أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطان المختلفة للخلق )















المزيد.....



ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطان المختلفة للخلق )


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4796 - 2015 / 5 / 4 - 01:03
المحور: الادب والفن
    


(10)
رؤية شيطانية وآيات ربّانيّة!
نهض الملك «دامرداس» هاتفاً منتشياً بما شرب من خمر:
«لنشرب نخب مليكنا العظيم لقمان»
نهض الملك حامينار والملك إبليس والملك شمنهور والراعي الأكبر وباقي الملوك والملكات والأمراء والأميرات والإنس والجن جميعاً وشربوا النخب، وأراق الملايين منهم الخمر على رؤوسهم، وقد دبّت في رؤوسهم النشوة وغابت عن معظمهم الصحوة، ونهض الملك «إبليس» وخطا بوقار شديد وبهيئة ملائكية إنسيّة أذهلت الحضور إلى أن وقف على مقربة من الملك لقمان وهتف بأدب جم، وهو ينحني احتراماً:
«عفواً أيها الملك العظيم»
التفت الملك لقمان ليراه واقفاً خاشِعاً مُنحنياً بهذا التهذيب الفائق، فنهض عن كُرسيّه وصافحه بحرارة، فيما نهضت الملكة نور السماء وأشارت إلى من في الصَّف على المائدة أن ينهضوا احتراماً للملك، ودعاه الملك لُقمان إلى الجلوس مكانه، غير أنّ الملك إبليس أبى طالباً التحدّث إليه بكلمة فقط، فأقسم الملك لقمان ألا يُبيح له الحديث إلا إذا جلس مكانه، فأذعن الملك إبليس وجلس مكان الملك لُقمان، ونهضت الأميرة «ظل القمر» ليجلس الملك لقمان مكانها.
وحين عاد الجميع إلى أماكنهم، هتف الملك لقمان مرحّباً بالملك إبليس:
«ألف أهلاً ومرحباً بكم أيها الملك العظيم، لكم تملأ قلبي الغبطة وتغمر كياني بهجة السّعادة بالتّشرّف بالجلوس إلى جانب عظمتكم!»
ولم يشعر الشيطان أنه موضع احترام وبهذا القدر العظيم، منذ أن حرّم الله عليه دُخول الجنّة والسماء السابعة، وأحلّ اللعنة عليه والتّعوذ منه، فعجز عن إيجاد الكلمات المناسبة للتعبير عن شكره وامتنانه، فراح يرد مرتبكاً متلعثماً في البداية، لكن ما لبث أن تكلّم بما يليق بالمناسبة:
«إنّي لم أشعر بالخجل والتّواضع في حياتي إلا أمام عظمتكم أيّها الملك، وإنّي لأشكر لكم حُسن استقبالكم لي، وتقديركم الفائق لشخصي، وأنا المكروه من الجميع، والملعون من الجميع، من الإنس والجن، من الملائكة والآلهة، دون أن أقترف ذنباً أو آتي سوءاً، بل أتيت خلقاً جميلاً بهيّاً، وإنّي لأشكر لكم، من أعماق قلبي دعوتكم لي ولزوجتي وبعض ملوكي، لحضور حفل تتويجكم وزفافكم. وإني ما نهضتُ الآن ودنوت من مجلسكم إلا لأطلب إليكم، أن تسمحوا لي أن أعرض مسرحيّة قصيرة تتحدّث عن بعض مأساتي»
فهتف الملك لقمان على الفور:
«إنه لمن دواعي سروري، أن أرى قبساً من خلقكم الإبداعي أيها الملك العظيم»
وأشار الملك لُقمان إلى الملكة نور السماء، أن تنهض بنفسها وتدعو الملكة «بليسة» زوجة الملك «إبليس» لتجلس معهم. وأشار إلى ملك الملوك أن ينهض ليجلس هُو والأميرة ظل القمر مكاني الملكين، فنهض ملك الملوك مصطحباً الأميرة ظل القمر – التي كانت ماتزال واقفة – والرَّيبة تدبُّ في نفسه لتخوُّفه من أن يقوم «إبليس» بإغواء الملك لقمان، وقوده في ضروب الضّلال.
أبدت الملكة «بليسة» امتنانها البالغ للملكة «نور السماء» فيما جلست الملكة نور السّماء إلى جانب الملك إبليس مكان ملك الملوك.
أشار الملك إبليس بحركة من يده، فأطفِئَت الأنوار، كلّ الأنوار في كافة أنحاء الروض أُطفِئَت وعمّ ظلام حالك. وأشار بحركة ثانية، فعمّ الفضاء والروض نور أحمر خافت، وتشكّل في الفضاء كونٌ مصغَّر بعض الشيء، عمّته مئات الكواكب والأقمار والنّجوم والشُّهب والنيازك، فيما انبعثت موسيقى كونيّة خفيفة على الناي، بمرافقة بعض الآلات الموسيقية الأُخرى.
كانت هذه الكواكب، في بداية تشكّلها وتكوّنها، فقد بدت غازات هائلة تتصارع فيها كالعواصف والأعاصير، ويتصاعد منها بخار هائل ودخان كثيف، ليعمّا الفضاء، ويشكّلا سُحباً تغطّي الكون.
