أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!















المزيد.....



ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!


محمود شاهين
روائي

(Mahmoud Shahin)


الحوار المتمدن-العدد: 4801 - 2015 / 5 / 9 - 17:10
المحور: الادب والفن
    



(3)
الآلهة الطيبون

ألقى الملك لقمان والملكة نور السَّماء من شرفة المركبة نظرة أخيرة على النّسور وهي تحلّق في فضاء المدينة حاملة داجون وملوكه وأعوانهم، ودخلا إلى مقصورتهما.
انطلقت المركبة بالسُّرعات الخياليّة لتدخل مدار كوكب آخر خلال لحظات، إذ لم يتمكّن الملك لقمان من ارتشاف أكثر من رشفتين من فنجان قهوة، حين هاتفه صوت قائد المركبة معلناً عن وجود كوكب مأهول.
هتفت الملكة نور السَّماء:
"هل نهبط إليه يا حبيبي؟"
وأطرق الملك لقمان قليلاً وما لبث أن هتف:
"لو أعرف أنّ هذا الكوكب لا يعجُّ بالمعذّبين لما هبطت إليه، حين وجدت الزّهرة متقدّماً على الأرض بآلاف الأعوام تفاءَلت، وتوقّعت ألا أواجه في طريقي إلاّ الكواكب المتقدّمة، وراح تركيزي ينصب على الإفادة من تجارب هذه الكواكب كي أستخلص منها نظاماً متقدّماً أطبقه على الأرض، لكن حين وجدت كوكب داجون أدركت أنّ ثمّة كواكب ما تزال تغرق في التخلّف، وأدركت أنّ همومي لم تعد مُقتصرة على كوكب الأرض وحده".
"إذن سنهبط يا حبيبي؟"
"أجل وآمل ألاَّ نجد معذّبين وجهنّمات وآلهة سَفّاحين، قولي للقائد أن يهبط ناحية أوّل إنسان يراه"
"يقول أنّه يرى فلاّحاً يحرث على ثورين يا حبيبي"
"لنهبط إليه ونستعلم منه عن أحوال هذا الكوكب"
وخرج الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى الشرفة.
كان ثمّة قرية تتناثر بيوتها الرّيفيّة على التِّلال وبين الشِّعاب، وقد انتشر في الأراضي المحيطة بها بعض الحرّاثين، الذين كان معظمهم يحرثون الأرض على الثيران وبعضهم على البغال والحمير والجِمال، وكان هذا الحرّاث هو الأقرب إليهم.
نزل الملك لقمان والملكة نور السَّماء محلّقين وحدهما، بدت امرأة إلى جانبها بعض الأطفال الصّغار يجلسون على مقربة من الحرّاث، وكان ثمّة كلب شرع في النّباح والعدو إلى الناحية التي يهبط فيها الملك والملكة. كانا قد أخذا يحلّقان على وجه الأرض حين توقّف الكلب عن النّباح وهتف باسميهما مرحّباً وراح يذرع الأرض مرحاً من حولهما، فألقمته الملكة نور السَّماء فخذ خنزير مسلوخ!
توقّف الملك لقمان والملكة نور السَّماء على مقربة من المرأة والأطفال على الأرض اليباس ولم يدخلا إلى الحقل المحروث.
كان الحرّاث مُسنّاً كما بدا من ملامحه، وكان الإجهاد قد أخذ منه وبدا العرق يتصبب من وجهه، وقد وقف متكئاً على شاقوله خلف الثورين فبدا للملك لقمان كجذع زيتون جاف لشدّة نحفه. وكانت الدهشة ما تزال بادية على وجهه والتساؤلات تدور في مخيّلته حول هذين الضيفين اللذين نطق الكلب مرحّباً بهما.
هتف الملك لقمان بلغته:
"السَّلام على المكدّين في الأرض"
فهتف الفلاّح:
"وعلى الضّيوف السَّلام"
"هل يسمح لي السيّد المكّدّ بالتعرّف إليه؟"
وخطا الفلاّح بضع خطوات في الحقل ليقترب من الملك لقمان دون أن يخرج من الحقل، ويهتف وهو يتكّئُ على شاقوله بما لم يتوقّعه الملك لقمان على الإطلاق:
"أنا الله أيّها الضيف"
بوغت الملك لُقمان والملكة نور السَّماء، وظلَّ الملك محدّقاً إلى الـرّجل بدهشة شديدة، وظن أنّه لم يفهم ما قاله فراح يتأكّد:
"تقول أنّك أنت الله؟"
فهتف الفلاّح مؤكدّاً بحزم:
"أجل أنا الله أيّها الضيف"
فهتف الملك لقمان مُتسائلاً:
"هل تسخر منيّ أيّها الشيخ؟"
"ما عاش من يسخر من ضيفه أيّها الضيف"
"وماذا تفعل هُنا أيّها الشيخ؟"
"ما تراه عيناك"
"إله وتحرث الأرض بيديك؟!"
"وبمَ سأحرثها إذن؟"
"ألا تستطيع أن تحرثها وتزرعها دون أن تجهد نفسك؟"
"لا، لا أستطيع"
"ألستَ من خلقها؟!"
"لا أيّها السيّد الضيف لست من خلقها!"
"مَن خلقها إذن؟"
"لم يخلقها أحد، هي موجودة لوحدها!"
"وأنت من خلقك؟"
"لم يخلقني أحد أيضاً، حبلت بي أميّ بعد أن واقعها أبي وولدتني كما تحبل كل النّساء وتلد"
"وأنتَ ماذا خلقت ألم تخلقِ شيئاً؟"
"أبداً أيّها السيّد الضيف أنا لم أخلق شيئاً"
"ولا يوجد لديك جنّة ونار وحساب وعقاب؟"
"هذه الأرض هي جنّتي، أتعب وأشقى فيها مع رعيّتي، ولا يوجد لدي نار غير التي أطهو عليها الطّعام، ولا أُحاسب أو أُعاقب أحداً إلاّ بقدر ما يحاسب أو يعاقب الأب والأم ابنهما!"
"لكن الأب والأم قد يقسوان أحياناً"
"لكنّهما يظلاّن أبوين ولن يكون في قسوتهما إلاَّ الرّحمة!"
"وأين هي رعّيتك أيّها الشيخ؟"
وأشار الفلاّح بيده إلى ناحية القرية وهتف:
"تقيم في هذه البلدة والتّلال والشّعاب المحيطة بها"
"وهل هؤلاء كُلُّ رعيّتك؟"
"أجل أيّها السيّد الضَّيف، وأشعر أن تحمّل مسؤوليّتهم عبءٌ ثقيلٌ عليّ!"
"لِمَ أيّها الشيخ؟"
وتنهدّ الفلاّح من أعماقه وهتف:
"لأنّي لا أستطيع أن أعمَلَ شيئاً لنفسي قبل أن أقوم بواجبي تجاه رعيّتي"
"أحقاً ما تقوله أيّها الشيخ؟"
"آه أيّها الضيف، أنا الوحيد في البلدة الذي لم يحرث حقوله حتّى هذا الوقت"
"وهذا الحقل أليس لك؟"
"لا أيّها السيّد الضيف هذا الحقل لهذه المرأة، مات زوجها بالمرض، وهي وأطفالها مرضى، ولم أجد من يحرث لها حقلها، فقلت أحرثه أنا وأترك حقولي إلى أن يُتاح لي ذلك"
وأطرق الملك لقمان، ووجه الفلاّح يتراءَى أمام عينيه بذقنه كثّة الشَّعر وشاربيه الطويلين وأنفه المعقوف قليلاً وعينيه حادّتي النظرات وحبّات العرق الراشحة من جبينه، وما لبث أن انحنى إلى أن لامست راحتا يديه الأرض، ليجثو على ركبتيه ويسجد أمام الفلاّح، ويظلُّ ساجداً للحظات مستشعراً الرّاحة والطمأنينة، ثمَّ يرفع رأسه ويضع راحتيّ يديه على ركبتيه، ويظلُّ جاثياً أمام الفلاّح الذي لم يكن يعرف ما الذي يقوم به الملك لقمان، فهتف متسائلاً:
"ماذا تفعل أيّها السيّد الضيف؟"
فهتف الملك لقمان بخشوع:
"إنّي أسجد لك لأنّي اقتنعت أنّك حقّاً إله!"
لم يكن الفلاّح الإله يعرف معاني السُّجود ودلالالته، ولم يكن يعرف أنَّ ثمّة آلهة يُعبدون أو يسجد لهم، غير أنّه أدرك بإحساسه أنّ ما قام به الملك لُقمان هو أرقى أشكال التعبير عن الاحترام والتّضامن العميقين في مفهومه، ففكّر ملياً للحظات بالطريقة التي سيبادل بها الملك لقمان الشّعور ذاته، لإحساسه بمعاناته وتضامنه معه، فلم يجد إلاَّ أن ينحني ويسجد له كما فعل هُوْ، وليرفع رأسه ويجثو أمامه؟ ليبدو الاثنان جاثيين واحدهما في مواجهة الآخر,فهتف الملك لقمان:
"لِمَ فَعلت ذلك أيّها الإله؟"
"خِفت أيّها السيّد الضَّيف إن بادلتك الاحترام العميق بطريقتي أن تظن أنني لا أبادلك الشّعور نفسه، فقلت أفعل كما فعلت أنت!"
أدرك الملك لقمان أن الإله الفلاّح لم يكن يعرف ماذا يعني السُّجود وأنّه قد لا يعرف العبادة أيضاً فهتف:
"كنت أفضّل أيّها الإله أن تبادلني شعورك بطريقتك أو بالطريقة التي تتبادل فيها ورعيّتك الشّعور بالاحترام!"
ففتح الإله صدره وأشرع يديه على وسعهما، ففعل الملك لقمان مثله وراحا يدنوان بجسديهما إلى أن تعانقا وتحاضنا، وقلب الملك لقمان الإله على جنبه وراح يتقلّب هُوَ وإيّاه فوق تراب الحقل وهما يتحاضنان ويضحكان.
