أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحى سيد فرج - القواعد المنهجية للبحث في التراث (الدراسة كاملة بالمراجع)















المزيد.....



القواعد المنهجية للبحث في التراث (الدراسة كاملة بالمراجع)


فتحى سيد فرج

الحوار المتمدن-العدد: 4770 - 2015 / 4 / 7 - 15:11
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    



القواعد المنهجية للبحث في التراث (الدراسة كاملة بالمراجع)
فـتحى سـيد فـرج
تتعدد الرؤى وتختلف المواقف من التراث بوجه عام والتراث العربي بوجه خاص، فبعد أن كان عددا محدودا من الباحثين والمفكرين يهتمون بدراسته، اتسع مجال البحث في التراث إدراكا من الباحثين لدوره في فهم طبيعة التطور وكيفية تشكل بنية المجتمع وشخصية الأمة، وأنه لا يمكن فهم الحاضر دون الرجوع إلى الماضي وتفكيك مكوناته، كما أن قضية التراث هي المدخل المفيد لتوضيح ظواهر الركود والتخلف المستمر الذي تعاني منه المجتمعات العربية، وإذا كان "التراث بطبيعته ينتمي إلى الماضي، إلا إن المواقف منه تـنـتـتمي إلى الحاضر، ذلك لأن الحديث عنه يتفرع إلى مناقشة قضية تحديث المجتمع والأساليب التي يمكن اختيارها كطريق للتغيير أو التطوير، وما يترتب على أي منها من صراعات بين القوى الاجتماعية المتناقضة" (1).
ورغم أن الأهتمام بموضوعات التراث قد بدأ مع بواكير النهضة العربية الحديثة عند رفاعه الطهطاوي (1801-1873 ) والافغاني (1838- 1879) ومحمد عبده (1905-1849) والكواكبي (1903-1849) إلا أن منتصف خمسينيات القرن العشرين شهدت توسعا في دراسات التراث، وتزايد الأهتمام بشكل خاص بتلك الدراسات بعد هزيمة 1967، وما يهمنا في هذا البحث هو توضيح بعض القضايا المنهجية كي نتمكن من الوصول إلى قواعد تفيد في دراسة التراث بشكل يحقق الافادة منه، والتخلص من حالة الركود والتخلف التى تسود في الواقع المصري والعربي، متخذين نهج النقد الموضوعي حيال هذه القضايا، بإعتبار "آلية النقد أهم مكونات الحضارة الإنسانية كما يؤكد ذلك كارل بوبر (1994-1902) فبفضل النقد تحزف الأخطاء التي تكون في أغلب الأحيان مهلكة، وعلى طرق النقد يكون التطور نحو الأفضل باستمرار" (2) .
قضايا منهجية : فيما يلى سنعرض لبعض القضايا المنهجية كمدخل لفهم طبيعة التراث، من خلال توضيح تصنيف تيارات التعامل مع التراث، حدوده التاريخية والموضوعية والجغرافية، اختلافات المثقفين والمهتمين بالبحث فيه، علاقة التراث بإشكاليات الواقع، وأساليب وطرق توظيفه فى الواقع الراهن، التراث بين منهجية الديالكتيك ومنهجية التلفيق، والتراث بين القطيعة والتواصل، والأهم من ذلك دور التراث كمعوق أو داعم للنهضة والتقدم الحضارى .

أولا : تصنيف تيارت التعامل مع التراث : من أكثر القضايا المنهجية التى تعبر عن ظاهرة اتساع الأهتمام بموضوعات التعامل مع التراث، كانت قضية تصنيف وتقسيم اتجاهات البحث وتوظيف التراث، فغالبية المهتمين اقتصروا البحث في الاتجاهات الفكرية ذات الطبيعة النظرية، واغفلوا الاتجاهات الواقعية التى وظفت التراث بشكل انتقائي لتحقيق السيطرة على واقع الحياة العملية في الدولة والمجتمع، ورغم أن الشاعر رفعت سلام (1951-) اتخذ منهجا جديدا في تقسيم اتجاهات البحث في التراث يتسق مع تعقد وتعدد هذه الاتجاهات فوضع معايير التنوع والاختلاف إلى حد التناقض سواء بين التيارات الفكرية المختلفة، أو داخل التيار الواحد، فقد قسم تيارات البحث وفقا "للعرف التقليدي، ومفهوم التراث، والمنطلق المنهجي، والعمق التاريخي، ونهج معالجة المادة التراثية، والموقف من احياء التراث" (3) أى ستة تقسيمات رئيسة، اضافة إلى عشرة تقسيمات فرعية، وهذا يؤكد أن النظرة الثنائية السائدة التي تقسم تيارات البحث في التراث إلى (تيار سلفي محافظ، وتيار عصري علماني) التي يتخذها كثير من الباحثين لا تعبر عن الحقيقة، وتطمس التمايزات والتناقضات بين التيارات المختلفة، أو داخل كل تيار، وتجعل مستويات تحليل المادة التراثية غير وافية وتبتعد عن الدقة والموضوعية، ورغم توفيق سلام فى هذا التقسيم، إلا أنه ركز تصنيفه على الاتجاهات الفكرية، واغفل مثله في ذلك مثل أغلب الباحثين الاتجاهات الواقعية التي سيطرت على كثير من مجريات حياة الناس وحاولت السيطرة على سلطات الدولة والمجتمع في الفترة الأخيرة .
لذلك فأننا نرى أن التقسيم المنهجي الصحيح يجب ان يقوم على أساس توضيح الفرق بين اتجاهات البحث النظري، والتى نؤكد اهميتها، والاتجاهات العملية التي نجحت في حسم كثير من الخلافات النظرية وركزت جهودها على الانتقاء من الموروثات لإعادة تشكيل حياة الناس ووضع المجتمع تحت سطوتها، سنعرض فى سياق بحثنا نماذج لبعض الأطروحات الفكرية، لكننا نأمل التركيز على المشروعات الواقعية نظرا لمحدودية وضعها تحت الدراسة عند غالبية الباحثين .
