم، وانتاب الملك لقمان إحساس بأنه سينتصر أخيراً في هذا الحوار المستحيل!
راح السُّمر يصرخون ويرتجفون رعباً، فأوقف الملك لقمان القصف. وطلب إلى الرّجال أن ينهضوا، غير أنّهم بدلاً من ذلك، سجدوا وراحوا يشكرون طوطمهم الذي أنقذهم من الموت!
جنّ الملك لقمان وشعر بدخيلته تغلي وكأنّ بركاناً سيتفجّر فيها، فأشارت عليه الملكة بأن يهدأ ويكون صبوراً لأن إيمان هؤلاء الطوطميين مسألة في غاية العمى كما يبدو.
نهض الرّجال من سجودهم، فخاطب الملك الشاب:
"إذن تظنّون أنّ طوطمكم هو من أمر بقصف الرّعد؟"
"نحن لا نظن بل نجزم!"
وأدرك الملك لقمان أنّ السير بالحوار في الاتجاه الطوطمي لن يكون مجدياً، فتحوّل ليركّز على قدرات الملك الأب:
"ألا تقول لي كيف يُشعل أبوك النار أيّها الشاب؟"
"هذا سِر مُقَدّس لا يمكننا البوح به"
"حتّى لو كُنّا نعرف كيف نشعل النار؟"
"هل تعرفون؟"
أُف هذه مسألة سهلة عندنا، أُنظر"
ومَدّ الملك لقمان يده نحو كومة من الحطب فانطلقت من أصابعها أسهم ناريّة أشعلتها كُلّها.
"ما رأيك؟"
كان الشاب ينظر بدهشة إلى النار وما لبث أن نظر إلى الملك لقمان.
"ما رأيك؟ ما زلت تظنُّ أنّ أباك أعظم منّي وأهم؟"
"أجل أيّها السيّد رغم اعتقادي أنّك تملك قدرات عظيمة"
وأحسَّ الملك لقمان أنّ عقل الشاب بدأ يلين قليلاً، أشار بيده وإذا بمطر يهطل على النّار ليطفئها.
"طيّب أيّها الشاب، هل يستطيع أبوك أن لا يدع الرّماح والنّبال تخترق جسده؟"
"لا أعرف، هل تستطيع أنت أيّها السيّد؟"
"طبعاً أستطيع، فهيّا أنت وإخوتك، اطلقوا سهامكم ورماحكم علينا أنا والسيّدة"
"سنقتلكما أيّها السيّد"
"إن قتلتمونا يمكنكم أن تشوونا على النار وتأكلونا فلحمنا طيّب وشهيّ"
وسدد الشاب سهمه مغتبطاً بالفكرة التي ستتيح له التّخلّص من هذا العدو قبل أن يخلّص عليه وعلى قومه، وطلب إلى إخوته أن يسددوا رماحهم ونبالهم.
وضع الملك لقمان يده على كتفي الملكة نور السَّماء التي شرعت في الضّحك. أطلق الشاب وأخوته سهامهم ورماحهم لترتد متكسّرة من أمام جسميّ الملك والملكة وكأنّها ارتطمت بجدار زجاجي.
وقف الشاب وأخوته مشدوهين. تساءَل الملك لقمان:
"والآن أيّها الشاب من الأعظم أنا أم ملككم؟"
فهتف الشّاب بإصرار:
"بل ملكنا!"
وشعر الملك لقمان أنّه عاجز عن إدراك عقم هذه العقليّة لولا أن خطرت له فكرة:
"قل لي أيّها الشاب؟"
"نعم أيّها السيّد"
"هل يتوعّدكم طوطمكم بالعقاب الشّديد إذا ما آمنتم بغيره وبغير ممثله على الأرض، أو اعتقدتم بأن ثمّة من هو أقوى منهما؟!"
"أجل يا مولاي"
"بماذا يعاقبكم؟"
"يحملنا بمخالبه ويصعد بنا إلى أعالي السَّماء ويُلقينا من هُناك!"
"أيوه! وهل سبق أن حدث ذلك أمامكم؟"
"كثيراً أيّها السيّد"
"ماذا كان النّسر يفعل؟"
"يحمل أحدنا ويطير به، ثمّ يلقي به من الأعالي على الصّخور الجبليّة"
"وبعد ذلك؟"
"يهبط عليه ويشرع في نهش لحمه!"
"أيوه! وماذا لو حميتك من النّسر هل تؤمن بعظمتي؟"
"لا!"
"لماذا؟"
"لا أستطيع أن أغيّر قناعاتي بطوطمي"
"وماذا لو خيّرتك بين الإيمان بي وبإلهي أو قتلك؟"
"اقتلني إن استطعت لكنّي لن أُغيّر طوطمي"
"إذن هيّا أيّها الشاب حاوِل أن تدافع عن نفسك لأنني سأُهاجمك"
وتحفّز الشاب وإخوته مشهرين رماحهم ونبالهم وعصيهم لخوض معركة يدركون أنّهم سيهزمون فيها بيُسر، ولم يتنبّه الشاب لنفسه إلاّ وقوّة خفية تحمله وتصعد به إلى أعلى وتتوقف على ارتفاع خمسين متراً أو أكثر!
