أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جعفر هادي حسن - يهود أثيوبيا (الفلاشا)















المزيد.....



يهود أثيوبيا (الفلاشا)


جعفر هادي حسن

الحوار المتمدن-العدد: 4798 - 2015 / 5 / 6 - 14:19
المحور: دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات
    


يهود اثيوبيا 1-2
(الفلاشا)
جعفر هادي حسن
يعتقد الكثير من الباحثين الغربيين بأن الرحالة الاسكتلندي جيمس بروس، هو أول من اكتشف وجود اليهود الأثيوبيين(الفلاشا) بعد أن أصدر كتابه(Travels to Discover the Sources of the Nile 1768-72) في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. وتحدث جيمس بروس في كتابه هذا بشيء من التفصيل عن اكتشافه لهؤلاء اليهود الذي أسماهم « الفلاشا » وذكر شيئاً من عاداتهم وتقاليدهم، كما ذكر شيئاً من تاريخهم طبقاً لما أخبروه. لكن بروس لم يكن المكتشف الأول لهذه المجموعة، لأن العرب كانوا قد سبقوه إلى ذلك بفترة طويلة، حين التقوا هؤلاء وتعرّفوا عليهم عن كثب. ونذكر هنا اثنين من هؤلاء: أحدهما شهاب الدين أحمد بن عبد القادر الجيزاني، الشهير بعرب فقيه (توفي في حدود 1543م) في كتابه المهم « تحفة الزمان أو فتوح الحبشة » الذي يؤرخ فيه لحروب الإمام أحمد بن إبراهيم (الغازي) في الحبشة، وجاء فيه « ... كانت بلاد سُمين يملكها يهود الحبشة واسمهم بلغتهم فلاشة، إنّهم يؤمنون بالهب واحداً ولا يعرفون غير ذلك من الإيمان ولا نبيا ولا صديقا. وكان أهل (بحر عنبا) قد أستعبدوهم أربعين سنة يستخدمونهم ويحرثون لهم. فلما انتصر الإمام على البطريق (ساول)، أتوا إلى عند الإمام جميعهم من كل فج عميق من كهوف الجبال، لأن مساكنهم لم تكن في الوطأة (المنخفض) الا الجبال وكهوفها. وقالوا للإمام بيننا وبين (بحر عنبا) عداوة منذ أربعين سنة، الآن نقتل أهل (بحر عنبا) مَن بقي منهم ونأخذ حصونهم بعد ما انتصرت عليهم ونكفي لهم. وأما أنت اجلس في المحطة، ونحن نفعل بهم ما يعجبك. وبعد أن زاد الإمام عساكر معهم ،ساروا إلى الجبل وطلعوا، وربطوا أهل (بحر عنبا) بالسلاسل، وأتوا بهم إلى عند الإمام وجلس الإمام فى السمين حتى فتحها .. »( ).
وثانيهما المؤرخ الحامي (من القرن السابع عشر) في كتابه « سيرة الحبشة » وجاء فيه: « بعد تمام سبع مراحل، اتصلنا ببلاد الفلاشة وأولها واد عظيم تحت جبل عال في نهاية السمو وغاية العلو. اسم الوادي «أغنه» واسم الجبل « سُمين » مصغراً وهو أعظم جبال الحبشة، ولو أقول أعظم جبال الأرض لم يكن بعيداً، لأنه يوجد في كل طريق من طرق الحبشة ... وهذه القبيلة التي يسمونها الفلاشة قبيلة كبيرة من أعظم قبائل الحبشة. وهم على دين اليهودية وشريعة التوراة. وكانوا من قبل خارجين عن طاعة الملك يغزوهم، ويحاربهم، ويضايقهم من جميع أطراف بلادهم، لإحاطة بلاد النصارى بهم. حتى غلبهم واستنزلهم من حصونهم، ودخلوا في طاعته ودانوا له بمقالته بالطواعية، وجعل بلادهم إلى ولاية هذا الوزير. ودخل أكثرهم في دين النصرانية ولم يبق إلا اليسير( ).
أصل الفلاشا
أما عن أصل يهوديتهم، فإنّ الباحثين مختلفون حوله. فبعضهم يرى بأن هؤلاء هم من أحفاد يهود جلبوا من اليمن في القرن السادس الميلادي، بعد أن غزا ملك أكسوم (في أثيوبيا) دولة حمير، عندما كان يحكمها الملك الحميري «ذونواس» اليهودي (وكان أبو هذا الملك قد تحول إلى اليهودية كما تحول بعض السكان أيضا) . وكان مسيحيو دولة حمير،خاصة من كان في نجران، قد استجاروا بالامبراطور جستن الأول لمساعدتهم وانقاذهم من «ذونواس»، الذين شكوا من اضطهاده لهم. وطلب الامبراطور جستن من ملك أكسوم – الذي كان مسيحيا- القيام بهذه المهمة، فاحتل هذا بلاد حمير ودحر «ذونواس»، في حدود العام 525م حيث القى الملك الحميري بنفسه في البحر ومات غرقا كما ذكر وانتهت الدولة اليهودية.
وتذكر الرواية ان ملك أكسوم، صحب عند رجوعه إلى بلاده بعض الأسرى اليهود من اليمن. ويرى أصحاب هذا الرأي بأن يهود إثيوبيا، هم أحفاد هؤلاء الأسرى، وعلى هذا يكون بداية دخول اليهودية إلى أثيوبيا في القرن السادس الميلادي ، بعد أن كانت المسيحية قد دخلتها في القرن الثالث- الرابع الميلادي( ).
ويرى آخرون أن اليهودية دخلت من منطقة اليمن إلى إثيوبيا قبل دخول المسيحية عن طريق الحروب أو التجارة أو غيرهما، حيث كانت اليهودية إحدى الأديان في الجزيرة العربية كما هو معروف(4) . لكن المعروف أن اليهود الإثيوبيين يعتمدون على نسخة من التوراة تسمى السبعينية(اليونانية) ، وليس معروفاً عن يهود الجزيرة العربية ، أنهم عرفوا هذه الترجمة التي دونت في مصر قبل الميلاد.
ويرى غير هؤلاء بأن اليهود الإثيوبيين هم مجموعة اثنية ودينية من أحفاد يهود ما يسمى بقبائل بني إسرائيل الضائعة، ويفترض هؤلاء الباحثون، أن مجموعة منها كبيرة قد هاجرت إلى إثيوبيا واستقرت فيها. ويستدل بعض هؤلاء على هذا الرأي بأن بشرة هؤلاء ليست شديدة السواد مثل بقية الأفارقة، كذلك يختلف شكلهم عنهم. وهذا يعني بأنهم من أصل غير إفريقي( ). والذين يرون هذا الرأي يقولون بأن هؤلاء عندما جاءوا، اختلطوا مع السكان المحليين وتزاوجوا معهم. ولكن من يعترض على هؤلاء يرى أن شكل الإثيوبيين وسواد بشرتهم لا يختلف عن بقية الإثيوبيين مثل الامهرة والتغريين والاغو. وإن الدراسات التي أجريت على الدم تثبت بأن الفلاشا يختلفون عن يهود الشرق ولايمتون لهم بنسب.
وبعض مَن يقول بهذا الرأي يرى بأن عدداً قليلاً من اليهود، وليس آلافاً من القبائل الضائعة دخلوا إلى إثيوبيا، قبل المسيحية وهودوا قسماً من السكان المحليين، وأن اليهود الإثيوبيين هم أحفاد هؤلاء المتهودين( ).
ومن الباحثين مَن يعتقد بأن يهود إثيوبيا هم من أحفاد اليهود، الذين جاءوا من جزيرة «الفيلة» في نهر النيل. وهي جزيرة صغيرة تقع مقابل اسوان الحالية. وتسمى بالمصرية القديمة «يب» وهو الاسم الذي احتفظت به الارامية، وقد أطلق اليونانيين عليها Elephantine والإسم ترجمة للأصل المصري. وكانت أهمية الجزيرة تتمثل في كونها مدينة الإله «خنوب»، وأنّها كانت كذلك حامية عسكرية للدفاع عن الحدود الجنوبية المصرية ضد النوبيين، الذين كانوا يغيرون على منطقة النيل( ).
وكانت جزيرة الفيلة اثناء حكم الفرس لمصر منذ العام 525 ق. م. بل وقبله ثكنة عسكرية كبيرة، تضم الكثير من الجنود المرتزقة من أجناس مختلفة ممن جلبهم الفرس. وكان من ضمن هؤلاء المرتزقة مجموعة من اليهود الذين كان لهم معبد هناك، كما يظهر من رسائل البردي التي كتبوها بالآرامية، والتي وصل بعضها إلينا من هذه الفترة. ويتبيّن من خلال هذه الرساثل أنّ هناك بعض الممارسات عند هؤلاء اليهود تختلف عما عند اليهود الآخرين، مثل الزواج المختلط(بغير اليهود) والاضاحي وغير ذلك. وعندما أخرج الفرس من مصر في القرن الخامس قبل الميلاد ضعف وضع هؤلاء، وأخذوا يشتكون من الكهنه المصريين الذين كانوا يضايقونهم ويعتدون عليهم. وبعد أن ساء وضعهم تركوا الجزيرة، حيث ذهب بعضهم إلى إثيوبيا الحالية كما يقول من يرى هذا الرأي . ويستدل هؤلاء على ذلك بأن المؤرخ الجغرافي Strabo الذي عاش في القرن الأول قبل الميلاد، عندما يتحدث عن أثيوبيا، يذكر مستعمرة في أعالي النيل نفى الفرعون Psammeticus إليهاهؤلاء وهي Meroe وهم يعيشون هناك كمنفيين ويسمون Sembritae وهذه الكلمة تعني أجانب( ).