ثانيا : حدود التراث تارخيا وجغرافيا وموضوعيا : يقتصر غالبية المهتمين بالتراث النظر إليه في حدود تاريخية محددة، وفي إطار موضوعي محدد، ونطاق جغرافي محدود، فـمن الناحية التاريخية يرصد رفعت سلام (1951-) نظرتين للعمق التاريخى، الأولى : "توقف نشأة التراث على ظهور الإسلام، حيث يفقد التراث المنتمى إلى ما قبل الإسلام كل اعتبار ويتم وصمه أما بالجاهلية" (4) أو الوثنية، فحسن حنفي (1930-) يرى أن التراث منبعه القرآن والسنة "فالتراث نشأ من مركز واحد وهو القرآن والسنة، فلو لم يكن هناك قرأن لما قام التراث القديم ولما نشأت الحضارة الإسلامية"(5) يتفق مع هذا الرأى شوقى ضيف (2005-1910) "أمتنا العربية ذات تراث واحد روحى وعقلى وأدبى، نور تراثها الروحى الباهر القرآن الكريم الذى جمع الأمة فى لغة واحدة" (6) لا يلتزم بهذه
النظرة ممثلو التيارات الدينية فحسب، بل كثير من العلمانيين، هكذا تبتدى كتابات
أدونيس (1930-) الجابرى (2010-1936) أركون (2010-1928) ويعود حسين مروة (1987-1910) والطيب تيزينى (1934-) إلى العصر الجاهلى السابق مباشرة على ظهور الإسلام بما يقارب القرنين كبداية للتراث .
النظرة الثانية : تربط بين التراث العربى الإسلامى والعرب، فتوقف التراث على تبلور "العرب" فى بناء اجتماعى وثقافى يبدأ التراث بهم ويستمر معهم، حيث يصبح التكوين القومى هو شرط التكوين التراثى، فمحمد عمارة (1930- ) يربط العقلانية بالقومية، والشعوبية بالظلامية، القومية عنده قومية العرب الذين انجذو الوحدة والحضارة العربية، منذ بداية الإسلام وحتى القرن الثالث الهجرى، وكونو الدولة العربية التى لها حدود جغرافية تمتد غربا عند شرقى مصر وشرقا عند شرقى العراق، وقد وصلت العقلانية إلى زراها بوصول التيار القومى إلى قمة جهازالدولة فى عصر المأمون، ويقصد بذلك المعتزلة، وعليه فإن كل ما هو غير عربي، هو بالضرورة لاعقلاني ودون القومي، وهو بذلك يحذف من التاريخ كل جهود غير العرب فى تشكيل الثقافة العربية، ويحذف من الجغرافية كل من يعيش خارج حدود الدولة العربية، ويحذف من العقلانية الشعوب غير العربية، بل يرى ان كل العناصر غير العربية أو البشر خارج حدود هذه الدولة العربية هم الذين ساهموا فى تأخر العرب قديما وحديثا، فالعناصر الفارسية قديما سبب تخلف العرب، والبلدان الغربية حديثا هم أيضا سبب استمرار تخلف العرب . ولكن جورج طرابيشى (1939-) يرد على عمارة بأن أغلب المعتزلة كانو من الموالى غير العرب، وإذا كان الخلفاء العباسيون الثلاثة المأمون (833-786)المعتصم (842-794) والواثق(802-847) يمثلون ذروة الدولة القومية، فإن أم المأمون كانت فارسية، وأم الواثق كانت تركية والواثق هو أول من اعتمد على تيار "الفكر المعادي للعقل" وفي مقدمتهم أحمد بن حنبل (855-780) وأغلب هذا التيار كانوا من العناصر العربية (7) .
وعلى العكس من الذين ينطلقون من الماضى نجد أن مراد وهبه (1926-) له وجه نظر متفردة حيث يرى أن "التراث هو فى الأصل رؤية مستقبلية، فالتاريخ يتحرك ابتداء من المستقبل وليس من الماضى، بمعنى أن الرؤية المستقبلية هى التى تدفع التاريخ إلى التقدم، وهذا يستوجب أن الماضى يسهم فى تجسيد الرؤية
المستقبلية بإعادة تأويله، ولكن فى هذه الحالة لن يكون الماضى على ما كان عليه، وانما سيكون ماضيا جديدا ويتحول إلى ثقافة أو إلى ما نسميه تراثا، ولكن إذا وقفنا عند هذا التراث، فلن نتحرك، فلابد اذن من أن تنشأ من جديد رؤية مستقبلية ثم تتجسد وتتحول إلى ثقافة أو تراث، وهكذا دواليك" (8) .
اما من الناحية الموضوعية فالأمر فى غاية التعقيد والتعدد، فهناك مستويات للنظر للتراث على أساس اللغة، والمحتوى، وعلى مستوى الوحدة أو التنوع، والبعد الاجتماعى والنفسى، وكذلك النظرة للعالم من خلال الموروثات، وقضية الأهتمام العربى المبالغ فيه بالتراث، فعلى مستوى اللغة نجد أن مصطفي هدارة (1997-1930) يرى ان "التراث هو كل ما كتبه أسلافنا العرب من فكر وشعر وفلسفة" (9) ويوسف زيدان (1958-) يري أنه مجرد "الإنتاج الفكري العربي خلال ألف وثلاثمائة سنة متصلة" (10) يتفق مع ذلك كلا من حسن مروة والطيب تيزينى والجابرى وغيرهم، حيث يشير مفهوم التراث لديهم إلى أعمال الفلاسفة والمؤرخين والشعراء والاتجاهات السياسية والفلسفة والدينية الفكرية العربية عموما، يستثنون التراث الشعبى المكتوب والشفاهى كالحكى والملاحم والسير والأمثال والحكم الشعبية، والعادات والتقاليد والأعراف وأساليب الاحتفال بالأعياد والمواسم، كما يقصرون التراث على اللغة العربية، فيوسف زيدان وهو واحد من أهم المهتمين بالتراث يستبعد البرديات المدونة بالأشكال واللغات المصرية القديمة - الهيروغليفية، الهيراطيقية، الديموطيقية، والقبطية - من التراث، علما بأن علماء المصريات والآثار يعتبرونها المكون الأساسي للحضارة والتراث المصرى .
وعلى مستوى الوحدة والتنوع نجد أن هناك دراسة لشوقي ضيف (2005-1910) عنوانها "وحدة التراث" جاء فيها أن "أمتنا العربية ذات تراث واحد فعرب الأندلس لم يفكروا في نقل الفلسفات والعلوم عن اللاتينية، بل آثروا التمسك بالتراث المترجم في المشرق، وما اضاف إليه علماء المشرق مما احاله ترثا مشتركا في محيط الأمة من اقصى الشرق إلى اقصى الغرب، وبذلك كانت الفلسفة العربية مشتركه، وكان العلم العربي علما مشتركا، بحيث يحس العالم العربي احساسا قويا بأنه حلقة في سلسة متصلة" (11)
وفي هذا البحث لم يحدد لنا شوقى ضيف، معنى أو مفهوم وحدة التراث، هل هي وحدة موضوعية؟ أم مجرد وحدة احساس عام بين مسلمي المشرق ومسلمى المغرب العربى؟، كما اننا نرى أن الوحدة في حد ذاتها ليست ميزة أو تفرد للتراث العربي، وفي الحقيقة فأن هذا التراث يعج بالتنوع والاختلاف بل التناقض في بعض موضوعاته مثله في ذلك مثل تراث المجتمعات الأخري، فالتراث المسيحي فيه وحد وتنوع، وكذلك التراث الصيني والهندي، والسمة الارقي والأكثر حضارة هي احترام التنوع والتعددية الفكرية، واختلاف الأراء، فممارسة التعددية واحترام حق الاختلاف هو جوهر الديمقراطية وأساس بناء الدولة المدنية الحديثة .
