أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!















المزيد.....



ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4791 - 2015 / 4 / 29 - 21:24
المحور: الادب والفن
    


(5)
حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
وهم يتناولون إفطارهم في شرفة بيت الضيافة، أبدى الأديب لقمان رغبته في أن يبقى على اتّصال مع كوكب الأرض ليطّلع على ما يجري عليه، فأوعزت الأميرة نور السماء إلى قائد المركبة، الذي جاء بطاقم من الجن وطلب إليهم أن يبقوا في المركبة لتشغيل أجهزة الاتصال ورصد كل ما يجري على الكوكب.
جاء «شاهل بيل» رجل المعرفة ترافقه زوجته «سلمنار». كانت امرأة سمراء فاتنة الجمال، صافحت الأديب لقمان والأميرة نور السماء بتهذيب جمّ، كان بودّ الأديب لقمان أن يطمئن عمّا إذا مَرّت الليلة بسلام.
«آمل أن تكون الليلة قد مرّت بسلام على أبناء كوكبكم»
بادرت السيدة سلمنار إلى القول:
«لا أظن أن أبناء الكوكب سعدوا في حياتهم كما سعدوا هذه الليلة»
«وهل انتهت السعادة الآن؟»
«لا أيها الأديب، فالجن ما يزالون معنا»
وتنبّه الأديب لقمان إلى ما يظن أنه انتهى بمرور الليل، وراح يتساءل في سريرته عمّا سيجري، متخوّفاً من أن يقوم الجن بإفساد أبناء الكوكب وجعلهم يغرقون في اللهو والمرح وترك العمل. وربّما يزرعون الشرّ في نفوسهم بعد أن قاوموه آلاف السّنين.
«وأين هم الآن يا سيّدتي؟»
«في المنازل، في المطاعم، في الحدائق، في الكروم والبساتين والحقول والغابات، على سفوح الجبال وفي الأودية والمروج والأخاديد والشِّعاب وعلى شواطئ الأنهار والبحار والمحيطات»
«أواثقة أنتِ من أنّ الأمور تجري على ما يرام، وأنه ليس ثمة مشاكل على كوكبكم؟»
فقال شاهل بيل:
«ثمة مشاكل لا تستحق التوقّف عندها، كالإفراط في تناول الكحول والإغراق في الملذّات الجسديّة»
«ألن يسبب كل هذا مشاكل كالغيرة مثلاً، قد تؤدي إلى القتل أو سفك الدماء، أو مجرّد الشّجار بالأيدي؟»
«ليس أبناء كوكبنا من يستخدمون شيئاً للأذى حتى أيديهم، إنّ أقصى ما يفعلونه حين يغضبون، هو أن يرفعوا أصواتهم بعض الشيء!»
«ومتى كانوا يرفعون قبضاتهم أو يشهرون سكاكينهم أو ما شابه ذلك؟»
«مررنا بهذه المرحلة منذ مئات الأعوام، واستطعنا التغلّب عليها!»
«غريب، كل شيء مررتم به وتجاوزتموه، ألا تعانون من شيء الآن؟»
«أشياء لا تستحق الذكر!»
«وبمّ يمتاز أحدكما عن الآخر؟»
«بمدى معرفته، بتفوّقه في ميادين العلوم والآداب والفنون، بتفانيه وإبداعه في عمله، بسموّ نفسه، بتهذيب لغته وحسن نطقه ومنطقه، برقيّ سلوكه، بمدى محبّته للآخرين، ومدى اتّحاده بالذات الكُليّة أو الكونيّة. ثمة جوانب كثيرة في حياتنا تميّز الإنسان عن الآخر أيها الأديب لقمان»
وخطر للأديب لقمان أن يسأل:
«هل الذات الكليّة أو الكونيّة هذه، هي بمثابة الله عندكم؟»
«يمكنك أن تعتبرها مجازاً كذلك، أما إن شئت الدّقة فالذات الكلية هي الوجود، وبعض فلاسفتنا يعتبرونها المادة، لأنها أصل الوجود وأصل كل شيء، وبعضهم يعتبرونها خلاصة الحياة وروحها التي ينتظم الوجود فيها!».
«وهل تقيسون مدى اتّحاد الإنسان بالذات الكلية أو اقترانه بها أو اقترابه منها، بمدى ما يحققه من إبداع في مختلف مجالات الحياة؟»
«بكل تأكيد نعم!»
«هل يمكن القول أن العلم والإبداع هما بمثابة صلاة لهذه الذات؟»
«مجازيّاً، أو إلى حد ما، نعم!»
«وبمَ يُكافأ الإنسان المتفوّق لديكم، أو أنّه لا يُكافَأ؟»
«لا، بل يُكافأ بأن نحقق له رغباته على الكوكب»
«حتى لو طلب أن يعيش وحده في قصر، وأن يكون لديه العشرات من الخدم، وأن يتنقّل بوسائط نقل خاصّة أينما يشاء ومتى يشاء، وأن يتناول طعاماً خاصّاً على سبيل المثال؟!»