انفصلا ونهضا وهما ما زالا يضحكان، وراحا ينفضان التُّراب عن ثيابهما.
"كم أنت طيّب أيّها السيّد الضيف"
"لست أطيب منك أيّها الإله"
ودنا الملك لقمان من الثورين، أخذ الشاقول وأمسك قبضة السكّة
ثبّت الشاقول فوق سكّة المحراث ونهر الثورين اللذين كانا أعجفين وهزيلين.
هتف الإله الفلاّح:
"لِمَ تتعب نفسَك أيّها الضّيف؟"
فهتف الملك لقمان:
"إن لم أتعب مع الله فمع من سأتعب إذن؟"
"هذا لا يصح فأنت ضيفي وواجبي إكرامك لا تشغيلك"
"وأنا واجبي أن أعمل من أجل الله أينما عثرت عليه، هيّا ابتعد عنّي ودعني أعرف كيف سأشتغل، يُستحسن أنْ تخرج من الحقل. قف هُناك إلى جانب المرأة والأطفال أو إلى جانب زوجتي!"
وأذعن الإله ليخرج من الحقل ويقف بين المرأة وأطفالها والملكة نور السَّماء.
هتف الملك لقمان:
"هل بذرت الحقل كُلّه أيّها الإله؟"
"لا أيّها الضيف بذرت ما أقدر على حرثه هذا اليوم"
"إذن هيّا أكمل بذر الحقل"
"لن نقدر على حرثه كُلّه أيّها الضيف وإذا ما تأخرت غداً ستسبقني الطيور وتنقر البذور"
"يا أخي خلّصني ولا تظن أنني سأحرث بطريقتك!!"
وظلَّ الإله متردداً إلى أن رأى "الملك لقمان" يرفع الشاقول مرّة ثانية وينهر الثورين هاتفاً "هووه" وإذا بالعافية تدبّ في جسديهما ليعودا في أوج عنفوانهما وقوّتهما، ويندفعا أمام المحراث بكل حيويّة، فأخذ جراب البذور وشرع يبذر الأرض.
أعاد الملك لقمان تثبيت الشاقول فوق السِّكّة ليضبط سيرها والعمق الذي تشق فيه الأرض، ونظراً للسرعة التي راح الثوران يندفعان بها فإنّه لم يعد في مقدوره متابعتهما والسيطرة عليهما إلاَّ جريَّاً، ليقطع الحقل خلف الثورين ذهاباً وإياباً.
هتف الملك لقمان:
"هيّا أيّها الإله أسرع بالبذار أسرع"
ولم يعد الإله قادراً على تمييز شكل الثوريين والملك لقمان، للسرعة الهائلة التي راحوا ينطلقون بها، حتّى بدوا له كشبح يقطع الحقل ذهاباً وإياباً، فأسرع في نثر البذار في الحقل.
أنهى الملك لقمان في دقائق حراثة الحقل التي كانت تتطلّب مع الإله بضعة أيّام، أوقف الثورين ومسح بسبّابته قطرات قليلة من العرق رشحت من جبينه.
هرع الإله وهو يهتف:
"لقد أجهدت نفسك أيّها السيّد الضيف، وبذلت كُلَّ قوّتك وقدرتك من أجلي، إنّي لعاجز عن شكرك"
"أنا لم أفعل من أجلك شيئاً بعد أيّها الإله، تعالَ لنفك النّير عـن الثورين كي يستريحا"
وشرّع يُساعد الملك لُقمان في فك النّير عن الثورين وهو يتساءَل كيف أمكنه أن يعيد للثورين صحتهما؟ فأشار إليه الملك لُقمان أن يؤجّل أسئلته إلى ما بعد فروغه من العمل.
أخرجا الثورين والمحراث من الحقل. أشار الملك لُقمان بحركة من يده وإذا بحوضٍ كبير يمتلئ بماء رقراق يتوضّع إلى جانبه طِوالة ملأى بالشّعير.
وألقى الملك لقمان نظرة نحو المرأة وأطفالها، فأزال هُزالهم وأعاد العافية إليهم دون أن يسألهم عن مرضهم.
أدرك الإله أنّه أمام رجل ذي قوى خارقة، فلم يعد يسأل، خاصَّة وأنّه أشار إليه أن يؤجَّل أسئلته إلى ما بعد.
وضع الملك لقمان يده على كتف الإله وسأله:
"قل لي أيّها الإله؟"
"نعم أيّها السيّد الضيف"
"هل هذه الحقول المحيطة بالبلدة كُلّها لك ولرعيّتك؟"
"أجل أيّها الضيف"
وراح الملك لقمان يشير بحركات من يديه في كل الاتجاهات، ليبذر ويحرث الأرض غير المحروثة، حتّى ما لا يدركه البصر منها.
جلس الإله أرضاً وأطبق بيديه على جانبي رأسه وقد أخذته الدهشة، وراح يرقب ما يفعله ضيفه دون أن يتكلّم.
أشار الملك لقمان بحركة نحو الحقل أمامهم وإذا بالأمطار تهطل والزرع ينبت ويأخذ في النموّ ليغدو زرعاً بطول ذراع، وراح الملك يوزّع حركاته لتهطل الأمطار وينبت الزّرع في كل الحقول.
ونظر الملك لقمان نحو أرض جبليّة قاحِلة وأشار بيده ثلاث مَرّات وإذا بقطيع من الأبقار يزيد تعداده على خمسة آلاف بقرة وثور، وقطيع من النّعاج يزيد تعداده على عشرة آلاف نعجة، وقطيع من المعز يزيد تعداده على خمسة عشر الف ماعز؟ تسرح على سفوحها، وأشار بحركة رابعة وإذا بالمنطقة الجبليّة تتضرّج بخضرة الرّبيع وتزهو بآلاف الأشجار والنباتات.
ونظر الملك لقمان نحو الإله وإذا بالدّهشة تعقد لسانه، فانحنى وأخذه من عضده وأوقفه وربت على ظهره.
"ما بك أيّها الإله؟"
نظر الإله في وجه الملك لُقمان وهتف:
"ما أنت أيّها الضيف؟"
"أنا إنسان أيّها الإله"
فهتف الإله:
"أنا إنسان وإله أيضاً ولا أستطيع أن أفعل أي معجزة من هذه المعجزات التي تفعلها أنت"
"بل أنت تفعل ما هو أهم أيّها الإله!"
"كيف؟"
"أنتَ قادر على أن تشقى وتكد وتتحمّل مسؤوليّة رعيتك وتقسو على نفسك، أما أنا فلست قادراً على ذلك، وأنت بسيط كنبتةٍ ونقيّ كالماء، وطيّب كالثّمار، ومحبّ كعاشق، ومخلص كعبد، وعادل كالكون، وأجزم أنني عاجز عن أن أكون بسيطاً ونقيّاً وطيّباً ومحبّاً ومخلصاً وعادلاً مثلك"
"إنّك لتحرجني وتخجلني أيّها الضيف بإغراق كل هذه الصِّفات النّبيلة عليّ"
"إله وتشعر حتّى بالحرج والخجل؟ أي إله أنت؟"
"كنت أظن أنني إله أيّها الضيف إلى أن رأيت ما فعلته؟
"أقول لك أنني لست إلهاً"
"إذا لم تكن أنت إلهاً بقدراتك الخارقة هذه، فماذا سأكون أنا؟"
"لن تكون إلاّ إلهاً أيّها الإله، فالإله لا يكون إلهاً بما يُحدِثه من خوارق، الآن تعال لنجلس قليلاً ونتحدّث"
كان على مقربة من الحقل قطعة أرض يباس، فأشار الملك لقمان بحركة من يده وإذا بها تتحوّل إلى روض صغير.
دعا الملك لقمان الإله إلى مائدة أفردت على الرّبيع، وجاءت الملكة نور السَّماء مصطحبة المرأة والأطفال، فجلسوا جميعاً أرضاً في ظلال الرّوض.
قدّم الملك لُقمان تفّاحة للإله وأخذ هو واحدة وقرّبها من فمه، وهو يهتف مخاطباً الإله:
"لم تقل لي ما اسمك أيّها الإله؟"
فهتف دون تردد وهو يلوك قضمة من التفّاح في فمه:
"اسمي كنعان أيّها الضيف!"
كان الملك لقمان قد أخذ يَعُض التّفاحة ليأخذ منها قضمة، وحين هتف الإله باسمه توقّفت أسنانه عن متابعة قضم التّفاحة، وسكنت نظراته، فهتف الإله كنعان:
"ما بك وكأنّك تجمّدت أيّها الضيف؟"
وظلّ الملك لقمان ساكِناً مركزّاً نظراته على وجه الإله دون أن يجيبه، فظنّ الإله كنعان أنّ اسمه نذير شؤم، وإلاَّ لما جمد ضيفه بهذا الشكل:
"أعتذر أيّها الضيف كوني أحمل هذا الاسم!"
تابع الملك لقمان قضم التّفاحة وراح يلوك القضمة في فمه، وما أن ابتلعها حتّى هتف:
"لا عليك أيّها الإله فاسمك جميل، وكُلُّ ما في الأمر أنّك ذكّرتني باسم جدّي الأوّل في الوقت الذي يبدو لي أنني لا أريد أن أتذكّره!"
"وهل يُضيرك أن تتذكر اسم جدّك أيّها الضيف؟"
"ثمّة جُرح في قلبي أيّها الإله أريده أن يندمل، ويبدو أنني أُحاول ذلك عبثاً!"
"أنت بكلّ قدراتك أيّها الضيف وتحمل جروحاً في جسدك ونفسك؟"
"ومن في مقدوره أن يبرأ من جروحه أيّها الإله؟"
"أنت القادر على إشفاء الناس من جراحِهِم وأمراضِهم لست قادراً على إشفاء نفسك؟"
"للأسف أيّها الإله لست قادراً، رُبّما لأنّها جراحى، ولو كانت في شخص غيري لسهل الأمر"
وأطرق الملك والإله للحظات تساءَل بعدها الإله:
"لم تعرّفني على نفسك أيّها الضيف؟"
"أدعى لقمان أيّها الإله، وأنا ملك على بعض قوى الجن"
"ملك؟ كل قدراتك الخارقة هذه ولستَ إلاَّ ملكاً؟"
"أجل أيّها الإله، ماذا تظنني إذن؟"
"كنت أظنّك كبير آلهة السَّماء!"