وكان ثمة كوكب وحيد كبير، بدت عليه بوادر حياة، فقد تشكّلت فوقه أرض يباس، تخللتها الأنهار، وانتشرت على أجزاء منها واحات الأشجار، وانداحت على مُعظمها مياهُ المحيطات والبحار، وانتشر آلاف الآلاف من الملائكة الصّغار فوق يباسها، وراحوا يستصلحون الأرض ويثرون تربتها، ويزرعونها بالنّباتات والأشجار.
كان الكوكب يحلّق سابحاً في الكون، وقد لفّه ضباب كثيف، فراح يزهو بجماله، وبوجود حياة عليه دون غيره من الكواكب الدائرة حول نفسها في الفضاء. وكان ثمّة ملاك هائل الحجم جميل الشكل، وسيم الوجه بهيّ الطلعة، يحلّق بجناحين كبيرين في سماء الكوكب، يعبر سحب الضّباب، ويحطّ على الأعشاب، ويتخطّم مرحاً، ويستلقي فرحاً، يُعانق الأشجار ويداعب الثّمار، ويمرح مع صغار الملائكة من أبنائه، يمهّد التراب ويزيل الحجارة، يسقي النباتات بيديه، ويحفر بينها قنوات، وما يلبث أن يطير محلّقاً ثمّ يغطس في مياه الأنهار ليخرج من مياه البحار. وما يلبث أن يغطس في مياه البحار ليخرج من مياه المحيطات، وقد ابتلّ بالماء، فراح يهطُلُ من جسمه وجناحيه، وكان كُلّما هبط في بحرٍ أو نهرٍ أو محيط، فاضت شطآنه لتغمر الأرض اليباس.
وفيما كان الحضور يرقبون بذهول، هذا الجوّ الساحر الأخّاذ، وبهجة هذا الملاك بأرضه وتمتّعه بها وعنايته لها، مع أتباعه من الملائكة الصِّغار، وإذا بملاك عملاق له أربعة أجنحة، قدماه تغوران في أسافل الكون ورأسه يختفي في الأعالي يظهر للعيان، وكُلما دنا منه كوكب عليه بعض يباس، أبعده عنه بطرف يده وكأنّه يبعد كُرة أطفال، وإذا كان غازيّاً ينفخ عليه نفخة صغيرة من فمه ينجم عنها إعصار، يغيّر اتّجاه دوران الكوكب. وما لبث هذا الملاك أن هتف بصوتٍ هائل، ترددت أصداؤه من أرجاء الكون:
«يا ميكائيل!»
فظهر ملاك صغير بالمقارنة مع ذاك. كان يطير بجناحين ويحلّق في مسرح السماء، وما لبث أن توقّف وهتف:
«أمر أخي الملك إسرافيل، مقرئ الأوامر الربّانيّة من اللوح المحفوظ، نافخ الأرواح في الأجساد، الموكّل بالنّفخ في الصور يوم القيامة!!»
«أهلاً بأخي ميكائيل مانح الأرزاق والحكمة، الباعث على الكمال!»
«مُرني أيّها الملك الكبير»
«أوحى إلهك إليّ بأنّه يُريد شيئاً من أديم الأرض، فاهبط إليها وائتني بطين نقيٍّ منها!»
«ماذا يُريد الله من الطّين أيها الملك الكبير؟»
«هذا شأنه أيّها الملك!»
«أستحلفك به ألم يخبرك؟»
«قال إنّه سيخلق إنسيّاً!»
«أهذا كائن جديد أم ماذا أيّها الملك الكبير؟»
«ماذا سيكون إن لم يكن كائناً؟»
«ولِمَ سيخلقه من أديم الأرض أيُها الملك الكبير؟»
«قال إن الملك إبليس أولاه عنايته إلى أن غدا أفضل من أديم الجنّة»
«سأهبط حالاً أيها الملك الكبير»
«رافقتك السلامة أيها الملك ميكائيل»
وراح الملَك ميكائيل يحلّق هابطاً من الأعالي، يعبر الفضاء، مارّاً بالكواكب والنُّجوم، مُجتازاً السُّحب والغيوم.
تسمّر الملايين من الحضور في مقاعدهم، وتناسوا الطّعام والشّراب والنّساء، ووجد الملك لقمان نفسه يتحوّل إلى عيون وآذان، فها هو الآن يرى، وجهاً من أوجه الحقيقة التي يبحث عنها.
كان الملَك ميكائيل قد بلغ سماء الأرض، وأخذ يجتاز سحبها وغيومها، مختفياً تارة بين السُّحب والغيوم، وبادياً تارة أخرى، إلى أن هبط ليلُفّه الضّباب، وراح يجوب فوق سطح الأرض، متلفتاً يُمنة ويسرة، فيما كان ملاك الأرض يحلّق في ناحية بعيدة منها، يغطس في البحار ويخرج من المحيطات.
حطّ الملَك ميكائيل إلى جانب نهرٍ كبيرٍ يُشبه نهر النيل، وراح يجمع الطين من شاطئه، مختاراً ما هو الأفضل منه.