«نعم، ثمة إمكانيّة لذلك، لكن ما يجعل الإنسان المبدِع عندنا لا يقدم على طلبات تميّزه كثيراً عن الآخرين، هو اعتقاده أنّ الآخرين جزء منه، جزء من ذاته، لذا ليس من اليسير عليه أن يرى نفسه مميّزاً إلى حد كبير عنهم، يمكن أن يكون مميّزاً بشكل نسبي، وتُلبّى بعض رغباته العاديّة»
«كي أفهمكم بشكل جيّد أيها العالم، أريد أن أبسّط المسألة بمثال من عندي:
لأعتبر أن كوكبكم بيت ريفي، يقطنه أب وأم وأولادهما، ولأعتبر أن الأب هو أهم المبدعين في هذا البيت، فهو لا يميّز نفسه عن أولاده وزوجته إلا بقدر لا يبعده عنهم، وهو يحرص على جمال البيت لأنه بيته، وعلى الكتاب الذي في المكتبة لأنه جزء من ذاكرته، وعلى الجدران لأنها تحميه وتحمي البيت، وعلى نقاء الهواء الذي يدخل البيت كي يبقيه نظيفاً من الشّوائب والملوّثات، وعلى الهواء نفسه طبعاً لأنه يتنفّسه، وعلى النباتات والأشجار حول المنزل لأهميّة الأكسجين الذي تفرزه، وعلى جمال زهور الحديقة لأنها تُريح نفسه، وعلى الكرم والبستان لأنّه يأكل منهما الخضار والفواكه، وعلى الخضار والفواكه بحد ذاتها لأنّه لا غنى له عنها، وعلى الأعشاب لأنّه يستخرج منها الدّواء، وعلى الحيوانات لأنه يأكل لحمها ويشرب حليبها، وعلى التراب لأنه لا غنى عنه للنبات، وعلى الماء لعدم إمكانية استمرار الحياة دونه، وعلى المكان لضرورته، وعلى الزّمان لاستحالة الحياة خارجه، وعلى الفراغ والاتساع لحريّة الحركة، وعلى الفضاء للتحليق، وعلى النار للطهي، وعلى الحرارة لنموّ الحياة، وعلى النور للرؤية، والنور مستمد من الشمس، والشمس مركز لمجموعة كونيّة لا تنفصل بدورها عن مجموعة كونيّة أخرى، إلى آخر ما هُنالك من الموجودات والكائنات والملموسات والعناصر والأشياء وضرورتها للحياة، ولأعتبر أنّ كل فرد في هذه الأسرة يحمل هذه الرؤية الأبويّة، فهل أكون قد رسمت مثالاً مبسّطاً لفهم فلسفتكم المعرفيّة؟!»
أطرق شاهل بيل قليلاً:
«أجل يمكنكم ذلك، رغم أنّكم بسّطتم الأمر إلى حد كبير، فالمسألة أعقد من هذا التبسيط!»
«المشكلة أيها العالم أنّكم من كوكب آخر، ولا أعرف أفكاركم الدينيّة ولا فلسفاتكم الماديّة والعلمانيّة وأنظمة حكمكم السابقة، ولا تعرفون أفكارنا وفلسفاتنا نحن أبناء الأرض، وإلا لما كان هُناك أيّة مشقّة في الحوار، لكن يبدو لي أنّكم عرفتم معظم ما مررنا به، بل وما نزال نعيشه من أفكار دينيّة وفلسفيّة وأنظمة حكم، وأنا أناقشكم على ضوء معرفتي المتواضعة لأدياننا وفلسفاتنا، فأنا أديب ولست فيلسوفاً، وأمضيت نصف عمري في تعلّم اللغات وقراءة الرّوايات والمسرحيّات والشعر، والاستماع إلى الموسيقى والغناء ومشاهدة السينما ومن ثمّ الكتابة، ولم أخصص للفلسفة والأديان والأساطير وعلم النّفس والتاريخ والفضاء والفكر والسياسة والاقتصاد والنّبات والطب إلا النصف الآخر.
كم بودّي التعرّف إليكم أكثر، والتجوّل في مدينتكم، وزيارة متاحفكم ومصانعكم، ولا أعرف فيما إذا سيسمح وقتي بذلك، إذ ثمّة كوكب بائس يزخر بالمشاكل، تركته خلفي يعيش حالة ترقّب وقلق بعد أن نزعت سلاحه»
ظهرت في السماء كوكبة من الجن تحمل فتيات من الإنس وكوكبة من الجنيّات تحمل شباباً من الإنس، كانوا يحلّقون على ارتفاع منخفض ولجلجة ضحكاتهم تتناهى إلى الأسماع.
هتفت السيدة سلمنار:
«أترى أيها الأديب كم هُم سعداء؟!»
«حقاً، يبدون سعداء، لكن ألن نؤخّركم عن أعمالكم؟!»
«سنعطّل عن العمل ونحتفل ما دمتم في ضيافتنا!»
«أهوَ الراعي الأكبر الذي أشار بذلك؟»
«نعم، لكنها كانت رغبة الجميع»
سأل الأديب لقمان الأميرة نور السماء عمّا إذا تعبت من الترجمة، فنفت ذلك، فطلب إليها أن تسأل السيدة «سلمنار» عمّا يعنيه اسمها بلغة أهل «سوهار» فسألتها فأجابت:
«سلمنار.. أي السّالمة من النار، إذا كان المسمّى أنثى، أما إذا كان ذكراً فيذكّر المعنى، وهو اسم قديم كان يرتبط بدين سابق لنا، كان أتباعه يؤمنون بوجود الجنّة والنار في حياة أخرى!»
«وشاهل بيل؟»
«شاهد الحقيقة!»
«يبدو لي أن لغتكم القديمة هذه كانت قريبة من العربيّة التي أتحدّث بها أنا يا سيدتي»
«معظم اللغات عندنا كانت متقاربة، ولا يستبعد أن تكون متقاربة مع لغاتكم أيضاً»
وتدخّل شاهل بيل متسائلاً عمّا إذا يودّ الأديب لقمان النهوض للتجوّل في المدينة، على أن يتابعوا الحديث خلال التجوال، فوافق الآخر على الفكرة، ونهض متسائلاً عن ملك الملوك، فانبثق أمامه بلمح البصر.