"وهل تعتقدون بوجود آلهةً أكبر منكم في السَّماء؟"
"أجل أيّها الملك، لكن، لم نجزم بذلك بعد!"
"وهل تؤمنون بهم؟"
"لم يظهروا لنا، ولم يطلبوا إلينا أن نؤمن بهم!"
"يمكن أن يكونوا مجسّدين في السَّماء ذاتها، أو الكواكب والنجوم!"
"لا أيّها الملك، نحن لا نظن أنّ هذه آلهة!"
"ما مفهومكم لهذه الآلهة إذن؟"
"قد تكون أقوى مِنّا"
"ولماذا هي أقوى منكم؟"
"لأنّها تقطن الأعالي وعالمها غير عالمنا!"
"وهل تظنّون أنّها خالقة للسموات والكواكب والنّجوم، وهي من ينزل الأمطار، وما إلى ذلك؟"
"نحن لم نفكّر في هذه الأمور أيّها الملك!"
"ولِمَ لا تفكّرون؟"
"لأننا نعتقد أنّ كُلَّ شيء وجد وحده دون أن يوجده أحد فهو ليس في حاجة إلى تفكير!"
"والمطر من ينزله؟"
"ينزل وحده!"
"ألا يمكن أن يكون المطر منياً لإله السَّماء، هطل خلال مضاجعته لأنثاه الأرض؟!"
وراح الإله كنعان يضحك دون أن يقدر على التوقّف، إلى أن هتف الملك لقمان:
"زعلت منك أيّها الإله!"
"لِمَ أيّها الملك؟"
"أنت تضحك على دين أجدادي!"
"ماذا تقصد بالدين أيّها الملك؟"
"أنتم لا تعرفون حتّى ما هو الدين؟"
"لا أيّها الملك، لا نعرف!"
"عجيب أمرك، إله ولا تعرف ما هو الدين، ألا يتعبّد قومك لك؟"
"قلت يتعبّد؟!"
"ولا تعرف أيضاً ما هو التعبّد؟"
"لا أيّها الملك!"
"ماذا تعرف إذن أيّها الإله؟"
"أعرف أن أكدح مع قومي كي نحيا بشكل أفضل!"
وأسقط في يد الملك لقمان فهتف:
"حسناً أيّها الملك، ما نتحدّث حوله أنا وأنت هو في مفهومنا دين! وقد كان بعض أجدادنا يعتقدون أنّ المطر ينجم عن مضاجعة إله السَّماء لآلهة الأرض، لتنجم عن هذه المضاجعة الحياة!"
"أعتذر أيّها الملك إذا أزعجتك بضحكي"
"لا عليك أيّها الإله، إنّك تدهشني ببساطتك إلى حد أجد فيه نفسي عاجزاً عن فهمك!"
"لِمَ أيّها الملك؟"
"مثلاً أنا لا أعرف من أين جاءكم هذا المفهوم للألوهة؟"
"من الحكم بالعدل أيّها الملك، فكلمة إله عندنا تعني الحاكم بالعدل!"
"آها! يبدو لي أنني سأفهمك جيّداً بعد الآن، يا ليت لو تحدّثني قليلاً عن شؤون بلادكم"
"بلادنا كبيرة جدّاً أيّها الملك، إذ فيها أكثر من ألف قرية ومدينة، وتحيطها بحار كبيرة لا نعرف ماذا بعدها، لأننا لا نستطيع عبورها بسفننا"
"هذه ليست كبيرة جدّاً أيّها الإله"
"بل كبيرة أيّها الملك، فبعض المناطق فيها يستغرق الوصول إليها أكثر من شهرين على أسرع الإبل!"
ضحك الملك لقمان هذه المرّة وهو يهتف:
"حسناً أيّها الإله يمكنك أن تتابع"
"كُلّ قرية أو مدينة في هذه البلاد يحكمها إله ويتولّى شؤونها ورعايتها، ونظراً لأننا ننتمي إلى بلد واحد وجذور عرقيّة واحدة، ونتكلّم لغة واحدة، فإننا نتبع الطريقة ذاتها في الحكم وتوزيع الثروة، ونخضع لنظام اتحّادي يشمل جميع مدننا وقرانا، ويحكم هذا الاتّحاد مجمع الآلهة الكبرى، الذي يقطن أكبر مدينة في البلاد، ولا يتدخل هذا المجمع في شؤون المدن والقُرى إلاَّ إذا اختلَّ ميزان العدالة فيها!"
"وكيف توزّع الثروة عندكم أيّها الإله؟"
"الأرض تقسّم حسب طاقة عمل الأسرة وعدد أفرادها، فإذا كانت أسرتك من عشرة أفراد فإنّ الأرض التي تُعطى لك لتعمل فيها، هي ضعف الأرض التي تُعطى لأسرة من خمسة أفراد، وهذا ينطبق على المواشي"
"هل هذا يعني أنّك ستوزّع المواشي التي وهبتها لك على كافة أُسر البلدة أيّها الإله؟"
"بالتأكيد أيّها الملك"
"وماذا يحدث للمحصول والغلّة التي تزيد عن حاجة الاسرة؟"
"توزُّع على الأسر التي لم تغِل أراضيها ومواشيها بشكل جيّد، أو التي استهلكت غلالها ومحاصيلها لسبب ما، وما يزيد عن حاجة البلدة كُلّها، يرسل إلى المجمّع الإلهي ليوزّعه على القُرى والمدن المحتاجة"
"وهل ترسلونه دون مُقابل؟"
"لا، يُرسلون بدلاً منه ما نحتاج إليه"
"وإذا لا تحتاجون إلى شيء؟"
"نحن في الغالب نحتاج إلى أشياء أيّها الملك"
"ألا تتعاملون بالنقد؟"
"ماذا تعني بالنقّد أيّها الملك؟"
"العملة، أو النّقود أيّها الإله"
"لم أفهم ماذا تقصد أيّها الملك"
"شيء جيّد أنكّم لا تعرفونها ولا تتعاملون بها أيّها الإله، لكن ألا يوجد عندكم صناعة؟"
"بلى، نحن نصنع كُل ما يحتاج إليه المرء من كساء وأوانٍ وأدوات للطعام والشراب والمنـزل والزراعة، ونصنع القوارب والأدوية"
"وكيف تقسّمون العمل في هذا المجال؟"
"حسب عدد أفراد الأُسرة العاملين"
"كيف أيّها الإله؟"
"إذا كان العاملون في الأسرة ثلاثة أفراد غير الأُم على سبيل المثال، فإنّ أحدهم يعمَل في الزّراعة والثاني في الرّعي والثالِث في الصِّناعة"
"والأم ماذا تعمل؟"
"الأم حُرّة في أن تعمل ما تشاء وتساعد من تشاء بعد إنهاء عملها في البيت"
"والفتاة"
"لا فرق في العمل عندنا بين الفتاة والرّجل أيّها الملك، فالجميع يعملون"
"وماذا عن التعليم، ألا تعلّمون أولادكم القراءَة والكتابة؟"
"لا أعرف ماذا تعني بالضبط أيّها الملك، لكن إذا تقصد أن نحوّل الكلام إلى صور نستطيع أن نفهمها فقد جاءَ نا رسول من مجمّع الآلهة يقول أنّه سيعلّم أبناءَنا تصوير الكلام!"
"هذا ما قصدته فعلاً أيّها الإله، ماذا عن الزّواج عندكم؟"
"المرأة عندنا هي من تختار رجلها أيّها الملك، وفي الغالب تبقى معه العمر كُلّه، وإذا ما حصل خلاف فإنّهما ينفصلان، وقد تتزّوج المرأة رجلاً آخر أو تبقى دون زواج"
"وهل يحق للمرأة غير المتزوّجة أن تعيش حُريّتها في أن تُمارس الحب مع رجل دون زواج؟"
"هذا حقّها الطبيعي أيّها الملك"
"حتّى الفتاة البكر؟"
"طالما أنّ المرأة ليست متزوّجة فهي تعيش حرّيتها الكاملة، حتّى في أن تنجب دون زواج وبناء أُسرة متكاملة"
"وإلى من ينسب الأبناء أيّها الإله؟"
"إلى أمّهاتهم أيّها الملك"
"وما هي نظرتكم بشكل عام إلى العملية الجنسيّة أيّها الإله؟"
"نرى فيها ما يعمّق المحبّة أيّها الملك ويساعد النّفس على الطمأنينة والحفاظ على الطّهارة"
"أشكرك أيّها الإله، لقد زدتني معرفة لم أفكّر فيها في حياتي!"
"أية معرفة أيّها الملك!"
"معرفة البساطة أيّها الإله!"
"هذه ليست معرفة أيّها الملك"
"بل هي المعرفة عينها، أجدادنا نحن عقّدوا المسائل أكثر مما تحتمل، فكانت النتيجة أن عقّدونا!"
ونهض الملك لقمان هاتفاً:
"أستودعك أيّها الإله"
ونهض الإله وهو يهتف:
"هل ستنصرف دون أن أُكرمك أيّها الملك؟"
"لقد أكرمتني بصدقك وطيبتك ومحبّتك أيّها الإله وهذا أفضل إكرام"
"ولن أراك مَرّة ثانية أيّها الملك؟"
"آمل أن يتاح لي ذلك أيّها الإله"
"وأين ستذهب الآن؟"
"إلى ما وراء البحار التي تحيط ببلادكم أيّها الإله"
"وهل تتوقّع أن تجد فيها أحداً؟"
"أكيد أيّها الإله، لم لا يكون فيها أحد؟"
وتعانقا بحرارة وكأنّهما صديقان منذ قرن!
صعد الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى العرش الطائر. حلّقا فوق البلدة ليشفيا جميع المرضى من أمراضهم ويتابعا رحلتهما فوق القرى والبلدات والمدن ويغدقا الخير عليها.