وفيما كان مَلاك الأرض يخرج من مياه المحيط، هاتفه هاجس الأرض:
«أنت هُنا تمرحُ في مياهي أيّها الملاك، فيما آخرون، يسطون على أديمي دون أن تدري»
فصرخ الملاك بأعلى صوته وهو يحلّق عالياً ناظِراً إلى الأرض:
«من يجرؤ على السَّطو على أديمِك، وأنت في رعايتي أيّتها العزيزة على قلبي؟»
«إنّه صنوك ميكائيل، يجثو هُناك إلى جانب وريدي الأوسط ويجمع أديمي من حافّته!»
«لا أيّتها العزيزة على قلبي لن أدعه يأخذ من أديمك مثقال ذرّة!»
وطار الملاك بسرعات هائلة، إلى أن حطّ أمام الملَك ميكائيل، وزجره بصوت هائل:
«ما الذي تفعله بعزيزة قلبي أيها الملاك ميكائيل؟!»
«أهلاً بأخي الملَك إبليس، وكيل الأرض وحارسها، وراعي الحياة فيها، وباعث الخير لها، والساهر دوماً على بهجتها وازدهارها وكمالها. إنّي اجمع أديماً لله أيها الملاك!»
«ألم يكن جديراً بك أن تُحيّي وتسلّم وتطلب الأديم من والي الأرض وسيّدها أيّها الملاك؟!»
«معذرة أيّها الملاك إبليس»
«ما موقفك لو أنني أتيتُ الجنّة وسطوتُ على أرزاقك وسرِّ حكمتك، وقدرتك على بعث الكمال، حتى لو كنت مرسلاً من قبل الله؟!»
«أظنُّ أنني سأغضب منك أيّها الملاك!»
«وأنا غضبت مِنك، فإذا كنت حقاً مُرسلاً من قبل الله أو من قبل إسرافيل، فاذهب وبلّغهما أنّي أرفض أن أُعطيك شيئاً، ليسَ لسوءِ تصرّفك فحسب، بل لأن الله أوصاني حين أوكلني بالأرض أن أصون أديمها وألاّ أفرّط بذرّة من ترابها أو نقطة من مائها حتّى له! ثمّ إنّ التّراب يملأ العديد من الكواكب الأُخرى والجنان والسموات، فلماذا لا يُريده إلا من الكوكب الذي خوّل ولايته إليّ؟!.. ألا يعني هذا أنّه يحاول اختبار مدى حرصي عليه وتمسّكي بأديمه وصوني لترابه؟!»
«ستغضب وجه الله أيّها الملاك!»
«لِمَ أُغضِب وجه الله إذا حرصتُ على تنفيذ وصاياه؟ وعانيت مع أتباعي ما عانيت، لآلاف آلاف السِّنين، كي أظلَّ أميناً على عهده، ووفياً له، وها أنذا مازلت أشقى في هذه الأرض إلى أن صارت فرجة للناظرين، تنفيذاً لتعاليمه ووصاياه؟»
وغضب الملك ميكائيل وطار محلّقاً في سماء المسرح السّماوي ليختفي في الأعالي بين السُّحب والغيوم، ولم تمر سوى لحظات حتّى ظهر ملاك آخر راح يهبط من الأعالي ليحطّ على الأرض على مقربة من الملاك إبليس، ويهتف:
«السلام على أخي الملاك إبليس وكيل الأرض وحارسها وراعيها»
«وعلى أخي الملاك جبريل المكين والروح الأمين السّلام»
«لِمَ أغضبت الله أيها الملاك المُكِدّ، ولم ترسل إليه بأديم الأرض مع الملاك ميكائيل؟»
«هل قابلت الله أيها الملاك النبيل، أم خاطبك بصوته أم أوحى لك بذلك؟!»
«لا أيها الملاك، أبلغني الملاك إسرافيل»
«ماذا قال لك أيّها الأمين؟»
«قال إنّك أبيت أن تعطي ميكائيل أديماً من باطن الأرض، وأن الله غضب لذلك، فقرر أن يرسلني أنا كي أُحضِر الأديم»
«أتظنّ أيّها الرّوح الأمين أنّ إسرافيل يطمع بجمال الأرض ويدبّر مكيدة لي كي يُبيّن لله أنّي لست جديراً بأن أكون وكيلاً وحارساً وراعياً لها؟!»
«واللهِ إني أيها المَلَكُ الجميلُ لا أجرؤ على الشَّكِ بمقرئِ الأوامر الرَّبانية، وأمين اللوح المحفوظ ونافخ الرّوح في الكائنات ومن سينفخ في الصورِ يوم القيامة؟!»
«أو لعلَّ الله يريد أن يختبر مدى وفائي له وحرصي على تنفيذ وصاياه؟!»
«وهل يُمكن أن يشُكَّ الخالق في مدى وفائك وحرصك، يا باعث الخير وواهب الحياة الدُّنيا؟!»
«والله إنّي لفي حيرة مِن أمري أيّها الروح الأمين، بمَ تنصحني أيّها المكين؟!»