«أين أنت أيها الملك؟»
«مع الجميلات يا مولاي، تناولنا الفطور في جناحي»
«أما زلن هُن هُن أم أنّك استبدلتهن أو أضفت إليهن؟!»
«لا لم أستبدلهن يا مولاي، لكني أرحت بعضهن، وأتيت بغيرهن أيضاً من بنات الملوك، وبنات!»
وتردد ملك الملوك وبدا خجلاً بعض الشيء لأوّل مرة:
«وبنات الـ ماذا أيها الملك؟»
«وبنات الإنس يا مولاي، اصطحبت معي تسعاً من ليلة الأمس!»
ولم يخفِ الأديب لقمان دهشته من قدرة ملك الملوك على اصطياد فتيات الإنس أيضاً.
«لكن إياك أن تمشكلنا مع مُضيفينا أيها الملك؟»
«أبداً يا مولاي، كانوا سُعداء، وهُنّ الآن سعيدات، ولولا خوفي منك لاصطحبت مائة منهن!»
«مائة؟ هل يُعقل هذا؟!»
«مولاي.. أنت تنسى أنني جنيّ ولستُ إنسياً، ولا تعرف أن طاقتي الجنسيّة تُعادل طاقة مائة ألف رجل، ثمّ إنهنّ جميلات وممتعات يا مولاي، وأنا خلفي ثلاثة!»
«أعرف ثلاثة آلاف عام من القهر والحرمان! لكني حقاً لم أكن أعرف طاقتك الخارقة هذه، رغم توقّعي ذلك، على أية حال يكفيك تِسع إنسيّات، واختر من الجنيّات ما يحلو لك، ولا تنسَ أن تدع الإنسيّات ينصرفن متى شئن!»
«لقد وقعن في حُبّي يا مولاي، ولا يصدّقن حتى الآن أنهن خليلات ملك ملوك الجن»
ابتسم الأديب لقمان وهو يأخذ بيد الأميرة نور السماء ويهمّان للنزول من البيت.
«هل أرسلت ما طلبته منك إلى أسرتي؟»
«نعم يا مولاي، أرسلت لهم جنيّاً في شكل إنسيّ ادّعى أنّه صديقك ومرسل من قبلك، وقدّم لهم حمولة شاحنة مما طلبته، وأخبرهم أنّك بخير وتسلّم عليهم، وستعود إليهم قريباً، وهم الآن في غاية السعادة»
«أشكرك أيها الملك، ألا تريد أن تتجوّل معنا أنتَ وخليلاتك؟»
ويبدو أن ملك الملوك كان قد حزم أمره على ما هو أجمل، فقد أجاب على الفور:
«لا، ليسمح لي مولاي، فقد دعوت الفتيات ومن يرغبن في دعوته لتناول الغداء على المرّيخ!»
«على المريخ أيها الملك؟!»
«أجل يا مولاي، لأقنعهن أني ملك ملوك، وأنني قادر على فعل المعجزات»
«ومتى ستعودون؟»
«قبيل الأصيل يا مولاي»
«وإذا ما احتجت إليك؟»
«ما عليك إلا أن تهتف باسمي يا مولاي لتجدني أمامك»
«وإذا ما واجهتكم مشكلات على المريخ؟»
«وهل ثمة مشاكل يمكنها أن تعترض طريقي يا مولاي وأنا خارج القمقم؟»
«لكن إياك وسفك الدّماء»
«حتى لو اضطررت إلى ذلك يا مولاي؟»
«اعمل على ألا تضطر»
«وحتى لو كان مسببو المشاكل من غير الإنس؟»
«حتى لو كانوا من الجن أو الطيور أو الحيوانات أو النباتات أو الأسماك!»
«وإذا كانوا من الملائكة والشياطين؟»
«حتى لو كانوا كذلك، لا نُريد أعداء أيها الملك، إذا وجدت الكوكب مأهولاً بكائنات ما، فابحث عن أرض خالية، وإذا لحق بك أحد اهرب بضيوفك»
«أمر مولاي»
«لا تنسَ أننا دعونا مواطني الزُّهرة على حفل عشاء في السماء»
«لم أنسَ يا مولاي، أوعزت إلى مليونين من مهرة الجن للتحضير للحفل»
«ماذا ستفعل بالمليونين أيها الملك؟»
«سترى في المساء يا مولاي»
«هل ستقلب الدنيا رأساً على عقب؟»
«لا لن أقلبها يا مولاي»
«حسناً، سنظل قلقين إلى أن تعودوا»
«لا تقلق يا مولاي»
نزل الأديب لقمان والأميرة نور السماء والعالِم «شاهل بيل» والسيدة «سلمنار» وراحوا يتجوّلون في شوارع المدينة التي بدت واسعة ونظيفة وجميلة وتزيّنها النباتات والزهور والأشجار المختلفة، وكانت شبه خالية من الحافلات، وقد أُقفلت جميع الدّوائر والمؤسسات والحوانيت لاحتفال سكّان الكوكب بضيوفهم من أبناء الجن، وكان هُناك بعض الشباب والفتيات يتجوّلون في الشوارع أو ينتشرون في الحدائق والمتنزّهات.
توقفوا في ساحة كبيرة تنتصب فيها مئات التماثيل المختلفة لنساء ورجال، قال شاهل بيل:
«إن هذه التماثيل هي لمبدعين ومتفوّقين في تاريخنا، ومعظم الساحات وسطوح بعض الأبنية عندنا يقام عليها مثل هذه التماثيل»
نظر الأديب لقمان إلى أعلى البنايات، كانت التماثيل تحيط قواعد الأشكال المخروطية والهرمية التي تعلو أسطح البنايات.
