أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - -الإغواء الأخير للمسيح- نيكوس كازانتزاكيس















المزيد.....



-الإغواء الأخير للمسيح- نيكوس كازانتزاكيس


رائد الحواري

الحوار المتمدن-العدد: 4790 - 2015 / 4 / 28 - 10:06
المحور: الادب والفن
    


الإغواء الأخير للمسيح
نيكوس كازانتزاكيس
يتناول الكاتب في هذا العمل الروائي العهد الجديد، فهو يمثل رواية دينية، ومن يطلع عليها سيجد الأحداث التاريخية المتعلقة بالسيد المسيح (عليه السلام) حتى أن العديد من العبارات الدينية التي قالها المسيح مثل "ما لقيصر لقيصر، وما لله لله، ومن ضربك على خدك الأيمن، در له الأيسر، ومن يمتلك رداءا فليبعه ويشتري خنجرا/سيفا" كما نجد الكيفية التي اتبعها المسيح (عليه السلام) ليجمع تلاميذه، بطرس، يوحنا، متى، يعقوب، يهوذا، ونجد ذكر للأعمال الخارقة التي قام بها من إحياء الموتى إلى شفاء المرضى، والسير على الماء، وتكثير الطعام القليل، ومن ثم تأمر اليهود عليه وصلبه.
أهم ما في الرواية الحالة الصراع الداخلي عند السيد المسيح، الطبيعة الإنسانية وما تحمل من رغبة نحو الحياة، المرأة والأطفال، تلبية رغبات أمه، وبين واجبه اتجاه البشر، تخليصهم من الخطيئة، فكانت مريم المجدلية هي المحرك الأساسي لمشاعر المسيح نحو رغبة الحياة، المرأة، حتى أن حضور الشيطان للمسيح هو على الصليب وغوايته بمريم المجدلية أولا ثم بمريم ومرتا أختا اليعازر، وهذا يؤكد أهمية المرأة في حياة الرجل، فهي الوجه الآخر لاستمرار للحياة، حتى أن الحوار الذي يجري بين المسيح ـ أثناء الغواية ـ وبين يهوذا ومتى وبطرس وزوجته مريم متعلق بالمرأة وإنجاب الأطفال والتكاثر والعمل في الأرض.
لكن النهاية تكون بانتصار الواجب على الرغبة/الغريزة، وانتصار المسيح على الشيطان، وانتصار البذار ـ متى وبطرس ويوحنا ـ على الواقع/ الظروف، الرواية من منشورات مدى للثقافة والنشر، سورية، الطبعة الرابعة 2006، ومن ترجمة أسامة منزلجي، وتقع في 684 صفحة حجم متوسط.
سنحاول تناول ما جاء في رواية "الإغواء الأخير للمسيح" باختصار وذلك لحجمها الكبير وتوسع أحداثها، ونبدأ من الأرض التي جرت عليها الأحداث.
جغرافية الحدث الديني
لا شك أن أهمية المكان تكمن في ما جرى عليه وفيه، فيأخذ القدسية الدينية من خلال قول إلهي سماوي، ويأتي البشر لكي يقوموا بأعمال وأفعال تعزز القدسية، فهم من يعمد قدسية المكان، بالعمل والألم، لا شك أن فلسطين كانت حاضرة على مر التاريخ، أن كان من خلال الحدث الديني أو الثقافي أو الحضاري، ولها أهميتها الجغرافية بالإضافة إلى أهميتها الدينية، وهي كان محل الصراعات العالمية، ومن يمتلكها يملك العالم، ومن يسيطر على بحرها يسيطر على بحار العالم، هذا ما كان منذ فجر التاريخ وحتى ويومنا هذا، " ..ورأى النائم أرض كنعان مبسوطة فوقه على سقف بيته الواطئ المغطى بأعواد الخيزران ـ أرض كنعان كالأثير المطرز متعددة الأولون، غنية بالزخارف، وترتعش، والى الجنوب صحراء أدومية تهتز متغيرة كظهر نمر، وأبعد منها البحر الميت، كثيف وسام، يغرق الضوء ويبتلعه، وبعده تنهض أورشليم الفوق بشرية،.. بعد ذلك السامرة، قذرة، يعيث فيها الوثنيون، في وسطها بئر تسحب منها امرأة متبرجة الماء، وأخيرا، في أقصى الشمال الجليل ـ المشمسة، المتواضعة،... من طرفي الحلم إلى الطرف الآخر جرى نهر الأردن" ص12، تفصيل المكان الذي سيكون مجرى لأحداث السيد المسيح، فكان مولده وحياته وصلبه وانتقاله إلى السماء من هذا الأرض المقدسة.
هناك أكثر من عشرة مواضع تحدث فها الكاتب عن المكان، ولا مجال لذكرها جميعا، لكننا نشير إلى أن هذا الذكر لم يكن من فراغ وإنما كتأكيد على قدسية و أهمية المكان.