* * *
ين كان الملك لقمان والملكة نور السَّماء يقتربان من بلدة كبيرة رأيا آلاف الناس يصطفون في أرتال طويلة ويحملون أكياساً على أكتافهم، وقد انتشر من حولهم آلاف الحمير والجمال، فهبطا إليهم. سأل الملك لقمان أحد الناس عمّا يدعوهم إلى الاصطفاف فأخبره أنّهم ممن نفدت غلالهم ومحاصيلهم، وأن إله البلدة يقوم بتوزيع احتياطي المحاصيل والغلال عليهم، انتقل الملك لقمان والملكة نور السَّماء إلى مقدّمة الأرتال حيث كان الإله يُشرف على توزيع المحاصيل والمنتوجات.
كان هناك ثلاثة أرتال من المواطنين، أحدها يأتي بالحبوب والثاني بالسَّمن والجبن والجميد والثالث بالقماش والملابس، ويضعون كل نوع على حده، ليقوم موزّعون بتوزيعه تحت إشراف الإله، الذي كان يتنقل هُنا وهُناك بين مراكز التوزيع الثلاثة ويسأل الناس عن أحوالهم ويستمع إلى مطالبهم.
حيّا الملك لقمان الإله فردّ عليه التحيّة بأطيب منها، واعتذر إليه لعدم تمكنه من القيام بواجب الضّيافة لانشغاله بتوزيع احتياطي المحصول على السُّكان، فأبدى الملك لقمان شكره وأعلن أنّه ما جاء إلاَّ للمساعدة إذا كان الأمر يتطلّب ذلك، فراح الإله يشكو همومه بقلب مجروح:
"آه أيُّها الضيف العزيز وأيّتها الضيفة المحترمة، من يقدر على مساعدتي ويشيل قليلاً من الهم عن قلبي! حتّى مجمع الآلهة الذي أرسلت إليه رسولاً أطلب مساعدته لم أتلقَ منه شيئاً حتّى الآن، لقد ضُرِب معظم محصول أرضنا ومواشينا هذا الموسم واستهلكنا الفائض كُلّه، وها نحن نوزّع الاحتياطي بعد أن طلبنا إلى الناس إحضاره، وأخاف ألاّ يكفي جميع المحتاجين ولا تأتينا مساعدة من مجمّع الآلهة، أو قد تتأخّر كثيراً"
راح الملك لقمان يواسيه وهو يتجوّل هو وإيّاه بين مراكز التوزيع التي أخذت إمداداتها تقل وما زال الآلاف ينتظرون في الأرتال.
توقّف الملك لقمان والإله إلى جانب مركز توزيع الحبوب، كان ثمّة فلاّح ينزل عدلين من الحنطة عن حماره وهو يهتف مخاطباً الإله:
"أُقسم يا إلهي إنني اقتطعت هذين العِدلين من مؤونة البيت، وأنّ ما بقي عندي لا يكفي مؤونة الأولاد إلاَّ بما يعادل وجبة واحدة في اليوم"
وما أن أنزل الفلاّح العِدلين وراح يقرّبهما إلى جانب العدول المتبقية في مركز التوزيع، حتّى مَدّ الإله يده ووضعها على كتفه وهو يهتف "مبارك أنت يا جُليّات ومباركة أرضك"
ولمّا سمع الملك لقمان اسم جُليّات حدّق إليه متعجبّاً وراح يتأمّل ملامح وجهه بمودّة بالغة. وحين استدار جُليّات إلى حماره وجد عليه عِدلين آخرين، فلم يصدّق عينيه، والتفت إلى الإله متسائلاً:
"ألم ترني أُنزِل العِدلين عن الحمار يا إلهي؟"
"بلى يا جُليّات!"
"من أين جاء هذان العِدلان إذن؟"
فهتف الإله:
"نحن في حضرة ضيفين مباركين يا جُليّات"
وراح جُليّات ينظر إلى الملك لُقمان والملكة نور السَّماء بدهشة، فدنا الملك لقمان من الحِمار وهو يهتف:
"هيّا يا جُليّات ساعدني في إنزال العِدلين"
فحلف عليه الإله وجُليّات ألاّ يتعب نفسه، فأصَرَّ على موقفه.
وما أن أنزل الملك لُقمان وجليّات العِدلين عن الحمار حتّى هتف الملك لُقمان:
"لننزل العدلين الآخرين يا جُليّات!"
فالتفت جُليّات وإذا بعدلين آخرين على الحمار، ولم يتح له الملك لقمان التعبير عن دهشته، فقد أمسك بالعِدل وطلب إليه أن يمسك بالعدل المقابل وهو يهتف" هيّا أسرع يا جُليّات" وأوعز الملك لقمان إلى قوى الجن لتحمل عنهما، فأحسَّ جُليّات بالعِدل خفيفاً بين يديه، فهتف:
"إنَّه خفيف أيّها الضيف"
فهتف الملك لقمان:
"لا عليك يا جُليّات هيّا أسرع حتى لا تتكدّس العِدول على ظهر الحمار فينوء بها"
ولم يعد جُليّات يتحرّك من جانب الحمار، وظلَّ واقِفاً في مواجهة الملك لقمان، وكُلّما أمسكا عِدلين أنزلا وحدهما عن الحمار ليظهر مكانهما بدلاً منهما، إلى أن امتلأت الساحة بالعُدول التي راح الجن يكدّسونها بانتظام إلى أن شكّلت تلالاً.
دنا الملك لُقمان من جُليّات ووضع يده على كتفيه. كان يقف هو والإلـه ومئات الناس وهم في غاية الذّهول، وكان ثمّة عدلان على الحمار، هتف الملك لقمان وهو يشير بيده:
أُنظر يا جُليّات"
وحين نظر جُليّات رأى قافلة من الجمال محمّلة بالعدول يقودها رجال، تمتد من خلف الحمار عبر طريق البلدة، ثمَّ عبر الطريق الجبليّة التي قدم منها، لتلوذ خلف الجبال دون أن يرى نهايتها، فهتف مُغتبطاً مشدوهاً!
"ما هذا أيّها الضيف العزيز؟"
"هذه غلالُك وجِمالُك يا جُليّات، فخذ منها ما تشاء وامنح منها للناس مـا تشاء، أمّا الرّجال فسينصرفون بعد أن ينزلوا الأحمال"
وأشار الملك لقمان بحركتين متتاليتين من يده، وإذا بقافلتين أُخريين من الجمال كل قافلة من خمسة آلاف جمل، قافلة تحمل الملابس والأقمشة وقافلة تحمل الجبن والسَّمن والجميد.
صافح الملك لقمان الإله وجُليّات مودّعاً وعيناه تغرورقان بالدّموع دون أن يعرف أحد من سُكّان البلدة لماذا دمعت عيناه، وصعد هو والملكة نور السَّماء إلى العرش الطائر ملوّحاً لآلاف الناس بيده، والدّموع تنزلق على وجنتيه.
* * *
راح الملك لُقمان والملكة نور السَّماء يتابعان تحليقهما على العرش الطائر.. وفيما كانا يعبران السّهوب شاهدا قافلة تضمُّ قرابة ألف جمل، محمّلة بالمحاصيل والمنسوجات المرسلة من مجمّع الآلهة إلى مدينة منكوبة، فضاعفا جمالها وحمولتها عشر مرّات، وتابعا تحليقهما فوق السُّهوب والجبال إلى أن شاهدا آلاف الناس يغادرون مدينتهم في أرتالٍ طويلة ويتسلّقون سفح جبل كبير وهم يدقُون طبولهم ويرقصون ويهزجون، وقد تقدّمهم رجل كهل يسير متوكّئاً على عصا. وحين اقترب الملك والملكة من الناس تبيّن لهما أنّهم لم يكونوا فرحين، بل إن معظمهم كانوا يبكون، فسأل الملك لُقمان أحدهم عن أمرهم، فأخبره أنّ الجدب حَلَّ بمدينتهم لأربعة أعوام متتالية وأنّ إله المدينة "إليَسَعْ" بات مدركاً أن مدينته أصبحت عبئاً على مجمع الآلهة وباقي البلاد فقرر أن يُضحّي بنفسه كي ينبت الزّرع ويعم الخير على سُكّان المدينة، وعرف الملك لقمان والملكة نور السَّماء أن الناس سيقومون بعد قتل الإله بتقطيع جسده إلى قطع صغيرة ليأخذ كلُّ فلاح قطعة ويدفنها في حقله ليخصب الحقل!
طار الملك لقمان والملكة نور السَّماء ليُحطّا أمام الإله "إلَيسع" الذي بلغ قمّة الجبل ووقف مُتكّئِاً على عصاه والناس يرقصون ويغنّون ويـبكون من حوله. حيّاه الملك فرد الإله التحيّة بصوت هادئ، وعبثاً حاول الملك لقمان إقناع هذا الإله مُطلق العظمة بالعدول عن التضحية بنفسه، ليجد نفسه لأول مرّة غير قادر على فعل شيء ليغيّر الوضع وينقذ الإله، فراح يتوسَّلُ إليه واعِداً إيّاه بإنبات الزّرع وإخصاب الحقول والبساتين وتسمين المواشي وإكثارها، دون جدوى، وكان للإله "إليسع" عذره حين هتف:
"إنّي أرجوك أيّها الضيف ألاّ تفعل ذلك إذا كنت حقّاً قادراً على صُنع المعجزات، لأنك قد تُفسد بفعلتك الناس والآلهة فتجعل الناس ينبذون التّعاون، والآلهة يتخلّون عن التّفاني والتضحية من أجل البشر!"
فوجد الملك لقمان نفسه مضطراً إلى احترام وجهة نظر الإله والامتثال إلى رأيه، فانتحى هو والملكة جانباً، وراحا يرقبان ما يجري بخشوع، وسط طقسٍ سادته الرَّهبة.