«لكن، ما هي الغاية من هذه الأشكال السامقة للسطوح عندكم؟»
«إنها بالدرجة الأولى ترمز للتطلّع إلى المعرفة، وهي مستوحاة من الخوازيق التي كانوا يجلسون عليها العظماء والمفكّرين من أجدادنا»
«ولماذا كانوا يخوزقونهم؟!»
«لاختلافهم معهم في أمور الدين والمذاهب والمعتقدات والأفكار والنظم السياسيّة وغير ذلك»
«وهل كانت الخلافات تبلغ حد الخوزقة؟»
«والحروب أيضاً»
«هل كان الخلاف في العادة يدور بين دين ودين آخر، أو فكر وفكر آخر، أم بين تابعي الدين أو الفكر ذاته؟»
«حدث عندنا كل ما يمكنك أن تتخيّله من صراعات حتّى بين الأب وابنه»
«وكيف تجاوزتم هذه المرحلة؟»
«كثرة الصراعات وما كان ينجم عنها من ضحايا أدّت إلى ظهور نظام رأسمالي ديمقراطي، أتاح الحوار بين الأفكار المختلفة، وأتاح ظهور أحزاب وأفكار جديدة، حتى بلغ الأمر في بعض الأقطار إنشاء حزب في كل قرية، ولم يعد في مقدور أي جماعة أو أي حزب الوصول إلى السلطة إلاّ بالتحالف مع أحزاب أخرى، غير أن هذه المرحلة لم تدم، فلقد غدت الشعوب واعية ولم يعد في مقدور أحد الوصول إلى السُّلطة مهما كان ديمقراطياً وعلمانياً ومتفانياً في خدمة الشعب!»
«وهل يُعقل هذا؟»
«ولماذا لا يُعقل؟»
«يمكن أن تتحد الأحزاب جميعاً وتنجح في الانتخابات»
«لقد اتّحدت! أقصى اليمين مع أقصى اليسار، وأكثر الأحزاب تناقضاً فيما بينها ولم تنجح، لأن أكثرية الشعوب لم تعد تؤمن بالأحزاب والطّوائف!»
«وبماذا أصبحت تؤمن؟»
«بالمعرفة، بالعلم، بالعمل، بالمحبّة!»
«ألم تكن الأحزاب تؤمن بالمعرفة؟»
«بلى، لكن انطلاقاً من فهمها للمعرفة، فالمؤمن كان يرى أن الله هو مصدر الخلق، والعلماني كان يرى أن المادة هي المصدر»
«ولِمَ رفضت الشعوب الماديين؟»
«لأن الانتماء الحزبي ظل في معظم جوانبه أقوى من الانتماء المعرفي، إلى أن أصبح الماديّون شبه لاهوتيين، لا يقبلون أي نقد لأفكارهم!»
«هل هذا يعني أنه لا يوجد لديكم أحزاب الآن؟»
«أبداً، نحن الآن نرى أنه كي تفكّر بشكل حُر يجب أن تكون حرّاً، وخارج أي انتماء مهما كان!»
«وكأنك تتحدث في اللامعقول أيها العالم؟»
«لماذا؟»
«أليس السلوك المعرفي للفرد إذا جازت التسمية، انتماء للمعرفة بشكل أو بآخر؟»
«أجل!»
«إذاً عُدنا إلى هذه الدوّامة، عُدنا إلى الانتماء حتى لو كان معرفياً»
«لكنه غير مقيّد»
«بالعكس، أنا أرى أنه مقيّد ولو نسبياً، فكل ما يتناقض مع المعرفة التي حددت أطرها وأسسها وقوانينها، أو لنقل رسمت أو وضعت من قبل الفرد أو المجتمع أو السُّلطة، سيكون في مجال شك، وقد يُلغى ولا يؤخذ به!»
«هل توضّح لي ذلك أفضل بمثال من أمثلتك المبسّطة كي أعرف ماذا تقصد بالضبط؟»
«انظر إلى السّماء أيها العالم؟»
ونظر «شاهل بيل» والسيدة «سلمنار» والأميرة نور السماء إلى السماء، فشاهدوا الجن والإنس يحلّقون في جماعات، ويقومون بطقوس عجيبة في الفضاء، إما يلعبون، أو يمارسون الحب، أو يرقصون، أو يغنّون أو يتمتعون بالتحليق في الفضاء.
«هل شاهدت وتأكّدت مما يجري أيها العالم؟»
«نعم»
«ألا يتناقض هذا مع الأُطر التي وضعتموها للمعرفة أو مع رؤيتكم المعرفية؟!»
وأطرق شاهل بيل للحظات، وما لبث أن هتف ليفحم الأديب لقمان:
«لا أيها الأديب لقمان، إنه لا يتناقض أبدا!!»
«لقد أفحمتني أيها العالم، رغم أنني شخصياً أرى أن كل هذا الذي يجري الآن خيال يتناقض تماماً مع معرفتي!»
«لقد قلتها بنفسك أيّها الأديب، ومع ذلك ترى في المسألة تناقضاً مع معرفتك!»
«كيف؟»
«قلت إنه خيال، ونسيت أنك لم تعرف أنه خيال إلا انطلاقاً من معرفة حصلت عليها، ولها أطر في عقلك، إذن فهو لا يتناقض مع معرفتك!!»
وأطرق الأديب لقمان مفكّراً ثمّ هتف:
«لأفترض أنه حقيقة، فهل سيتناقض حينئذ؟!»
«بالتأكيد لا!»
«متى سيتناقض إذن؟»
«حين نرى أن هذا حقيقة ما بعدها حقيقة، أو خيال ما بعده خيال!»
«هل هذا يعني أنه لا يوجد حقيقة ثابتة وحقيقة خياليّة أو متخيّلة؟!»