"آه أيّها الشاب، هل تؤمن بي وبإلهي أم أدع قوانا تصعد بك أكثر إلى أعلى وتقذف بك؟"
"يمكن أن تفعل ما تشاء لكنّي لن أؤمن بك وبإلهك!"
"هل تظن أنّك ستموت شهيداً وتذهب روحك إلى الجنّة؟!"
وكم فوجئ الملك لقمان بالإجابة، فقد طرح السُّؤال ساخِراً دون أن يقصده لاعتقاده أنّه لا يوجد جنّة عند الطوطميين:
"أجل فطوطمي سيحمل جسدي ويصعد به ليضعه في جنّة السّماء!"
"أيواه! هكذا إذن؟!"
وأشار الملك إلى الملاك أن يصعد به عالياً في السَّماء، فصعد به إلى أن بدا بحجم الغُراب، فطلب إليه الملاك أن يستسلم فلم يستسلم، فأشار إليه الملك لقمان أن يلقيه ويتبعه ليمسكه فور استسلامه إذا ما استسلم، وقبل ارتطامه بالأرض إذا لم يستسلم، فألقى به.. وعبثاً انتظر الملك لقمان أن يسمع كلمة من الشاب.
التقط الملاك جسده قبل أن يرتطم بالأرض، وحمله ليوقفه أمام الملك لقمان:
ربت الملك على كتفه وسأله:
"هل خفت؟"
فهتف الشاب بكبريائهِ:
"قليلاً!"
"هل كنت متأكِّداً من أنني سأميتك؟"
"أجل"
"هل يُمكنك أن تقول لي أين يكمن السِّر في إيمانك غير المحدود بطوطمك هذا، بحيث لم تستسلم حتّى وأنت تدرك أنّك ستلاقي حتفك؟!"
"ليسَ هُناك أكثر مما أخبرتك به، طموطمي يعدني بحياة راغدة في الجنّة إذا ما مُتُّ وأنا على إيماني به، ويتوعّدني بنهش لحمي إذا ما متُّ متخليّاً عن هذا الإيمان!"
وأدرك الملك لقمان أن المسألة باتت واضحة تماماً، وأنّه لن يتمكن بيُسر من ثني هذا الطوطمي الصغير عن إيمانه، فكيف بالطوطمي الكبير أبيه؟!
هاتفته الملكة تخاطراً:
"الآن عرفت يا حبيبي لماذا خرج أبناء الأرض يتعبّدون لآلهتهم بعد أن نزعنا الأسلحة وأمطرنا الجواهر!"
فهزّ الملك رأسه وسألها أن تفكّر معه لعلّها تتوصل إلى وسيلة تمكّنه من ثني هذا الطوطمي عن رفضه وعناده، فقالت:
"ما رأيك يا حبيبي أن تختصر الطّريق إلى هديه وتسأله كيف يمكنك أن تثنيه عن عبادة طوطمه وتجعله يؤمن بك وبإلهك؟"
وأعجبت الفكرة الملك لقمان فسأل الشاب على الفور وهو يتمنّى في سريرته أن يجيب.
أطرق الشاب للحظات متفكّراً وما لبث أن هتف:
"أن أرى طوطمي يسجد لك!!"
صفع الملك لقمان صلعته براحة يده وهو لا يصدّق أنّ هذه الفكرة غابت عن باله. وراح يهتف في دخيلته "يا إلهي" حين أدرك أنّ المشكلة العسيرة ستكون مع أبناء قومِه وكوكبه، فهي حقّاً أعسر وأعقد بكثير مما كان يتخيّل، أمّا مع الطوطميين الذين هُنا فقد تبيّن له أنّ المشكلة بسيطة إلى حد غير معقول، بعد كلّ هذا العَناء والرّفض، بل لم يكن هُناك مشكلة على الإطلاق.
شكر الملكة من أعماق قلبه لهذه الفكرة العظيمة، وهتف للشاب:
"هل يكفي أن يسجد لي نسرٌ واحد أيّها الشاب أم تريد أكثر؟"
"كما تريد أيّها السيّد"
وبدا أنّ الشاب يعتقد في قرارة نفسه أن أيّ نسرٍ لن يأتي ويسجد لهذا الرّجل، وراح يهيّءُ نفسه لإعلان النّصر على الملك.
خاطب الملك لقمان النّسور التي في المنطقة تخاطُراً طالباً إليها الحضور، وخلال لحظات كانت النّسور تقبل من كُلّ النّواحي محلّقة في السَّماء، وما أن رآها الرّجال السُّمر حتّى سجدوا على الأرض واضعين أيديهم فوق رؤوسهم، فأدرك الملك لقمان لماذا تختطفهم النّسور بهذه السّهولة، فهم يسجدون لها ويدفنون رؤوسهم بدلاً من المقاومة!