وعلى مستوى البعد الاجتماعى والنفسى لم يهتم الباحثين فى التراث بطبيعة الشخصية المصرية والعربية وأساليب تصرفها فى المواقف الصعبة والمرحة، وما يتردد عن سمات خاصة بالشخصية المصرية كالقدرة على الصبر والاستكانة أمام أشكال الظلم وفساد الحكام، وعندما يفيض الكيل تحدث الموجات الثورية والمطالبة بالتغيير، وكذلك النظرة للعالم كمدخل لفهم الكون والطبيعة .
هذا ما حدا عزت قرنى (1940-) لطرح مجموعة من الأسئلة المشروعة ذات الأهمية الخاصة "ما هدف نشر التراث، هل هو هدف علمي؟ أم هدف تحقيق نوع من الاستمرارية الثقافية؟ وما هو موقفنا من التراث؟ هل هو موقف موضوعي؟ أم موقف الدفاع والتمجيد؟ وأي تراث نقصد؟ هل هو التراث المكتوب باللغة العربية؟ أم هو بالاحرى التراث الإسلامي؟ وإليس للتراث المصري مثلا أبعاد أعمق من ذلك بكثير؟ أم أننا نريد التراث الإنساني كله وكأن هناك بشرية واحدة
تجمعها حضارة واحدة" (12) ورغم أهمية هذه الأسئلة ومشروعيتها إلا أن د. قرني لم يهتم بالإجابة عليها، واعتبرها مجرد مدخل تمهيدي لمعالجة موضوعه عن منهجية وقواعد نشر "التراث الحديث"
أما قضية الأهتمام العربى المبالغ فيه بالتراث فقد أثارت أهتمام الشاعر صلاح عبد الصبور (1981-1931) وجعلته يتساءل "لسنا الشعب الوحيد الذي يحمل تاريخا طويلا، ولسنا الحضارة الوحيدة القديمة، ولا أظن أن أصحاب الحضارت القديمة يشغلون أنفسهم بالتراث مثلنا، فنحن نحمل تراثنا على ظهورنا كثقل يصعب من تحركنا، أن ولعنا بالتراث خاصة في السنوات الأخيرة، ربما كان نوعا من حرص الفقير المعدم على أن يذكر انه كان له أجداد أثرياء، ولعل هذه الظاهرة تغرى علماء الاجتماع بالدراسة، وقد يرى بعضهم فيها نوعا من عبادة الأسلاف أو من التعويض عن فقر الحاضر، ألا نستطيع أن نصل إلى مرحلة نطلق فيها كلمة التراث فلا تعنى عندنا إلا التراث الإنساني" . ( (13 .
ويدخل بعض المفكرين العرب فى صراعات فكرية ذات طابع جغرافى، فمحمد عمارة - كما سبق- يحذف من التاريخ كل جهود غير العرب فى تشكيل الثقافة العربية، ويحذف من الجغرافية كل من يعيش خارج حدود الدولة العربية، ويحذف من العقلانية الشعوب غير العربية، بل يرى ان كل العناصر غير العربية أو البشر خارج حدود هذه الدولة العربية هم الذين ساهموا فى تأخر العرب، والمثال الأكثر وضوحا للخلافات الفكرية ذات الطابع الجغرافى يتضح فى الأتى
فمحمد عابد الجابرى المغربى (2010-1936) يرى أن ابن حزم (1064-994) وابن رشد (1198-1126) وابن خلدون(1406-1332) كعناصر أندلسية أو مغربية، كانوا أكثر عقلانية من علماء المشرق العربي، الفاربى (950-872) وأبن سينا (1037-980) والغزالى (1111-1085) (14) ولكن ناصيف نصار اللبنانى يرى أن الجابرى لديه انحياز جغرافى يصل لحد التعصب لأى فكرمغربى، حيث أن دفاع ابن رشد لم يكن عن الفلسفة عموما، بل عن فلسفة هدفها معرفة اللـه، والفلاسفة ورثة الأنبياء، والفلسفة محصورة فى البعد الدينى، لا ممارسة حرية العقل، هدفها الإثبات والتبرير لا الاختلاف والتفكيك، تستمد شرعيتها من
الشرع لا من العقل، وهو ينادى بقتل الزنادقة والخارجين عن الشريعة، ودفاع
ابن رشد عن العودة إلى كتب القدماء، وإن تميز بنوع من التسامح مقارنة بأهل عصره، إلا أنه لا يؤسس لاستقلال فلسفي حقيقي .
ويرى نصار أن إعجاب الجابرى اليوم بفكر ابن خلدون، إنما هو "استمرار للماضى دون تفسيره، حيث أن ابن خلدون جاء في نهاية حقبة من التاريخ الإسلامي وفحصها بعد أن صارت هامدة ولم يعد في الإمكان تغييرها، ورأى فيها نهاية محتومة لقوة طبيعية تظهر، فتنمو، ثم تنقرض، استخرج من هذا التشريح مقاييس عن تلك الحقبة ولم يهدف إلى أي نفع آخر" (15) .
ونحن وأن كنا ضد انحياز الجابرى لمفكرى المغرب، فأننا أيضا ضد تقليل نصار من شأن ابن رشد وابن خلدون، وكذلك ضد عنصرية عمارة، ويبقى أن هدفنا من عرض هذه الأفكار هو توضيح الخلافات الفكرية بين المثقفين العرب حول التراث بوجه عام .
كل هؤلاء أغفلو جانب كبير من التراث العربى الذي يخص الأعراق والدينات الأخرى غير الدين الإسلامى، فالتراث المسيحى واليهودى، والتراث النوبي فى مصر والسودان، وتراث الأمازيغ في المغرب العربي، والأكراد في المشرق العربى وملل ونحل وقوميات وأديان آخرى رغم وجودها الطبيعى فى كل البلدان العربية لم تحظ بأهتمام الباحثين العرب، ألا يشكل هذا منحى عنصرى فى النظر إلى الواقع العربى ومورثاته الثقافية بكل تنويعاتها .
أما رفعت سلام فيقول بإنه "يتوجب علينا التحرر من النزعة اللاتاريخية التي تسقط حلقات هامة من تراث الشعب العربي، فواقعنا التاريخي يثبت أن ثمة العديد من العناصر التراثية الفاعلة، اجتماعيا وثقافيا تنتمي تاريخيا لمراحل سابقة على الإسلام دينا، وعلى العرب عرقا، عائدة إلى الحضارات القديمة لشعوب المنطقة، كالفرعونية والبابلية والآشورية والفينيقية والسبأية ..ألخ" (16) حيث لا يبدأ تاريخ شعوب المنطقة من مرحلة معينة، وأنما ابتداء من الوجود التاريخي لهذه الشعوب .