«بشكل نسبي يوجد، أما بشكل مُطلق فلا، فكل حقيقة تخضع لزمانها ومكانها وحركتها وسكونها وعوالمها ومكوّناتها»
«يبدو أن الحق معك أيها العالم، فأنتم توغِلون في المُطلق واللانهائي، هل في ميسوري القول الآن، إن ما يجري الآن خيال بقدر ما هي معرفتكم حقيقة؟»
«لكن قولك هذا قد يحتمل أكثر من تأويل، ومع ذلك يمكنني القول "نعم.»
«لنعُد بحوارنا إلى الوراء أيها العالِمْ، حين ظهرت عندكم ديكتاتوريات ملكيّة أو جمهورية، أو اتحادية، ذات حزب واحد، أو أحزاب متعددة»
فقاطعه شاهل بيل:
«ديكتاتورية الأحزاب المتعددة والمتحالفة خوزقت من أجدادنا أكثر مما خوزقت الأنظمة السابقة، البروليتاري منها والرأسمالي!»
«أريد أن أعرف ماذا جرى في هذه المرحلة الفاصلة بين تلك النّظم المختلفة، ونظامكم الحالي، فبعد سقوط الأحزاب والطوائف وغيرها، ألم يرشّح العلمانيون والمستقلون أنفسهم للسلطة؟»
«بلى، لكن الأحزاب أخذت تغتالهم، فلم يعد أحد يرشّح نفسه، وعاشت البلاد بعد ذلك حالة من الفوضى، ورغم فوضويتها، كانت أفضل من أي نظام سابق!»
«هل حدث ذلك في بعض الدول على الكوكب أم كيف؟»
«بدأ بدولة ديمقراطية كبرى يحكمها حزب واحد ليبرالي، ثم انهارت خلفها دول أخرى، إلى أن انهارت الدول الرأسمالية الليبرالية كُلّها، لتتبعها الأنظمة المختلفة الأُخرى في كافة أنحاء الكوكب، ولم يعد هناك مفر من نهوض حُكم الشعب في الدول المختلفة، ولم يكن من العسير فيما بعد أن تجد هذه الشعوب والأمم الكثير من النقاط المشتركة في أفكارها، فعملت على التقريب فيما بينها إلى أن قررت الاتحاد في نظام اللا دولة، الذي يمكن أن نطلق عليه مجازاً اسم دولة»
«لدي سؤال من مئات الأسئلة التي تلحُّ عليّ، سأسأله قبل أن ننتقل إلى الخطوة اللاحقة. أريد أن أعرف شيئاً أكثر عن الديمقراطية التي كانت سائدة في دول الكوكب المختلفة والتي رفضتها الشّعوب»
«كل نظام وكل حزب، كان يفصّل ديمقراطية على مقاسه! ديمقراطية تتيح له أن يبقى في السُّلطة، حتى الملوك والجنرالات ابتكروا ديمقراطيات تتلاءم مع مصالحهم»
وشرع الأديب لقمان في الضحك وهو يحلّق بخياله في كوكب الأرض.
«لننتقل إلى المرحلة اللاحقة التي شكّلت بدايات النظام المعرفي الحالي. كيف وجد أجدادكم أن ثمة ما هو مشترك بين الفكر اللاهوتي والفكر العلماني مثلاً؟!»
«في الفكر اللاهوتي ثمة خالق هو الله وهو موجود منذ الأزل، وفي الفكر العلماني ثمة مادّة موجودة منذ الأزل أيضاً، جاء منها الخلق، وانطلاقاً من هاتين النقطتين تمَّ التعمّق في كافة المسائل، وأخذت الرّؤى تتعمّق وتتطوّر إلى أن وصلت إلى ما وصلت إليه لتشمل كافة نواحي الحياة»
«لكن كيف حللتم مشكلة الخلق، بين من يرى أن الوجود مخلوق من خالق وبين من يرى أن الوجود أزلي وغير مخلوق؟»
«حين تمَّ تحرير العقول من تعصّبها، لم يكن من الصّعب على أجدادنا أن ينطلقوا من العَدَم، ليقنعوا أجدادنا الآخرين بلامعقولية تفكيرهم»
«آمل أن توضّح لي ذلك أيها العالم»
«الإقرار بالخلق ينجم عنه الإقرار بالعدَم قبل كُلّ شيء، فإذا لم يكن هُناك إلاّ العدم، فهل كان الله عدماً، وهل جاء من هذا العدم؟ ثمَّ كيف يمكن أن يأتي عدمٌ من العدَم، والأدهى من ذلك أن يَخلِقَ هذا العدم وجوداً بهذا الحجم الهائل من العَدَم وليس من مادّة ما؟!.
لم يجد اللاهوتيون تأويلاً لذلك، فاقتنعوا بالوجود الأزلي للمادة من تلقاء نفسها ودون أن يخلقها أحد، خاصة وأنه كان هناك من سبقهم من المتصوّفة والفلاسفة اللاهوتيين من اعتقد بأسبقيّة المادة، بل وأسبقيّة الوجود،واتّحاد الله بنفسه بهذا الوجود كُلّه وعدم انفصاله عنه، إلا بقدر انفصال الله عن أنبيائه، والشخص عن ذاته، واللوحة عن راسمها، والمنحوتة عن ناحتها، والقصيدة عن ناظمها، إلى آخر ما هنالك من خالقين ومخلوقات، أو من ذات وانعكاساتها، أو تجلياتها.