أخذت النّسور تهبط لتحطَّ أمام الملك لقمان ومن حوله وتسجد له، فحطّ أكثر مِن ألف نِسر، فخاطبها الملك لقمان تخاطراً معتذراً إليها لهذا الإجراء الطارئ الذي استوجبه اعتقاد هؤلاء القوم بأنّها آلهتهم، وخاطب الشّاب وإخوته طالباً إليهم رفع رؤوسهم فرفعوها، ليروا النّسور كُلّها ساجدة للملك لقمان. ولم يكن أحد يتوقّع ما حدث بعد ذلك، فقد أخذ بعض الرّجال يطعنون قلوبهم بالسِّهام وينتحرون وهم يصرخون بأصوات مفجعة، فيما راح آخرون يتفجّعون ويلطمون على رؤوسهم ويدقّون صدورهم بقبضات أيديهم، وينطرحون أرضاً ليتدحرجوا بُطناً وظهراً ويذرّون التّراب على رؤوسهم وأجسادهم ويدقّون الأرض بقبضات أيديهم، ويضربون رؤوسهم بها وبجذوع الأشجار، وينتفون شعورهم!
أشار الملك لقمان إلى النّسور لتنهض من سجودها وتطير إذا ما أرادت، على ألاّ تبتعد لأنّه سيصحبها معه ليقنع الملك أن النّسور ليست طوطمه وأنّه ليس ممثلها على الأرض.
طارت بعض النّسور لتحطّ على أغصان الأشجار أو لتحلّق فوق المكان، فيما ظلّت الأُخرى واقفة أمام الملك ومن حوله..
هتف الملك لُقمان بالرّجال السُّمر:
"كفاكم قتلاً لأنفسكم وتعذيباً وندباً أيّها الرّجال، توقّفوا، فلستم أوّل بشر يكتشفون زيف طواطمهم وآلهتهم، ويدركون أنهم خدعوا لآلاف الأعوام"
فتوقّفوا وشرعوا يتكوّمون على أنفسهم ويسجدون.
هتف الملك لقمان:
"هيّا انهضوا فإلهي لا يحبُّ السُّجود ولا يتوعّد الناس بنهش لحومهم"
فنهضوا ليهتف الشاب:
"إنّا آمنّا بِك وبإلهك أيّها السيّد"
فقال الملك لقمان:
"إنّي أقول لكم فاحفظوا كلامي ورددوه:
من آمن بكائن صالحٍ أو تعبّد له دون أن يعرف حقيقة الله، كان كمن يكفر بالله، ومن آمن بكائن صالح أو تعبّد له وهو يدرك حقيقة الله، كان كمن يؤمن بالله ويتعبّد له. فأدركوا حقيقة الله قبل أن تؤمنوا به وتعبدوه، فمن لم يدرك حقيقته، ضلَّ عن الإيمان به والتعبّد له"
أصعد الملك لقمان الشاب معه إلى العرش الطائر، وأشار إلى الباقين بحمل جثث إخوتهم الذين انتحروا وإحضار الطّرائد التي اصطادوها واللحاق بهم في الفضاء، فلم يصدّقوا أنّهم سيطّيرون إلاّ بعد أن حاولوا ليجدوا أنفسهم يطيرون بكل سهولة وقد تخلّصوا من ثقل أحمالهم.
انطلق العرش تحفّ به الملائكة والنّسور وتحلّق فوقه المركبة ويتبعه الرّجال السُّمر حاملين فرائسهم ومن انتحر من إخوتهم.
كانت مدينة الملك قد حُفرت في سلسلة من الجبال الصخريّة الشاهقة، وبدا أنّ معظم بيوتها من الكهوف، وكانت آلاف النّسوة يجبن الأودية وسفوح الجبال أو يسلكن المسالك الضّيقة التي حُفرت بين الكهوف، وكان مُعظمهن يحملن الماء على ظهورهن في قِرَبٍ من جلود الحيوانات، فيما أُخريات يحملن حزم الحطب، وكنّ يسترن فروجهنّ وشروجهن بقطع من جلود الحيوانات، أمّا أثداؤهن فقد كانت طليقة.
وحين أطلَّ موكب الملك لقمان على المدينة والجبال والسّفوح المحيطة بها، والأودية والطّرق المؤديّة إليها، وشاهد النّاس مئات النّسور تحفّ بالموكب شرعوا في السّجود وإخفاء رؤوسهم بأيديهم، بحيث لم تبق امرأة أو طفل أو رجل لم يسجد، حتّى الملك ومن كان في قصره من النّسوة والأبناء والبنات فقد سجدوا في باحةٍ أمام القصر وفسحات أمام الكهوف، وحين أخذ الموكب يحلّق فوق المدينة تساءَل الملك لقمان عن موقع القصر، فأشار الشّاب إلى جبل صخري مُنعزل بدت كهوفه منتظمة إلى حد كبير، وأخذت أبوابها أشكالاً هندسيّة مستطيلة علتها بعض النّقوش التي حُفرت في الصّخر.
كان الملك وحاشية القصر ما زالوا ساجدين، فتساءَل الملك لقمان:
"إلى متى سيظلّون ساجدين؟"
فأجاب الشاب:
"إلى أن تنصرف النّسور!"
هبط الملك والملكة والشّاب ليحطّوا في الباحة أمام الملك وبعض نسائه، فيما راح باقي الرّجال السُّمر يهبطون في الأماكن التي يريدونها، فرحين بتحليقهم في السَّماء وبفرائسهم وبدينهم الجديد الذي اتّبعوه، والذي أتاح لهم أن يطيروا كما النّسور ومعها، وأخذوا يطلبون إلى الساجدين النّهوض ليزفّوا لهم النّبأ ببطلان طوطميّة النّسر، لينهض بعض الساجدين والساجدات مشدوهين مبهوتين لا يلوون على شيء، وما يلبثون أن يشرعوا في اللطم والنّدب.