احتشد آلاف الناس على قمّة الجبل ليحيطوا بالإله "إليّسع" من كل جانب وهم يرقصون ويغنّون ويدقّون الطّبول والدّموع تنحدر على وجناتهمْ، ولم يجد الملك لقمان والملكة نور السَّماء نفسيهما إلاّ وهما يبكيان معهم ويشرعان في الرّقص!
مُدّد جسد الإله على بطنه فوق منضدة خشبيّة كبيرة وأشهر رجل قويّ سيفه وأشرعه في الهواء بطول يده وهو يدور حول نفسه ببطء، لتضرب الطّبول بكل عُنف وتدق الأقدام الأرض بقوّة وترتفع الأصوات بِكُلِّ طاقتها مرددة الأهازيج.
استقام الرجل منتصباً إلى جانب المنضدة ورفع سيفه إلى أعلى وأهوى به على عُنق الإله ليفصِل رأسه عن جسده وسط طقسٍ شابه الجنون والتعقّل، الصخب والعُنف، الصُّراخ والدّموع، الرقص والغناء.
انبجس الدَّم غزيراً من جسد الإله، وارتعشت يداه ورجلاه وأجفانه وشفتاه، وما لبث جسده أن همد وسكن.
اندفع العشرات من الرّجال والنّساء وراحوا يمدّون رؤوسهم على أطراف المنضدة كاشفين عن أعناقهم، ليضحّوا بأنفسهم تضامناً مع الإله.
فشرع سيف الرَّجل يهوي على أعناقهم لتسقط أجسادهم وتتدحرج رؤوسهم من على المنضدة، وقد أثار الدَّم وقطع الرؤوس الرّجل فهاج وماج وشرع يَبتُر كُلَّ رأسٍ يمتد أمامه على المنضدة فبتر مائة رأس، ولم يتوقف إلاَّ بعد أن صرخ رجل بالناس أن يتوقّفوا عن التضحية بأنفسهم، فتوقَّفوا وسط صخب الطّبول ودق الأرض بالأقدام وارتفاع الصُّراخ.
شرع السيّافون في تقطيع أوصال الإله وأوصال المضحّين، وأخذ بعض الناس يصطفون في أرتال ليأخذ كُلُّ واحد منهم قطعة صغيرة من لحم الإله وقطعة كبيرة من لحم البشر ويصرّهما في منديله ويذهب ليدفنهما في حقله، فيما كان باقي الناس يدقّون الطّبول ويرقصون ويهزجون.
اصطف الملك لقمان والملكة نور السَّماء في رتل المصطفين حين خفّت زحمة الناس، وأخذ كُلُّ واحدٍ منهما قطعتين من لحم الإله ولحم المواطنين.
حفرت الملكة حُفرة على قمّة جبل التضحية، فيما طار الملك لُقمان إلى جبل آخر، وما أن دفنا القطع في الحُفرتين حتّى نبتت في كلّ حفرة شجرة تُفّاح كبيرة، وراحت أشجار التّفاح تنبت وتنمو لتكسو الجبلين وسفوحهما والوادي الفاصل بينهما، دون أن يستعين الملك والملكة بقواهما الخارقة، وحين نظر الملكان إلى الحقول التي دفن فيها المواطنون لحم الإله والبشر، شاهدو زرعها ينبت دون مطر، وأشجارها تورق وتثمر، لتتضرّج كل الحقول بالخضرة، ويتقاطر المواطنون ليعودوا إلى قمّة الجبل ويشرعوا في الرّقص والفرح.
وهُنا أدرك الملك لقمان أنّه في مقدوره أن يقدّم للناس ما يشاء دون أن يعرفوا أنّ ذلك من فِعله، فأشار بحركات متتالية من يده وإذا بقطعان الأبقار والجمال والنّعاج والمعز تملأ السُّفوح والجبال، واندفع هو والملكة يرقصان مع الناس إلى أن تعبا، فطارا ملوّحين لهم مودّعين.
* * *

هبطت "نسمة" من المركبة محلّقة على فرسها الحوريّة لتدور حول العرش الطائر وهي تهتف "عمّو عمّو" وحين اقتربت الفرس من العرش مَدَّ يديه وأخذها وراحا يتعانقان ويتحاوران حول الحياة في السَّماء.
كانت الشمس تجنح إلى المغيب فشاهد الملك لُقمان الغروب لأوّل مَرّة في السماوات، غير أنّه لم يعرف فيما إذا كانت الشمس تغيب غرباً أم في اتّجاه آخر فسأل الملكة نور السَّماء، فأجابت:
"نحن الجن لا نظنُّ أنّ الشُّموس تغيب إلاَّ غرباً يا حبيبي"
"لعلّه من الأفضل في هذا الكون ألاَّ يعرف المرء الشرق من الغرب، والسَّماوات العُليا من السماوات السُّفلى، بل والا يعرف أين هو، لعلّه يحافظ على حد من توازنه العقلي!"
فهتفت الملكة:
"يُفترض أن نكون في السماوات العُليا لأننا ومنذ أن غادرنا الأرض ونحن ننطلق عمودياً إلى أعلى!"
فراح الملك يضحك فتساءَلت عمّا يضحكه فأجاب:
"أن نكون في السماوات العُليا فهذا ممكن، أما أن ننطلق عمودياً إلى أعلى، فهذه مسألة مشكوك فيها لأن كل الاتجاهات أعلى، وليس هُناك ما هو أسفل في الفضاء، حسب معلوماتي الفضائية البائسة!"
"أنت بهذا تُلغي السماوات السُّفلى يا حبيبي"
"أنا لا أُلغيها بقدر ما أجرّدها من صفتها السُّفليّة، فهي سماوات وكفى، وأينما ذهبنا لا يكون هُناك إلاَّ السماوات"
وحين حَلَّ الظلام راح الملك لقمان يبحث عن النّجوم التي كان يراها في صغره من جبال القدس، وهو يستلقي ليلاً إلى جانب القطيع، فلم يتعرّف على أيٍ منها، حتى "درب التبّانه" بنجومه التي لا تحصى لم يعد يعرف أين هو. كانت آلاف النّجوم التي لا يعرفها تتناثر في السَّماء. ما أدهشه أنّه رأى قمرين في السَّماء بدلاً من قمرٍ واحد، كانا هلالين وأحدهما أكبر من الآخر ويحلّقان في اتجاهين متعاكسين، وقد أحاطت بهما نجوم كثيرة كانت تومض وتنطفئ.
راودته فكرة أن يكونوا في "درب التبّانة" الآن، فسأل الملكة:
"هل يعقل أيّتها الملكة أن نكون الآن على كوكب في درب التبّانة؟!"
وكم كانت دهشته حين هتفت الملكة:
"أظن أننا تجاوزنا درب التبّانة يا حبيبي!"
"يا إلهي! تجاوزنا درب التبّانة بفضاءاته هائلة الأحجام والتي يعجز الخيال عن تصوّرها؟!"
"أقول أظن يا حبيبي"
"لو أننا تجاوزناه يا حبيبتي لكنا نراه في الجهة التي خلّفناها وراءَنا!"
"ربّما لأننا قريبون منه، لا نرى حجمه الهائل"
"لو أننا اصطحبنا فلكيَّاً معنا كي لا نبقى كالطُرشان في الأعراس!"
"يمكنك أن تحضر من تشاء يا حبيبي؟
"أخاف أن يدوّخوني بمعلوماتهم يكفيني ما أنا فيه!"
وهتفت "نسمة" صارخة "عمّو عمّو شوف" وحين نظر هو والملكة شاهدا مهرجاناً احتفالياً ناريّاً يخرج من الأرض إلى السَّماء، كانت أعمدة وكتل وحمم وشظايا من نار تندفع من باطن الأرض إلى السَّماء لترسم جوّاً ساحِراً خلاَّباً. أدركا أنّها منطقة بركانيّة فراحا يقتربان منها وهما يرقبان الجمال الأخّاذ الذي تشكّلُه الحمم وهي تندفع إلى أعلى لتتناثر في كل الاتجاهات وتنزل لتتدحرج على السُّفوح الجبليّة.
تمنّى الملك لُقمان ألاَّ تكون البراكين قد تفجّرت فجأة والا يكون هُناك قرى أو مدناً قريبةً منها، فيما راحت "نسمة" تتشبّث بعنقه وتلتحم بجسده متسائلة عمّا إذا كانت هذه جهنّم داجونيّة ثانية، فراح يربت على ظهرها ويُطمئنها مؤكّداً أنّ هذه ليست جهنّم، وأخذ يدعوها لأن تتفرّج على جمالها، غير أنّ "نِسمة" أبت أن ترى أي جمال في هذا المهرجان الجحيمي، وطلبت إليه أن يُطفِئه كما أطفأ جحيم داجون وحوّلها إلى بحرٍ تسبح فيه الحوريّات والناس. ونظراً لأنّه كان مَتخوّفاً من وجود قُرى أو مُدن قريبة من منطقة البراكين فقد سارع على الفور إلى التنفيذ.
هبَّ إعصار هائل فوق منطقة البراكين، فالتمعت البروق وقصفت الرّعود وهطل المطر مدراراً فوق الحمم وفوّهات البراكين، لتتصارع النيران مع الأمطار الغزيرة، ولتهدر البراكين بأصوات مخيفة وتقذف ما في أحشائها إلى أعالي السَّماء ليطاول السحب نفسها ويحيل الأمطار إلى نارٍ تهطل من السَّماء!
تجمّدت "نسمة" في حُضن الملك لقمان فضمّها بشدّة إلى جسده، وهو يُضاعف قوّة الإعصار، غير أنّ حمم البراكين هزمت الأمطار الغزيرة وأحالتها إلى شهب من نار تصل ما بين السَّماء والأرض، وأحسَّ الملك لقمان للحظات بعجز الإعصار عن إطفاء الحمم وإخماد البراكين التي راحت تهدر مدويّة في صخب وجنون، وكانت الملكة نور السَّماء ترقب ما يجري بحذر وقلق وهي تقف إلى جانب الملك لقمان واضعة يدها على كتفه، فأشارت إليه بمضاعفة الإعصار فيما هتف ملك الملوك من المـركبة متسائلاً عمّا إذا كان مولاه يحتاج إلى مساعدة.