«إني خائف عليك أيها المكدُّ الجَلِد، يا من شقيت آلاف السّنين وأنت تولي الأرض حُبّك، وتكلؤها برعايتك وتغمرها بعنايتك، وتمنحها نسيم الخير من روحِك، إلى أن فاضت من ينابيعها وأخاديدها روعة الحياة، إن أعطيتني الطين وكان باعث الأمر مكيدة من إسرافيل أو اختباراً من الله، غضب عليك الله في الحالين!»
«إني أتوسَّل إليك أن تجد لي مخرجاً أيّها الروح القُدُس»
«ليس أمامَك إلا أن تصرَّ على عهدك لله بالوفاء والإخلاص ما دُمت حيّاً»
وطار الملاك جبريل محلّقاً في الأعالي دون أن يأخذ طيناً من أديم الأرض، ولم يكد يختفي حتى ظهر ملاك آخر وهبط على الأرض ليقف في مواجهة الملاك إبليس ويهتف بصوت فظّ مسلّماً:
«السّلام على الملاك إبليس باعث الخير وراعي الحياة، وكيل الأرض وحارسها»
«وعلى قابض أرواح الكائنات، ومفرّق النّفوس ومسكّن الحركات ملَك الموت عزرائيل السلام!!!»
«لِمَ هذا الإصرار العنيد على إغضاب وجه الله أيها الملاك؟»
«أنا لا أفهم أيّها الملَك، كيف يُصبح عندكم الإخلاص إلى الإله إنكاراً ورفضاً وإغضاباً؟!»
«إني الرّسول الأخير كي ترسل إلى الله أديماً أيها الملاك، وإلا سيغضب منك ويحلُّ لعنته عليك!»
«هل أبلغك هو ذلك؟»
«لا. أبلغني إسرافيل»
«إنّي لا أثِقُ بمن خلقه الله كما خلقني، بعد أن أوصاني الخالق ألاّ أفرّط بذرّة من تراب الأرض حتى له، يؤسفني أن أعيدك خائباً أيها الملاك»
«ستندم على سوء أفعالك أيّها الملاك!»
«لن أندمَ على ما لم أقترفه أيها الملاك، وأظنّ أنّ في مقدور الله أن يخاطبني أو يظهر لي دون وسطاء إذا هو في حاجة إلى أديم من التراب الذي أوكلني به!»
وطار الملاك عزرائيل غاضباً ليختفي في الأعالي، وفيما الملاكُ إبليسُ يجوب الأرض قلقاً محتاراً في أمره، دوّى صوت هائل عذب جميل كامِل، تردد صداه من أرجاء الكون وتبددت من أمامه سُحب الغيوم وسدائم الضّباب. قال:
«لِمَ أيها العاقُ، تضنُّ عليّ بأديم منحتك ترابه، وأوكلتُ إليك رعايته حين كنت ملاكاً تقيّاً؟!»
توقّف الملاك إبليس ونظر نحو السماء. قال:
«مَن الهاتفُ؟»
قال:
«من سيكون أيها العاقُ إذا لم يكن إلهَك الذي خلقك غُلاماً وجعلك ملاكاً زكيّاً؟!»
قال الملاك إبليس:
«لِمَ تغيّر صوتك يا إلهي؟!»
قال:
«صوتي أيّها العاق لم يتغيّر، أنت الذي تغيّرت وصار صوتي لدنك منسيّاً»
قال الملاك:
«لا أَظن أنّي سأنسى صوت من خاطبني في الجنّة عِشيّا، ومنحني الأرض وأوكلني صونها ورعايتها لأجعل منها جنائن وأوجد فيها ثمراً شهيّاً!»
قال:
«أتشكك حتى بصوتي أيها العاق، ليتني لم أهبكَ جمالاً ملائكيّاً!!»
قال الملاك:
«إني أشكك بالصوت الآتي إليّ دويّاً، فإن كنت إلهي أرني اليوم نفسك كي لا أظلّ في رِيبة من أمري وأظلَّ حزيناً شقياً!!»
قال:
«أوَ تكفر بي أيضاً أيها العاق، ليتني خلقتك كائناً وحشيّاً!»
قال الملاك:
«بل ليطمئن قلبي، إذ في نفسي شهوة تدفعني لأن أعرف شكل من جعلني جميلاً بهيّا!»
قال:
«لو أرسلت لي طيناً لأخلق منه اليوم إنسياً، لأريتك شيئاً من نفسي أيها السّامعُ الأصمُّ والمبصرُ الأعمى، ولجعلتك تراني صُبحاً وعِشيّاً، أما وقد عصيت أمري فلن تراني ما دمتَ حياً، وليحرّم عليك ملكوتي ولتظلّ هائماً في الأرضِ والكواكب والسموات الدُّنيا، ولتحلَّ لعنتي عليك، فأنتَ منذ اليوم جنيّاً!»
وتوقّف الصوت الهائل، ولم يعد يُسمع. راح الملاك إبليس يجوب الأرض محتاراً قلقاً، تتصارع في مخيّلته الهواجس:
«هل حقاً كان هذا صوت الله، وهل حقاً كان يريد التّراب ليخلق إنسياً؟!»