وكلمة فلاشا أيضاً تعني أجانب أو منفيين بالمعنى الحرفي للكلمة باللغة الجعزية، (وهي لغة سامية كتب بها اليهود والمسيحيون الأثيوبيون أدبياتهم الدينية وصلواتهم، وهي صنو الأمهرية والعربية الجنوبية).(ولأن كلمة فلاشا تعني أجانب أو منفيين فهم اليوم يرفضون استعمالها،ويستعملون بدلها "بيتا يسرائيل" ، تـأكيدا منهم على أنهم من بني إسرائيل ونحن نستعملها هنا لأنهم معروفون بها لا لسبب آخر). وممّن يرى هذا الرأي أيضاً إسحاق بن زفي الرئيس الأسبق لإسرائيل، الذي كتب كتاباً عن المجموعات اليهودية( ) ، في مختلف بلدان العالم بعنوان
The Exiled and the Redeemed
ومن الباحثين مَن لا يعتقد بالأصل اليهودي لهؤلاء، ويرى بأنهم من أحفاد سكان أكسوم القديمة الذين رفضوا التحول إلى المسيحية. وأنّ عبادتهم وشعائرهم خليط من الوثنية والمسيحية واليهودية. وهم ليسوا وحدهم الذين تمسكوا بهذا الخليط، وأنّ ما يسمى باليهودية، إنما هو تعبير فقط عن بعض المعتقدات اليهودية وبقايا منها، كانت قد دخلت من اليمن في حدود القرن الأول الميلادي. ويستدل هؤلاء على ذلك بأن أدبيات اليهود الإثيوبيين، تكِون جزءاً من الأدبيات التقليدية لأثيوبيا في موضوعاتها وفي طريقة التعامل معها. وهم يستدلون كذلك على اختلافهم عن اليهود بأنّ الاحتفالات التي وردت في التوراة يحتفل بها يهود إثيوبيا بطريقة مختلفة، وأن الأعياد التي ظهرت بعد النفي لا يعرفها هؤلاء كذلك. وكذلك هم لا يعرفون الفرائض خارج التوراة كتلك التي وردت فى التلمود.كما أنهم لا يعرفون اللغة العبرية سوى بعض الكلمات القليلة. كذلك لغة صلاتهم هي اللغة الجعزية، مثلما هي عند المسيحيين الإثيوبيين كما ذكرنا.وهم يلتزمون التزاماً شديداً بالسبت وكذلك يتشددون في قضية الطهارة. وهاتان الظاهرتان موجودتان عند بقية الإثيوبيين من المسيحيين. وهم كذلك مثل بقية الإثيوبيين بصورة عامة يختنون أولادهم وبناتهم. وكذلك تلعب الرهبنة عندهم دوراً مهماً، وهم بهذه الممارسة يختلفون بشكل رئيس عن بقية اليهود. فاليهود لا توجد عندهم شرعة الرهبنة ولا يمارسونها. ويرى هؤلاء بأنّ النظرة الموضوعية إلى الأصل والحياة الدينية ليهود إثيوبيا تجعلهم تماماً ضمن الحياة العامة للإثيوبيين وخارج المعتقدات المسيحية الإثيوبية.
نظرة الأثيوبيين إليهم ونظرتهم إلى أنفسهم
عاش يهود إثيوبيا عموماً في وضع منعزل عن بقية الإثيوبيين، ولم يكونوا يتصلون بهم إلا عند الضرورة، ولهذا الانعزال أسبابه. فهم يعتبرون أنفسهم أفضل من الإثيوبيين في ممارساتهم وسلوكهم ودينهم، لذلك فإنهم ينظرون إلى الآخرين نظرة احتقار. وهم في الغالب يسكنون في مناطق خاصة بهم قرب الأنهار عادة لاحتياجهم لها للتطهر. وهم كذلك لا يسافرون بعيداً عن بيوتهم بسبب ذلك تحرجهم من أكل طعام الآخرين، خصوصاً وأنهم لا يأكلون اللحم النيء (غير المطبوخ) كبقية الإثيوبيين. كذلك يجب عليهم الاغتسال إذا مسّ أحدهم شخصاً ليس منهم. وهناك الاعتقاد بأن دينهم يفرض عليهم الاعتزال عن الآخرين. ويضاف إلى هذه العزلة امتهان مهن تعتبر دونية في نظر الإثيوبيين، مثل الحدادة وعمل الأواني الفخارية، وقد جعل هذا الإثيوبيين الآخرين يشكُون فيهم ويحذرون منهم. لذلك أطلقوا عليهم كلمة فيها معنى الشر وهي كلمة (Tib) وهي تعني الروح الشرير الذي يتقمص الشخص فيؤذي الآخرين من خلاله( ).
ويعتقد الإثيوبيون كذلك في أنّ يهود إثيوبيا يتحولون في الليل ضباعاً، تنبش القبور وتأكل الجثث التي فيها، حتى أنّ الأثيوبيون في فترة من الفترات أخذوا يبحثون عن الضباع في كل مكان ليقتلوها، حيث قتلت في تلك الفترة ضباع كثيرة. وفي بعض مناطق إثيوبيا اعتبروا سحرة وآكلين للحوم البشر، حيث يأكلونها بطريقة سحرية وغامضة( ) كما يقولون عنهم، وكثيراً ما ارتبطت مهنة الحدادة بالـ Tib بل إنّ الحدادين عموماً تنالهم شبهة السحرة. والشك في أنّ الحدادين سحرة ليس حديثاً عند الإثيوبيين. فقد ذكر بأن أحد ملوكهم قي القرن الخامس عشر قد حكم على الحدادين بالاعدام لاتهامهم بالسحر، وكان مثل هذا الأمر قد حدث في القرن السابع عشر. ودخل هذا المعتقد أدبيات الإثيوبيين حتى في صلواتهم وأدعيتهم. وإلى فترة قريبة كان ينظر إلى الحداد على أنّه خادم الجميع، وإذا ما استخدم في الجيش، فإنه لا يعد من أفراده ولا أمل له في الوصول إلى مرتبة أعلى( ).
ومن المعتقدات الشعبية كذلك بأنّ يهود إثيوبيا قد ولدوا في جهنم، وأنهم يبصقون ناراً لذلك يجب أن يعيشوا في مناطق منعزلة. ومع أنّ اليهود الإثيوبيين ينفون التهم عنهم ويعتبرونها افتراء وخرافة، إلا أنّها ظلت تلاحقهم ومستمرة إلى الوقت الحاضر في المخيال الشعبي، حتى أنهم ذكروا ذلك في إحدى رسائلهم عام 1958 – 1959م إلى الامبراطور هيلاسيم لاسي آخر ملوك الحبشة، إذ ذكروا فيها « ... إنّنا نُتهم كذباً بالسحر والشعوذة وبتحويل أنفسنا في الليل إلى حيوانات وحشية مثل الضباع. ونُتهم كذلك بأننا ليس فقط نقتل جيراننا وماشيتهم ، لكننا أيضاً نخرج الجثث من القبور ونأكلها ... »( ).
ولم يكن الفلاشا على علاقة طيبة مع ملوك إثيوبيا، وكانت لهم مع بعضهم معارك، بخاصة مع أولئك الذين حاولوا اجبارهم على اعتناق المسيحية، ولا بد ان نذكرهنا أنّ اليهود الأثيوبيين لم يضطهدوا لأنهم يمارسون اليهودية، إذ أن ملوك إثيوبيا يؤكدون دائماً على ارتباط نسبهم بسليمان بن داوود، وكان بعضهم لا يحتمل عدم ذكر ذلك بحقه، وأنّ منليك الثاني (ت 1913م) وهيلاسي لاسي كلاهما أضافا لقب «أسد قبيلة يهودا» إلى اسمه، لكن هؤلاء الملوك كانوا يضطهدون المجموعات الدينية – خصوصاً المنعزلة منها – التي تختلف معتقداتها عن معتقدات الكنيسة الإثيوبية. فهذا العداء لم يقتصر على اليهود الإثيوبيين ، بل شمل المسلمين والكيمانت والبروتستانت والكاثوليك وبعض الأقليات المسيحية الصغيرة الأخرى.