وانطلاقا من الاتفاق مع سلام فأننى أرى ان يمتد البعد التاريخي للتراث ليشمل كل التفاعلات والتأثيرات المتبادلة بين كافة الشعوب خلال كل مراحل التاريخ، فالتأثير والتأثر بين البشر يشكل بعدا إنسانيا يربط بين كل الاجناس والأعراق البشرية، لذلك فأننى أبدأ بتعريف التراث بكونه : كل المنجزات الإنسانية من فكر وفلسفة وفنون وآداب وعمارة وعادات وتقاليد ونظم حياة وفهم لطبيعة الاديان لجميع البشر عبر كل المراحل التاريخية، ونظرا لأن غالبية المهتمين بدراسات التراث يقصرونه على التراث العربى الإسلامى، كما أن هذا التراث مايزال هو الفاعل الحى فى الواقع الراهن فسوف يكون تركيزنا على دور التراث العربى الإسلامى وكيفية توظيفه وعلاقته بالواقع الراهن .
ثالثا : علاقة التراث بإشكاليات الواقع الراهن : فرضت قضية التراث نفسها على الواقع الثقافي العربي بقوة، خاصة بعد هزيمة 1967 حتى كادت أن تكون الخبز اليومي للمثقفين العرب، وقد وصل الأمر إلى حد الربط القاطع بين التراث وبين حل أشكاليات الواقع الراهن، فالبعض يرى أن التراث الفكري قد تشكل كإنعكاس للأوضاع الطبقية، وهو مايزال يحمل طبيعة الصراعات الاجتماعية، لذلك فقد انقسم الموقف من التراث بين التيارات الفكرية الراهنة على نفس الأساس الطبقي، وما يحدث الأن فى مصر من صراعات يشهد على ذلك، حيث نجد التيارات المتسترة خلف الدعاوى الدينية من الأخوان والسلفيين التي تمثل شرائح اجتماعية رثة كوضع ثقافى فى فهم مسيرة التاريخ، تحاول العودة للماضي كتعويض عن وضعها البائس، وفي احسن الأحوال الدفاع عن موقف إصلاحي محافظ لا يغير من طبيعة البنية الاقتصادية والاجتماعية المتخلفة التي توفر لهم استمرارا لوجودهم وتوجهاتهم المعادية للتقدم والانتساب للعصر، وقد اتضح موقف هذه التيارات بعد ثورة 25 يناير ووصولهم إلى تقلد مناصب الحكم، فقد عجزوا عن تقديم حلول علمية للمشكلات التي ثار من أجلها الشعب المصري، وبعد أن تحركت الجماهير ضدهم واقصتهم عن مواقع الحكم، يحاولون العودة متخذين أساليب العنف والأرهاب وزعزعة أركان الدولة، والمشهد الراهن لطبيعة الصراعات التي تحدث في مصر الآن يلعب التراث بكل توجهاته دورا بارزا فيها فكل فصيل يستدعي موروثه ويستند إليه ويوظفه في مجمل الصراعات الدائرة الأن، الاتجاهات التي تستند إلى التدين تستدعي الدين، والاتجاهات التي تستند إلى العلم تستدعي العلم، سيظل للتراث دورا فاعلا سواء كدافع للنهضة والتقدم، أو معوق لها، وفقا لطبيعة القوى الاجتماعية التى توظفه، فإذا كان التراث هو الماضى الحى بيننا، فإن الحاضر سيظل موصولا بالتراث يؤثر فيه ويتأثر به .
رابعا : توظيف التراث : تاريخ الشعوب يحفل بمنجزات علمية وفنية وأدبية وعمارة وتشييد ..ألخ، يقع التراث الشعبى بما يشكله من ثروات كبيرة من القيم والعادات والمعارف الشعبية الثقافية والمادية على رأس التراث الإنسانى، فلا حضارة بدون تراث يمثل جذورها الإبداعية، ويظل غالبية الأرث الثقافى صالحا للأستخدام والتوظيف لإعادة بناء الفترات التاريخية، وإبراز الهوية القومية، ولكن هذا لا ينفى وجود بعض الموروثات الثقافية المتخلفة التى تستمر فى تعويق مسيرة التقدم، لذلك فأن هناك أشكال مختلفة لتوظيف التراث والأنتقاء منه وفقا لطبيعة القوى الاجتماعية ومستواها الفكرى والثقافى، وموقفها من طبيعة العصر، ورغبتها فى الاتجاه نحو التقدم أو النكوص إلى الخلف والأنتساب إلى الماضى، يترتب على ذلك وجود توظيف إيجابى للتراث يركز على الأستخدام النفسى كى يربط بين الإنسان وتاريخه ويحفزه على استمرار الإبداع والتقدم، مثل الاستخدامات الفنية والجمالية لعناصر التراث في الشعر والسرد الأدبى والأزياء والمسرح والموسيقى والفنون التشكيلية بإستدعاء الرموز والتيمات الثقافية وإعادة توظيفها كإبداع جديد كأساليب الحكى، وخيال الظل، وإعادة صياغة الموسيقى الشعبية فى قوالب حديثة لخلق فنون ذات طابع قومى، وفى مجال الشعر والدراما يمكن استخدام أنواع التناص وتوظيف الرموز لتشكل قوالب معاصرة، يعبر من خلالها المبدعون عن هموم العصر بإيحاءات فنية .
ولكن هناك أشكال أخرى تتجه لمنحى سلبى فى توظيف التراث، وماتشهده مصر خاصة بعد الموجة الثانية للثورة يقدم دليلا واضحا على أن التيار السلفى يستورد من تراث الماضى أكثر أشكاله تخلفا بهدف هدم الدولة وتخريب الاقتصاد وترهيب الجماهير من مناصرة الدولة المدنية، ما رأيناه فى رابعة والنهضة من عنف وقتل، ونكاح الجهاد والدعوة للتخريب يرتكز كله على توظيف أشكال متخلفة من التراث، هذا المنحى نود استعراض الأساس الفكرى الذى يستند إليه ليقوم بهذا الدور السلبى فى توظيف التراث .
خامسا : التراث بين منهجية الديالكتيك ومنهجية التلفيق : "مشروع النهضة الذي تولدت ملامحة مع مطلع القرن التاسع عشر، اعتمد على معادلة طرفاها : التراث العربي الإسلامي من جهة، والتراث الأوروبي من جهة أخرى، وكان "التوفيق" أساس مشروع النهضة، سواء تحركت المعادلة في اتجاه الإسلام بوصفه أساسا مرجعيا لتقبل الوافد الغربي، أو تحركت في اتجاه الوافد الغربي لجعله معيارا لسلامة فهم الإسلام ولمشروعية تأويله"(17) .