لماذا تنظر إليّ بهذه الدهشة أيها الأديب؟»
«أشعر أحياناً وكأنك صاعد من كوكب الأرض إلى كوكب الزهرة، بل أحياناً أشعر أنّك أنا لولا أنني مازلت أنتمي إلى هذه الأنظمة البائسة على كوكب الأرض»
«يبدو لي أن البشر جميعاً في الكواكب والأكوان المختلفة، مرّوا بأنماط متشابهة من التطوّر، لكن عزلتهم عن بعضهم، لم تتح لهم الإفادة من معارف غيرهم»
«لكن، نحن على الأرض لسنا معزولين عن بعضنا، والدّول المتطوّرة نسبياً عندنا تعتبر أنّ ما وصلت إليه من تطوّر في بعض مجالات العلوم والتكنولوجيا، أسرارٌ هامة لا تتيح لأية دولة أخرى وحتى لمواطنيها الاطلاع عليها»
«لقد مررنا بما هو أسوأ من ذلك!»
«لنعد إلى الخوازيق أيّها العالم، والتي جلس بعض أجدادنا أيضاً عليها، وما نزال نحن نجلس، وإن اختلف شكل الجلوس والخوزقة! أظن أنك لم تكمل لي حديثك عنها ولماذا هي سامقة؟»
«سامقة، لتعطي دلالة على السّمو والشموخ والخلود، أو لتوحي بالرفعة والقوة، وعدا عن الجمالية التي تضفيها على البناء بحد ذاته، وعلى المدينة بشكل عام، فهي تقاوم الصّواعق والعواصف والأعاصير والأمطار الغزيرة وغيرها من العوامل الطبيعيّة الأخرى، التي قد تؤثّر على عمر البناء»
«ولِمَ استوحيتم الشكل من الخازوق وما علاقته بالمفاهيم التي تحدّثت عنها، والدلالات التي أشرت إليها؟»
«الخازوق عند أجدادنا كان يرمز إلى عضو الذكورة والقوّة الجنسية، وكانوا يرون أن الغريزة الجنسّية بحد ذاتها وما تدفع إليه من فعل جنسي، وما ينجم عن ذلك من حياة مسألة مقدّسة»
«وهل تحترمون هذه النظرة الآن؟»
«بالتأكيد، ونمارس الجنس بحريّة كما ترى، شريطة توفّر القبول لدى الطرفين، أو لدى الأطراف المختلفة»
«ولم تضعوا شروطاً أخرى»
«لا، أو أنها شروط ليست بذي أهميّة»
«حتى لو كان بعض الأطراف متزوّجين؟»
«لا يوجد عندنا زواج حسب بعض المفاهيم التي طبّقها أجدادنا، الزواج عندنا الآن هو اتّفاق اثنين على حياة مشتركة لزمن غير محدد، قد يكون شهراً، وقد يكون العمر كُلّه!»
«وماذا عن تكوين الأسرة؟»
«إذا أنجبا يكون الأولاد أولادهما طبعاً!»
«وإذا اختلفا عليهم من يأخذهم؟»
«لا يأخذهم أحد، فهم أولاد الاثنين، وقد يعيشون مع الأم أو مع الأب، أو في مؤسسات رعاية الأطفال، والغالبية العظمى تختار هذا الحل، لأنه الأفضل لدى الجميع، وقد يأتي الآباء معاً أو منفردين، ويصطحبونهم في رحلات أو زيارات وما إلى ذلك. وانفصال الرّجل والمرأة عندنا لا يعني أنّهما ابتعدا أحدهما عن الآخر، فهما يتّحدان بالذات الجمعيّة»
«أنت تستخدم تعبير الذات الجمعيّة لأول مرّة»
«هي جزء أكبر من الذات الفرديّة أو الخاصة أو الصغرى، وأقل من الذات الكلّية أو الكونيّة، إن التسميات ليست مهمة لدينا، المهم هو الدلالات»
«وماذا عن الخيانة الزّوجية؟»
«لا يوجد عندنا خيانة، إذا اشتهى أو رغب أحد الطّرفين طرفاً ثالثاً وهذا يحدث دائماً، فهي حق طبيعي له، وإعلام الطرف الثاني أو عدم إعلامه مرتبط بالاتفاق الخاص بينهما، وهذا الاتفاق قابل في كل لحظة للتغيير والإلغاء من قبل أي طرف!»
«هل هذا يعني أنّه لا يوجد عندكم رغبات غير مشروعة»
«بل يوجد كثير، فكل اثنين لهما شرعهما الخاص بهما، وثمة بيننا من يتعاهدون على الحب والإخلاص إلى الأبد!»
«وماذا عن المحرّمات الجنسية لديكم؟»
«لا يوجد عندنا محرّمات بالمعنى الديني السابق، يوجد ما هو مكروه وما هو غير مرغوب. المكروه، مضاجعة الأم والبنت والأخت والخالة والعمة، وغير المرغوب مضاجعة ابنة العم والخال والخالة والعمة، وأيّة فتاة من الأسرة ذاتها مهما كانت قرابتها، خاصّة إذا ما كان هدف المضاجعة هو الإنجاب! ثمّ إن الافتضاض للفتاة غير مرغوب قبل سن العشرين، والإيلاج للفتى قبل السن ذاتها أيضاً، ونقصد من ذلك، أن يصل الفتى والفتاة إلى سن النضج الذي يتيح لهما إدراك أبعاد العُلاقة، لكن الرغبات الغريزيّة العفوية والتي يعبّر عنها الأطفال مع بعضهم بالمداعبة والملامسة والتقبيل، فهذه تعتبر مشروعة مهما كان سن الطّفل، لكن يتم إرشاد الأطفال من قبل الأبوين أو المؤسسة الراعية إلى كيفية ممارستها وشروط هذه الممارسة حتى لا يؤذي الأطفال بعضهم، أو يتناقلوا الأمراض.