إنسانية المسيح
هناك إشكالية بين أتباع الديانة المسيحية حول ماهية المسيح، هل هو إنسان أم شيء آخر، إله/مقدس؟ وهناك منهم من يجمع بين الماهيتين، في هذا العمل يقدم لنا الكاتب الحالتين للمسيح، فهو أحيانا يكون إنسانيا، يتألم ويغضب، ويفرح ويمتلك غريزة جنسية كأي مخلوق عادي، وحيانا يكون شيئا غير عاديا، إن كان بقوله أو بعمله أو ببصيرته، هو كائن فوق الطبيعة البشرية، فنجده يحمل ذاته مسؤولية الحالة المزرية التي وصلت إليها مريم المجدلية من خلال قوله: "بسببي آلت إلى ما آلت إليه، لقد دفعتها للانغماس في متع الجسد حين كنت ما أزال طفلا، نعم، أعترف، اسمع أيها الحبر، إن كنت ترغب في أن تصاب بالرعب، حدث ذلك حين كنت في حوالي الثالثة من عمري، تسللت إلى منزلكم في وقت لم يكن فيه أحد، أمسكت بيد المجدلية، ثم خلعنا ملابسنا وتمددنا على الأرض، ورحنا نضغط أخامص أقدامنا الحافية، ما كان أكبر تلك المتعة، ما أمتع ذالك ألاثم، ومنذ ذلك الحين سارت المجدلية في طريق الضياع، ضاعت، لم يعد بإمكانها أن تعيش بلا رجل، بلا رجال" ص202، بهذا السلوك البشري يحدثنا المسيح عن ذاته، فهو يشعر بالمتعة واللذة حين يلامس الجنس الآخر، كما نجده يشعر بالإثم، ويحمل خطئيه، التي دفعت مريم المجدلية لكي تنزلق أكثر فيها، بحيث أمست مومس يأتها الرجال من كل مكان ويصطفون أمام بيتها ليأخذوا متعتهم من جسدها.
فالمرأة ليست شيئا عابرا في حياة الرجل، أنها تشكل احدهم أهم العناصر في حياته، وبدونها لا يستطيع العيش، أو ستكون حياته صعبة ومستحيلة وفيها نقص، فيحدثنا المسيح عن المرأة قائلا: "أنني حين أشاهد امرأة أحمر خجلا وأطرق رأسي، لكن عيني تمتلئان بالشهوة" ص203، اعتراف صريح بمشاعر الرجال اتجاه النساء، فرغم وجود إحساس مرهف لدى المسيح، وحاجز أخلاقي عالا، يمنعه من الإقدام على فعل محرم، يشعر بأنه لا يتناسب وما يحمله من أفكار وأخلاق، إلا أن الغريزة الإنسانية تبقى حاضرة ومؤثرة وفاعلة في نفسه.
وإذا انتقلنا إلى إغواء المسيح هو على الصليب، سنجد هناك أنسانا خالصا لا يحمل أي مسألة قدسية، فعملية الإغواء تتعلق بالإنسان وليس بالمقدس أو الخارق.
إلهة/قدسية المسيح
سنتحدث من داخل النص الروائي، بمعنى كيف قدم لنا الكاتب شخصية المسيح الخارقة للقدرات البشرية، فنجده يحمل معنى التغير الايجابي ليس على البشر وحسب بل على الطبيعة أيضا، "ما أن يرفع قدمه حتى تمتلئ الأرض التي يطأها بالزهور، وحين ينظر إلى الأشجار تتفتح براعهما، وحالما يضع قدمه في قارب الصيد تهب ريح مواتية وتملأ الشراع، كان الناس ينصتون إليه فيتحول الطين في داخلهم إلى أجنحة، وطوال فترة الخطوبة كلها كنت كلما رفعت حجرا تجد الرب تحته، وإذا قرعت بابا يأتي الرب ليفتحه لك، وغذا نظرت في عين صديقك أو عدوك كنت ترى الرب متربعا في البؤبؤ يبتسم لك" ص269، الشق الأول المتعلق بتأثير المسيح في الطبيعة يحمل بالتأكيد قدرات إلهية، وتكاد تكون متماثلة مع تلك التي كتبها الكنعانيون عن إلهم (بعل) والسومريون عن (تموزي) لكن الشق الثاني المتعلق بالبشر فهو جديد، ولم يطرحه أحد من قبل بهذا الشكل، فكان المسيح حاضرا في كل شيء وعند كل شخص، وكأنه الهواء الذي يتحرك على الأرض ويدخل إلى صدورنا، فلا يمكننا أن نوقفه لأن ذلك يعني موتنا، فهنا كان المسيح بمثابة الحياة للبشر، وليس أي حياة، بل الحياة الهانئة والسعيدة.
صراع الإنسان والإله
اعتقد أهم في هذا العمل تناوله لحالات الصراع داخل السيد المسيح، فأحيانا كانت رغباته الإنسانية تدفعه لكي يتخلى عن واجبه اتجاه الناس، وأحيانا كانت الرسالة السماوية تجعله يتوغل أكثر فيما رسم له، فهو على علم ودراية كاملة بما ستؤول إليه الأمور، ومع هذا أختار طريق الألم، طريق الصليب، ليس ليحمل أوزارا وخطايا البشر وحسب، بل ليقدم لهم نموذج حي عن الإيمان، الإرادة وما تفعله في النفوس، فهو العنصر الذي يفجر الطاقات، من هنا يدعو الناس إلى الإقدام والأخذ بطريقه، ليثبتوا ذاتهم ويحققوا هدفهم وينتصروا على شياطينهم.
عندما تناول الكاتب في نهاية الرواية عملية إغواء المسيح هو على الصليب، يئن متألما متوجعا، ينظر حوليه فلا يجد أحدا من تلاميذه يعينه ولو معنويا لتحمل ألم ووجع الصلب، كان يقصد منها التأكيد على وجود حالة الصراع بين ماهية الإنسان وماهية الخارق/الإله داخل المسيح.