ويعود محمد جابر الأنصارى (1937-) إلى جذور التوفيقية في الفكر العربي إلى بدايات تشكل الحضارة العربية الإسلامية "تقوم بنية الفكر العربى على التقريب بين المتعارضات والأضداد ايا كانت حدة التباعد، أو التناقض بينها،
وذلك يعود الى قوة الإرث التوفيقى فى طبيعة الحضارة العربية الاسلامية، ورغم انه من وجهة النظر الجدلية ( الديالكتيكية ) فان صراع الأضداد لابد وأن ينتهى الى مندمج جديد، فان الفارق بين التوفيقية والجدلية، أن التوفيقية تعمد الى التقريب بين الأضداد بتجاوز عوامل الصراع والتناقض وكبتها، ثم البحث عن مواضع الاتفاق كلما أمكن، أما الجدلية فانها تتطلب المرور بحالة صراع يتولد عنها شىء جديد يختلف عن الضدين" (18) .
ومن الافت للنظر أن "الفكر العربى الحديث لم ينشغل بقضية مثلما انشغل بالتوفيق بين ثنائيات العقل والدين، والعلم والأيمان، والتراث والمعاصرة، والعدل والحرية، والرأسمالية والاشتراكية، والشرق والغرب. ولم تأت هذه النزعة التوفيقية من فراغ، فقد كانت الفلسفة التوفيقية حجر الاساس فيما شهدته الحضارة العربية الاسلامية من فكر كلامى، وفلسفة لدى المعتزلة ومدرسة الفلاسفة من الكندى (873-801) الى الفارابى (950-872) الى ابن سينا (1037-980) وابن طفيل (1185-1105) وابن رشد (1198-1126) ، ولو اسقطنا هذه الجهود التوفيقية من التراث الفكرى العربى لفقد هذا التراث اهم ركائزه واخصب عطاءاته" (19).
ومن منظور حضارى، فان "الحضارة العربية الاسلامية، هى الحضارة الأولى بين الحضارات التاريخية التى جمعت ووفقت بين العنصرالهلنستى الرومانى وبين العنصرالفارسى والهندى فى نسيج واحد، فكانت بهذا المعنى مشروعا توفيقيآ عالميآ بالغ الضخامة والامتداد، وهو مشروع جامع صبت فيه روافد تاريخية ودينية لحضارات الشرق القديم التى لم تخل هى الأخرى من محاولات توفيقية بين الديانات السامية والفلسفة اليونانية، فضلا عن العناصر المشرقية القديمة فى المنطقة من سومرية وبابلية وفرعونية وفينيقية بارثها الدينى والعلمى"(20).
ولا أحد يستطيع أن ينكر أن معادلة النهضة الحديثة أنما استمدت جذورها من طبيعة نشأة وتطور الحضارة العربية الإسلامية، ومع تبلور التعارض بين التراث العربي والتراث الوافد بدأ التفتيش داخل تراث الذات الإسلامي عن مبررات لقبول ما هو صالح من منتجات الغرب العقلية والعلمية خاصة منتجاته التكنولوجية، مع بعض التوجهات الاجتماعية والسياسية، وكان "التوفيق" هو محور انجاز التيار اًلاصلاحى الذي مثله جمال الدين الافغاني ومحمد عبده، كان منطق "الإصلاح" أنه "لا يفل الحديد إلا الحديد، وأن علينا أن نناهض الغرب ونقاومه مستعينين بأسلحته الفكرية والمادية، فالهدف الأساسي هو الحفاظ على الهوية" (21) .
ويرجع رفعت سلام أساس التوفيقية في الفكر العربي إلى أساس تبلور الطبقات في العصر الحديث، فلقد تولدت الرأسمالية في مصر من طبقة كبار ملاك الأراضي، وليس على أنقاض طبقة اقطاعية، فتحمل عبء البدء بالمشروعات الرأسمالية الصناعية والمالية عدد من كبار ملاك الأراضي، ولم يتخلوا عن أنشطتهم المتعلقة بالأرض لتزاوج وضعيتهم الاجتماعية، وكانت هذه "التوفيقية الطبقية" الأساس المحرك لنوع من "التوفيقية الفكرية والسياسية" (22) كان الدافع المسيطر في عملية التوفيق هو الدافع النفعي الذي حول التوفيق إلى "تلفيق" يحتفظ للطرفين بتمايزهما، ويكفي تدليلا على ذلك كتابات زكى نجيب محمود (1993-1905) وكذلك حسن حنفى حيث يسعى كلاهما لضم المتناقضات على أساس النافع والصالح ، إلا أن زكي نجيب محمود الذي سكت عن التراث الديني، ورفعه من دائرة النقد وادخله دائرة الشعور والوجدان للحفاظ على خصوصيته وتعاليه، فخلق ثنائية جديدة قوامها التراث فى مقابل العلم الغربي، وبذلك أعاد خطاب النهضة العربية إلى المربع الأول مربع التلفيق، وقد سقط هذا التوفيق وسر سقوطه هو استمرار احتفاظ كل طرف بتمايزه واستقلاليته عن الــطرف
الآخر، أى عدم الدخول فى تفاعل حقيقى ينتج عنه مركب جديد يتجاوز الطرفين، فمحاولة التوسط للوصول لحل وسطى يحفظ للطرفين وجودهما، يمنع تفاعل التناقضات والوصول لمركب جديد يحمل فى طياته أفضل ما فى الطرفين .
هناك أشكال أخرى يمتنع فيه الجدل عن الوصول لنتيجة المركب الجديد، سواء لدى التيارات المادية العلمانية، أو المثالية بالمعنى الفلسفى، فتيار الفكر المادى الميكانيكى نجد عنده انتفاء للجدل، حيث يكون طرف المعادلة مؤثر بشكل دائم، والطرف الآخر متأثر بشكل دائم دون وجود تفاعل بينهما، فحسين مروة يجعل الوعى انعكاس للوجود الاجتماعى دون وجود تأثير من الوعى على الوجود الاجتماعى، وكذلك الطيب تيزينى الذى يغفل العلاقة بين الفكر والواقع، بجعل الواقع الاجتماعى الطبقى هو الذى يصوغ الفكر دون تأثير للفكر على الواقع، كلاهما يجعلان العلاقة تسير فى إتجاه وحيد تأثير دائم من طرف وتأثر دائم من الطرف الآخر، هنا ينتفى الجدل (الديالكتيك) ويستمر الصراع دون توليد مركب جيد، نفس الأمر نجده عند حسن حنفى وأدونيس من مدخل مثالى عقائدى، حيث أنهما يجعلان الدين مؤثر وفاعل وحيد سواء للنهوض الحضار أو القطيعة المعرفية معه كشرط وحيد للنهوض الحضارى .