راح الملك لُقمان يُضاعف قوّة الإعصار دون أن يجيب ملك الملوك، وظلَّ يُضاعفها إلى أن زادها سبع مَرَّات عمّا بدأت به، بحيث أخذ الماء ينصبُّ في شلاَّلات من السَّماء راحت تصارع أعمدة الشُّهب لتحيلها شيئاً فشيئاً إلى رماد، ليعمَّ المنطقة ظلام حالك لم يعد يكسر حدّته إلاَّ التماع البروق في سماء السحب الكثيفة التي غطت جبال البراكين، وكان الملك لقمان قد أمر القوى الجنيّة بأن تشق نهراً في الأرض تستقطب فيه مياه الإعصار ومقذوفات البراكين لتبعدها عن المدن والقرى ولا تدعها تمر فيها، وطلب إليها أن تنير السَّماء في المنطقة كُلّها، فانتشرت في الفضاء آلاف الشُّهب المُضيئة التي راحت تجوب السَّماء في كُل الاتجاهات لتُـحيل ليل المنطقة إلى نهار، فبدا الدُّخان الكثيف المتصاعد من جرّاء إطفاء الحمم والبراكين، وقد حجب أعالي السَّماء وغطّى قمم الجبال.
هتفت "نسمة" وهي تعدل وضع جلستها في أحضان الملك لُقمان وترقب سحب الدُّخان الكثيفة:
"طفيتها عموّ"
فربَت على ظهرها وهو يهتف:
"خلصْ طفيتها حبيبتي ما تخافي"
فاطمأنت نِسمة ونزلت من أحضان الملك لقمان لتمرح في فناء العرش.
كان ثمّة بعض القرى والمدن التي دبّ الرُّعب بين سُكّانها رغم وجود بعضها على بعد عشرات الأميال وبعضها الآخر على بُعد مئات الأميال من منطقة البراكين، فقد كانت الحمم تتناثر بعيداً في الفضاء لتقع على مقربة منها، وكانت مدينة مجمع الآلهة من بين هذه المدن، وقد خرج السُّكان في القرى والمدن المختلفة، وانتشروا في الحقول وبين الأحياء ليرقبوا الحمم القادمة نحوهم ويتلافوا سقوطها عليهم، وحين سمعوا دويّ الرّعود ورأوا سنا البروق فوق منطقة البراكين، لم يعرفوا ماذا يحدث، إلى أن شاهدوا السَّماء تُضاء بآلاف الشُّهب، فأدركوا أنّ ثمّة قوى خارقة تخوض صراعاً رهيباً مع البراكين.
شقّت قوى الجن نهراً كبيراً تحاشى جميع القُرى والمدن وقاد مياه الإعصار ومقذوفات البراكين إلى البحر. وحين رأى النّاسُ ذلك راحوا يحتشدون على ضفاف النّهر ويرقبون تحوّلاته من حمم منصهرة إلى سائل ناري إلى ماء يغلي ويفور، ثمَّ إلى ماء بارد، ليدركوا أنّ قوى الأعاصير انتصرت على قوى البراكين وأَخمدت نيرانها.
حلّق العرش الطائر بالملك لُقمان والملكة نور السَّماء يحفُّ به آلاف جنود الجن، وتنير السَّماء والأرض من حوله آلاف الشُّهب التي رافقته على ارتفاعات متوسّطة، وراحت تحلّق في السَّماء لتنير المنطقة، وكُلَّما مَرَّ العرش فوق قرية أو مدينة أَغدق الملك لقمان عليها الخيرات، إلى أن بلغ مدينة كبيرة فعرف الملك أنّها مدينة مجمع الآلهة، فقرر النُّزول إليها بعد أن ملأ جبالها وسهولها وشعابها بمئات القطعان، بقطعان إبل ملأها، وقطعان أبقار ملأها، وقطعان معز ملأها، وقطعان نعاج ملأها، وقطعان خيول ملأها، وقطعان غزلان ملأها، وأسراب طيور ملأها، وأنبت زرع الحقول، وأثمر الكروم والبساتين، ونمّا الرّبيع، وأكثر الأشجار، وفجّر الينابيع، والأنهار، وأقام السُّدود وشيَّد القصور وملأ بحر المدينة بالسُّفن المحمّلة بالحبوب، والسُّفن المحمّلة بالأحذية، والسُّفن المحمّلة بالأخشاب، والسُّفن المحملة بالملابس، والسُّفن المحمّلة بأواني وأدوات الطّعام، والسُّفن المحمّلة بالسِّجاد، والسُّفن المحمّلة بالأغطية والفراش، والسّفن المحمّلة بالحُلي والجواهر، والسُّفن المحمّلة بالدّقيق، والسُّفن المحمّلة بأطايب العطور.
كل هذه الخيرات أنزلها الملك لقمان على المدينة بحيث لم يخطر بباله شيء إلاَّ وأنزل منه عليها.
كان اسم المدينة "جلعاده" واسم إلهها عناق "أمّا كبير الآلهة الذي كان يحكم البلاد كُلَّها ويقود مجمّع الآلهة فكان اسمُه "عونائيل"
وقد احتشد آلاف آلاف الناس في ساحة مجمع الآلهة يتقدّمهم الآلهة جميعاً، وكانوا اثنين وخمسين إلهاً يمثلون جميع البلاد. وقد احتشدوا في صفوف منتظمة لاستقبال هؤلاء الضيوف الذين سبقتهم خيراتهم.
نزل مع الملك لقمان والملكة نور السَّماء ملك الملوك والملك حامينار وقائد المركبة "عزيزون" والملكة "نسيم الريح" والملكة شامنهاز، ودليلة، والأميرة ظل القمر، والأميرة ظل السَّماء والأميرة نجمة الصَّباح إضافة إلى "نسمة" وأختها "فتنة" ووالدها "سام" وأمّها "سارة" وبعض من كانوا على المركبة.
رحَّب الإله "عونائيل" والإله "عناق" بالملك لُقمان ومرافقيه، وقادوهم إلى بهوٍ متواضع في مجمع الآلهة الذي بدا معماره أقرب إلى معمار المسجد إنّما دون مئذنة، إلاَّ أنَّ قبّة كبيرة كانت تعلوه، وقد جلَس الآلهة ونساؤهم وضيوفهم تحت تلك القبّة على فراشٍ أرضي من السجَّاد.
وراح الإله عونائيل يبدي شكره العميق وشكر جميع الآلهة والبلاد كُلّها للملك لما أغدقه على المدينة من خيرات لا تنضب، فرد الملك لقمان هاتفاً: "إنَّ آلهة تُضحّي في سبيل شعوبها، وشعوب تضحّي من أجل مستقبل أبنائها لجديرة بالخير كُلّه، إن لم يعجز الخير عن إكرامها!"
وأخبر الملك لقمان الإله عونائيل والإله عِناق بأحوال بلدة الإله كنعان وبلدة الفلاّح الطيّب جُليّات ومدينة الإله "إليسع" والبلدات والقرى والمدن التي مَرّ فوقها دون أن ينزِل إليها، وأخبرهما بما أقدم عليه الإله "إليسع" من تضحية في سبيل رعيته وكيف ضحّى مائة من رجال ونساء الرّعيّة بأنفسهم معه، فحزنوا جميعاً عليه وراحوا يتنادرون بمناقبه العظيمة وخِصاله النبيلة، وأَمَر الإله عونائيل بأن يقام ضريح رمزي للإله ورعيّته المائة على قمّة الجبل الذي ضحّوا بأرواحهم عليه، ليفدِ إليه الناس في هذا الموسم من كُلِّ عام وينحروا الأضاحي من المواشي والأغنام تخليداً لذكراهم، وتذكيراً وتمجيداً بعطائهم الفذ وتضحيتهم العظيمة.
ودعا الإله عونائيل والإله عِناق الملك لقمان إلى وليمة في الهواء الطلق بين البساتين، خاصّة وأنّ الشّهب المرافقة لموكب الملك ما زالت تنير ليل المدينة، فوافقه الملك لقمان على ذلك.
هرع مُعظم أبناء وبنات مدينة "جلعاده" وشرعوا في ذبح آلاف الخِراف والجداء والعجول وإشعال النار وتحضير موائد الطّعام والشّراب، وحين حضّر الآلهة والملوك والآباء والأمهات كان الشّواء يتقلّب على النار في سفافيد نُصِبت على مئات المواقِد التي أُقيمت إلى جانب بعضها البعض.
وقد عبقت رائحة الشّواء لتعمَّ أجواء البساتين، وكان الناس يتجوّلون في جماعات حول المواقد والموائد ليأخذوا ما يريدون من الشّواء والمقبّلات، وينتشرون في البساتين وتحت الأشجار، فيما آلاف الفتيات الجميلات يقـمن بتوزيع المشروبات على الجميع في كؤوسٍ تنتظم على أطباق مستطيلة، وقد ارتدين أزياء شعبيّة ريفيّة بدت للملك لقمان أقرب إلى الأزياء الفلسطينيّة بتطريزاتها متعددة الألوان، وهو ما بدت عليه الأزياء التي يرتديها الآلهة والآباء والأمهات.
كانت الشّهب تحلّق في السَّماء لتضفي على البساتين جوّاً ساحراً، وكان كل شهب يتألّف من مجموعة نجوم تنتظم في سلسلة لتأخذ أشكالاً متعددة.
فكان منها المستقيم والمستدير والمربّع والمثلّث ومتقاطع الأضلاع والهرمي والمخروطي، وكان منها ما هو على شكل قناديل متعددة الرؤوس.
وقد بدا جميع الناس في غاية الفرح فشرعوا ينظّمون حلقات الرّقص والغناء والدبكة، وفوجئ الملك لقمان بوجود آلات كالناي والأرغول بأيدي العازفين، الذين راحوا يعزفون عليها بمهارة فائقة.