ولكن لليهود الأثيوبيين رأي مختلف عن هذه الآراء في أصل يهوديتهم، فهم يعتقدون بأنّ أصلهم من فلسطين، وهم يذكرون قصة وردت في كتاب « كبرى نغست » (مجد الملوك)( ). وهو كتاب عندهم يحتوي على قصص ملوك إثيوبيا وتاريخهم، ويعود تاريخ تأليفه كما يعتقد إلى القرن الرابع عشر. وطبقاً لما جاء في هذا الكتاب فإنَ ملوك إثيوبيا هم أحفاد سليمان من الملكة "بلقيس" التي يسمونها «مكيدا»، التي ولدت لسليمان بن داوود، بعد زيارتها له ورجوعها إلى بلادها ولداً اسمه منليك (الأول). وكان منليك عندما شبّ، وأصبح رجلا ذهب لزيارة أبيه في مملكته. وعندما رجع إلى إثيوبيا طلب سليمان من شيوخ إسرائيل، أن يرسل كل واحد منهم ابنه البكر مع ابنه. وقد مسح صادوق الكاهن "منليك" ملكاً على إثيوبيا (كما هي عادة بني إسرائيل القديمة). وقبل أن يرحل منليك أخذ المصاحبون له تابوت العهد معهم من الهيكل. ووضع هذا التابوت في اكسوم. ويقول الإثيوبيون المسيحيون أنه بعد أخذ التابوت غادر الروح الإلهي إسرائيل واستقر في إثيوبيا. ووضع التابوت في اكسوم فى مكان مقدس يطلق عليه القدس الثانية، ولا يدخل هذا المكان إلا كاهن واحد يقوم على خدمته. وتوضع في الكنائس الإثيوبية نماذج لهذا التابوت.
ويعتقد قسس الكنيسة الإثيوبية، أنهم من أحفاد اللاويين الذين اقتصرت الخدمة في الهيكل عليهم. ورجال الدين الفلاشا لهم الاعتقاد نفسه. والقسس الإثيوبيون يعتقدون بأنّ الإثيوبيين هم الشعب المختار بدل اليهود، لأن التابوت في حمايتهم( ). أما يهود إثيوبيا فيقولون بأنهم أحفاد تلك الجماعة التي صحبت «منليك» من مملكة سليمان بن داوود إلى إثيوبيا. ويرجع أصل هذه القصة إلى ما جاء في العهد القديم من نص تكرر مرتين في سفر الملوك الأول 10/1 – 31 وفي سفر الأخبار الثاني 9/1 – 12 عن زيارة الملكة "مكيدا" لسليمان بن داوود واحتفائه بها. وقد زيد في كتاب «كبرى نغست» تفاصيل ليست في العهد القديم، كي ترجع أصل ملوك إثيوبيا إلى الملك سليمان. ويشك الباحثون فيما أورده الإثيوبيون ،بخاصة وأنّ مملكة هذه الملكة لم تحدد في هذه القصة. وقد أطلق عليها بالعبرية «ملكة شبا» وهي تترجم إلى العربية «ملكة سبأ». والقرآن الكريم هو الذي أسمى المملكة «سبأ»، وهي ترتبط باليمن أكثر ممّا ترتبط بمكان آخر كما هو معروف.
وأرجح أن يكون الفلاشا أثيوبيين كالآخرين، أخذوا بعض العقائد والطقوس اليهودية من يهود قدموا من اليمن وغيرها إلى إثيوبيا، قبل دخول المسيحية إليها وخلطوا عقائدهم وتقاليدهم الأصلية بها، وبعد دخول المسيحية أخذوا شيئاً من ممارستها كالرهبنة. وعندما اتصل اليهود بهم في القرن التاسع عشر كما سنرى زاد التزامهم باليهودية.
من ملامح يهودية الأثيوبيين
وتتميز يهودية اليهود الإثيوبيين في أنها تختلف عما هي عند عامة اليهود قي قضايا تتعلق بالمعتقد والممارسة. فتوراة هؤلاء تحتوي على أسفار ليست في توراة عامة اليهود مثل سفر اينوخ، وحكمة سليمان وحكمة ابن سيراخ، وسفر باروخ وجوبلي وغيرها. وهذه الأسفار تسمى الأسفار غير القانونية، وأصبحت توراتهم تضم 46 سفراً. وهم كذلك لا يؤمنون بالتلمود ولا يعترفون به على خلاف ما يعتقده عامة اليهود،وهم بهذا مثل اليهود القرائين والسامريين (كان انشقاق السامريين عن اليهودية قبل الميلاد، أي قبل ظهور التلمود).
كذلك يختلفون عن بقية اليهود في أنهم يمارسون تقديم الأضاحي في مناسبة الفصح، وأحياناً في بعض المناسبات الأخرى( ). وهم بهذا مثل السامريين. بينما توقف تقديم الأضاحي عند بقية اليهود بعد تهديم المعبد. ويصلي اليهود الإثيوبيون عادة سبع مرات( ). وليس ثلاث مرات كما عند اليهود الآخرين وصلاتهم من تأليفهم ويقرأونها بالجعزية وليس بالعبرية أو الآرامية . وهم يسمون مكان العبادة «مسجد»( ) كما عند المسلمين.
وهم كذلك لا يحتفلون بعيد الفوريم، ولا بعيد الحنوكة وهي أعياد قنّنت عند اليهود خارج العهد القديم. وهم مثل القرائين في هذا أيضا، واحتفالهم بعيد المظال من دون استعمال مظال. وعندهم عيد خاص بهم دون غيرهم من اليهود يسمى «سجد» (وتعني الكلمة سجود بالجعزية). وهو احتفال برجوع اليهود من السبي إلى أورشليم. وهم لا يعرفون النفخ بالبوق (الشوفار) في رأس السنة، أوغيره من المناسبات الأخرى( ). وهم بهذا يتفقون مع القرائين. ويمارس الفلاشا الرهبنة( ).كما ذكرنا، وهذه الممارسة لا توجد عند أية فرقة من الفرق اليهودية الأخرى التي نعرفها. وهناك مَن يعتقد بأن هذه الممارسة قد تبنوها فى القرن الخامس عشر. وعندهم أن المرأة الطامث تعزل في كوخ خاص بها خارج القرية، وتبقى فيه إلى أن تطهر ولا ترجع إلى بيتها إلا بعد أن ترتمس في الماء . كذلك الحال بالنسبة إلى المرأة التي تضع طفلاً، فإنها أيضاً تعزل لفترة أربعين يوماً للذكر وثمانين يوماً للأنثى وبعد انتهاء الفترة تحلق شعر رأسها وترتمس في الماء، وتطهر ملابسها قبل أن ترجع إلى بيتها، ويحرق الكوخ بعد مغادرة الطامث والمرأة التي ولدت، ويطلق على هذا الكوخ « كوخ الدم »( )، وهم يسمون رجل الدين «قس».
اهتمام اليهود بهم
برز اهتمام اليهود باليهود الأثيوبيين في القرن التاسع عشر، بعد ما علموا أنّ مجموعة من المبشرين قد ذهبت إلى إثيوبيا للتبشير بينهم بعد ظهور كتاب جيمس بروس كما ذكرنا أعلاه( ). وانتدبت جمعية الاليانس اليهودية في فرنسا المستشرق اليهودي الفرنسي جوزيف هاليفي- وهو أحد الباحثين في اللغات السامية- للقيام بمهمة الاثصال باليهود الإثيوبيين. فغادر إلى إثيوبيا عام 1867م بصحبة الحملة البريطانية ضد الإمبراطور ثيودور الثاني، وبقي بين اليهود الأثيوبيين عدة أشهر. وعند رجوعه صحب معه أحد الفتيان منهم لدراسة اليهودية في أوروبا.
وقدم هاليفي تقريراً عنهم وعن أحوالهم إلى جمعية الإليانس، وقدّر عددهم آنذاك بنحو 150 ألفاً، وهو أقل من العدد الذي قدّره جيمس بروس. وفي بداية القرن العشرين ذهب يهودي آخر اسمه جاك فيتلوفتش، بتشجيع من أستاذه هاليفي وموّل رحلته اليهودي الثري روتشليد. وسافر أكثر من مرة فيما بعد إلى إثيوبيا حيث أخذ معه الكئير من المساعدات وأسّس مدرسة خاصة باليهود الإثيوبيين في أديس أبابا وبعض المدارس المتنقلة ، وكان لذلك تأثير على حركة التبشير بينهم(لتحويلهم إلى مسيحيين) والتي كانت على أشدّها حيث ضعف بسببه نشاطها. وقد أسّس فيتلوفتش جمعية للدفاع عنهم( ).
وبعد وفاة فتلوفتش أخذ زعماء اليهود الإثيوبيين يراسلون اليهود طلباً للمساعدة، وتأسّست جمعية يهودية في أمريكا لغرض مساعدتهم. وعندما أنشثت الدولة العبرية طالبت هذه الجمعية بتهجيرهم إليها، لكن الحكومة الإثيوبية لم تكن راغبة بتهجيرهم إلى إسرائيل، وعندما طلب بعض اليهود الإثيوبيين مساعدة ديبلوماسي إسرائيلي في إثيوبيا، قال له هذا إنّي أقترح عليكم أن تتحولوا إلى المسيحية لحل مشكلتكم( ). وعندما زارهم إسرائيل يشيعياهو الذي كان رثيس الكنيست في الخمسينات، قال إنّ من الأفضل لليهود الإثيوبيين أن يتحولوا إلى المسيحية إذ أن الحكومة (الإثيوبية) ستكون سعيدة بهذا التحول، وسيستفيد اليهود الإثيوبيين من ذلك. وأيّده بعض المسؤولين الإسرائيليين في ذلك( ).