حالة الصراع لها أكثر من شكل، منها ما هو متعلق بالمرأة، مريم المجدلية، "أنها هي من أريدها هي! ومد يده يبغي إعطاءها الوردة، لكنه حين فعل ذلك انغرزت عشرة مخالب كألمسامير في رأسه وخفق جناحان بحركة هائجة فوقه، وهيمنا بإحكام على صدغيه، أطلق صرخة وانطرح على وجهه" ص39، المرأة في مواجهة الإله، فهي تتساوى معه في تأثيرها على الرجل، وكأن الكاتب أردنا أن نعظم هذا الكائن ، الذي يحمل قدرة خارقة، فمكانة وقدرة المرأة هنا تتوازي مع قدرة ومكانة الإله، هذا ما أراد الكاتب أن يوصله لنا، المرأة تساوي إله.
تأثير المرأة على المسيح لم يكن أمرا عابرا، كانت حاضرة في كافة أحداث الرواية، وملازمة له أن لم تكن كجسد مادي، كان كشهوة، كرغبة جامحة، كعقدة لا يكمن فكها، فهي القرين للواجب المقدس الذي جاء به المسيح، من هنا المجدلية، المرأة والمقدس يصطفان متساويان، وبذات المقدار في نفس المسيح.
يعود الشيطان بهيئة أفعى للمسيح لكي يثنيه عما وجد من أجله ـ تخليص البشر ـ فيستخدم المرأة، المجدلية وما لها من تأثير وفاعلية عليه وفيه، عسى أن يحقق مآربه في ثني المسيح عما جاء من أجله، "سأفضي إليك بسر يا ابن مريم"، وانزلقت نازلة عن الصخرة كجريان الماء وأخذت تزحف إليه، بزخارفها الغنية، وحين وصلت عند قدميه صعدت إلى ركبته، وتابعت طريقها إلى أعلى بحركة ملتفة وبقفزة واحدة وصلت إلى فخذيه، فعورته، فصدره وأخيرا أتكأت على كتفه،.. لعقت الأفعى أذن يسوع بلسانها وكان صوتها مغريا ونأئيا، وكأنه قادم من الجليل، من أطراف بحيرة جنيسارت: "أنها المجدلية.
قال يسوع: مرتعشا "ماذا؟ ما خطب المجدلية؟
هست الأفعى بلهجة آمرة "...المجدلية هي التي يجب أن تنقذها! وليس الأرض ـ انسى أمر الأرض، أنها هي، المجدلية التي يجب إنقاذها" ص354، بهذا الوضوح تكمن أهمية المرأة فهي تتساوى بمكانتها وأهميتها مع مكانة الأرض وما فيها، وحتى أنها يمكن أن تكون أهم، فهي شيء مميز، خارق، يمكنه أن يقلب المسار رأسا على عقب، من هنا لم يجد الشيطان وسيلة غير المرأة لكي يثني المسيح عن دربه، فهي فقط من يمتلك الصفات والتأثرات على الرجال.
لم يكن صراع المسيح متعلق بالمرأة وحسب، بل أيضا بالمهمة الكبيرة الملقاة عليه، مهمة تخليص الناس، تغير المجتمع، قلب مفاهيم وإيجاد أفكار وسلوك جديد، يصف لنا الكاتب حالة المسيح وهو بين العامة بهذا الشكل، " ... إلا أنهم سرعان ما ارتدوا إلى حديثهم السافر عن النساء والغلمان، وابرزوا السنتهم ولعقوا أفواههم.
غمغم أبن مريم "يا رب، آه يا رب، أين رميت بي؟ أي فناء هذا؟ أي نوع من الرجال أجالس! إن هذا، يا رب، هو أسفل السافلين، امنحني القوة على احتماله!" ص120 و121، إذن الإنسانية كانت حاضرة، المسيح يتألم، يستنجد بالله لكي يمنحه القوة، فهو هنا إنسان خالص، لا يحمل أي صفات خارقة، أو قدرات على التحمل، من هنا نجده يمتعض من العامة، ويستنجد بالله ويدعوه لكي يمنحه القوة.
وأيضا هناك حالة صراع بين دور المسيح كمخلص ودوره كابن، الابن الذي تكن له أمه كل المحبة والحنان، تريده أن يكون ابنا خالصا لها، يقدم لها العون ويطيعها، تريد أن ترى أحفادها منه، تريد أن يكون لها كنه، كل هذه المشاعر تحملها أم المسيح، "شعر الشاب بتشنج في قلبه، آه لو يتمكن فقط من التخلص من خشيته من الرب، لو يتمكن فقط من ضمها بقوة بين ذراعيه، من أن يمسح دموعها، يمسد على شعرها ويدخل السعادة إلى فلبها، ومن ثم يأخذها ويرحل" ص126 و127، بمشاعر الابن يتكلم المسيح، يرد أن يفرح أمه، أن يقدم لها شيئا مما تريده، لكن الواجب المقدس يحول دون ذلك، فلا يمكن أن يكون أبنا صالحا، مطيعا، ينفذ رغباتها في الزواج والإنجاب، وفي ذات الوقت يكون المخلص للأرض وما عليها.
المرأة
يمكننا القول بأن المرأة تمثل أهم العناصر الفاعلة والمؤثرة في الرواية، فرغم حديثها عن المسيح، إلا أنها كانت تلعب دورا يتوازى معه، وكأن الرواية كتبت عن تأثر المسيح بالمرأة، من هنا سنجد العديد من الأحداث تتعلق بها.
فهي لم تكن تمثل الشهوة والجمال والعاطفة والحنان وحسب، بل كانت تمثل أيضا الموقف المبدئي والصلب، من هنا نجد مريم المجدلية بعد توبتها كانت تعتبر احد تلامذة المسيح، فكانت تتبعه وتبشر به بين الناس.