هتف الملك مخاطباً الإله عونائيل والإله عناق وهم يقفون على ناحية في البستان:
"شيء لا يُصدّق أيّها الإله أن تكون أسماؤكم وأزياؤكم وحتّى آلاتكم الموسيقية شبيهة بأسمائنا وأزيائنا وآلاتِنا الموسيقيّة، فهتف الإله عونائيل:
"لعلّنا ننتمي إلى جد واحد ذهب بعض أبنائه إلى كوكبكم وظلَّ الآخرون على كوكبنا أيّها الملك!".
"المشكلة أنّهم ذهبوا إلى أكثر من كوكب، إذ ثمّة أسماء متشابهة في كواكب كثيرة حتّى في السَّماء السابعة، لكن ماذا يعني اسمكم أيّها الإله، فهو يقترن باسم إله سماوي قديم عندنا؟!"
"اسمي أيّها الملك، يعني الإله المُعين لإقرار الحُكم بالعَدل!"
"اسم جميل حقاً أيّها الإله ودلالاته أجمل!"
"أشكرك أيّها الملك وما اسم إلهكم؟"
"اسمه إيل" وهو ما يعني "الله" بلغتنا الحديثة"
"هل كان بشراً؟"
"أظن أنّه كان كذلك، لكن بعد مرور زمن على موته قُدّس أكثر وتحوّل إلى خالق للكائنات، وأصبح مقرّه في السماوات، هل تقدّسون الآلهة والآباء والأجداد بعد رحيلهم أيّها الإله؟"
"نحن لا نقدّسهم لكننا نحزن عليهم، لإدراكنا أنّهم لن يعودوا إلى الحياة"
"ألا تعتقدون بحياة بعد الموت؟"
"وهل هُناك حياة بعد الموت كي نعتقد بها أيّها الملك؟"
"نحن نعتقد بذلك أيّها الإله".
"إذا كانت هُناك حياة فِلَم الموت إذن؟"
"لأنّ إلهنا أراد أن تتم حياتنا على مرحلتين، مرحلة في الدّنيا ومرحلة في الآخرة!"
"ولِمَ أرادها أن تتم على مَرحلتين؟"
"ربُمّا لنرى معجزاته في الخلق والموت والإحياء، وثمّة من يقولون أنّه يعاقبنا بذلك لأننا عصيناه!"
"وأين تكون الآخِرة هذه؟"
"في السموات، حيث هو وجنّته وناره"
"وهل لديه جنّة ونارَ؟"
"طبعاً، فهو لن يكون إلهاً دون جنّة ونار ويُقال أنّ عرض الجنّة وحدها بعرض السموات والأرض!!"
"والنار ألم تقل أنّها في السموات أيضاً؟"
"أنا لم أقل بل سمعت وقرأت!"
"كيف تكون النار في السموات إذا كانت الجنّة وحدها بعرض السموات والأرض، لم يبق مكان في الكون للنار وحتّى للأرض!!"
"إن شئت الحق أنا لا أعرف!"
"وماذا يفعل إلهكم في الجنّة والنار؟"
"الجنّة للأخيار من البشر ينعمون بخيراتها التي لا تنضب ويحيون فيها إلى الأبد، والنار للأشرار يحترقون فيها إلى الأبد أيضاً دون أن تنطفئ!"
"الا تحاسبون الأشرار في الحياة الدُّنيا؟"
"بلى، حتّى أننا نقطع رؤوسهم أو نشنقهم أو نُميتهم بأي شكل إذا كانت جريمتهم تستوجب الإعدام"
"ومن ثمّ يُحييهم الله ليعاقبهم هو بدوره ويحرقهم في النار؟"
"أجل، فإلهنا شديد العقاب أيّها الإله، فقد يجعلهم حطباً لجهنّم، وكُلّما أرمدوا كُلّما أحياهم ليجعل منهم حَطباً ثانية، أو أنّه لا يميتهم ويبقيهم على قيد الحياة، وكُلّما تحترق جلودهم يستبدلها بجلود أُخرى ليحرقهم من جديد، وهكذا إلى ما لا نهاية!"
بدا الإله "عونائيل" وكأنّه يسمع مالا يمكن للعقل تصوّره، فهتف:
"أستميحكم عذراً أيّها الملك إذا ما قلت أنّه يستحيل أن يكون إلهكم هذا إلهاً إذا كان كذلك حقاً!!"
"ماذا يكون إذن أيّها الإله؟"
"سفّاح مجرم، سمِّه ما شئت!"
"ونحن برأيك ماذا نكون أيّها الإله؟"
"أنتم لا تقلّون عنه إجراماً، حين تنزلون هذه العقوبات الفظيعة بالمجرمين والأشرار وأنتم تعرفون أنّ إلهكم سيعاقبهم بما هو أفظع فيما بعد، إنّ الحد الأدنى من العدالة يقتضي أن تكتفوا بإحدى العقوبتين، لكن يبدو لي أنّكم لا تثقون بإلهكم وبعقوباته!"
"يُقال أنّه غفور رحيم، وأنّه قد يُسقط حقّه في العقوبة ويقبل بعقوبة أهل الأرض، وقد يخفف العذاب!"
"وإذا لم يسقط حقّه، يعذّبه إلى الأبد؟!"
"أو إلى أن يشفق عليه أو يرحمه!"
"وهل يعيش الإنسان عندكم طوال عُمره تحت وطأة هذا الكابوس؟!"
"بل كوابيس أيّها الإله، عقاب السُّلطة، وعقاب الله، وعقاب الوالدين، وعقاب الزوج، وعقاب الأخ وعقاب المجتمع، ليس ثمّة ما هو أكثر من العقوبات والمعاقبين عندنا، وفي بعض دولنا تسلخ الشرطة والمخابرات جلود المذنبين، أو تدعهم يخمّجون في السُّجون قبل أن يمثلوا أمام العدالة الخرقاء! ويعتقد معاقبونا أنهم لن يحدّوا دون ذلك من الجرائم والآثام والذّنوب التي يرتكبها البشر على كوكبنا ودون ذلك يستحيل أيضاً أن نكون مواطنين صالحين!"
"نحن أيّها الملك لا نتوّعد الناس بأي شيء، ومع ذلك لا تُرتكب جرائم في بلادنا!"
"ألا تتوعدون أطفالكم بالحساب والعِقاب كي يكونوا صالحين في المستقبل، ويخلصوا للزعيم والإله والوالدين والوطن والحِزب والثورة والقوميّة وغير ذلك؟"
"عن ماذا تتحدّث أيّها الملك، نحن لا نتوعّد أطفالنا بأي شيء!"
"ولا يوجد عندكم مخابرات وسجون وشرطة وأحزاب وزعماء عظماء لا تقام الأوطان دونهم؟!"
"أنا أكاد لا افهم ما تعنيه بكل هذه الكلمات أيّها الملك؟"
"طيّب، جيش، ألا يوجد عندكم جيش؟"
"لا، لا يوجد جيش، لِمَ الجيش؟!"
"حيّرتني أيّها الإله عونائيل، على ماذا تنشئون أطفالكم إذن؟"
"ننشِئُهم على معاني ودلالات ثلاث كلمات فقط!"
"ثلاث كلمات فقط؟ تربّون أجيالاً على معاني ثلاث كلمات فقط؟
هل يعقل هذا أيّها الإله؟!"
"أجل أيّها الملك؟"
"ما هي هذه الكلمات السّحريّة أيّها الإله؟"
"المحبّة، العمل، التّعاون!"
"وإذا خالف إنسان أحد معاني هذه الكلمات؟"
"هذا يعني أنّه كان ثمّة خلل في تربيته وتنشئته، فنعمل على إصلاح هذا الخلل، ولا نقوم بمعقابة الإنسان!"
كانت حلقات الرّقص والدّبكة والغِناء قد انتشرت في كافة أنحاء البساتين والكروم وامتدت إلى شواطئ البحر، فصدحت الأراغيل وتنغّمت النّايات وتواترت الإيقاعات وترنَّمت الأصوات بالكلمات، وترددت من الحناجر الآهات، ودقّت الأقدام الأرض بانسجام، واهتزّت خصور الحِسان في الزّحام، وتمايلت الأجساد بين الأنام. واقتحمت دليلة حلقة رقص وهي تقود خلفها الملك شمنهور فأذهلت برقصها الحُضور وسلبت بجمالها العُقول، وأحسَّ الملك لقمان برغبة تدفعه إلى الدّبكة والرّقص فهتف إلى الإله "عونائيل" "هل ترقصون أيّها الإله؟" فهتف الإله "الرَّقص أحد أعمدة المحبّة أيّها الملك!" فمَّد الملك لقمان يده إليه ويده الأُخرى إلى الإله عِناق، وأخذت الملكة نور السَّماء بيد الإله عِناق الأُخرى فيما أخذت الأميرة "ظلّ السَّماء" بيد الإله "عونائيل" لتأخذ الأيدي في التشابك، لتتشابك كل أيدي الآلهة وزوجاتهم الإلهات، وأيدي الملوك والملكات، والشبَّان والأميرات، وسارة وسام، ليقتحموا جميعاً ساحة الرقص، حيث شكّل الراقصون عشرات الحلقات الواحدة داخل الأُخرى، فنظّموا حلقاتهم من حولهم وشرعوا قي الدَّبكة والرّقص، على أنغام الأراغيل، وإيقاعات الطُّبول.
وحين شاهد الملك شمنهور مولاه يهزّ كتفيه ويشمخ برأسه ويثني رُكبتيه ويدق الأرض بقدميه بعنف شديد، أحسَّ بفرحٍ غامر، فهتف بأعلى صوته "سلِمت يا مولاي وسلمت أيّامك ولياليك ودام فرحك" وراح الملك شمنهور يُراقِص دليلة بمرح وهو يتمنّى في سريرته أن يظلَّ مولاه فرحاً ولا يخطر ببالِه ما يخدُش شفّافيّته ويُثير أحزانه، وهذا ما كان يُراود مخيّلة الملكة نور السَّماء وهي ترقب حركات جسم الملك لقمان، وانفعالات وجهه، وأحسّت بالطمأنينة حين رأته يفرّغ كُل شحنات الانفعالات التي تنتابه بحركات عنيفة وحادّة، فكان حين يدقّ الأرض، يدقّها بكلِّ قوّة قدميه، وحين يلتفت يميناً أو شمالاً فإنه يدير رأسه بشدّة وهو يرفع عُنقه، وحين يحرّك أحد كتفيه أعلى وأسفل تحس وكأنّه يودُّ انتزاع كتفه من جسده.