سادسا : علاقة التراث بالتكوين الاجتماعي والأساس الاقتصادي خلال تطور المجتمعات : يمكن تقسيم التيارات الفكرية التي أهتمت بدراسة التراث إلى تيارين رئيسيين، تيار سلفي محافظ ينطلق من موقف فلسفي مثالي، التراث لديه ظاهرة لا تاريخية مستقلة عن الوجود الاجتماعي وصراعاته، تكوين ديني بالأساس، وتيار مادي علماني يعتبر التراث ظاهرة اجتماعية مشروطه بأوضاع التكوين الاجتماعى وقواه وصراعاته، ينطلق حسين مروة من أن "أسلوب الإنتاج الاقطاعى المتداخل مع بقايا العبودية، والقطاع التجارى المتنامى إلى جانب الصناعات لحرفية، كانت محدد لطابع الوضع التاريخى العربى فى العصر الوسيط، فالدين يندمج فى الدولة المركزية يستخدمه الخليفة لدعم السلطة السياسية، رجال الدين يستدعون التراث لخدمة ودعم الدولة، من هنا كانت المبايعة بالخلافة أو عدم المبايعة تتم من خلال التراث الدينى" (23) .
استمر هذا الوضع خلال تطورات التاريخ الإسلامى الحاكم أو السلطان أو الملك أو الرئيس يشكل الوضع الطبقى والوضع الطبقى يصوغ الفكر ويوظفة لصالح النظام، فأصبح التراث يوظف لخدمة الطبقات ويدخل فى الصراعات لصالحها فى كل الأوقات .
سابعا : الموقف من التراث . قطيعة .. أم تواصل : "التراث ظاهرةٌ إنسانية نجدها في جميع المجتمعات، فلكلِّ أُمَّةٍ تراثها، كما أنَّ جميع الأُمم تشترك في تراثٍ إنسانيٍّ عامٍّ. ولهذا، فإنّ التراث يشمل التراث القومي ما هو حاضر فينا من ماضينا" والتراث الإنساني ما هو حاضر فينا من ماضي غيرنا" (24) ورغم هذا فالمعارك الفكرية بين المثقفين العرب لا تنقطع فالذين يقدِّسون التراث بقولهم لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوّلها، وبين أولئك الذين أضحى التراث في نظرهم مسؤولاً عن هزائم الأمة وانكساراتها، فرأوا ضرورة التخلُّص منه، لذلك يدعون للقطيعة مع التراث .
ولكن هل القطيعة مع التراث ممكنة فعلياً؟ اعتقد أن هناك صعوبة فى ذلك، حيث أننى اتفق مع كثير من المثقفين الذين يرون ان التكوين الاجتماعى لاينشأ فجأة، ولا يتم التحول الاجتماعي فجأة أو بمجرد الرغبة الفكرية، كما أنه من الصعب أن تحدث قطيعة على كل المستويات، فإنَّنا لا يمكننا، حتى لو أردنا، إحداث قطيعةٍ تامَّةٍ مع بعض عناصر التراث، مثل اللغة والقيم والعادات والتقاليد والمشاعر، لأنَّ هذه العناصر يستغرق نشوؤها وتكوُّنها حقباً تاريخيةَ طويلة، ولا يمكن إلغاؤها بشكل تام، فاللغة، مثلاً، وهي أهمُّ عناصر التراث، لأنَّها وسيلتنا الأساسية في نقل المعرفة وتراكمها من جيل إلى جيل، لا يمكن القطيعة معها واستبدالها بلغةٍ أُخرى دون حدوث صعوباتٍ خطيرةٍ على مستوى التفكير،والعادات والتقاليد لها رسوخ حيث تبقى طويلا حتى بعد تغيير أسباب ودوافع الارتباط بها .
خلصنا في القضايا المنهجيه السابقة إلى تبنى موقف واضح، ففى حدود التراث نحن مع التراث بمعناه الإنسانى الشامل، وفى قضية تصنيف التراث سوف نركز على الاتجاهات العملية التى لم تأخذ حقها من البحث والدراسة، وفى قضية توظيف التراث سوف نهتم بالتوظيف السلبى وعلاقته بالواقع الراهن .
كما يمكن تقسيم التراث من ناحية التعامل الحياتى إلى تيارات فكرية ذات طابع ثقافى، وتيارات عملية ذات طابع برجماتى .
• التيارات الفكرية للبحث في التراث : يمكن التمييز بين تيارين على أساس منهجى الأول : ينطلق من موقف مثالى بالمعنى الفلسفى، حيث التراث ظاهرة "لاتاريخية" مستقلة عن الوجود الاجتماعي وقواه وصراعاته، التراث عندهم يعود إلى مصدر ديني . الثاني : ينطلق من موقف مادى، حيث التراث ظاهرة اجتماعية، مشروطة بالتكوين الاجتماعى وقواه وصراعاته .
كأمثلة للتيار المثالى يقدم الشاعر السورى فى كتابه "الثابت والمتحول" مشروعا فكريا يقوم على أساس أن الثقافة ظاهرة مستقلة، وأن "الذهنية العربية منقسمة إلى : إتباعية، إبداعية، الحياة العربية توجهها أربعة خصائص : اللاهوتية، الماضوية، الفصل بين المعنى والكلام، التناقض مع الحداثة" (25) ، الدين هو الفاعل الوحيد، والثقافة مجرد انعكاس، بهذا ينتفى الجدل وتصبح الفاعلية أحادية في اتجاه واحد، فالدين جوهر لا يتغير، التغير يصيب الأعراض عندما تفلت من الجوهر، النتيجة النهائية . لن تنهض الحياة العربية ويبدع الإنسان العربي، إلا بعد هدم الدين فهو الشرط الأول للتقدم .
كما قدم حسن حنفى مشروعا فكريا ضمن كتابه "التراث والتجديد" أساسه أن "كل الحضارات المعروفة نشأت من مركز واحد هو الدين والتراث العربى نشأ من مركز واحد هو القرآن والسنة، فلو لم يكن هناك قرأن لما قام التراث ولما نشأت
الحضارة الإسلامية" (26) لذلك فأن التجديد عنده يقوم على "اعادة تفسير التراث طبقا لحاجات العصر" (ص " (27)، هكذا فأن حسن حنفي يتفق مع أدونيس في المقدمات بأن الدين بداية للحضارة والتراث، ولكنه ينتهي بالتناقض معه بأن تجديد الدين شرط ضرورى لأى نهوض .
أما عن التيار الثاني المادى فقد قدم حسين مروة فى كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية" مشروعا ينطلق من أن الوعى الاجتماعي انعكاس للبنية الاجتماعية (28)، مستندا لمبدأ الحتمية، فى مادية ميكانيكية منافيه للجدل، حيث تكون الثقافة انعكاسا سلبيا مفعولا به، دون إمكانية تحولها إلى فاعل .