يصف لنا الكاتب مريم المجدلية بعد توبتها بهذا الشكل، "... وإذا بالمجدلية تمر من أمامه، في منتصف الليل، وهي على متن جمل ذي سرج ذهبي، وجهها مخدد من طول البكاء، وقد تحولت المساحيق على وجهها إلى طين" ص111 و112، هذا الوصف يدل على التوبة الصادقة، التوبة التي ستبدل حياة المجدلية، من البغاء إلى التقوى والورع، فهي تأخذ مسارا متناقضا تماما عما كانت عليه، فأصبحت إنسانا جديدا طاهرا كيوم ولدته أمه.
وعندما يقرر المسيح الذهاب إلى حتفه في أورشليم، تكون المجدلية بهذا الحال، "كانت عيناها منتفختين لأنها لم تفز بأي قسط من النوم طوال الليل، اتكأت على قائم الباب وراحت تملي ناظريها بالنظر إلى يسوع بعمق، دون أن تحظى بالعزاء، وكأنها ستغادره إلى الأبد، ودت لو تطلب منه لا يرحل، لكنها شعرت وكأن حنجرتها قد سدت" ص559 التوحد مع المسيح جعل المجدلية تكون بهذه الهيئة، تحمل عاطفة جياشة، ولكنها لا تستطيع تغير المقدر، تغير الرسالة، الواجب، وعدم الاستطاعة ليس نتيجة ضعف أو عدم قدرة، بل بسبب إيمانها بالرسالة التي جاء بها المسيح، إيمانها بضرورة الاستمرار بما جاء من اجله، من هنا نجدها عقليا مع ذهابه إلى الصلب، وعاطفيا لا تستطيع تحمل الابتعاد عنه.
الشكل والمضمون
المسيح جاء بأفكار تظهر وكأنها شكلا انقلاب على الشريعة اليهودية، فعندما كان يشفي المرضى في يوم السبت، كان شكلا يعتدا على قدسية هذا اليوم، لكنه فعليا كان يخدم الناس ويتقرب للرب بعمله، وعندما خلص مريم المجدلية من الرجم قائلا لجموع الناس، من لم تكن به خطيئة فليرجمها، فهو هنا يظهر كمن يتخلى/يلغي شريعة موسى، لكنه أرد بذلك سن مبدأ العفو عن الخاطئين، وأيضا محاسبة الذات قبل محاسبة الآخرين.
فالمسيح جاء ليعري هؤلاء المتمسكين بالشكل والهاجرين للمضمون/الجوهر، لكي يكون المضمون هو العنوان والهدف والطريق نحو الخلاص، فنجده يقبل "متى" جابي الضرائب للرومان ليكون احد تلاميذه والمسؤول عن كتابة كل ما يقوم به ويقوله، وهذا الأمر كان يتعارض مع مفهوم السائد عند اليهود حول هؤلاء المتعاونون مع الرومان، "ولج متى إلى الداخل، أغلق دفاتره، وتأبط دفترا فارغا، ... اقترب من يسوع بساقين ترتجفان، ثم توقف، أيتقدم أم لا؟ هل سيمد له المعلم يده؟ رفع يسوع إلى عينين تتوسلان إليه أن أرفق بي.
ابتسم له يسوع وقدم يده" ص435، بهذا الشكل كان المسيح يرفض إغلاق باب التوبة أمام ألعصاه والخاطئين، فكان يؤكد بان باب الله واسع وكبير، ويمكن لكل عباده الدخول منه إلى الله، وهذا الأمر كان يرفضه الكهنة، فكانوا يتمسكون بالنص المكتوب حرفيا، دون أن يعوا أهمية روح النص التي يجب العمل بها.
وعندما واجه المسيح شيوخ الكهنة قال لهم : " لا تظنوا أنني جئت لألغي الناموس والأنبياء، إنني لم آت لألغي الوصايا القديمة بل لأوسع مجالها" ص478، التغير نحو الأفضل هو ما جاء به المسيح للناس، فهو لم يأتي لليهود فقط، بل جاء لكل الناس، الرومان والوثنين أيضا، من هنا كانت دعوته جامعة وشاملة، وفي ذات الوقت أوسع وأرحب مما جاء في العهد القديم.
عندما يطلب بيلاطس إحضار المسيح استجابة لطلب الكهنة لمحاكمته يقف أمام الهيكل في أورشليم متأملا، "هيكل يهوه الضخم يومض تحت أشعة الشمس كوحش آكل البشر ساكن، تعج من حوله أسراب متعددة الأولون من البشر وتلج داخل فاه المظلم الفاغر" ص528، من المفترض أن يوصف المكان المقدس ـ الهيكل ـ بصورة زاهية تحبب الناس به، لكن المسيح جعله وحشا يبتلع الناس، وحش مرعب يثير الخوف والهلع، وكأنه بهذا الوصف أرد أن يهدم الهيكل، أن يزيل القدسية منه، ويجعله أقل مكانة حتى من الأماكن العادية، فهي لا تؤذي الناس، لكن الهيكل وما فيه من أفراد يدعون الإيمان والتمسك بالشرعة هم فعليا يخربون ويهدمون هذا المقدس، بتمسكهم بالشكل، وصب اهتمامهم على مفاهيم قديمة لم تعد تصلح للمجتمع.
التماثل بين ما قاله المسيح وما جاء به الإسلام
رغم أن هذا الأمر ـ شكلا ـ يبدو خارج عن موضع الرواية، إلا أنه يخدم النص الديني في الرواية، فالرواية أساسا هي رواية دينية، من هنا سنطرح الأفكار المتماثلة التي جاءت في الرواية وتلك التي جاء بها الإسلام، إن كانت من خلال القرآن الكريم أو من خلال الأحاديث النبوية.