ولكن إسرائيل وافقت عام 1955م على قبول 12 شخصاً منهم تتراوح أعمارهم بين 11 – 17 سنة للتدريب فيها، وأعلنت الحكومة بأنّ ذلك ليس اعترافاً منها بهم. وعند وصولهم طالبت المؤسسة الدينية بأن يتحول هؤلاء إلى اليهودية الارثوذكسية، وقالت إنّ يهوديتهم مشكوك فيها. وأدى هؤلاء مراسم التهود إلى اليهودية الارثودكسية، ثم رجعوا إلى إثيوبيا بعد انتهاء تدريبهم( ).
وظل الإسرائيليون يصرحون بعدم موافقتهم على جلبهم إلى إسرائيل. وقالت غولدا مئير عندما كانت رئيسة للوزراء " إنّ الفلاشا هنا سيكونون في حالة مزرية وموضوعاً للاستخفاف والاحتقار " وعبّرت عن خوفها أن يكونوا جبهة مع السفارديم (اليهود الشرقيين)( ).
ونقل عنها كذلك أنها قالت: أليس عندنا مشاكل كافية فلماذا نحتاج إلى هؤلاء السود( ) ؟
وفي عام 1973م قال أحد الديبلوماسيين الإسرائيليين: « إنّ إسرائيل لا ترى أنطباق قانون العودة عليهم، وإذا أراد أحد هم أن يزور إسرائيل، فإنه سيعامل كأي إثيوبي يقوم بزيارة إلى هنا، وأنّ محاولتهم للهجرة تضر بهم لأن إسرائيل ليست متحمسة لاستقبالهم( ).
وعندما سئل وزير الدفاع الأسبق عزرا وايزمان عام 1979م في مؤتمر للطلاب في الولايات المتحدة عن الفلاشا قال: « هل تريدون أن تزعجوني بمشكلة الفلاشا كذلك، قولوا الحقيقة، هل هذه هي أهم مشكلة يجب ان نعالجها اليوم »( ).
ودخل بعض اليهود الإثيوبيين إلى إسرائيل على شكل أفراد في السبعينات وكان هؤلاء يطالبون الحكومة بمساعدة أبناء جلدتهم. لكن الحكومة كانت تهددهم بالسجن. وشكّل مناحيم ييغن رئيس الوزراء السابق عام 1979م لجنة لدراسة قضيتهم. لكن اللجنة لم تصل إلى نتيجة.
تهجير الفلاشا إلى إسرائيل ومشكلتهم مع المؤسسة الدينية
وغيرت حكومة إسرائيل رأيها في الثمانينات، وتم نقل الآلاف منهم إلى إسرائيل بين كانون الأول (ديسمبر) 1984م وكانون الثاني 1985م في "عملية موسى"، وكذلك هجر الآلاف منهم في "عملية سليمان" عام 1991.
ومنذ وصول اليهود الإثيوبيين في "عملية موسى"، كانت لهم مشاكل مع المؤسسة الدينية والحكومة. وكانت أولى هذه المشاكل وأعمقها أثراً عليهم وإهانة لهم، هو عدم الاعتراف بهويّتهم، إذ طلب منهم أن يؤدوا عملية التهوّد طبقاً لليهودية الارثودكسية. وقالت رئاسة الحاخامية في تبرير ذلك إنّ اليهود الإثيوبيين كانوا مقطوعين لفترة طويلة عن بقية اليهود الآخرين، ولم يلتزموا بالشريعة اليهودية بشكل كامل (إشارة إلى عدم اعتراف يهود إثيوبيا بالتلمود)، ويترتب على هذا عدم صحة عقود الزواج عندهم، وكذلك عدم صحة طلاقهم وهذا يودي إلى الشك في كونهم "ممزريم" ( جمع عبري، مفرده ممزر ويعني ولد غير شرعي). وهؤلاء طبقاً لليهودية الارثوذكسية لا يمكن أن يتزوجوا إلا من "ممزريم" مثلهم( ).
وقالت أيضا إنّه من أجل أن لا تكون هناك مشاكل لليهود الإثيوبيين في المستقبل، بخاصة قضايا الطلاق والزواج، فإنه يجب أن يتحولوا إلى اليهودية الارثودكسية (يهودية رئاسة الحاخامية في إسرائيل). والتهوّد الذي تطالب به رئاسة الحاخامية يتضمن الختان، مع أن اليهود الإثيوبيين يختتنون عادة. وتقول رئاسة الحاخامية إنّ الختان الذى مارسه اليهود الإثيوبيون هو ختان غير شرعي. وهناك أيضاً مراسيم أخرى يجب أن تطبق عليهم ويلتزموا بها.
وقد قبل بعضهم التهوّد، لكن أغلبهم رفض الفكرة واعتبرها إهانة بحقه وإذلالاً بل قالوا إنّها عنصرية واضحة لا تمت إلى الدين بصلة. وأكدوا بأنهم طبقوا شريعة موسى منذ قرون طويلة كما فهموها من التوراة. وقال أحدهم: "نحن يهود وقد دفعنا ثمناً باهظاً من أجل أن نأتي إلى القدس، ومع ذلك فقد عوملنا بتفرقة من قبل اليهود البيض" وقال أحد قسسهم (حاخاميهم) "إنّ هذه ليست طريقة إنسانية، لأّنه من العيب الكبير أن يمارس هذا العمل باسم اليهودية معنا"( ).
وقال آخر " نحن اليهود الإثيوبيين قد عزلنا أنفسنا عن الأغراب، وعادات الأغراب أكثر من أية جماعة يهودية أخرى، حتى لا نندمج ونفقد هويتنا. وقد كافحنا كثيراً ضد المشاكل والمصاعب من أجل أن نحافظ على عقيدتنا، وتطبيق التوراة إلى الحد الذي ضحينا بأنفسنا من أجل نلك. وكنا حتى الوقت الذي اكتشفنا فيه العالم اليهودي، نعتقد بأننا اليهود الوحيدون في العالم. ومع ذلك استمررنا على المحافظة بكل احتراز على ممارسة الفرائض. ونحن نطالب بالعدالة والمساواة ،لأن الشخص إما أن يكون يهودياً أو غير يهودي، وأن هذا الإذلال يجب أن يتوقف حالاً والى الأبد. وأنّ كل يهود أثيوبيا يجب أن يحترموا كيهود مثل أية جماعة يهودية أخرى( ).
وقال أحدهم "عندما جئت إلى إسرائيل شعرتُ بأنني يهودي حر، وقد كانت مفاجئة أن أرى اليهود يقودون سياراتهم ويسمعون الراديو في يوم السبت، ومع كل هذه المخالفة فأنهم يطلبون مني أن أتهوّد. لقد كنتُ في إثيوبيا أشعر بأني يهودي في كل شيء، وقد مارست الشعائر طبقاً للتوراة لكنهم يقولون لي هنا، بأني لست يهودياً ويجب عليّ أن أتهوّد، إذن فما فائدة السنين التي مارست فيها اليهودية في السابق( ).
وهدّد اليهود الإثيوبيون بالقيام بالمظاهرات والاعتصامات وهدّدوا بالرجوع إلى إثيوبيا عن طريق مصر للإعلان عن مشكلتهم( ).
وهدّد بعضهم بالانتحار. ولجأوا إلى الحكومة، واجتمعوا برئيس الوزراء في حينها شمعون بيريز، وقالوا له إنهم يهود منذ قرون طويلة، وأن طلب رئاسة الحاخامية منهم ان يتحولوا إلى اليهودية وأن يختتنوا ويغتسلوا ويؤدوا بعض المراسيم الأخرى، إنّما هو شيء مهين لهم، "وقد أخبروا بيريز بأن أفراداً منهم قد انتحروا بسبب ذلك " ووعدهم بيريز بأن يجد حلاً لمشكلتهم خلال بضعة أسابيع فوافقوا على ذلك. واجتمع بيريز برئاسة الحاخامية، وبعد محادثات طويلة مع رئيسيها (الاشكنازي والسفاردي) أعلن بيريز بأن شرط الاغتسال غير مطلوب، ولكن يجب أن ندرس حالة كل شخص على انفراد. وتضمن البيان بأن المحاكم الدينية يجب أن تستشير حاخامي اليهود الإثيوبيين، لكن بعد صدور هذا البيان قال أحد المساعدين في رئاسة الحاخامية، بأن على كل يهودي يهاجر إلى إسرائيل يريد ان يتزوج يجب عليه أن يثبت أنه يهودي، وهذا يعنى أن اليهود الإثيوبيين عليهم ان يتحولوا إلى اليهودية الأرثودكسية، لأنه طبقاً لرئاسة الحاخامية ليس عندهم ما يثبت يهوديتهم. واحتجوا على ذلك واعتصموا أمام رئاسة الحاخامية لفترة شهر كامل، وكان بعض الإسرائيليين قد أيّدهم في مطالبهم مثل اليهود الإصلاحيين والمحافظين، (وهم من اليهود الذين لا تعترف بهم المؤسسة الدينية في الوقت الحاضر( ).