يتفق معه الطيب تيزينى فى كتابه " من التراث إلى الثورة" حيث يرى أن " الواقع الاجتماعى الطبقى، هو الذى يصوغ الوعى الاجتماعى" (29)، مغفلا العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع، فبرغم الدور الذى يلعبه الواقع الاجتماعى في تشكيل الوعى، إلا أنه ليس الدور الوحيد، فالوعى يساهم في تغيير الواقع الاجتماعي، فالعلاقة الصحيحة تكون تأثير وتأثر بين العنصرين .
وعلى تخوم نفس الاتجاه المادى يقدم محمد عابد الجابرى مشروعا فكريا يقوم على أن التراث، هو كل ما أنجزته الحضارة العربية، يركز مفهومة على إعادة ترتيب العلاقة بين التراث والحداثة، ولكنه ينحاز للحداثة، مهمتنا التحرر من الفهم التراثى للتراث، بسبب هيمنة نماذج غربية عند الماركسيين والليبراليين، أو هيمنة النماذج السلفية، التى تحكمت طويلا بالعقل العربى، وتخليص التراث من طابعه المقدس، ووضعه فى إطاره الحقيقى، أى إطار النسبية والتاريخية، البديل الذى يطرحه إحداث قطيعة ابستمولوجية مع بنية العقل العربي، وتحويل العرب من كائنات تراثية إلى كائنات لها تراث(30) .
أما نصر حامد أبوزيد فأنه يرى أن مشروع النهضة "يقوم على التوفيق بين التراث العربى الإسلامى، والتراث الغربى، ولكن جذر التوفيق فى التراث الإسلامى يرجع إلى انتصار الشافعى لتكريس النقل ضد العقل بتأسيس سلطة النصوص كمرجعية للعقل، واستمر الوضع كذلك حتى عصر النهضة الحديثة بتياراتها المختلفة السلفية والليبرالية، فمحمد عبده تارجح بين المعتزلة والاشاعرة وبقى التلفيق والازدواجية عنوان فكره الإصلاحى، وجنح تلميذه رشيد رضا إلى النقل على حساب العقل، ذلك بسبب ازدواجية التكوين الطبقى في مصر، لذلك كان الدافع لعملية التوفيق نفعى، تحول إلى تلفيق، يحفظ الطرفين، إذا سقط طرف احتفظ الطرف الأخر بكل قوته، ولكن مانلمسه الآن وجود الطرفين، فالبلدان العربية تشهد تبعية للغرب اقتصاديا وسياسيا وفكريا، وفي نفس الوقت انتصار السلفية الرجعية من جهة أخرى، ورغم التناقض الظاهرى بين الطرفين فإن كلا منهما يفضى إلى الآخر، تفضى التبعية إلى الديكتاتورية والاستغلال ومحاصرة الإنسان باسم التغريب والحداثة، وتفضى السلفية إلى نفس النتائج ولكن باسم الدين والتراث وتحقيق الهوية والخصوصية" (31) .
ويتجه هشام غضيب أستاذ الفيزياء الأردنى إلى رؤية أكثر ماركسية، ما يريده من التراث يختلف جذريا، فإذا كانت التيارات السلفية تقدم نفسها كممثل شرعي للتراث، والليبرالية كممثل للحداثة، فإن الهدف الحقيقى للسلفية هو تأبيد الوضع القائم وتكريس التبعية للماضى، وما يهم الليبرالية هو التخلص من التراث، لذلك فإنه، يرفض هذه الإشكالية، يعتبرها زائفة، لذلك فالمشكلة المنهجية تكمن في المنطلقات وليس اجتهادات المفكرين العرب، فكيف يمكن إحياء التراث قبل معرفة شروط هذا الإحياء؟، هل تتوفر لدينا الوسائل والآليات الكفيلة بتحقيق ذلك؟ مجمل هذه الشروط مغيبة لغياب ثورة ثقافية عربية، ثورة تغير كيفيا البنى الاجتماعية والاقتصادية، أضافة إلى مهمة كبيرة الأهمية هى ممارسة نقد الذات فى الفكر العربى، كمقدمة لإمتلاك القدرة على نقد المنهجيات المتبعة في دراسة
التراث، سواء كانت المنهجيات السلفية، أو المنهجيات الغربية، للتخلص من الصور المغلوطة لتوظيف التراث فى معاركه الراهنة (32) .
نفس الأمر نجده عند فهمي جدعان (1939-) استاذ الفلسفة في الجامعة الاردنية، الذى يعتبر التراث هو الماضي في حياتنا المعاصرة، اكتسب هيبة وقداسة ما يجعله أما محركاً أو عائقاً للحاضر والمستقبل. فكرنا المعاصر تراثياً يكرر ذاته، القداسة تعود لربط النص الإلهى بالمنجز الإنسانى، يرفض آليات الانتقاء والإحياء والاستلهام، وهي الآليات التى توظف التراث خدمة لأغراضها الذاتية، كما يرفض الاتجاه السلفي الذي يعمل على إحياء التراث، ليصبح محركاً للواقع، مشكلة التراث لديه أنه في علاقة بالعامل السياسى والاجتماعى، لذلك يطالب بقطيعة إيجابية بالتخلى عن العناصر الميتة من التراث، وتوظيف العناصر الإيجابة لتجاوز حاضر التخلف في جميع القطاعات وعلى جميع المستويات(33).
حرصنا فى هذا الأستعراض على توضيح أن أغلب المفكرين العرب أهتموا بالقضايا الفكرية بدرجة أكبر من النظر إلى ما يحدث فى الواقع من وجود جماعات وفرق لا يهمها الأنشغال بالخلافات الفكرية، ولكنها تركز أهتمامها على توظيف أكثر أشكال التراث تخلفا للسيطرة على الواقع .
• التيارات العملية في توظيف التراث : فى مقابل التيارات الفكرية تشكلت تيارات واقعية عملية لم تهتم بالخلافات النظرية، ولكنها ركزت جهودها على توظيف التراث بإنتقائية لتحقيق أهداف برجماتية محددة، لإعتبارات إجرائية دعونا نتفق على مصطلح لهذه التيارات، هناك من يطلق عليها "الأصولية الإسلامية" ولكن لأن مصدر هذا الأصطلاح غربى، كما أنه مصطلح عام قد يضم أصوليات متعددة دينية وعقائدية وعلمية، فأننا سننحيه جانبا، وسوف نطلق على هذه التيارات مسمى "السلفية الإسلامية" آملا فى أن يحظى بقبول أكبر، ورغم اعترافنا بأن هناك تصنيفات متعددة لهذه التيارات نحترم وجودها عند الدارسين، ولكننا نرى أن كل الفاعلين فى الحقل الإسلامى من جماعات وفرق وجمعيات أهلية واحزاب ومراكز بحوث وأجهزة دعاية وإعلام معتدلين أومتطرفين خرجوا من منبع واحد بالانشقاق أو التمرد أو التخفى، ولهم هدف مشترك وان اختلفوا فى وسائل وآليات تحقيق هذا الهدف، كما سيتضح فى السياق، وعلينا أن نعترف بأنه لكي تتحرر من شيء ينبغي أن تكشف عن جذره الأول، أي كيف تشكل لأول مرة، فمن المعلوم أن الشيء يخفي أصله لكي يقدم نفسه بصورة مثالية، يخفى عوراته وتناقضاته، هذا ما تفعله كافة العقائد و التصورات البرجماتية في جميع الأديان.