هتف الملك لقمان وهو يقف أمام الملك الساجد:
"السَّلام على الملك"
غير أنّ طوطميّة الملك تحرّم عليه التحدّث مع الآخرين خلال السّجود فلم يجب ولم يرفع رأسه، فهتف ابنه:
"انهض يا أبي فطوطمك لم يكن طوطماً ولا إلهاً!"
فأبعد الملك يديه عن رأسه ورفعه ليصرخ به:
"هل جننت يا ولد؟"
"لا يا أبي فهذا الرّجل الذي أمامك هو ملك النّسور والكائنات كُلّها، وقد سجدت له النّسور أمام عيوننا جميعاً:
فهتف الملك:
"إخرس يا ولد قطع الطوطم لسانك، هذا ساحِر وليس ملكاً على أحد!"
وأحسَّ الملك لقمان أنّه أمام المشكلة من جديد، غير أنَّ الشاب تجرّأ وهتف بحدّة في وجه أبيه:
"حتّى لو كان ساحِراً يا أبي، فلقد بهرنا بسحره، وبهرَ طواطمك وسخّرها لخدمته، فانظر إليها ها هي تحلّق فوقنا تنتظر أي إشارة منه لتستجيب له، فما هو طوطمك هذا الذي يستطيع ساحر أن يخضعه لإرادته، وهو القادر على كل شيء كما كنت تقول؟ لقد آمنّا بهذا الملك العظيم وبإلهه ولم نعد نؤمِن بك وبطوطمك"
فراح الملك يصرخ وهو ينظر عالياً إلى النّسور فيما ظلّت النّسوة ساجدات:
"لا! لا! أنزل عليهم غضبك يا طوطمي العظيم، اخسف بهم الأرض أو أرسل جيشاً يحملهم إلى أعالي السَّماء ليقذفهم من هُناك على الصّخور المسننة، أنزل عليهم نارك وصواعقك" مزّق أجسادهم إلى أشلاء، واعصف برياحك العاتية لتبدد شملهم في الفيافي والقفار"
وانتظر الملك أن تستجيب النّسور له، غير أنّ أياً منها لم يستجب فشرع يصرخ باكياً بصوت مُفجع ويلطم رأسه وصدره، ونهضت النّسوة الساجدات وشرعن في اللطم وأخذن يعتصرن أثداءَ هن أو يمزّقنها بأظفارهن حتّى تخضبت بالدّم.
دنا الشاب من أبيه وأمسك يديه، فراح الأب يصرخ من أعماقه وهو يتفّلت من يدي الابن:
"اتركني، أطلق يديّ أيّها العاق، اتركني أموت!"
وكان معظم النّاس في المدينة قد شرعوا في النّدب والعويل واللطم، فلم يعد قلب الملكة نور السَّماء يحتمل ما يرى، فهتفت إلى الملك تخاطراً.
"افعل شيئاً أيّها الملك، أشعر أنّ قلبي سينفطر حُزناً على هؤلاء الناس".
فهتف لها:
"إنّي أتألم بدوري، وأشعر أنني في حيرة من أمري لا أعرف ماذا أفعل"
"لا يُعقل أن تقف عاجزاً يا حبيبي أمام مشكلة كهذه"
"قولي لي ماذا أفعل وسأنفّذ في الحال"
"دع النّسور تمثل أمام الملك وتقول له الحقيقة على لسانها"
راقت الفكرة للملك لقمان فسارع إلى مهاتفة النّسور، فراحت تهبط من السَّماء وتمثل أمام الملك، غير أنّ المكان لم يتّسع لها فراحت تحطّ في كل مكان تستطيع الوقوف عليه.
هدأ الملك وراح يحدّق إلى كوكبة النّسور التي حطّت أمامه، وتوقّفت النّساء بدورهن عن اللطم، وأطلق الشاب يديّ أبيه.
هتف نسر ضخم كان يتقدّم كوكبة النّسور:
"السّلام على الملك "عجاج العاصفة" الذي عبدني هو وأجداده دون الله وسائر المخلوقات، وجعلوني طوطمهم المقدّس"
فانشرح صدر الملك وهتف:
"وعلى طوطمي العظيم السَّلام"
"أقول لك أيّها الملك، إنّ أجدادك أخطأوا حين اتّخذوني معبوداً لهم، لاعتقادهم أنّهم انحدروا من سُلالتي، ولاعتقادهم أنني الأقوى، وأنا لست إلاَّ مخلوقاً لإله عظيم، له كُلُّ شيء، ومنه صار كُلّ شيء وهو القادر على كل شيء، فاتبع إلهي إله الملك لقمان الماثل أمامك، تجد ذاتك أيّها الملك، وتطمئن نفسك، وامتثل إلى ما يقولُه لك، فهو الساعي بعون الله ورعايته إلى إعلاء الحق وإيصال كلمة الله إلى الكائنات كُلّها!"
وراح الملك "عجاج العاصفة" ينظر إلى الملك لقمان الذي أنزل الطمأنينة في قلبه، فهتف:
"إنّي أيّها النّسر المقدّس أعلن إيماني بمليكك وإلهه، والله على ما أقول شهيد!"