وأطرق للحظات يُفكّر، وما لبث أن استأنف حواره مع نفسه:
«حقاً كان هذا صوت الله، ماذا دهاني وشوّش ذاكرتي، لا يتكلّم بهذه اللغة ذات الموسيقى المتفرّدة إلا الله، حتى أنّه منحني مَلَكَتها وجعلني أُجيبه بها كي أفهم وأقتنع، لكني لم أفهم ولم أقتنع، لقد كنت أسمع صوته وربّما أرى صورته، وإلا ما معنى أن ينعتني بالسامع الأصم والمبصر الأعمى؟ وها أنا أفقد مَلَكة اللغة التي منحني إيّاها خلال مخاطبته! حقاً كان الصوت صوته، وربما التبس علي لأنّه يخاطبني من بعيد، ولم أكن قريباً منه كما في الجنّة. يا إلهي، يا من خلقتني في أجمل شكل وأوكلت إليّ رعاية الأرض، ماذا سأفعل كي أرضيك؟! ماذا لو حاولت أنا بنفسي خلق هذا الإنسي؟ ألن أحافظ على عهدي لك بأن أصون تراب الأرض وماءَها، وألن أكون قد أرحتك من عناء عملية الخلق، إذا كنت تريد حقّاً أن تخلق إنسياً؟ أجل أجل سأفعل ذلك!»
وشرع الملَك إبليس يجمع أفضل ما يعرفه من أديم الأرض. من شاطئ النيل (وريد الأرض الأوسط) جمع، من شاطئ الفرات (وريد الأرض الثاني) جمع، وحمل ما جمعه إلى شاطئ الأردن (شريان الأرض الأصغر) حيث جمع من هناك أغنى التراب، وأهاله فوق ما أحضره من شاطئ النيل والفرات. ومن مكانه على شاطئ الأردن، مدّ يده إلى بحيرة الملح وغرف من مائها غَرفة صغيرة، سكب منها فوق الكومة، ورشق الباقي في النّهر، وما لبث أن شرع يتعرّق بشدّة ليهطل من جسده عرق غزير راح يسكب منه على الكومة، فسكب عليها ضعفي ما أحضره من الماء المالح من بحيرة الملح، ثم فصد ساعده، فانبجس الدم منه، فأضاف إليها من دمه أربعة أضعاف ما أضافه من الماء المالح والعَرَق، ففاضت الحفرة التي عملها وسط الكومة، فاضت بالعرق والدّم والماء المالح.
سمّى الملاك إبليس بالله قائلاً: «بسم الله الرحمن الرحيم» وشرع في خلط الكومة وعجنها بيديه إلى أن امتصت العرق والدماء والملح، فغرف عليها من ماء النهر العذب البارد واستأنف الخلط بيديه، وراح يعجن إلى أن غدت الجبلة كتلة واحدة لدنة ليّنة.
وبدا الملك إبليس محتاراً وهو يردد:
«لكن على أيّة شاكلة تريد أن أجبله يا إلهي؟»
وحين أدرك أن الله لم يخلق من هو أجمل منه راح يهتف:
«على شاكلتي، فأنت لم تخلق من هو أجمل منّي، أجل سأجبله على شاكلتي»
«وسمّى بالله ثانية وشرع يجبل تمثالاً على شاكلته، وهو يذكر اسم الله، فصنعه واقفاً على قدميه، وحين رأى أنّه حسن، وأن لديه المزيد من الطين، شرع في صُنع أنثى له. وما أن أنهاها حتّى أوقفها إلى جانبه، وراح يتأمّل جمال التمثالين وهو في غاية الفرح والدهشة لجمال ما جبله. وما لبث أن استدار نحو الشمس وهو يتطاول واقفاً على رؤوس أصابع قدميه، ليبلغ رأسه عنان السماء، ولتتكسر أشعة الشمس على وجهه. شهق شهيقاً عميقاً أخذ معه مقداراً من حرارة الشمس وراح ينفثه على التمثالين ليجفّا، وما أن جففهما حتّى شرع ينادي بأعلى صوته:
«يا إسرافيل، يا نافخ الأرواح في الأجساد، إن كان إلهك يريد حقاً أن يخلق إنساً، فها أنذا قد أرحته وخلقت ذكراً وأنثى، وأسميتهما آدم وحوّاء، وإنّي أناشدك أن تنفخ في جسديهما روح الحياة الأبديّة، لينطلقا في الأرض وينجبا نسلاً زكياً، وسأرعاهما وأرعى نسلهما مادُمت حياً!»
غير أن أحداً لم يستجب إليه، فراح يصرخ باكياً وبأعلى صوته منادياً:
«يا إلهي، يا إسرافيل، لِمَ لا تجيباني؟ ها أنذا قد أرحتك يا إلهي وخلقت إنساً إن كنت تريد ذلك، لم لا تجيباني؟!»