وأخبرتهم رئاسة الحاخامية بأنها ستعترف بصحة يهوديتهم والحقوق المترتبة على ذلك، واعتقد اليهود الإثيوبيون بأن قضيتهم قد حلّت. لكن الحاخامية أصدرت أمراً إلى الموظفين المسؤولين عن الزواج والطلاق، بأن لا يسجلوا زواج أي شخص إلا إذا تعهد بتنفيذ الوصايا الدينية (على الطريقة الأرثودكسية)، وكذلك بوجوب أداء التطهير الروحي بغمر جسمه(يرتمس) بالماء والاختتان أمام الحاخامين ، وعلى المرأة أن تقبل الوصايا الدينية وتغمر جسمها بالماء أمام شهود. واذا ما تمّ إثبات مقدم طلب تسجيل الزواج بأنه قد اختتن بشكل صحيح سابقاً، فإنّ المطلوب منه فقط قبول الوصايا والاغتسال ارتماساً بالماء( ).ومعنى هذا أن رئاسة الحاخامية أخلفت ماوعدت به وكذبت عليهم.
وتدخل بيريز مرة أخرى لحل النزاع، وصيغ اتفاق بين بيريز ورئاسة الحاخامية، لكن هذا الاتفاق كان يشبه الذي رفضه الإثيوبيون سابقاً، إذ أنّه ترك تحديد يهودية الإثيوبي إلى المحكمة الدينية، ومن دون شرط الاغتسال. لكن اليهود الإثيوبيين كانوا أيضاً يريدون أن يكون حاخاموهم، هم الذين يتأكدون من يهودية الشخص في حال الشك. وكان جزء من هذا الاتفاق إنشاء معهد خاص بدراسة شؤون يهود إثيوبيا ضمن وزارة الأديان، ويكون من مهماته إعطاء توصيات حول الزواج والطلاق وغير ذلك من أمور. وعندما انشئ المعهد لم يكن من بين أعضائه أي حاخام من اليهود الأثيوبيين( ).
وظلت رئاسة الحاخامية مصرة على ذلك واليهود الإثيوبيون يرفضون، ولجأ الأثيوبيون إلى حاخامي المذهب الإصلاحى كى يشرفوا على عقود زواجهم وطلاقهم( )، ولكن اليهود الإصلاحيين هم أيضاً غير معترف بيهوديتهم من قبل المؤسسة الدينية الرسمية في إسرائيل .
وتظاهروا أيضاً عام 1992م حول القضية نفسها،أمام مكتب رئيس الوزراء إضافة إلى مطالبتهم بتحسين أحوال سكناهم في معسكرات الاستيعاب، التي قالوا عنها إنها في حالة سيئة. وقابلهم وزيران لاقناعهم بالتوقف عن التظاهر، لكنهم رفضوا، وحاول بعضهم دخول مقر رئيس الوزراء ولكنهم منعوا من ذلك. وقال أحدهم " إنّ هؤلاء يعاملوننا مثلما يعاملون العرب، إنّنا نريد أن يشرف علينا يهود طبقاً لمعتقداتنا. وقال إن الحاخامية انتزعت كل صلاحيات حاخامي اليهود الإثيوبيين، ونحن لا نفهم عدم اهتمام الحكومة والسكان بنا".
وقد سبّب عدم الاعتراف بهم بعض حالات الانتحار. وذكر اديسو مسالي(وهو منهم) والذي كان يعمل مع الوكالة اليهودية في حينها أنّه بين 1985 – 1987 كانت هناك 30 حالة انتحار. وكان من أسباب ذلك عدم تسجيل رئاسة الحاخامية زواجهم( ).
من مشاكلهم الإجتماعية في إسرائيل
أبرز مشكلة واجهها يهود أثيوبيا بعد وصولهم ،كانت مشكلة الإعتراف بهم التي تحدثنا عنها ثم مشكلة السكن، إذ ظل الكثير منهم يعيشون في بيوت متنقلة. وكان من هؤلاء من سكن لفترة طويلة في فنادق، إذ تحشر عوائل في غرفة أو غرفتين، من دون أن يكون في هذه الفنادق وسائل تبريد أو خدمات للطبخ.
واحتجاجا على ذلك، قام الأثيوبيون في عام 1992 بمسيرة مشياً على الأقدام من عسقلان إلى القدس، احتجاجاً على الحال السيئة التي يعيشون فيها، وقد شارك في هذه المسيرة حتى كبار السن والأطفال منهم وأيضا بعض النساء الحوامل. وبعد أن قطعوا عشرين كيلومتراً، وأصبح بعضهم في حال صحية خطرة، ذهب إليهم وزير الاستيعاب وقابلهم وتحدث إليهم، وطلب منهم إنهاء الاحتجاج والتوقف عن السير.وقد اشتكوا له الوضع المتردي لسكنهم، ووصفوا له البيوت التي يعيشون فيها بأنها تشبه صناديق كرتونية ضيقة وخانقة وحارة، وهي صغيرة لعائلة من ثمانية أشخاص أو أكثر كما قالوا. واشتكوا له أن السكن يخلوا من وسائل الراحة الأساسية، والموظفون المسؤولون عن معسكرات البيوت المتنقلة يرفضون المساعدة. وطالبوا الحكومة ببيوت دائمة، ووعدهم الوزير بأنه سيحاول حل المشكلة خلال ثلاث سنوات. وقال له أحدهم أنّنا نريد عملاً حقيقياً، وإذا لم تحل المشكلة خلال ثلاث سنوات، فإن اليهود الإثيوبيين سينفجرون. ثم قال إنّنا لم نتعلم دروس ما حدث في المعسكرات المؤقتة في الخمسينات، وأنّ السكان لا يعرفون الصعوبات التي يواجهها أبناؤنا في المدارس، إذ هناك تفرقة ضدهم وأنهم يوضعون لسنوات في مدارس لوحدهم، وهناك الكثير من التمييز ضد اليهود الإثيوبيين عموماً، وهناك أيضاً القصص الأخرى حول أمراض اليهود الإثيوبيين( ).
وقال مدير جمعية اليهود الإثيوبيين لصحيفة الجويش كرونكل 2/2/1996م إنّ اليهود الإثيوبيين موزعين في أماكن كثيرة معزولة في طول البلاد وعرضها، وإنّ هناك الآلاف بدون كنيس للعبادة قرب سكنهم، واتهم الحكومة بأنّها تهمل هؤلاء روحياً.
ومن القضايا التي يشتكي منها اليهود الإثيوبيون هي قضية التعليم حيث هناك تفرقة ضدهم في هذا المجال كما يقولون. فمنذ بداية مجيئهم إلى إسرائيل وضعت الغالبية العظمى من أبنائهم في مدارس دينية دون اختيار لهم ورغبة منهم. ولم يوضعوا في مدارس عادية، وقال رئيس جمعية اليهود الإثيوبيين بأنّ 80 في المائة من المراهقين الإثيوبيين يدرسون في مدارس داخلية، وهي مدارس مقتصرة على الإثيوبيين، وتدرس المذهب اليهودي الارثودكسي. وقدخصص لهؤلاء الطلاب برنامجاً لا يؤدي إلا إلى الحصول على عمل من درجة متدنية، إضافة الى تركيز الدراسة على اللغة العبرية. وهم في هذه المدارس لا يختلطون باليهود الإسرائيليين، وإذا وضع معهم أطفال من هؤلاء، فإنهم في الغالب يكونون من عوانل لديها مشاكل، ، ولا تقبلهم المدارس الأخرى. واختلاط هؤلاء بالإثيوبيين يخلق لهم مشاكل. ويقول اديسو مسالي، بأنّ الطلاب الإثيوبيين ينَسبون إلى أسوأ المدارس، حيث لا يكون معهم إلا طلاب متخلفون.
وإذا وضع الإثيوبيون فى برنامج مهني، فإنهم لا يجدون سهولة في الحصول على عمل بعد الإنتهاء من دراستهم. ففي عام 1992 مثلاً تخرج حوالى خمسة وثلاثون طالباً من مدرسة "هداسا نيوريم"، بعد ثلاث سنوات من الدراسة ، وقدم هؤلاء الخريجون طلبات للتعيين في وظائف عن طريق وزارة الاستيعاب وألزمت ثلاث بلديات نفسها بتوظيفهم، لكنها بعد فترة تنصلت هذه البلديات من التزاماتها.
وتذكر إحصائية أصدرتها جمعية يهود إثيوبيا بأنّ 7 في المائة فقط من الطلاب الإثيوبيين اجتازوا امتحان الثانوية العامة. وهي نصف نسبة الطلاب العرب( )، الذين يعانون من التفرقة.
وهذه النسبة هي أقل نسبة بين الأقليات اليهودية الأخرى. ويرى أحد مسؤولي هذه الجمعية، بأن الحكومة قد فشلت في تقريب الشقة في موضوع التربية بين أطفال اليهود الإتيوبيين وغيرهم.