مسألة التوبة وقبول توبة الخطاة ودخولهم ملكوت الله يعد أمر جامعا بين المسيحية والإسلام، فكلاهما يقبل التائبين، فيقول المسيح عنهم "الرب يحب العاصي الذي يتوب أكثر مما يحب من لم يعص قط، لقد جئت إلى الدنيا ليس من اجل الصالحين بل من اجل ألعصاه، مع هؤلاء أحب أن أتكلم وأتناول الطعام، وقبل أيام سئل يا معلم، ما اسم الرب الحقيقي؟ فأجاب المحبة" ص434، من خلال هذا القول يظهر لنا المسيح طبيعة البشر، فهم ليسوا منزهين عن الأخطاء، فكلهم يخطئون، وهذا القول متماثل تماما مع الحديث القدسي الذي يقول فيه "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَوْ أَخْطَأْتُمْ حَتَّى تَمْلَأَ خَطَايَاكُمْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، ثُمَّ اسْتَغْفَرْتُمُ اللَّهَ لَغَفَرَ لَكُمْ ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ ، لَوْ لَمْ تُخْطِئُوا لَجَاءَ اللَّهُ بِقَومٍ يُخْطِئُونَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" بهذا الكلام يخاطب النبي الناس، فالناموس السماوي واحد رغم اختلاف اللغة والمكان والزمان، إلا أن الفكرة الجوهر واحد بين قبول التوابين.
ويقول المسيح عن محبة الناس له ودورها في مسألة الإيمان : "أن كل من يحب أباه وأمه أكثر مني لا يستحق أن يرافقني، وكل من يحب ابنه أو بنته أكثر مني لا يستحق أن يرافقني" ص479، فنجد المحبة غير المحدودة للمسيح شرط من شروط الإيمان، وفي الإسلام أيضا محبة النبي شرط من شروط الإيمان،" لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين". وهنا أيضا نجد عين الخطاب فما قاله المسيح والنبي محمد (ص) فهما متماثلان ويعطيان ذات المضمون.
وعن تجاوز القبيلة/القوم إلى العالمية ومخاطبة كافة الناس، بصرف النظر عن أصولهم وأماكن تواجدهم يقول المسيح: "أنني افتح بوابات الرب الأربعة العظيمة، الشرق، والغرب، والشمال، والجنوب، لتدخل منها الأمم كافة، إن حضن الرب ليس مخصصا فقط لليهود، بل ليحضن به العالم كله، الرب ليس إسرائيليا، أنه روح مقدسه سرمدية" ص515، فالتحرر من الطائفة/العشيرة هدف أساسي لما جاء به المسيح، فهو يقول جهرا وبوضوح بأنه يتجاوز اليهود إلى الإنسانية جمعاء، وهذا أيضا متمائل مع ما جاء به الإسلام، فيقول الله في كتابه الكريم : "مَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَٰ-;-كِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" فهنا أيضا يتجاوز الإسلام العرب في مكة إلى كافة الأمم.
اليهود
العبء كان كبير على كاهل المسيح، فهو جاء ليوسع ما جاء به موسى، وهذه التوسعة عمودية وأفقية، تتعلق بالشريعة نفسها وبالناس والجغرافيا، بمعنى تحويل الملكية الخاص ـ لشريعة التوحيد ـ إلى ملكية عامية، فبعد أن اختص اليهود بشريعة موسى لأكثر من ألف عام، وكانوا هم النخبة التي أرسلت إليهم التوراة جاء المسيح ليلغي هذه الخصوصية، أو ليوسعها بحيث تتسع لأي إنسان وفي أي مكانا كان.
هذا الأمر لم يكن يتفق مع مزاج أصحاب النفوذ الديني عند اليهود، فقد وجدوا فيه سحب البساط من تحت أقدامهم، فكانوا لا بد أن يقفوا في وجه المسيح بكل شراسة، من هنا نجدهم فضلوا إطلاق سراح "باراباس" القاتل على إطلاق سراح المسيح.
هؤلاء القوم وصفهم لنا الكاتب بصور عديدة، وكلها تثير الاشمئزاز، أن كان من خلال صفاتهم، أم خلال أخلاقهم، أم من خلال هيئتهم، فكأنه يقصد من وراء هذا الوصف القول: لا يمكن لهؤلاء أن يختصهم الله بالشريعة، لقد نقضوا العهد مع أنفسهم فبل أن ينقضوه مع الله، فهم غير مقبولين لا شكلا ولا مضمونا.
صورة اليهودي عند الرومان كانت تمثل الشخص القذر، غير النظيف الذي لا يغتسل، يفوح منه رائحة عفنة، "كان الجو شديد الحرارة حتى ليكاد المرء يغمى عليه، وحامت سحب من الذباب، وشعر قائد المائة بالتقزز حين تنفس الجو اليهودي" ص523 و524، بهذا الحال كان اليهود، يتجمعون بكثافة، وفي أجواء غير مناسبة، ليثيروا الرومان.
وبعد وصول المسيح إلى الحاكم الروماني "بيلاطس" يكون هناك حوار بينهما يقول فيه بيلاطس سائلا عن طبيعة المملكة التي يسعى لتحقيقها، فيقول المسيح: "مملكتي ليست على الأرض... في السماء" ص526، وعندها يتأكد لهذا القائد بان المسيح لا يشكل أي خطر على مملكة روما، من هنا وجد هؤلاء القوم الذي سعوا جاهدين لمحاكمة المسيح بهذا الشكل "أنا أجد اليهود مثيرين للتقزز، فهم لا يغتسلون قط، ويتصورون الرب على صورتهم، طويل الشعر، قذرا، جشعا، متبجحا وحقودا كجمل" ص526، فهذا الوصف لم يكن يقتصر على الهيئة وحسب بل تناول المضمون أيضا، وحتى أنه مس العقيدة التي يتبعونها، من خلال وصف ربهم بالجشع والحقد.