ومَدّ الملك لقمان يده وأخذ بيد الملك عجاج العاصفة وأنهضه وصافحه.
أشار الملك عجاج إلى ابنه أن يعلن لإخوته دخول الدين الجديد، فكلّف الشاب من ينقل الخبر إلى الناس في المدينة والبلاد كُلّها.
وطلب الملك لقمان إلى قوى الملائكة أن يأتوه بكل مَن انتحر مِن الرّجال، فأتوا بهم، وما أن مددوهم أمامه حتى أشار إليهم هاتفاً "قوموا" فقاموا وكأنهم لم يكونوا أمواتاً، وكانوا حوالي مائة "فقامت الأفراح في المدينة بدل الأتراح، ونهضت نسوة الملك، وشرعن في الرّقص، وأثداؤهن ما تزال مخضبّة بالدّماء، فأشارت الملكة نور السَّماء بحركة من يدها وإذا بجراحهن تلتئم.
وطلب الملك لقمان إلى الملك عجاج العاصفة أن يُشير بحركة من يده في الفضاء، فأشار، وإذا بجبلٍ من الكباش المذبوحة والمسلوخة يُقام في الفضاء، فتساءَل الملك عجاج:
"ما هذا يا مولاي؟"
"لقد فديت شعبك بهذه الكِباش أيّها الملك، لتكون طعاماً للنسور، كي لا تختطف أحداً منهم أو من أبناء الكوكب بعد اليوم"
"كم أنت عظيم أيّها الملك؟"
"ما عظيم إلاّ الله أيّها الملك، هيّا أدعُ ضيوفك لأن يقلعوا ويأخذوا فرائسهم"
"كيف أفعل ذلك يا مولاي؟"
"أشِر بيدك إلى الكباش وقل لهم تفضّلوا"
فأشار الملك عجاج بيده إلى جبل الكباش الماثل في السَّماء وهو ينظر إلى النّسور ويهتف:
"تفضّلوا أيّها النّسور المقدّسين!"
فشرعت النّسور في الطيران ليأخذ كل نسرٍ فريسة بمخالبه ويتابع طيرانه عائداً إلى أعالي الجبال التي يستوطنها.
كانت بعض النقوش التي تمثّل الملك والنّسر قد حُفرت فوق الباب الرّئيسي للقصر، أمّا الأبواب الجانبيّة فكان يعلوها نقش للنسر وحده.
ودعا الملك عجاج الملك لقمان والملكة نور السّماء إلى دخول القصر، فدخلا ليجدا نفسيهما في قاعة واسعة بعض الشيء، غير أنّ جدرانها لم تكن مستقيمة ومسطّحة تماماً، فقد كان فيها بعض الحُفر والنتوءات، وكانت النّقوش التي على الجدران للنسور والملك غير متقنة كالتي في الخارج، ولم يكن هُناك أي مقاعد منحوتة للجلوس، غير أنّ محيط القاعة كان مفروشاً بجلود الحيوانات.
ورافق الملك عجاج الملك والملكة إلى الحُجرة الأُخرى، لم يكن فيها أي شيء يُلفت الانتباه سوى أنّه يوجد لها باب في كل جدار يؤدّي إلى حجرة أُخرى لها ثلاثة أبواب أيضاً تؤدّي بدورها إلى حُجرات لكلّ حُجرة منها ثلاثة أبواب، لتشكّل ما يشبه المتاهة داخل القصر.
تعجّب الملك لقمان لهذا الحِس الأمني عند الملك عجاج الذي هداه إلى التفكير في عمل متاهة داخل قصره، بينما لم يهده حتّى الآن كما يبدو إلى تدجين الحيوانات أو اكتشاف الزّراعة.
تأكّد الملك لقمان من ذلك حين استفسر منه عن الأمر، فأشار إلى أنّهم كانوا يحضرون بعض الحيوانات حديثة الولادة ويبقونها لبضعة أيّام ثمَّ يأكلونها، أمّا عن الزّراعة فلم يكونوا يعرفون شيئاً.
أدرك الملك لقمان أنّ عليه أن يفعل الكثير لأبناء هذا الكوكب قبل أن يغادره، فتطوير أجسامهم وأشكالهم ولغتهم ومعرفتهم، سيكون عبئاً عليهم إذا لم يبنِ لهم مساكن متطوّرة بعض الشيء تتلاءَ م مع حالة التطوّر التي وضعهم فيها، ولن يختلف الحال مع الزّراعة والصّناعة وتدجين الحيوانات وتربيتها، فلا بدَّ من إيجاد وسائل وأدوات إنتاج تساعدهم على ذلك.
وعاد الملك ليدرك في دخيلته أن تحقيق عدالة مُطلقة في الكواكب، بل بين البشر مسألة مستحيلة، ولو لم يكن الأمر كذلك، لوضع أبناء هذا الكوكب والكواكب الأخرى في مستوى حضاري متقدّم، كالمستوى الذي وصل إليه أبناء الزُّهرة أو بعض أبناء الأرض مثلاً! "لكن لماذا لم يفعل ذلك، هل ثمّة قوّة خفيّة في دخيلته أو خارجها لا تتيح له أن يفعل كل ما يُريد؟ أم أنّه يتخوّف من أن يثقل بطلباته على قواه المتعددة فلا تعود قادرة على تلبية رغباته؟ أو لعلّها المشيئة الإلهيّة التي لا يستطيع تجاوز حدودها: فهذا التّفاوت في التطوّر البشري والحضاري كان موجوداً مُنذ الأزل بين الأُمم، ولم يشذ عن ذلك إلاّ الملائكة، وحتى هؤلاء ثمّة تفاوت في قدراتهم ومعرفتهم والمستويات الحضاريّة التي يحيون فيها.