وهناك أيضاً المشاكل الاجتماعية الأخرى مثل مشكلة التمييز من قبل السكان اليهود أنفسهم ضد اليهود الإثيوبيين- بخاصة من اليهود الأشكنازيم- وهم يذكرون حوادث كثيرة حدثت لهم يعتبرونها عنصرية صارخة ضدهم. ففي عام 1993 كانت هناك خطة لنقل بعض الفلاشا إلى بلدة " نِشر" على مقربة من حيفا، ولما علم السكان بذلك قاموا باحتجاج صاخب وعنيف، حتى أنهم أغلقوا الطرق في البلدة، كي لا يتم نقل اليهود الإثيوبيين إليها. وقالوا بأنهم يرفضون بشدة ان يسكن هؤلاء بقربهم، لأن أسعار البيوت سوف تهبط بسبب وجودهم. كما كان هناك احتجاج من قبل اليهود الروس رافضين اسكانهم بقربهم، في منطقة "يوقني عام" العليا( ).
كما رفضت بعض المدارس قبول أبناء هؤلاء في مدارسهم. كما حدث في مدينة حيفا عام 1992، حيث رفض رئيس بلديتها قبول بعض الطلاب الإثيوبيين وهذا مازال يحدث إلى وقتنا الحاضر. وقد أوجز اديسو مسالي الذي أصبح رئيس منظمه يهود إثيوبيا علاقتهم بالسكان الإسرائيليين بقوله "إنّ(اليهود) الإسرائيليين يقولون بأنهم يحبوننا، لكنهم لا يحبون أن نعيش بقربهم، ويشمئزون من رائحة طعامنا ويكرهون ملابسنا الافريقية( ).
ومن المشاكل الاجتماعية المستحكمة بين الإثيوبيين مشكلة البطالة، إذ أن هناك مجموعات كبيرة منهم تعيش على المعونة الاجتماعية، ووصلت نسبة البطالة في بعض المدن إلى 81 في المائة، كما فى عسقلان، ولما كانت هذه المعونة الاجتماعية غير كافية، فإن بعض اليهود الأثيوبيين أخذوا يتحولون الى مسيحيين. وقد نقلت « The Jerusalem Report » في 10/8/1995 أنّ سبع عوائل إثيوبية يهودية من منطقة الناصرة العليا تحولت إلى المسيحية "في الأسابيع القليلة الماضية لينقذوا أنفسهم من الوضع الاقتصادي السيء"،والحصول على مساعدات من الجمعيات التبشيرية.
ومن المشاكل التي ظهرت بسبب وضعهم المتردي مشكلة الطلاق، إذ تبلغ النسبة بينهم أكثر من المعدل بين اليهود الإسرائيليين بمرتين أو ثلاث( ).
وهناك أيضاً المشكلة التي نشأت عن تخلف بعض أفراد العائلة أثناء "عملية موسى " إذ أنّها توقفت فجأة فى حينها، وطلب من الذين تخلفوا أن ينتظروا في أديس أبابا لفترة قصيرة، لكن الفترة طالت لست سنوات، حتى ذكر بأن نسبة الأطفال الأيتام في هذه العملية وصلت إلى ما يقرب النصف من عدد الأطفال، وأنّ الكثير من الزوجات جئن من دون أزواجهن، وقد ولد بعضهنّ أولاداً غير شرعيين، وزادت مشكلتهنّ تعقيداً بسبب عدم إمكان تسجيل أبنائهن عن طريق المؤسسة الدينية. ويقول أحد المسؤولين الاجتماعيين إنّ هناك حالات كثيرة مثل هذه في إسرائيل.
ومن المشاكل التي ترتبط بالنساء مشكلة الاغتسال والتطهر بعد الطمث والولادة ، فنساء اليهود الإثيوبيين يرتمسن في النهر بعد هاتين الحالتين، لكن ليس من السهولة العثور على نهر في إسرائيل للارتماس فيه للتطهر من الطمث، وما بعد الولادة( ).ومن المشاكل التي يعتبرونها عنصرية من الدولة ضدهم ، هو ما كانت تقوم به الدولة ، (وحدث ذلك مرتين)، حيث كانت تتخلص من الدماء التي تبرعوا بها بادعاء أنها تحمل فايروس الأيدز، وكان الناطق باسم وزارة الصحة قد قال في حينها في تبرير التخلص من الدم "إن بعض المجموعات لايمكن أن يقبل دمها بخاصة تلك التي يعتقد أن الأيدز منتشر بينها"( هاىرتس 7/11/2006). .واحتجاجا على ذلك تظاهر عشرة آلاف منهم امام مكتب رئيس الوزراء، ودمروا مئتي سيارة لموظفيه،وفي حينها وعدتهم الحكومة بالتحقيق في الأمر. ومن الحالات التي يرونها عنصرية ، ماكشفه أحد الصحفيين الذي كان يبحث عن سبب انخفاض نسبة الولادة بين يهود أثيوبيا،وعندما قابل ثلاثين امرأة منهم، تبين له أنهن يعطين دواء لمنع الحمل دون علمهن، بل ورفضهن له كما نسب لإحداهن ،حيث قيل لهن إنه تلقيح ضد الأمراض.وقالت صحيفة الإندبندت البريطانية (7/1/2003)، التي ذكرت الخبر بأن هذه المادة، التي تحقن بها المرأة مفعولها كبير وتأثيرها شديد وبعيد المدى. وقد تظاهر الالاف منهم في نهاية نيسان وبداية مايو من هذه السنة (2015) احتجاجا على ضرب الشرطة الإسرائيلية لجندي أثيوبي، وهو بلباسه العسكري،واعتبروا ذلك استمرارا للعنصرية الإسرائيلية نحوهم.وقد اعترف رئيس الدولة راؤوبين ريفلن بذلك، وقال طبقا لما ذكرته وسائل الإعلام "إن الإحتجاجات كشفت جرحا داميا في قلب المجتمع الإسرائيلي،ويجب أن ننظر مباشرة إلى هذا الجرح،ولكننا أخطأنا ولم ننظر".كما قابل رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو،بعض ممثلي الفلاشا وقابل الجندي المعتدى عليه،حيث ترضاه وأثنى عليه ومدحه،فطلب الجندي من أبناء جلدته التوقف عن التظاهر، حيث جرح العشرات منهم.
ويحذر اليهود الإثيوبيون من تفاقم المشاكل الاجتماعية. وقال شولا مولا وهو أحد الطلاب الجامعيين القلائل « إذا لم يكن هناك تغيير حقيقي يحدث بسرعة، فان اليهود الإثيوبيين سيقومون بما يقوم به اليهود السود في أمريكا »( ).
وأكد فاسيل لاغاسا، أحد مسؤولي منظمة اليهود الإثيوبيين، بأن مشاكلهم في ازدياد ،وقال « إنّ المشاكل الاجتماعية آخذة في الازدياد، وهي تتجه نحو الأسوأ وإنّنا نواجه حالة انفجار لأنّ المستائين في إزدياد »، وأضاف: « إنّه لمن المحزن جداً بعد عدة أجيال من الحلم بالمجيء إلى إسرائيل يترك الكثير من شبابنا جذورهم »( ).
وما ذكر في هذه الجملة الأخيرة كلام صحيح فالكثير من شباب الفلاشا الإثيوبيين أخذوا يرفضون الارتباط باليهود عموماً والإسرائيليين خصوصا،ً ويبحثون عن تراث خليط من الكاريبي والافريقي وينتمون إليه . فأخذوا يتبنون طريقة قص الشعر لأولئك، ويلبسون لباساً ألوانه مثل ألوان فرقة « الراستفيريان » ويعملون ظفائر طويلة لشعورهم مثل أتباعها. وهذه الفرقة نشأت في منطقة البحر الكاريبي ونموذجها الأعلى أو إلهها، هو هيلاسي لاسي آخر امبراطور لإثيوبيا. وأخذ هؤلاء يتكلمون عن القومية السوداء ويقولون أنهم من الجنس الأسود وليسوا يهوداً أو إسرائيليين. وأخذ البعض يغيرون أسماءهم اليهودية إلى أسماء أفريقية. ويؤم الكثير من هؤلاء اليوم مكاناً يجتمعون فيه، ويرقصون اسمه سويتو ( على اسم حي في جنوب افريقيا) وهو في تل أبيب تزيّنه صورة نيلسون مانديلا. وهم يأتون إلى هذا المكان من سائر أنحاء إسرائيل، ويقولون أنهم يأتون إلى هذا المكان، لأنهم يشعرون بأنه مثل البلد لهم وأنهم أسياد فيه. وقد اكتشفوا في هذا المكان – كما يقولون – شيئاً يرتبط بتراثهم الافريقي( ). ويرى بعض الباحثين الاجتماعيين أنّ هذا السلوك يعبّر عن ردّ فعل لفشل المجتمع الإسرائيلي في استيعاب هؤلاء ودمجهم فيه. ويريد اليهود الإثيوبيون بهذا السلوك ملء الفراغ الذي نشأ عن اجتثاث تقاليدهم الخاصة بهم، وإحلال التربية الدينية محلها، التي أجبروا على تلقيها من دون أن يكون لهم خيار أو رأي فيها.