في المرة الثانية يعود اليهود لطلب محاكمة المسيح، وهنا كان حقدهم وقذارتهم اكبر من السابق، حيث أرادوا أن يعدموا المسيح في يوم عيد الفصح، العيد الذي كان يمنح فيه حتى المجرمين العفو، فكان الحاكم الروماني "بيلاطس" يحمل هذا الشعور والإحساس اتجاههم، "كان يكره يوم الفصح هذا، ففيه يسكر اليهود مع ربهم، وتصيبهم حالة من الهذيان، يتشاجرون مع الجنود الرومان، ... وفي عيد الفصح هذا لديه هم إضافي، فالعبرانيون يردون صلب الناصري المجنون بأي ثمن... يا للسلالة المخزية" ص599، تحويل يوم العيد، يوم الفرح، إلى يوم للتعذيب والقتل، ولإنسان مظلوم، لم يرتكب أي خطيئة قط، يعد جريمة متعددة الأوجه، من هنا لا يمكن أن تكون تصرفاتهم وسلوكهم مقبولا، حتى خصومهم الرومان، وجودوا في هذا الأمر ظلما للمسيح، وعمق وأكد صورتهم القذرة وطبيعتهم الحاقدة على الآخرين، "فيسأل "بيلاطس" المسيح: "لماذا هم مسعورون هكذا؟ ماذا فعلت لهم؟
أجاب يسوع "لقد أظهرت لهم الحق" ص600، كل الأحداث تؤكد على وجود خلل أخلاقي، فكري، عقائدي، عندهم، وهذا ما جعل الحاكم الروماني يتعاطف مع المسيح، كان يسعى بطريقة ما أن لا يلبي مطالبهم بصلب المسيح، فيستخدم أسلوب التخير لكي يعفوا عن المظلوم المسيح، "وقد جرت العادة أن يطلق سراح احد السجناء في عيد الفصح.
فهتف بهم "من تريدون أن أطلق لكم، يسوع ملك اليهود أم باراباس قاطع الطريق؟" فصرخ الناس "باراباس! باراباس!" في هذه المحاولة يفشل "بيلاطس" في تغير توجه اليهود، فقد خيرهم بين شخصين، الأول وصفه "بملك اليهود" لكي يثير فيهم الحمية اتجاه ملكهم، فيعودوا عن قرارهم بصلبه، وقدم الثاني "باراباس" قاطع الطريق والقاتل والمجرم الفعلي، لعلمه بمزاج العامة التي تتأثر بالخطاب الحماسي، لكن النتيجة كانت في غير ما أراد.
يستخدم "بيلاطس" أسلوبا جديدا لعله ينجح في تغير موقف اليهود من صلب المسيح، وهذه المرة بشكل إثارة العاطفة الإنسانية لديهم، "نادى بيلاطس على الحرس وأشار إلى يسوع وقال آمرا "أجلدوه" وتوجوه باكليل من الشوك، ولفوه بثوب قرمزي وأعطوه قصبة طويلة ليحملها كصولجان، أنه ملك ـ فليبس كملك!"
كان يتعمد أن يعرضه على الناس بهذه الصورة المزرية، آملا أن يثير في قلوبهم الشفقة.
هتف "هذا رجلكم!"
فأخذ الناس يجأرون "أصلبه! أصلبه!"
أمر بيلاطس بإحضار طست وإبريق من الماء، ثم مال وغسل يديه أمام الحشود الغفيرة، وقال إنني أغسل يدي وأنظفهما من الأمر، لست أنا من أمر بسفك دمه، أنا أنا بريء منه، فليقع ألاثم عليكم"
زعق الناس "دمه على رؤوسنا ورؤوس أولادنا!" ص601، نجد العدو المحتل ارحم علي المسيح ممن يدعون أنهم أبناء جلدته، "بيلاطس" يستخدم كل الطرق لكي يثنيهم عن قرارهم، من أثارة الحمية لديهم إلى العاطفة، إلى استخدام العقل والمنطق، إلى اتهامهم صراح بأنهم يرتكبون جرما بسفك دم رجل بريء، ومع هذا كانوا مصرين على جرمهم. من هنا كان ألم المسيح نفسيا أشد وأعمق من ألمه الجسدي، فعندما يكون القريب اشد بطشا ووحشية من العدو تكون الفاجعة اشد وقعا على صاحبها، فما بالنا أن كان هذا العدو عنده رحمة ويدعو لتحقيق العدالة وإزالة الظلم!.

الطرح الطبقي
لا شك أن المسألة الاقتصادية لها أهميتها في المجتمع، وهي احد العناصر المؤثرة سلبا أو ايجابيا فيه، الواقع الاقتصادي في فترة حكم الرومان لفلسطين يدفع بالمجتمع إلى الاصطفاف نحو قطبين، قطب الأغنياء والمترفين، وقطب الفقراء والمسحوقين، وهم الغالبية، من هنا وجد المسيح في هذا التفاوت الاقتصادي مشكلة يعاني منها العامة، فقد شخصها قائلا: "... اقترب من أهلها وأتفحصهم، أتأمل وجوههم، فأجد ثلاثة منهم مثقلين، ضخمين، متخمين، وثلاثة آلاف مهزولين من الجوع، متى يختفي عالم بكامله؟، ثلاثة من السادة فيه متخمون بالأكل وشعب يعد ثلاثة ألاف نسمة يموت جوعا" ص346، من هنا نجد السادة المتنفذون اقتصاديا ودينيا وقفوا ضد المسيح وعملوا على إقصاءه من خلال تقديمه للمحاكمة ومن ثم الصلب.