أحسّت الملكة نور السَّماء أن الملك لقمان يتيه في متاهة أُخرى غير متاهة الملك عجاج التي كان يتطلّع إلى سقوفها وجدرانها والملك يقوده من متاهة إلى متاهة ليجد نفسه ضائعاً في هذه المتاهات! هتفت إليه تخاطراً:
"لِمَ يا حبيبي تحاوِل أن تتخطّى الممكن إلى المستحيل؟"
"لأنني لم أنطلق من الأرض إلاّ لهدم أسوار المستحيل!"
"لكن المستحيل هو المستحيل وليس في الإمكان هدم أسواره!"
"سأهدمها، إن لم يكن ما جرى ويجري معي حتّى الآن مُجّرد حُلم طويل أو خيال أطول أو انبعاث لروحي أو جسدي من داخِل قبري في الصَّحراء بعد انتحاري، سأهدمها!!!"
وهتفت الملكة بهلَع:
"يا إلهي، هل عُدت يا حبيبي إلى التَّفكير في الحُلم والخيال وحتَّى انبعاث الأرواح؟!"
"إذا لم يكن الأمر كذلك، فلماذا هذه الأسئلة تلحُّ عليّ وتقلقني بين حين وحين إلى هذا الحد؟!"
"لأنّ الأمر ليس كذلك يا حبيبي، تلحُّ هذه الأسئلة عليك وتقلقك!"
"لا يا حبيبتي، فأنا في حياتي الواقعيّة كنت أسعى دائماً إلى المعقول والممكن، بل والممكن جدّاً، ولم أفكّر يوماً في المستحيل، المستحيل كنت أحياه في أحلام المنام أحياناً وفي أحلام اليقظة دائماً،حيث كنت أحلم بأن أكون ملكاً ولولا المستحيل الذي كنت أُحققه في أحلام اليقظة لما احتملت الحياة، وأكثر المستحيلات التي كانت تراود أحلامي هي صعودي إلى السَّماوات وتحقيق المُعجزات، حتَّى لو لم يتم ذلك إلاّ بحتفي، مع أنّه كان يحدث ـ كما أذكر ـ دون أن أموت، لكن حدوثه بعد محاولة انتحاري، جعلني أعتقد أنني أنتحرت، فهل انتحرت حقَّاً يا حبيبتي وغمرت رمال الصَّحراء جسدي، وما أنا الآن إلاَّ روح بجسد وهمي، وربّما بروحي وجسدي، وشاء الله أن يلّبي رغباتي ويريني حكِمته ومعجزاته؟"
"غير معقول أن تعود هذه الأفكار لتلّح عليك الآن يا حبيبي بعد أن نسيتها أو كدت! أؤكد لك أنّك لم تنتحر وأنّك لست في حُلم أو عالم متخيّل"
"آه يا حبيبتي، لو كان كلامك صَحيحاً لقبلت بالممكن وتخليت عن السَّعي إلى المستحيل!"
"وما أدراك يا حبيبي فقد يكون ما تظن أنّه المستحيل، هو الممكن عينه! ألم تحقق إنجازات كان من المستحيل عليك ذات يوم أن تحققها؟"
"أجل يا حبيبتي، حصل معي مثل ذلك في حياتي ما قبل الصعود إلى السَّماء، فحين راودني حُلم أن أكون أديباً لكثرة ما قرأت "ألف ليلة وليلة" و"تغريبة بني هلال" و"سيف بن ذي يَزَنْ" و"سالم الزير" و"سيرة عنترة" وغيرها، وأنا لم أنَلْ مِن التّعليم إلاّ ما خلّصني من شبح الأميّة، وكنت حينها مُراهقاً أرعى قطيعنا في جبال القُدس، بدا لي أنّ حُلمي مُستحيل، مُستحيل تماماً!"
"أرأيت يا حبيبي؟ ما هو الممكن وما هو المستحيل إذن؟! فما هو مستحيل اليوم قد يصبح ممكناً غداً، أو بعد شهر، أو بعد سنة أو بعد قرن!!"
"آه يا حبيبتي، رغم أنني لم أقتنع تماماً بوجهة نظرك، إلاّ أنني أجد دائماً في كلامك وسلوكك ومحبّتك لي ما يحفّزني ويدفعني إلى الأمام، وربّما لولاك لحاولتُ الانتحار مَرّة ثانية"
"هيّا الآن يا حبيبي، لنخرج من متاهة الملك عجاج لأنّي أكاد أختنق لقلّة الهواء"
وسارعا إلى الخروج برفقة الملك، وقفا على شرفة مُطلّة على المدينة الصخريّة، وراحا يرقبان الناس الذين كانوا يرقصون رقصاً بدائياً دون أي موسيقى، سوى الأصوات العجيبة التي كانوا يهتفون بها والضّرب براحات أيديهم على أفخاذهم وأكتافهم وصدورهم ضربات غير منتظمة، رغم أنهم كانوا يحاولون أن يوحّدوا حركاتهم وضرباتهم وأصواتهم ويوالفوا بينها لتؤدّي إيقاعاً منسجماً، إنّما دون جدوى.