كذلك مكروه جداً عندنا أن يقوم رجل بالغ بممارسة هذه المداعبات لمن هُنّ دون سن الثامنة عشرة، وهذا ينطبق على النّساء البالغات في تعاملهن مع الفتيان الصّغار. أظن أن سن الثامنة عشرة يقارب سن الرابعة عشرة على كوكبكم!»
«غريب أيّها العالم!»
«ما هو الغريب؟»
«حالنا على الأرض، فأنظمتنا رغم العديد من الشّرائع التي تتبعها، لم تضع حلولاً ترقى إلى حلولكم في هذه المسائل، إذ ثمّة مشرّعون من أممنا، أتاحوا الزواج من صغيرات في سن التاسعة، ومداعبتهن وتفخيذهن وهن في السادسة، بل وذهب بعض اللاهوتيين لدينا إلى إتاحة ذلك حتى مع الرّضيعة، وأوغلوا في الخيال إلى حدّ تصورواً فيه رجلاً يمكن أن يطأ طفلة صغيرة ويخرّب جسدها، كأن يشقّ مَهبلها على شرجها ومجرى بولها، بحيث يصبح الثلاث مجرى واحِداً!!»
«ولماذا تصوّروا ذلك؟»
«لكي يعاقبوه إذا ما تجاوز المداعبة إلى الافتضاض أو التدمير!!»
«هل يعقل أن تحدث مثل هذه الآثام عندكم؟»
«بل ما هو أسوأ، إذ لا يوجد في معظم دولنا أية ثقافة جنسيّة أو توعية وتوجيه جنسي للأطفال، فيعيشون طفولتهم بأشكال عشوائية، إلى حد قد يضاجع الأخوة أخواتهم والأخوات إخوتهن، وأحياناً النوع مع ذاته كأن تمارس الإناث السُّحاق، أو يمارس الذّكور اللواط، والمصيبة أنّ هؤلاء الأطفال ما أن يكبروا قليلاً حتى يواجهوا عالم الحجاب والمنع والمحرّمات غير المعقولة، مما يؤدّي إلى صدمات نفسيّة تدميريّة فظيعة تورث الطفل أمراضاً مزمنة لا ينجو منها إلا القلّة!»
«يبدو لي أنكم متخلّفون كثيراً أيها الأديب، فما تتحدّث عنه شيء فظيع عندنا»
«للأسف لا يوجد في كوكبنا إلا الفظائع، وإن تستّر بالأخلاق الزائفة!»
«لكن لماذا لا يوجد توجيه جنسي للأطفال عندكم؟»
«المسألة تتعلّق بالتخلّف، فالتحدّث مع الأطفال، بل ومع الكبار، عن هذه الأمور يعتبر عيباً وعاراً، وينمو الطفل ويكبر أحياناً دون أن يعرف حدود العيب والعار والحرام، أو يعرفها ويطبّقها بشكل خاطئ. مما ينعكس على سلوكه وحياته الجنسيّة، كأن يصاب بالبرود الأبدي، وهذه الحالة تصيب النساء عندنا أكثر مما تصيب الرّجال، إذ ثمة نساء يتزوجن وينجبن أطفالاً ويشخن دون أن يعرفن ما هي الذروة الجنسية، بل دون أن يسمعن بها!»
«لماذا لا تحدّثنا عمّا تعرفه أنت معايشة من قصص كوكبكم، فقد نفيد منها بعض الشيء!»
«لو حدّثتك عن مآسٍ أعرفها لما صدّقت»
وهتفت السيّدة سلمنار:
«أنا سأصدّق، يا ليت لو تحدّثنا شيئاً!»
«وأنا سأصدّق بالتأكيد أيها الأديب لقمان!»
«لكن هذه مسائل تحتاج إلى زمن وأنا متعب وفي عجلة من أمري»
«اختصر أيّها الأديب!»
«قصة واحدة فقط!»
«ليكن وبعدها سنرى!»
«عرفت شاباً، كان يتردد على الطبيب النفساني، وكم سألته عمّا يعاني منه، فلم يقبل مصارحتي، حتّى طبيبه الذي كان صديقي لم يقبل أن يقول لي شيئاً عمّا يُعاني منه، إلى أن عجز جميع الأطباء عن معالجة حالته، كان ثمة أثر عميق في نفسه، يخزه ويجرحه ويؤنّبه باستمرار، لم يستطع تجاوزه، ودفعه مراراً إلى الانتحار، إلا أنه كان يجد من ينقذه في كل مرّة.
فوجئت به ذات يوم يأتي إليّ راغباً في مصارحتي واستشارتي في الأمر. كان كبير تسعة أُخوة من الذّكور والإناث، وقد افترس إخوته الثمانية ذكوراً وإناثاً مستغلاً صغرهم، فما أن يبلغ أحدهم الخامسة أو السادسة حتّى يفترسه!»
«ماذا تقصد بالافتراس يا مولاي؟»
«الاغتصاب الجنسي أيتها الأميرة»
«وظلّ يمارس معهم إلى أن كبروا وبلغوا، وكان هو قد تخرّج من الجامعة. ويبدو أن الإحساس بالذنب لم يتعمّق لديه إلا بعد أن رفضت أخواته الزّواج ممن تقدّموا إليهن»
«ولماذا رفضن؟»
«لأنهن لسن عذراوات، والعذريّة شرط أساسي للفتاة في بعض دولنا أيّها العالم، فتلجأ بعض الفتيات غير العذراوات عندنا إلى إجراء عمليّة رتق عند الطبيب، كي تقنع العريس بعذريتها وطهارتها ليلة الزفاف!!