وما لبث أن شرع في بُكاء مرير، وكأنه رضيع حُرِم من ثدي أمّه، وأخذ يخاطب التمثالين:
«معذرة أيّها الجميلان، لقد أبى الله وإسرافيل أن ينفخا في جسديكما روح الحياة الأبدية، سأنفخ في جسديكما روح الحياة الدُّنيا»
وشرع ينفخ في فم آدم وأنفه والدموع تنزلق على وجنتيه، وبدأت الحياة تدبُّ في جسد آدم شيئاً فشيئاً إلى أن دبّت في كافّة أنحاء جسده، وحين رأى الملك إبليس أنّه فائق الحسن والجمال، سجد أمامه وهو يهتف:
«عظيم أن دبّت في جسدك الحياة أيّها المخلوق الجميل»
ونهض وشرع ينفخ في فم حوّاء وأنفها إلى أن دبّت الحياة في جسدها، وما أن تأمّل جمالها حتى راح يرقص فرحاً ويصفّق بيديه ويقفز عالياً، وما لبث أن هتف:
«هيّا انطلقا في الأرض، كُلا من طيّباتها وتناكحا، وأنجبا نسلاً كثيراً»
انطلق آدم وحوّاء يتجوّلان في الأرض عاريين، بين سحب الضّباب، الذي كان يلفّ كوكب الأرض، لكن ما أن ابتعدا بعض الشيء والملاك إبليس يرقبهما من بعيد، حتّى هبط عليهما من السماء ملاك هائل مجنّح، وحملهما وطار بهما عالياً، فصرخ الملاك إبليس هاتفاً:
«لا! من هذا الذي يجرؤ على اختطاف من جبلتهما بيدي من طين أرضي الذي مزجته بدمي وعرقي ونفخت فيه من روحي، إنّي أعوذ بالله منك كائناً من تكون!!»
فجاءه هاتف من السماء:
«يا إبليس، رأى الله أن خلقك حسن فطلب أن نرفعه إلى الجنان»
«لا لا أنت تكذب أيها الهاتف، لقد أوصاني الله ألا أفرّط بذرّة من تراب الأرض، فكيف بمن خلقته وأحييته من طينها؟!»
وطار الملاك إبليس بأقصى سرعة ليلحق بالملاك ويخلّص المخلوقين، بيد أنّه لم يتمكّن من اللحاق به، وحين بلغ السماء السابعة وهو يصعد خلفه اصطدم رأسه بها ليعود القهقرى إلى الأرض.
جلس الملاك إبليس ينهل التراب ويذرّه على نفسه، وينتف شعر رأسه ويلطم بقبضته على صدره ويندب حظّه التّعس صارخاً باكياً نائحاً بأعلى صوته ومن أعماق جُرحه.
أُضيئت أنوار المسرح السماوي الكوني وأضواء الرّوض دفعة واحدة، وضجّ آلاف الملايين من الحضور بالتصفيق الحار، فيما شرع الممثلون الجن الذين قاموا بأدوار إبليس وجبريل وإسرافيل وميكائيل وعزرائيل وآدم وحوّاء بالظهور على المسرح، وهم ينحنون تحيّة واحتراماً للجمهور واحداً بعد الآخر. وقد استقبل الممثل الضخم الهائل الذي قام بدور الملاك إبليس بتصفيق حار، وصراخ وهتاف وبُكاء وعويل لم يشهد المسرح الكوني مثيلاً له، وراح الملك لُقمان يُعانق الملِك إبليس إلى جانبه ويهنّئُه على العرض المؤثر الجميل، وآثار الحزن والتأثر ما تزال بادية على وجهه والدموع تترقرق في عينيه، فيما اندفع آلاف المُشاهدين والمشاهدات من الجن والإنسيات، يمطرون الممثلين بالورود، ويغمرونهم بالقبلات، مما دفع الملك شمنهور إلى الاعتقاد بأن إبليس أغوى الحضور جميعاً وحاد بهم عن جادة الصّواب.
وكانت فرحة الملِك إبليس كبيرة لتعاطف الملِك لقمان معه، وتأثره لمأساته، وإعجابه وإعجاب آلاف الملايين بالعرض، فراح يشكره من أعماق قلبه على الفرصة العظيمة التي أتاحها له بتقديم هذا العرض على المسرح السماوي وأمام هذا الجمهور الهائل.
وأمر الملك لقمان بدعوة الممثلين إلى الحفل وإكرامهم خير إكرام، وأمرّ بضمّهم إلى فرقة المسرح الملكي بعد موافقة الملِك إبليس.
وراح الملك لقمان يحاوِر الملِك إبليس حول العرض محاولاً أن يعرف منه باقي القصّة:
«في الحقيقة أيها الملك العظيم أنني صعدت إلى السماء هرباً من الظلم والعذابات وسعياً وراء الحقيقة، وها أنت تصدمني بعرضك الجميل والمؤثّر، ولأكتشف أنّ الظلم أُحيق بك منذ بدايات الخلق، وأن مقدرتك العظيمة وحقيقتك النّبيلة طُمستا وأُهملتا، وحلّت بك اللعنات والعقوبات دون أن تقترف ذنباً، ونسجت حولك الأكاذيب والافتراءات دون أن تأتي سوءاً، بل أتيت إعجازاً عظيماً.. لكن ماذا جرى بعد ذلك أيّها الملك العظيم، هل تأكّدت من أنّ الله هو حقاً من كان يريد التراب وهو من أصعد آدم وحوّاء إلى السماء السابعة؟!»