هتف الملك إلى الملكة:
"بودّي أن أعرف حدود المعرفة التي منحتها لقبائل السوّد والبيض، قبل أن أمنحها للقبائل الأُخرى؟"
"يمكن أن تسأل الملكين والملكتين يا حبيبي"
"أخاف أن أُفاجأ بما لم أتوقّعه!"
"سلباً أم إيجاباً؟"
"ربّما في الحالين"
"لِمَ لَمْ تمنحهم معرفتك كُلّها؟"
"إنّه السؤال الذي سألته لنفسي وأدّى إلى حوارنا حول الممكن والمستحيل، فهل يمكن أن يستوعب هؤلاء الناس معرفتي التي تستند إلى ثقافات وحضارات مُتعددة، وهل يُعقل أن أقيم لهم مُدناً حديثة وأبني لهم المصانع والجسور والشّوارع والمطارات والأنفاق والسّدود؟ هل سيتقبّلون أن يكون لديهم طائرات وحافلات وما إلى ذلك، بعد أن كانوا يفترسون لحوم بعضهم البعض؟ لا أعرف لماذا أشعر أنّهم سيجنّون مهما حاولت أن أرقى بمعرفتهم، إنني لا أحبّذ هذه الفكرة، فوضعهم في الحضارة الحديثة قد لا يعفيهم من مشكلاتها، بدءاً بتلوّث البيئة مروراً بالأيدِز وغيره وانتهاء بتلوّث الإنسان نفسه من الداخل! الأفضل أن يبقوا قريبين من الطبيعة ليتنفّسوا هواء نقيّاً ويظلّوا بعيدين عن مشكلات العصر، خاصّة وأنني لم أمنحهم أيّة معرفة دينيّة سابقة غير التي عرفوها مِنّي اليوم".
"أنا أحبّذ هذه الفكرة أيضاً يا حبيبي، رغم اعتقادي أنّ كُلَّ هذه المشاكل يمكن حلّها كما حللناها على الأرض"
"أشك أننا حللنا كل شيء على الأرض يا حبيبتي، فالإنسان من الداخل ما يزال كما هو حسبما أعتقد!"
"هل ستعود إلى التشكيك ولم تكد تنتهِ منه بعد يا حبيبي؟"
"إذن دعيني أُفكّر بهدوء يا حبيبتي وأفعل ما هو ممكن كخطوة أولى نحو المستحيل!"
"ألم أقل لك إنني أحبّذ الفكرة يا حبيبي"
"ومع ذلك طرحتِ إمكانيّة تطويرهم نحو ما قد يبدو إنّه الأفضل"
"يمكن تأجيل هذه الفكرة خاصّة وأننا لا نعرف بالضبط حدود المعرفة التي منحتهم إيّاها".
لن يطمئن بالي إلاّ بعد أن أعرف ماذا فعلت بوعيهم، لكن هل أفعل ذلك الآن أم نتركه إلى ما بعد الذّهاب إلى بلاد الحمر؟"
"يمكنك أن تسألهم خلال التحليق يا حبيبي"
"فكرتك جيّدة، سأطوّر الملك عجاج ليذهب معنا إذ ليس من اللائق أن يبقى شبه عار ومتخلّف بيننا، وآمل ألاّ تحدث مشاكل مع القبائل الحُمر ونفاجأ بطوطم أكثر تعقيداً من الطوطم العجاجي"
"هل سينفذ صبرك يا حبيبي إذا ما واجهت ذلك؟"
"لا أظن، لكنّي أريد أن أختصر الزّمن لأصل إلى السّماء السابعة، وهذا الكوكب سيأخذ من وقتي الكثير كما يبدو"
"يمكنك أن تُرسل من يُحضر الملوك جميعاً في هذا الكوكب"
"أحضرهم اختطافاً دون أن يقتنعوا بوجهة نظري؟"
"يُمكن لمن ترسله أن يتصرّف معهم بأسلوب ودّي!"
"إذا أنا وأنتِ كدنا أن نعجز أمام العقل الطوطمي، فكيف سيتصّرف المُرسَلون؟"
"لكنك أرسلت ملايين الرُّسْل إلى الكواكب التي خلّفتها وراءَ ك دون أن تراها"
"والغريب أن أحداً من هؤلاء الرُّسُل لم يطلب مِنّي المساعدة، وكأنّهم أخضعوا الكواكب كُلّها دون مشاكل، على أيّة حال سأرى ماذا سنفعل بعد أن نقابل قبائل الحمر، قد لا أجد حلاً غير ذلك"
والتفت الملك لقمان إلى الملك عجاج العاصفة وأخبره بالمهمّة التي جاء إلى بلاده من أَجلها برفقة ملكيّ قبائل السود والبيض، فأبدى الملك موافقته على الصُّلح والتّعاون حسب ما يقرر الملك لقمان، فشكره الملك لقمان وهو ينظر إلى جسده.