-2 - فلاش مورا
بعد تهجير الفلاشا ، بدأت إسرائيل بتهجير مجموعة أخرى من الأثيوبيون الذين ادعوا انهم من أصول يهودية. واتخذت الحكومة الاسرائيلية قراراً بتعجيل نقل هذه المجموعة ، بعدما كانت تنقل منهم بضع مئات كل شهر خلال التسعينات من القرن الماضي، ليصل عدد من نقل منهم الى اسرائيل الى مايقرب من عشرة آلاف . ويأتي قرار تهجير هؤلاء بعد أحد مؤتمرات هرتسيليا السنوية، الذي تحدث فيه رئيس الوكالة اليهودية عن تناقص عدد اليهود في العالم، وتناقص عدد المهاجرين الى اسرائيل، بخاصة من دول الاتحاد السوفياتي السابق. ويطلق على هؤلاء "فلاش مورا" تمييزاً لهم عن اليهود الأثيوبيين ،الفلاشا. ولا يعرف على وجه الدقة معنى كلمة "مورا"، وان كان من المحتمل أنها تعني المتحول عن دينه في لغة شعب "الاغوا" الاثيوبي. و"الفلاش مورا" ليسوا يهوداً ولا يمارسون اليهودية، بل كما يقولون هم مسيحيون. فهم يمارسون العقيدة المسيحية ويتعبدون بها، وغالبيتهم متزوجون من مسيحيات من الفئات المسيحية الأخرى، ويضعون صورة السيدة مريم في بيوتهم ويعلقون الصلبان في قلائدهم، والكثير منهم يَشِم بعلامة الصليب جبهاتهم، بل ان بعضهم قساوسة على المذهب المسيحي الارثوذكسي. لكن هؤلاء يدعون انهم من أحفاد الفلاشا الاثيوبيين، الذين حولهم المبشرون الأوروبيون الى المسيحية منذ منتصف القرن التاسع عشر. وكان هؤلاء المبشرون قد وفدوا في تلك الفترة الى اثيوبيا لتنصير الفلاشا، بعدما علموا بوجودهم من خلال نشر كتاب جيمس بروس الذي ذكرناه سابقا. وقدجاء هؤلاء من اكثر من بلد أوروبي، وقاموا بنشاط مكثف. ولولا مجيء الموفدين اليهود لايقاف هذا النشاط وابطائه بتشجيع الفلاشا على البقاء على معتقدهم وتقديم المغريات لهم لتنصر الغالبية العظمى منهم. وكانت اسرائيل وعدت الفلاش مورا في التسعينات من القرن الماضي بتهجيرهم، فنقل الآلاف منهم الى منطقة غوندار وأديس ابابا، واسكنوا في مخيمات ترعاهم بعض المنظمات اليهودية والمؤسسات المسيحية الصهيونية بالتعاون مع الوكالة اليهودية. وانشئت لهم بعض المدارس تدرسهم الديانة اليهودية واللغة العبرية، ويتعلمون طريقة العيش الحديثة فيها، وتعرض لهم أفلام عن اسرائيل وعن الحياة الجميلة فيها. وانتقد بعض المسؤولين الأثيوبيين نقل مواطنيهم الى اسرائيل، ويعتبرونه عملاً مدمراً لتاريخ أثيوبيا وتراثها ويقولون: «لو كانت اسرائيل تريد مساعدة هؤلاء حقاً لساعدتهم وهم في بلادهم». بررت وزارة الخارجية تهجير هؤلاء على دفعات بقولها، ان اسرائيل لا تريد ان تهجر «الفلاش مورا» دفعة ،واحدة، حتى لا تحرج الحكومة الاثيوبية بتهجير مواطنيها! وقد ارتفعت أصوات داخل اسرائيل تعترض على جلب هؤلاء. وكان من المعترضين حاخامون يرفضون علاقة هؤلاء باليهودية. كما اعترض بعض أعضاء الكنيست ايضاً، بل ان بعض المسؤولين في اسرائيل اعترض على جلب مثل هذا العدد الكبير من المسيحيين. لأن هذا في نظرهم يضر بتركيبة المجتمع الاسرائيلي وغالبيته اليهودية. بل ان بعضاً من اليهود الأثيوبيين (الفلاشا) انفسهم رفضوا ان يهجر هؤلاء الى اسرائيل، وأنكروا عليهم ادعاءهم وقالوا عنهم انهم أناس مرتدون يريدون ان يهربوا من حياة الفقر والعوز، التي يعيشونها في أثيوبيا. ولكن رئيس الوكالة اليهودية دافع عن قرار الحكومة، وقال عنه انه قرار صحيح من وجهة نظر انسانية ويهودية وصهيونية، مشيراً الى انهم يهجرون وفق مواصفات خاصة. وهو هنا يشير الى ان هؤلاء لا يهاجرون طبقاً لقانون العودة المعروف، وانما طبقاً لقانون شرعته اسرائيل يسمى «قانون جمع الشمل». وقال أحد المسؤولين «سواء كان هؤلاء يهوداً أو غير يهود، فإنهم سيتحولون الى اليهودية عند وصولهم». وهذا صحيح واليهودية التي سيتحول اليها هؤلاء، هي اليهودية الارثودكسية التي تفرض عليهم ،ولا يعطون خياراً لاختيار مذهب يهودي آخر مع أن هناك مذاهب يهودية أخرى في إسرائيل. وكان بعض اليهود الأثيوبيين كما ذكرنا،والعبرانيين الاسرائيليين (وهم من الأفارقة الاميركيين) قد رفضوا اعتناق المذهب الارثودكسي. وطبقاً لقانون «جمع الشمل» هذا هاجر عشرات الآلاف من الروس، الذين هم ليسوا يهوداً، وليس لهم أي صلة باليهودية، وقد أصر هؤلاء على بقائهم على عقيدتهم المسيحية، وهم اليوم مجموعة كبيرة لها ثقافتها وطريقة حياتها التي تتميز بهما عن بقية الروس الآخرين بل واليهود عامة، وان الكثير منهم يسكنون في أماكن خاصة بهم، ولهم كنائسهم ومراكزهم الثقافية ولهم محلاتهم التي تبيع ما هو محرم على اليهود مثل لحم الخنزير. وإن أولادهم الذين يلتحقون بالجيش يقسمون قسم الولاء بالأنجيل. ويأتي تهجير"الفلاش مورا" على رغم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية التي يواجهها الفلاشا في اسرائيل كما ذكرنا. ففي آخر احصاء عن نسبة الفقراء بينهم تبين أن هناك 60 في المائة منهم من يعدون من الفقراء، كما ان نسبة البطالة بينهم تعتبر أعلى نسبة في اسرائيل، كما ان الأجور المنخفضة هي ظاهرة عامة بينهم، أما عدد حالات الانتحار فنسبتها هي الأعلى بين شرائح المجتمع الاسرائيلي. وأخذت تحدث بعض حالات التهرب من الخدمة في الجيش. وفي استطلاع حديث عن ظاهرة العنصرية بين فئات المجتمع الاسرائيلي قال 43 في المائة من الاسرائيليين انهم يرفضون الزواج من الفلاشا ولا يريدون لابنائهم ان يتزوجوا منهم.وقد ذكرنا سابقا نماذج مما يصفه الأثيوبيون بالعنصرية ضدهم.
وتهجر اسرائيل الى جانب «الفلاش مورا» مجموعة أثيوبية أخرى تسمى «قوارا» من شمال شرقي أثيوبيا، وهؤلاء يدعون أنهم يهود، وقد وصل منهم الى اسرائيل حتى اليوم بضعة آلاف، ومن ضمن هؤلاء مجموعة أخرى انضمت الى «القوارا» تسمى «غوفر"، كان القوارا يشترونهم عبيداً من الأمهرة، ويتخذون من نسائهم سرّيات وجواري ويحولونهم الى عقيدتهم ويعتبرونهم جزءاً منهم، وهؤلاء يتميزون عن بقية الاثيوبيين بلونهم الداكن وسواد سحنتهم الشديد . ويبدو ان تهجير هؤلاء لن يكون الأخير من اثيوبيا، فقد وجدت صحيفة «جيروزاليم بوست» في تحقيق لها في أثيوبيا، ان هناك الآلاف من هؤلاء ممن لم يحصهم ممثلو الحكومة الاسرائيلية، ممن يعيشون في قرى نائية ويريدون الهجرة الى اسرائيل. وتقول الصحيفة انه في بلد يصل عدد سكانه الى 65 مليوناً، فإنه من المحتمل ان يكون هناك مئات الآلاف من هؤلاء. وعلق أحد المسؤولين في اسرائيل على احتمال هجرة أعداد كبيرة من هؤلاء بقوله: «ان امبراطور اثيوبيا السابق (هيلاسيلاسي) كان ادعى انه من سلالة سليمان، فما بالك في بقية الاثيوبيين وما الذي يمنعهم من ادعاء الأصل اليهودي إذا كانوا يريدون الهرب من الفقر». والى جانب تهجير الاثيوبيين هناك خطط اسرائيلية لتهجير الآلاف ممن يسمون «بني منسه»، وهؤلاء هم قبائل تعيش على طرفي الحدود بين الهند ومينمار (بورما)، وقد ادعى بعض الحاخامين في اسرائيل أن هؤلاء هم من القبائل اليهودية الضائعة، وهجرت اسرائيل بضع مئات منهم حيث سكنوا المستوطنات. وقد أرسل بعض المندوبين من اسرائيل لتهيئة هؤلاء للهجرة اليها.