«أجل أيها الملك العظيم، تأكّدت من ذلك حين عرفت أنّه وضعهما في الجنّة، فرحت أتوسّل إليه أن يعفو عنّي ويغفر لي، فأنا لم أتصرّف بما تصرّفت به إلا تنفيذاً لوصاياه، ولم أخلق آدم وحوّاء إلا لأريحه من عمليّة الخلق، وأصون تراب الأرض الذي أوصاني به، فأبى، أبى أيها الملك ولم يذعن لي ولتوسّلاتي وآهاتي. ونظراً لأن آدم وحوّاء كانا مِن خلقي فقد منعهما من أكل أثمار شجرتي الحياة والمعرفة. وحين أخبرني أخي جبريل بذلك، لم أصدّق، ولم أعرف كيف أصل إليهما، فقد منعني من الصّعود إلى الجنّة، وحوّلني إلى جنّي بعد أن كنت ملاكاً، وحرمني من فلذتي كبدي اللذين خلقتهما بيدي.. فكان أن أرسلت لهما الأفعى لتدعوهما إلى تناول أثمار الشجرتين، ليعرفا الخير من الشر، وتكتب لهما الحياة الأبدية، ولسوء حظّهما وحظّي أيضاً، لم يأكلا إلا من شجرة المعرفة، فقد اكتشف الله فعلتهما، فغضب عليهما وعلى الأفعى، وطردهما من الجنّة – كما طرد الأفعى – وأعادهما إلى الأرض حيث أنا»
كنت فرحاً بعودتهما وحزيناً لأنّهما عادا إليّ بحياة قصيرة، هي الحياة التي وهبتهما أنا إيّاها، وهاتفني صوت إسرافيل من الأعالي:
«خذهما أيّها العاق. هذا ما يقوله لك الله، فهاهو يُعيد خلقك إليك، هل كنت تريدهما أن ينعما مثله بالحياة الأبديّة؟! ألا يكفيك أنّك أطعمتهما من شجرة المعرفة؟ سيزرع كراهيّتك في نفسيهما كي لا تجني منهما ومن نسلهما إلا العذابات واللعنات التي ستظلُّ تنصبُّ على رأسك مادامت الحياة!»
فرحت أصرخ أيها الملك:
«لا، لا، إني أتوسّل إليه، وأناشده برحمته وعظمة جبروته ألا يفعل، ألا يكفي أنه حرمهما متعة الحياة الأبديّة؟‍»
غير أن أحداً لم يستجب إليّ أيها الملك العظيم، وهاأنذا أعيش مأساتي وسط ملايين اللعنات وملايين التّعاويذ التي تحاصرني وتنصبّ على رأسي وتقضّ مضجعي وتثقل على نفسي وتدمّر كياني كل لحظة، وكلِّ طرفة عين، فأيُّ قوة يمكنها أن تنقذني من هذا العذاب، وتعيد إليّ بعض حقّي في حياة كريمة، وتنهي هذا النزاع الأبدي بيني وبين الله، وتمحو هذه الكراهية التي زرعها نحوي في نفوس من خلقت بيديّ، ومنحته دمي وعرقي ليسريا في جسده مدى الحياة؟‍‍!!»
وراح الملك لقمان يضمُّ الملك إبليس إليه بمودّة وتعاطف بالغين، مما دفع ملك الملوك وبعض الحضور إلى الجزم بأن الشيطان أغوى الملك لقمان وضلّله عن الحق. وكان الملك لقمان يهتف إلى الملك إبليس بكل خلجات نفسه:
«كم أنا حزين لمأساتك أيها الملك العظيم، وكم يعتصر الألم قلبي وأنا أرى مبدعاً وخالقاً عظيماً ونبيلاً مثلك، يكتوي بنار الآلام، التي يعجز الخلق كلُّه من إنس وجن وآلهة وحيوان ونبات عن احتمال وطئها على النفوس، إنّي لأعاهدك أيّها الملك العظيم أن أعمل بكلّ ما أستطيعه على تغيير صورتك في أذهان الخلق ووعيهم وعقولهم، لعلّني أُعيد إليك شيئاً من حقيقتك النبيلة، وإنّي لأعاهدك إذا ما قابلتُ الله يوماً أن أطرح قضيّتك أمامه، وأطلب التوبة لك والعفو عنك، وإعادة حقّك المهضوم إليك، رغم قناعتي أنّك لم تقترف سوءاً يستحق أن تتوب عنه»
«لقد حاول أخي الحبيب جبريل ذلك دون جدوى أيها الملك العظيم»
«ومع ذلك لا تدعِ اليأس يستولي على أعماق نفسك، ليكن الأمل هاجسك، والتفاؤل بالمستقبل وإحقاق الحق ونشدان العدالة غاياتك، فثمّة بين البشر والجن من يحبّك، وثمّة من يرى أنّك حقاً مظلوم، ولم يشتمك منذ أن أدرك الحياة، ولقد كنت أنا أحد هؤلاء الناس»
«كنت أعرف ذلك أيها الملك، ولهذا أحببت أن أعرض عليك مأساتي»
«إذن لا تيأس، ثمّ هل أبلغك جبريل أنّه رأى الله، وأنّه فعلاً عرض عليه توبتك والعفو عنك؟!»