"أنت في حاجة إلى حمّام أيُّها الملك، هل لديك حمّام؟"
"لا يا مولاي، عندما أستحم أذهب مع نسائي إلى النّبع وهن يقمن بتحميمي"
"ما رأيك بحمّام هُنا؟"
"الماء الذي هُنا لا يكفي يا مولاي، ثمَّ إنني لا أستحم إلاّ مع نسائي"
"الماء عليّ أنا أيّها الملك، ويمكنك أن تستعين بنسائك ليحممنك!"
"وهل هذا ضروري يا مولاي؟"
"طبعاً لأنّي سألبسك حُلّة جديدة وأصعدك معي إلى المركبة لنذهب إلى بلاد قبائل الحُمر"
"أين الماء يا مولاي؟"
"تحب أن تستحم في الخارج أم داخل القصر أيُّها الملك؟"
"لا، هُنا يا مولاي!"
"إذن هيّا، انضم إلى نسائك"
فهتف الشاب:
"وأنا يا مولاي؟"
"وأنت أيضاً يمكنك أن تنضم إليهم"
وانضم الملك وابنه إلى كوكبة النّساء اللواتي توقّفن عن الرّقص.
أمطر الملك لقمان ماءً ساخناً ورغوة صابون وليفاً عليهم، فشرعوا يضحكون ويصرخون وينزعون جلود الحيوانات عن أجسامهم.
وأشار الملك لقمان بيديه، لينزل الماء السّاخن وملحقاته في كل مكان فيه ناس.
وما أن استحمَّ الجميع ونشّفوا أجسادهم حتّى طوّرهم الملك ليضعهم في المستوى الحضاري الذي وضع فيه قبائل السود والبيض، وألبسهم لباساً مناسباً، وحين أحس الملك عجاج أنّ حدثاً خارقاً قد طرأ عليه وعلى شعبه، وشاهد نفسه باللباس الملكي، وقد تحوّلت نساؤه إلى ملكات جمال، أمر نساءَ ه وشعبه أن يسجدوا للملك لقمان، وهمَّ بدوره للسجود، غير أنّ الملك لقمان نهاه عن ذلك وأشار إلى النّسوة والشعب بعدم السّجود.
أغدق الملك لقمان الخيرات على المدينة والبلاد كُلّها، وترك الناس في أجمل الأفراح، ليصعد هو والملكة نور السَّماء إلى المركبة مصطحبين الملك عجاج العاصفة، وإحدى زوجاته التي كانت كبيرة الملكات حسبما عرَف وإن كانت الأصغر سِنّاً، غير أنّها كانت الأجمل، وقد أضفى التطوير عليها جمالاً أخّاذاً.
عرّف الملك لقمان الملوك والملكات على بعضهم البعض، وصالحهم، ودعاهُم إلى الجلوس في حديقة المركبة إلى جانب المسبح، وأفرد لهم مائدة من الطعام والشّراب، وقد بهرهم جمال "أستير" الذي كان يُضاهي جمال الملكة نور السَّماء.
أقلعت المركبة بالسُّرعات العاديّة يحفّ بها آلاف الحُرّاس والمرافقين من الملائكة، وشرعت الأسماك والدّلفينان في استعراض راقص في المسبح، فيما كانت الظبّاء تخلد بوداعة إلى نباتات الحديقة، واليمامات تحطُّ على الأشجار والفراشات تحلّق مع النّسيم، والملكة نور السَّماء تحضن رشاها وتتمتع بجمال أحبائها!
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (7) الله ورسوله والعفاريت !!
- محمود شاهين : مخطوطات تبحث عن ناشر
- شاهينيات (114) ذكر العرب كغزاة لبني اسرائيل .
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (6 ) األله. ألكمال. الفضيلة .
- الملك لقمان . الجزء الثاني. (5) عويل في الغابات!
- شاهينيات (113) بعض قصص سليمان وبلقيس!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(4) تحطيم الأصنام !
- شاهينيات (112) أخبار الأيام أخبار مكررة عن شجرة العائلة التو ...
- ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...
- الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
- بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
- ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
- شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !
- ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطا ...
- ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!
- ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء


المزيد.....




- قيامة عثمان حلقة 157 مترجمة: تردد قناة الفجر الجزائرية الجدي ...
- رسميًا.. جدول امتحانات الدبلومات الفنية 2024 لجميع التخصصات ...
- بعد إصابتها بمرض عصبي نادر.. سيلين ديون: لا أعرف متى سأعود إ ...
- مصر.. الفنان أحمد عبد العزيز يفاجئ شابا بعد فيديو مثير للجدل ...
- الأطفال هتستمتع.. تردد قناة تنة ورنة 2024 على نايل سات وتابع ...
- ثبتها الآن تردد قناة تنة ورنة الفضائية للأطفال وشاهدوا أروع ...
- في شهر الاحتفاء بثقافة الضاد.. الكتاب العربي يزهر في كندا
- -يوم أعطاني غابرييل غارسيا ماركيز قائمة بخط يده لكلاسيكيات ا ...
- “أفلام العرض الأول” عبر تردد قناة Osm cinema 2024 القمر الصن ...
- “أقوى أفلام هوليوود” استقبل الآن تردد قناة mbc2 المجاني على ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان.الجزء الثاني . (8 ) عقل طوطمي!