والبحث عما يسمى القبائل الضائعة يمتد- كما ذكرت في أكثر من مقالة- من القارة الاميركية الى افريقيا وآسيا، وأخذ هذا النشاط اليوم يركز على بعض القبائل والجماعات المسلمة، خصوصاً تلك التي تسكن الحدود الافغانية ـ الباكستانية بحجة ان هؤلاء من أصول يهودية. وقد ازدادت هذه النشاطات بعد 11 ايلول (سبتمبر) وهي نشاطات مريبة وخطرة. ولكن القرار الذي سيفتح الباب على مصراعيه لهجرة القاصي والداني الى اسرائيل، هو ذلك الذي أعلنت عنه الوكالة اليهودية بقبولها هجرة من يسمون اليهود بالاختيار، وهؤلاء هم أناس لا يمتون الى اليهودية بنسب ولابصلة، ولكنهم تحولوا أو يتحولون اليها. ويبدو ان اسرائيل تريد بهذا ان تعوض عن مصادر الهجرة التقليدية التي بدأت تجف منابعها ويتوقف تدفقها، وهي اليوم تبدو وكأنها تسابق الزمن بسبب الهاجس الديموغرافي الذي يؤرقها ويخيفها،حيث ذكرت صحيفة الجويش كرونكل اللندنية في عددها المؤرخ في 2/1/2015 أن مجموع الفلسطينيين،الذين هم في إسرائيل والأراضي المحتلة وغزة سيكونون أكثر عددا من الإسرائيليين اليهود في السنة القادمة (2016). واسرائيل كما هو معروف تنظر الى زيادة السكان على انها مصدر قوة وهدف استراتيجي بعيد المدى والغايات، فبزيادة سكانها تؤكد وجودها كدولة يهودية، ويزداد نفوذها وتأثيرها في المنطقة وخارجها، كما انها ستكون أكثر تشدداً في موقفها مع العرب عموماً والفلسطينيين خصوصاً وهو ما أخذ يتبين الآن. واما المشاكل التي تواجهها كمشاكل الفلاشا ونسبة الفقر العالية بين هؤلاء، فإن المسؤولين في اسرائيل يرون فيها مشاكل عابرة وموقتة ستزول بتغير وضع المنطقة في المستقبل. ولكن يبقى السؤال المهم وهو ما الذي سيحدث إذا استمرت اسرائيل على هذه الوتيرة في جلب هذه الأعداد الكبيرة التي تملأ بها الأرض وتبني من أجلها المستوطنات، وكم إذن ستكون مساحة دولة فلسطين التي تدور حولها محادثات السلام وما حجمها ان أريد لها ان تقوم؟ ربما لا يعرف الجواب على هذا السؤال إلا المسؤولون الاسرائيليون انفسهم.
(1) ص 344، 1.vol(نقلت النص كما هو على ركاكته) ولكنه مفهوم المعنى.ويعتقد أن الإمام أحمد كان من الصومال
(2) ص 142، 2.
(3) D. Kessler, The Falashas, The Forgotton Jews of Ethiopia, p. 64.
(5) J. Quirin, The Evolution of the Ethiopian Jews, P. 8.
(6) المصدر نفسه، ص 8 – 9.
(7) Encyclopaedia Judaica, Elephantine.
(8) D. Kessler, op. cit. pp. 46-47.
(9) I. Ben Zvi, The Exiled and the Redeemed, pp. 291-292.
(18) T. G. Wagaw, For Our Soul, Ethiopian Jews in Israel, p. 20.
(19) J. Quirin, The Evolution of the Ethiopian Jews, P. 142.
(20) Ibid, p. 145.
(21) D. Kessler, op. cit. p. 151-152.
(10) E. Ullendorif, Ethiopia and the Bible, pp. 116-118.
(11) T. G. Wagaw, For Our Soul, Ethiopian Jews in Israel, p. 7.
(12) W. Leslau, Falasha Anthology, p. xxxvi.والفرقة العيسوية التي أوجدها أبو عيسى الأصبهاني (اليهودي) في القرون الوسطى أيضا تؤدي الصلاة سبع مرات في اليوم طبقا لتشريع مؤسسها
(13) D. Ross, Acts of Faith, pp. 149-148.
(14) D. Kessler, op. cit. p. 68.
(15) Ibid, pp. 69-70.
(16) W. Leslau, op. cit. p. xxv.
(17) D. Kessler. op. cit pp. 69-70.
(22) H. A. Stern, Wanderings Among The Falasha, introduction.
(23) S. Messing, The Story of The Falasha, p. 197, and J. Quirin, op. cit, p. 195.
(24) R. S. Feuerlicht, The Fate of The Jews,p. .
25) L. Rappart, The Lost Jew, pp. 197-196.
(26) M. Waldman, The Jews of Ethiopi(a, pp. 66-68.
(27) R. S. Feuerlicht, op. cit, p. 206.
(28) L. Rappart, The Lost Jews, p 195.
(29) D. Ross, Acts of Faith, .p.160.
(30) R. S. Feuerlicht, op. cit, p. 208.
(31) T. G. Wagaw, op. cit, pp. 112-113.
(32) Operation Moses.
(33) Ibid, p. 130.
(34) D. Ross, Act of Faith, p. 160. وقبل الفلاشا كان بعض الهنود الذين هجروا إلى إسرائيل في خمسينات القرن الماضي على أنهم يهود رجعوا إلى الهند احتجاجاً على الشك في يهوديتهم
(35) T. G. Wagaw, op. cit, p. 114
(36) Ibid, p. 115.
(37) بري شمس، سقوط إسرائيل، ص 242.
(38) T. G. Wagaw, op. cit, p. 180.
(39) Ibid, pp. 118-119.
(40) The Jerusalem Post, 12/9/1992.
(41) The Jerusalem Post, 28/8/1992.
(42) Jewish Chronical, 2/2/1996.
(43) The Jerusalem Post, 16/4/1992.
(44) Jewish Chronical, 8/12/1995.
(45) T. G. Wagaw, op. cit, pp.s 87-88.
(46) Ibid, p. 88.
(47) Jewish Chronical, 8/12/1995.
(48) بري شمس، سقوط إسرائيل، ص 235.
(49) The Jerusalem Report, 15/12/1994.



#جعفر_هادي_حسن (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العنف ضد المرأة في إسرائيل
- تاريخ اليهود القرائين منذ ظهورهم حتى العصر الحاضر
- تدمير دمشق في الفكر المسيحي الصهيوني
- طقس الكفاروت في ليلة يوم الكفور
- صراع الحريديم والعلمانيين على المدن في إسرائيل
- اليهود الحريديم
- تاريخ العراق الذي ينهب
- مكوياكفرقة يابانية صهيونية
- بين إيلان بابيه وبندكت سبينوزا
- من مفكري الحركة الصهيونية وفلاسفتها: يعقوب كلتزكن
- قانون العودة وهجرة اليهود غير المعترف بهم إلى إسرائيل
- جدعون ليغي الصحافي الذي يزعج اسرائيل بكتاباته
- من تاريخ الحركة النسوية اليهودية
- الصراع العلماني الديني في اسرائيل اسبابه وتجلياته
- منظمات يهودية تبحث عن -قبائل بني إسرائيل الضائعة- لتهجيرها إ ...
- احتفال اليهود بالسنة العبرية الجديدة
- هوس الديمغرافيا وظاهرة النازيين الجدد في اسرائيل
- الاحتفاء بحضارة بابل
- التغلب على الصهيونية:إنشاء دولة ديمقراطية واحدة على أرض إسرا ...
- بعد المؤرخين الجدد..ظاهرة الروائيين الجدد في إسرائيل


المزيد.....




- القوات الإيرانية تستهدف -عنصرين إرهابيين- على متن سيارة بطائ ...
- الكرملين: دعم واشنطن لن يؤثر على عمليتنا
- فريق RT بغزة يرصد وضع مشفى شهداء الأقصى
- إسرائيل مصدومة.. احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين بجامعات أمريكية ...
- مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى المبارك
- مقتل فتى برصاص إسرائيلي في رام الله
- أوروبا.. جرائم غزة وإرسال أسلحة لإسرائيل
- لقطات حصرية لصهاريج تهرب النفط السوري المسروق إلى العراق بحر ...
- واشنطن.. انتقادات لقانون مساعدة أوكرانيا
- الحوثيون: استهدفنا سفينة إسرائيلية في خليج عدن وأطلقنا صواري ...


المزيد.....

- تاريخ البشرية القديم / مالك ابوعليا
- تراث بحزاني النسخة الاخيرة / ممتاز حسين خلو
- فى الأسطورة العرقية اليهودية / سعيد العليمى
- غورباتشوف والانهيار السوفيتي / دلير زنكنة
- الكيمياء الصوفيّة وصناعة الدُّعاة / نايف سلوم
- الشعر البدوي في مصر قراءة تأويلية / زينب محمد عبد الرحيم
- عبد الله العروي.. المفكر العربي المعاصر / أحمد رباص
- آراء سيبويه النحوية في شرح المكودي على ألفية ابن مالك - دراس ... / سجاد حسن عواد
- معرفة الله مفتاح تحقيق العبادة / حسني البشبيشي
- علم الآثار الإسلامي: البدايات والتبعات / محمود الصباغ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - دراسات وابحاث في التاريخ والتراث واللغات - جعفر هادي حسن - يهود أثيوبيا (الفلاشا)