من خلال فهم المسيح للواقع، كان لا بد أن تحمل دعوته شيئا من حل المشكلة الاقتصادية، ووضع خطوط عامه لتجاوزها، وبطبيعة الحال سيكون أتباعه في غالبيتهم من الفقراء، لأنهم وجدوه يحقق طموحهم في حياة كريمة، "بينما كان يسوع يتكلم وصل المزيد من الفقراء السمر الذين سمعوا عن ظهور نبي جديد ينصر البؤساء فهرعوا إليه" ص426.
يقص المسيح قصة احد الأغنياء الذي حضره وليمة ودعا إليها وجهاء القوم وأغنياءه، لكن لم يلبي احد منهم تلك الدعوة بحجج عديدة منها "فقال احدهم اشتري حقلا ويجب أن أراه، وقال آخر "لقد تزوجت حديثا ولا يمكنني أن احضر"، وكان عذر التالي "لقد ابتعت خمسة أزواج من الثيران وأنا متوجه لأخضعها للاختبار" ص433، فما كان من صاحب الوليمة إلا أن طلب من خادمه قائلا: "أسرعوا إلى الساحات ومفترق الطرق واجمعوا من تحدونه من فقراء ومعاقين وعميان ومشوهين وأحضروهم إلى هنا" ص433، رغم وجود رمزية دينية في هذه القصة إلا أنها تحمل فكرة تقاعس الأغنياء عن القيام بواجبهم، وحمية الفقراء اتجاه مصالحهم، وكأن المسيح يقول لأتباعه: اتركوا هؤلاء الأغنياء ومع مصالحهم فلا حاجة لنا بهم، ولا حاجة لهم بنا، فتوجهوا نحو الفقراء.
الحيوانات
العديد من العقائد الدينية تستخدم الحيوانات كرموز للخير أو للشر، وفي الغالب تكون للشر، هذا ما جاء في العهد القديم عندما أغوت الأفعى حواء وجعلتها تقنع زوجها آدم بالأكل من الشجرة المحرمة، في هذا العمل الروائي الديني يعود الكاتب إلى ما جاء به العهد الجديد ليجعل من الأفاعي والغربان والذئاب والجراد والكلاب والديدان والخنازير رمزا للشر، وشكل من أشكل الشيطان يتخذه لإغواء الناس، لكن أكثر رموز الشر كان يتمثل بالأفعى، وكأن اللعنة التي أطلقها آدم ما زال يسري مفعولها.
لن نتطرق إلى كافة هذه الرمز الشريرة في النص الروائي، رغم أهميتها، وسنركز على الأفعى، التي كانت الأبرز من تلك الرموز، "... وميزت عينا الراهب على البلاط الحجري المجاور للبئر الجافة حية كبيرة، سوداء مع زخرفات صفراء، ترفع عنقها المنتفخ، وتهز لسانها، وتهمس، لم يكن يربعام قد سمع أنغاما أشد إغواءا من تلك التي تصدر عن حلق الحية، وفي الصف حين كان بدوره يحلم بين الحين والآخر بامرأة، كانت تظهر له على هذه الصورة ، أشبه بحية تتسلل منزلقة إلى فراش نومه" ص208 قصة تقمص الشيطان لهيئة امرأة تتكرر في العديد من فصول الرواية، فالكاتب يرد من هذا التكرر تأكيد حالة الصراع داخل الإنسان بين التعاليم الدينية والأخلاقية وبين الانسياق خلف غريزته وشهوته، وقد حسم الكاتب هذا الأمر من خلال انتصار المسيح على الإغواء الذي تعرض له وهو على الصليب.
وها هي الأفعى تظهر للمسيح وهو يبحث في الصحراء عن الخلاص، "رفع ناظريه فرأى أمامه على الصخرة حية لها عينا وصدر امرأة تلعق شفتيها وتحلق إليه" ص353، مرة أخرى يستخدم الكاتب هذا الشكل من التقمص للحية مؤكدا على أن المرأة وشهوتها قادرة على إحداث تغيرات جوهرية في الإنسان، فيمكنها أن تحول مسار حياته رأسا على عقب.
الإغواء
الفكرة الرئيسية التي أراد الكاتب طرحها تتخلص في عدم التفريط أو التخلي عن الواجب/ المهمة/ الفكرة التي يحملها الإنسان مهما كانت المبررات ومهما تعرض لضغوطات نفسية أو جسدية، فعليه أن يكمل ما بدأه حتى لو كانت نتيجة ذلك الموت، هذه الفكرة التي أرد الكاتب إيصالها، وهنا نستذكر رواية شرق المتوسط لعبد الرحمن منيف عندما كان "رجب إسماعيل" يشعر بمرارة الخيانة التي أقدم عليها بعد أن قرار التعامل مع السلطة، فكان ألمه أكثر واشد مما تعرض له في المعتقل.