«لم يَر أحدٌ منا الله منذ أن وجد أيها الملك، ولم يجرؤ أحد منذ بدء الخليقة على الادّعاء أنّه رآه، إننا وفي أحسن الأحوال نسمع هاتفاً يهتف إلينا يقول إنّه الله! إنّ الله ما يزال لغزاً على الملائكة والجنّ والإنس أيها الملك! نحن نعتقد بوجوده، ويرى بعضنا أن أفعالنا وردود هذه الأفعال تحدث بوحي منه!!»
«لابُدّ لنا من حلّ هذا اللغز أيّها الملك العظيم، فثمّة من لم يعودوا خائفين من البحث عن الحقيقة وسبر أغوار الخليقة!»
«كم أنا سعيد لتعرّفي إليك ولقائي بك، لم يبعث أحد الأمل في نفسي كما بعثته أنت»
وضجّت موسيقى صاخبة فانفصلا عن بعضهما.
كان جميع الحضور ينظرون إليهما بدهشة وقد عمّ الصمت جو الحفل فغدا كمأتم، فأمر ملك الملوك بموسيقى صاخبة للرقص، فنهض الملايين من الإنس والجن، من الرجال والنساء، من الشباب والفتيات، من الشائبين والشائبات، من خريفي الأعمار والخريفيّات، من الطاعنين والطاعنات، نهضوا إلى الرقص، وقد دارت النشوة في رؤوسهم وترنّحت أجسادهم من شدّة السُّكر، فأخذوا ينزعون ثيابهم، آلاف الملايين نزعوا ثيابهم وراحوا يرقصون عراة، بجنون راحوا يرقصون، إنس وجنّ كانوا يرقصون، وما لبثت الأجساد أن غرقت بالأجساد والسيقان بالأفخاذ، فراحوا يتبادلون القبل ويتعانقون، في ممرات الروض، في حدائقه وتحت أشجاره، على مسارحه ومراقصه، فوق المناضد وتحتها، بين الورود وعلى الأشجار، على التراب والحشائش، فوق البلاط وعلى السّجاد، وسط صخب الموسيقى ولجّة ضوضاء الرّوض، لتختلط الآهات بالتغنّجات، والتأوّهات بالصرخات، والابتسامات بالضحكات، والأنين بالفرح، والعطف بالقسوة، والرّفق بالعنف، والمتعة بالألم، والقبلة بالعضّة، والتطهّر بالفسق، والجمال بالقبح، والاستغاثة باللطمة، والهناء بالتّعاسة، والجنون بالتعقّل، والسّكون بالحركة، والتوسّل بالزّجر، واللين بالشدّة، والفرح بالتّرح، والنّعومة بالخشونة، والرأفة باللعنة، والنُّبل بالحقارة، والكرم بالبخل، والأمل باليأس، والسعادة بالشّقاء، واللذة بالعذابات، والعدالة بالظّلم، والسّلام بالعَداء، واللحن بالضّجة، والود بالنقمة، والورد بالشوك، والطّهارة بالنّجاسة، والحب بالكره، والجسد بالآخر، والذات بالكل، والكل بالذات، والخير بالشر، والموت بالحياة. ليتوحّد كل ذلك في ملكوت ربّاني تستصرخ فيه الأجساد تطهرها، والأرواح غاياتها، والغايات وسائلها، والوسائل أسباب اتّباعها!!
آلاف الملايين من الجن والإنس، راحوا ينشرون ما يكتنف دواخلهم، ويهتكون أستار سرائرهم، ويخرجون ما في بطائنهم، وما تنوء به نفوسهم، من النوازع والرّغبات، من المكبوتات والمخبوءات، ليظهروا للوجود على حقيقتهم، ليواجهوا بصدق وتحدٍّ مكنونات ذواتهم، وليتخلّصوا من تبكيت ضمائرهم، وليتطهّروا من أثقال أرجاسهم، في طقسٍ شابه التعقّل والجنون، العشق والمجون، الحبور والفجور، ولم تشهد السموات والكواكب مثيلاً له منذ أن وجدت!!



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!
- ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء
- شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با ...
- ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
- شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا ...
- (6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!
- أسفار التوراة : قراءة نقد وتعليق . (3) قضاة . راعوث. صموئيل ...
- ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
- أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد. ...
- شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
- قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه ...
- لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
- باقون في رنّة الخلخال ! وذاهبون أنتم في المحال !
- شاهينيات (106) حروب متخيلة وارتداد عن عبادة يهوة كالعادة .
- شاهينيات (105) إيليا يذبح أربعمائة وخمسين نبيا من أنبياء الإ ...
- شاهينيات (104) سليمان يغرق في حب نساء الشعوب فيتزوج 700 امرأ ...
- شاهينيات (10) سليمان يبني بيتين اسطوريين له وللرب يهوه !


المزيد.....




- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!
- مهرجان بابل يستضيف العرب والعالم.. هل تعافى العراق ثقافيا وف ...


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطان المختلفة للخلق )