المهم! لم يعد هذا الشاب قادراً على مواجهة طالبي نسبه بعد وفاة أبيه، كما لم يعد قادراً على مواجهة إخوته وأخواته، فهرب إلى العاصمة»
«وماذا فعلت له؟»
«كانت مصيبة أكبر من أن أقدر على حلّها، وأكبر من كل الكلام الذي يمكن أن أنصحه به، وتمنّيت لو أنّه لم يخبرني، لقد بتُّ أخاف على أولادي وأولاد الناس منه. لكنه لم يعد يأتي إليّ، إلى أن عرفت أنه عاد ليقيم مع أسرته، بناء على نصيحة الأطباء، شريطة أن يلتزم السُّلوك السَّوي مع إخوته وأخواته، لعلّه يتحسن ويستطيع مواجهة واقعه.
«وهل واجههُ؟»
«يبدو أنّ الصُّدف أو ربما الأقدار، تلعب دوراً هاماً في إنقاذ كثيرين من ظروفهم الصعبة»
«ماذا حدث؟»
«لقد شبَّ حريق هائل – أثناء نومهم – في البيت، وكان هو المستيقظ الوحيد»
«وما أسباب الحريق؟»
«انفجار اسطوانة غاز، كان باب المطبخ مغلقاً والأسطوانة تهرّب الغاز، وحين دخل إلى المطبخ وضغط على زر الكهرباء ليضيء النور هبّ الحريق، لتتفجر الاسطوانة ولتنتشر النار في البيت كُلّه.
تفانى في إنقاذ إخوته وأخواته. قيل لي أنه كان يلفّ أحدهم بحرام ويحمله إلى الخارج ويعود ليقتحم الحريق، وينقذ آخر، إلى أن أنقذ الجميع، واحترق هو. ماتت الأم فيما بعد من جرّاء الحريق، وتشوّهت إحدى الفتيات»
«ألا يمكن أن يكون هو قد دبّر الحريق بقصد التطهير من عذاب الضمير، والتكفير عن الذّنب، خاصة وأنه كان مصراً على إنقاذ الجميع ليحترق هو ويموت»
«هذا وارد أيّها العالم، وقد فكّرت أنا في الأمر حين سمعت القصة، وعرفت أن إخوته حزنوا عليه كثيراً!!»
«وماذا بعد أيها الأديب؟»
«يمكنك أن تعتبر هذه القصة كأسوأ نموذج للتربية الجنسية عندنا»
«يا ليت لو تحدّثنا قصصاً أخرى عن هذه المسائل، فنحن مانزال نوليها جُلّ اهتمامنا، ولا نظن أننا حتّى الآن نسلك الطريق الأفضل، وخاصّة فيما يتعلّق بالجنس عند الأطفال، أو بين الكبار والصّغار»
«لدي مئات القصص، وكلّها حقيقيّة وليست من خيالي، لكني لستُ مهيّأً لقصّها حتى بهذا الأسلوب غير القصصي، ولا توجد لدي رغبة في الحديث، أفضّل الاستماع إليكم والاطّلاع على عوالمكم»
«ستطلّع على كل شيء تريده أيّها الأديب، لكن أرحنا قليلاً وتحدّث أنت!»
«هل تعبت من الحديث؟»
«إلى حد ما!»
«سأحدثك بعض القصص، لكن لنذهب إلى مطعم ما، أريد أن أرى مطاعمكم وأتناول قليلاً من البيرة»
«ليكن أيها الأديب»
* * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد. ...
- شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (3) صعود إلى الفض ...
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (2) رؤيا شيطانية!
- قصة الخلق التوراتية . طوفان نوح . دخول اليهود إلى مصر وخروجه ...
- لملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (1) محاولة انتحار
- باقون في رنّة الخلخال ! وذاهبون أنتم في المحال !
- شاهينيات (106) حروب متخيلة وارتداد عن عبادة يهوة كالعادة .
- شاهينيات (105) إيليا يذبح أربعمائة وخمسين نبيا من أنبياء الإ ...
- شاهينيات (104) سليمان يغرق في حب نساء الشعوب فيتزوج 700 امرأ ...
- شاهينيات (10) سليمان يبني بيتين اسطوريين له وللرب يهوه !
- شاهينيات (102) موت داود وتملك سليمان . * (1048) سليمان يصفي ...
- شوربة عدس سبع نجوم !
- بمناسبة الإحتفال باليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف: أهلا يا ...
- آخ يا ظهري وقعت أسير- ترانيم الغواية -!!
- شاهينيات (101) حروب بلا نهاية يخوضها داود مع الفلسطينيين! (1 ...
- حزب الشعب الفلسطيني ينعى أب الماركسيين العرب يعقوب زيادين .
- شاهينيات (100) أبشالوم يغتصب الملك وسراري أبيه داود. ( 1046) ...
- شاهينيات (99) الملك داود يغتصب امرأة محارب لتنجب سليمان (الع ...


المزيد.....




- نجم مسلسل -فريندز- يهاجم احتجاجات مؤيدة لفلسطين في جامعات أم ...
- هل يشكل الحراك الطلابي الداعم لغزة تحولا في الثقافة السياسية ...
- بالإحداثيات.. تردد قناة بطوط الجديد 2024 Batoot Kids على الن ...
- العلاقة الوثيقة بين مهرجان كان السينمائي وعالم الموضة
- -من داخل غزة-.. يشارك في السوق الدولية للفيلم الوثائقي
- فوز -بنات ألفة- بجائزة مهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة
- باريس تعلق على حكم الإعدام ضد مغني الراب الإيراني توماج صالح ...
- مش هتقدر تغمض عينيك.. تردد قناة روتانا سينما الجديد على نايل ...
- لواء اسرائيلي: ثقافة الكذب تطورت بأعلى المستويات داخل الجيش ...
- مغنية تسقط صريعة على المسرح بعد تعثرها بفستانها!


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!