بهذه الخيانة/التراجع عن الفكرة، يكون الإنسان قد اقترف جرما بحق نفسه قبل أن يكون بحق الآخرين، المسيح أثناء الصلب وتعرضه الأشد أنواع الألم يأتيه الشيطان، بهيئة مريم المجدلية ثم بمريم ومرتا أختا العيازر، فيجعله يتخيل نفسه متزوجا من مريم ومرتا وينجب منهما أطفال ويقوم بحرث وزراعة الأرض، وبهذا يكون المسيح قد تخلى عن المهمة المقدسة التي جاء لتنفيذها، فيغضب منه يهوذا ومتى وبطرس وزوجته مريم وأختها مرتا، بعد أن يذكروه كيف أنه جنى على الكثيرين بعد تخليه عما جاء من اجله، تخليص الناس من الخطيئة، وبعد أن ينفض عنه رفاقه وأهله يكتشف حجم الجريمة التي أقدم عليها، فيعود إلى صوابه ويقول: "أنا خائن، آبق، جبان، الآن بت أدرك ذلك، لقد ضعت! نعم، كان يجب أن أصلب، لكني فقدت شجاعتي وفررت، سامحوني يا إخوتي لقد خدعتكم، أواه، ليت بإمكاني أن أعيش حياتي من بدايتها!" ص681، بهذا الحالة المزرية يصف لنا المسيح كل من يفكر بالتراجع/ التخلي عن مبادئه. فسيكون لا شيء، تائه، ضائع، يتلاعب به الريح حيث شاء.
وعندما يسمع كلمة "جبان! آبق! خائن" 682 من العامة التي منحته ثقتها يعلم حجم الجرم الذي أقدم عليه فيعود من سكرة الإغواء إلى واقعه، الصليب والألم، فهو أقل ألما مما سمعه من رفاقه وممن منحه الثقة وآمن به، " أحس بآلام رهيبة في يديه وقدميه وقلبه، وصفت بصيرته فرأى أكليل الشوك، والدم، والصليب، ... أرتعش رأسه، وفجأة تذكر أين هو، ومن هو... وغمره فرح عارم لا يقهر،لا،لا، لم أكن جبانا، أو أبقا ، أو خائنا، لا إنه مسمر على الصليب، لقد احتفظ بمكانته بكل شرف وحتى آخر لحظة... وأطلق صرخة انتصار مدوية: تم انجاز العمل؟ ص683 و684، بهذا الصرخة التي أطلقها المسيح والتي لم تكن نتيجة الألم بقد نتيجة الانتصار على الشيطان وإغواءه، يكون المسيح قدم لنا نموذجا حيا لمن يكمل الدرب، لأنه سيصل وسيكون الانتصار حاضرة ومستمرا على لو كانت نتيجة التكملة الموات.
رائد الحواري



#رائد_الحواري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتابة اليومية
- -ستائر العتمة- الجزء الثاني وليد الهودلي
- قصيدة -أحييك يا وطني- منصور الريكان
- معارضينا
- وداعا كاسترو
- قبيلة النقابات
- الطفولة في رواية -أنا وجمانة- محمود شقير
- النقابات والقبيلة
- المدن وطبيعة المرأة والرجل في رواية -مرافئ الوهم- ليلى الأطر ...
- الرمز والواقع في رواية -ما زال المسيح مصلوبا- حبيب هنا
- مقتل النضال الفلسطيني
- ثنائية الحدث ووحدة المكان في رواية -حجارة الألم- انور حامد
- مجموعة -مجد على بوابة الحرية- وليد الهودلي
- الإيمان والصمود في رواية -ستائر العتمة- وليد الهودلي
- الاسلام والعقل
- -همس الفضاءات- عباس دويكات
- الجنة في -غوايات شيطانية- محمود شاهين
- رواية -الوجه الآخر- عباس دويكات
- رواية -درب الفيل- كاملة
- رواية -الجبانة- شاركدي إمره


المزيد.....




- أزمة الفن والثقافة على الشاشة وتأثيرها على الوعي المواطني ال ...
- -كائناتٌ مسكينة-: فيلم نسوي أم عمل خاضع لـ-النظرة الذكورية-؟ ...
- مصر.. الفنان بيومي فؤاد يدخل في نوبة بكاء ويوجه رسالة للفنان ...
- الذكاء الاصطناعي يعيد إحياء صورة فنان راحل شهير في أحد الأفل ...
- فعالية بمشاركة أوباما وكلينتون تجمع 25 مليون دولار لصالح حمل ...
- -سينما من أجل غزة- تنظم مزادا لجمع المساعدات الطبية للشعب ال ...
- مشهور سعودي يوضح سبب رفضه التصوير مع الفنانة ياسمين صبري.. م ...
- NOW.. مسلسل قيامة عثمان الحلقة 154 مترجمة عبر فيديو لاروزا
- لماذا تجعلنا بعض أنواع الموسيقى نرغب في الرقص؟
- فنان سعودي شهير يعلق على مشهد قديم له في مسلسل باللهجة المصر ...


المزيد.....

- لا ميّةُ العراق / نزار ماضي
- تمائم الحياة-من ملكوت الطب النفسي / لمى محمد
- علي السوري -الحب بالأزرق- / لمى محمد
- صلاح عمر العلي: تراويح المراجعة وامتحانات اليقين (7 حلقات وإ ... / عبد الحسين شعبان
- غابة ـ قصص قصيرة جدا / حسين جداونه
- اسبوع الآلام "عشر روايات قصار / محمود شاهين
- أهمية مرحلة الاكتشاف في عملية الاخراج المسرحي / بدري حسون فريد
- أعلام سيريالية: بانوراما وعرض للأعمال الرئيسية للفنان والكات ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مسرحية الكراسي وجلجامش: العبث بين الجلالة والسخرية / علي ماجد شبو
- الهجرة إلى الجحيم. رواية / محمود شاهين


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - رائد الحواري - -الإغواء الأخير للمسيح- نيكوس كازانتزاكيس