أخذ العَرَق يتصبب من وجه الملك لقمان بغزارة، وكان إحساس طاغ يدفع الجميع لأن يرقصوا مثله، فراحوا يرقصون بعنف لتعمُّ عدوى العُنف آلاف حلقات الرّقص والغّناء، ولتدق الطّبول بكل صخب، وتزغرد الفتيات، وتتعالى الصيحات والصرخات. وشرع العازفون وقارعو الطّبول في الإسراع بإيقاعاتهم وألحانهم شيئاً فشيئاً، لتخلخل موسيقاهم مفاصل الأجساد، وتابعوا زيادة سرعتهم إلى أن غدت الأجساد تهتز من أخماص الأقدام إلى الرؤوس، في أسرع حركات يمكن أن يقوم بها الجسد، فيما أخذت بعض الأجساد تتهاوى على الأرض من شدّة التّعب، وبدا جسد الملك لقمان وهو يرتعد ويرتعش وكأنّ زلزالاً يجتاح ضلوعه ليرجّها جميعها، وقد أُنقِع جسده بالعرق الغزير، وبدا الإجهاد وقد أخذ منه.
صرّخ ملك الملوك بأعلى صوته وهو يدنو نحو الملك لُقمان:
"توقّفوا أيها الناس، كفى أوقفوا الموسيقى!"
توقّفت الموسيقى فجأة، ومال جسد الملك لُقمان ليهوي على الأرض، لو لم يسنده ملك الملوك والملكة نور السَّماء، اللذان كانا يتوقّعان ذلك وهما يرقبان رقصه.
أضجعته الملكة على حُضنها بمساعدة ملك الملوك، وراحت تمسح عرقه.
كان يلهث بشدّة ولم يكن قادراً على الكلام أو على فتح عينيه، وقد أحاط بِهِ الآلهة والآلِهات والملوك والملكات والأميرات" وبعض أبناء المدينة، فأشار إليهم ملك الملوك أن يبتعدوا قليلاً ليوسّعوا الحلقة، كي لا يحجبوا الهواء عن الملك، فرفع الملك لُقمان يده قليلاً وهتف: "اتركهم" وفتح عينيه لينظر الوجوه من حوله وابتسامة طفيفة ترتسم على شفتيه، وعيناه تختلجان بالدّموع.
* * *
قبلَ أن يُصافح الملك لقمان مُضيفيه من الآلهة مودّعاً، ألقى نظرة على البحر الذي قادتهم خُطاهم إليه وهم يتجوّلون بين الكروم والبساتين، وهتف:
"يمكنكم أن تمخروا عباب هذا البحر بعد اليوم لتعرفوا ما وراءَ ه، بعد أن أصبح لديكم سفن ضخمة أيها الإله عونائيل"
فهتف الإله عناق:
"أشكُّ أننا سنقدر على اجتياز هذا البحر بسهولة، فخبرتنا في البحار والسُّفن ما تزال في بدايتها، ويبدو أنّه سيمرُّ وقت طويل قبل أن نعرف ما يجري خارج جزيرتنا".
أطرق الملك لُقمان وهو يرسل نظراته بعيداً إلى عمق البحر وما لبث أن أشار إلى قوى الجن بإبعاد النّاس عن الشواطئ حتّى التي في الطرف الآخر الذي لا يراه إذا كان ثمّة أُناس عليها.
لم يتنبّه الناس لأنفسهم إلا وهم يطيرون بهدوء، وحلّق الملك لُقمان ومضيفيه ليحطّوا على هضبة عالية بعض الشيء مشرفة على البحر. وأشار الملك إلى ملاّحي الجن أن يخلو البحر في مواجهته من السُّفن وأن يقودوها إلى الشَّواطئ تاركين مسافات بينها.
راحت السُّفن تجنح يميناً وشمالاً مخلية مساحة كبيرة في عرض البحر.
رفع الملك لقمان يده اليُمنى وكأنّه يؤدّي تحيّة وأبقاها مرفوعة وهو يركّز نظراته على البحر، أخذ الماء يرتفع شيئاً فشيئاً ليشكّل سلسلة من الهِضاب المائيّة تمتد في عُمق البحر وتغيّر اتجاه الأمواج لتسيّرها عرضاً وطولاً دافعة السُّفن أمامها.
أخذ الماء ينحسر يميناً وشمالاً وبدت آلاف الحيتان والأسماك وكلاب وأفراس البحر واَلدلافين والأخطبوطات والتماسيح وغيرها من الأحياء المائيّة وهي تندفع إلى أعلى وتنطلق لتلحق بالماء المنحسر، غير أنّ بعضها لم يُسعفه الحظ فراح يزحف متخبّطاً على يابسة الأعماق التي ارتفعت فوق سطح الماء لتشقَّ البحر إلى نصفين تخللتهما ثلاثة أنفاق طبيعيّة على مسافات متباعِدة لتصل بين البحرين وتمرُّ السُّفن عبرها.
أشار الملك لُقمان إلى قوى الجن أن تسارع إلى إنقاذ الأحياء البحريّة التي لم تتمكن من اللحاق بالماء، فراحت القوى الخفيّة تحمل الحيتان والدّلافين والأفراس البحريّة وتقذفها إلى البحر لتبدو وكأنّها تندفع مُنطلقة وحدها.
جنحت مئات السُّفن إلى الشواطئ الجديدة التي أحدثها المد، واندفعت الأمواج ماخِرة لتلاطم الهضاب التي كانت تطل على البحر من مسافات متفاوتة البعد.
كانت أعماق اليابسة التي صعدت إلى ما فوق سطح الماء تعجُّ على جانبيها بالصُّخور المرجانيّة والطّحالب والنّباتات البحريّة المختلفة والقِلاع والحجارة المنحوتة بأشكال جماليّة أخّاذة متعددة، راحت تُصادم الأمواج المتلاطمة على جانبي اليابسة.
وقد اخترق اليابسة طريق عريض متعرّج تخلل الصخور المنتصبة على جانبيه، وتناثرت فيه الصخور الصغيرة المصقولة والحجارة والحصى على أرضٍ رمليّة.
التفت الملك لُقمان إلى الإلهين "عونائيل" وعِناق" مخاطباً الأوّل:
"يُمكنكم الآن أن تجتازوا اليابسة أيضاً أيّها الإله وليس البحر وحده"
وراح يُصافح الآلهة مودّعاً، هتف الإله عونائيل:
"هل ستغادرنا بهذه السُّرعة أيّها الملك؟"
فهتف الملك لُقمان:
"لو لم يكن أمامي عروش آلهة وطواغيت ينبغي عليّ تحطيمها لبقيت معكم بعض الوقت".
*المل * *



#محمود_شاهين (هاشتاغ)       Mahmoud_Shahin#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الملك لقمان . الجزء الثاني.(2) عرش الإله داجون الحادي عشر.
- الملك لقمان .الجزء الثاني (1) حديث عن كلينتون في أعماق -خليج ...
- شاهينيات (111) قابيل وهابيل وحواء يختفون من شجرة العائلة الت ...
- ملحمة الملك لقمان (13) جهنم الإله داجون!( الفصل الأخير من ال ...
- الملك لقمان .(12) مساج كوني وحروب كوكبيّة!
- بوح الكلمات : خواطر .ذكريات . أشعار. قصص.
- ملحمة الملك لقمان (11) صِفات محمّدية وهدايا جنّية!
- شاهينيات الفصل (110) ملاك يهوة يبيد 185 ألف أشوري !
- ملحمة الملك لقمان : رؤية شيطانية وآيات ربانية .( رؤية الشيطا ...
- ملحمة الملك لقمان (9) ولادة وتنبؤات مأساوية!
- ملحمة الملك لقمان (8) تتويج في السماء
- شاهينيات . الفصل (109) محاولات تأريخية فاشلة لا علاقة لها با ...
- ملحمة الملك لقمان. (7) حرب جنية وغزل كوني !
- شاهينيات . الفصل (108) ياهو يجزر كل من اتبع عبادة البعل من ا ...
- (6) بطّيخ وبغال وزنى أبوي!!
- أسفار التوراة : قراءة نقد وتعليق . (3) قضاة . راعوث. صموئيل ...
- ملحمة الملك لقمان.(5) حقيقة وخيال وجن وخوازيق!
- أسفار التوراة . قراءة، نقد وتعليق .(2) خروج . لاويين . عدد. ...
- شاهينيات (107) ايليا يصعد إلى السماء قبل قدوم المسيح!
- ألملك لقمان . ملحمة روائية . الجزء الأول . (4) ليلة راقصة عل ...


المزيد.....




- خلال أول مهرجان جنسي.. نجوم الأفلام الإباحية اليابانية يثيرو ...
- في عيون النهر
- مواجهة ايران-اسرائيل، مسرحية ام خطر حقيقي على جماهير المنطقة ...
- ”الأفلام الوثائقية في بيتك“ استقبل تردد قناة ناشيونال جيوغرا ...
- غزة.. مقتل الكاتبة والشاعرة آمنة حميد وطفليها بقصف على مخيم ...
- -كلاب نائمة-.. أبرز أفلام -ثلاثية- راسل كرو في 2024
- «بدقة عالية وجودة ممتازة»…تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك الجدي ...
- إيران: حكم بالإعدام على مغني الراب الشهير توماج صالحي على خل ...
- “قبل أي حد الحق اعرفها” .. قائمة أفلام عيد الأضحى 2024 وفيلم ...
- روسيا تطلق مبادرة تعاون مع المغرب في مجال المسرح والموسيقا


المزيد.....

- صغار لكن.. / سليمان جبران
- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - محمود شاهين - ألملك لقمان.الجزء الثاني . (3 ) الآلهة الطيبون!