فى رسالة دكتوراه تحت عنوان "الدين والصراع الاجتماعى فى مصر . 1985-1970" قدم عبد اللـه شلبى (1953-) ثمانية مصادر شكلت على صعيد الفكر والممارسة، السلطات المرجعية للجماعات والتنظيمات الإسلامية المعاصرة (تنظيم الجهاد، والجماعة الإسلامية) هى : القرآن، السنة، سيرة الصحابة، تراث الخوارج والمدرسة الحنبلية، تراث الأخوان المسلمين وأطروحات الخمينى، واخيرا فتاوى وأحكام العلماء المسلمين المعاصرين (34)، ونظرا لأننا نهتم بالفكر الدينى، وليس الدين فى جوهرة المتمثل في مجموعة النصوص المقدسة، فيجب التنويه على أننا نركز على الفكر الدينى الذى لا يخرج عن كونه الاجتهادات البشرية لفهم تلك النصوص .
يمثل القرآن - بالاحرى فهم هذه التيارات للقرآن - قاسما مشتركا ونظاما مرجعيا لفكريات الجماعات الإسلامية، ففى رأيهم القرآن كتاب حياة احتوى كل ما ينبغى على الإنسان معرفته، والسنة النبوية أى كل ما صدر عن النبى من قول وفعل وتقرير،كذلك حياة النبى كما فهمها الصحابة تعتبر المرجع الثالث(35).
يأتى بعد ذلك التراث الإسلامى، المتمثل في المدرسة الحنبلية كما تعرضها كتابات ابن تيمية (1328-1263)وتلميذه ابن قيم الجوزية (1350-1292) من هذا التراث صاغت الجماعات إجابات لكل أسئلة الواقع، وأصبحت معدة سلفا من أزمان غابرة، تتحدد قيمة ابن تيمية (1382-1263) من خلال قضيتين : الأولى أنه دعا إلى إحداث قطيعة مع التراث اليونانى الوثني والذى غلبت فيه المادة على الروح، ترتب على ذلك حذف الفلسفة الإسلامية وكل ما يؤدى إلى إعمال العقل في فهم النصوص، القضية الثانية هى تكفير الحكام وجعل قتالهم واجب شرعى إذا ما خرجوا عن دين اللـه (36).
كما يمثل تراث الاخوان المسلمين أحد المكونات الأساسية لكل هذه الجماعات، بل يمكننا تقرير أن كلا من الأخوان وهذه التنظيمات يحملان ذات الأفكار، فقادة التنظيمات ومنظروها كانوا فى الغالب ذوى أصول اخوانية، وتم تكوينهم وتدريبهم وصياغة مفاهيمهم على يد كوادر الاخوان فى نهاية الستنينيات من القرن الماضى .
فحسن البنا (1949-1906) قدم فى رسالة المؤتمر الخامس صياغة جديدة لمفهوم الجاهلية، تقوم على رفض الحضارة الغربية بإعتبارها كافرة، والتعليم الحديث لأنه يعلم أبناء المسلمين أفكار إلحادية وتقاليد إباحية، كما أشار البنا إلى ضرورة تمييز اتباع جماعة الاخوان باسماء وازياء مغايرة لما هو محيط بهم من جاهلية، وأكد أن الإسلام دين ودولة، عبادة وقيادة، مصحف وسيف، والحكومة ركن من أركان الدين، والمسلم الذى يترك السياسة للعجزة والآثمين لا يسمى مسلما، فحقيقة الإسلام أنه جهاد وعمل، كما قدم صياغة لمرحلتى الاستضعاف والتمكين، والمتابع لأشكال الممارسة السياسية لجماعات الإسلام يلحظ أنها انتهجت سياسات المراوغة والمناورات، واحيانا التقية فى مراحل الاستضعاف، سعيا وراء الاستقواء والتمكين عند الوصول على السلطة (37).
كما اعتمد سيد قطب (1966-1906) على أفكار ابن تيمية وابن قيم الجوزية، ثم ابى الأعلى المودودى، وقدم منهج الحاكمية وتجهيل المجتمع، ومن قطب أخذت قيادة التنظيمات، من صالح سرية، وشكرى مصطفى (1978-1942) وعبد السلام فرج (1954 - 1982) وصولا إلى عمر عبد الرحمن (-1938) كانت كتب قطب خاصة كتابيه "فى ظلال القرآن" و"معالم فى الطريق” لهما دورا فاعلا فى التحولات الفكرية أدى لتغيير خريطةالقوى الساسية الإسلامية، فقد صاغ أوضاع الجاهلية المعاصرة، عبر منطلقين رئيسيين : الأول عقائدى بإبراز القوة المطلقة للإسلام، والثانى مشروع انقلابى لتغيير خارطة العالم، بالسعى المتواصل بالجهاد والكفاح المسلح فى سبيل إقامة نظام الحق، فإعتبر الجهاد الركن السادس للإسلام، فلا مساومة مع المجتمع الجاهلى بحكامه ومحكوميه، فحكمهم لابد وأن ينهدم من قواعده لتأسيس بناء جديد (38) .
كما قدم الخومينى (1989-1902) منهج انقلابى، فتغيير المجتمعات الإسلامية ممكن عن طريق قلب أنظمة الحكم، والفقيه هو الذى يقاوم التسلط والطغيان، ويوعى الناس، ويقود الثورة، فى كتابه "الحكومة الإسلامية" رفض مقولة عزلة الإسلام وانعدام صلته بتنظيم الحياة الاجتماعية، فكل ذلك من صنع الاستعمار وعملائه الذين أرادوا أن يكون الإسلام مجرد عبادات لا معاملات، وأخلاقا فردية لا نظما اجتماعية، فى حين أن آيات المجتمع فى القرآن تزيد اضعافا مضاعفة عن آيات العبادات والأخلاق، وثمة قواعد وشروط مبينة فى القرآن والسنة تفرض وجوب قيام حكومة إسلامية لتطبيق أحكام الإسلام، وطاعة الجميع لهذه الحكومة واجبة لأنها من طاعة اللـه، شمولية الإسلام وكماله وصلاحيته لكل عصر، والغرب يعمه الانحلال وليس لديهم شئ لنتعلمه منهم (39) .
بعد تشخيص الواقع قامت التنظيمات بمخاصمة الواقع وهجره، والانقلاب عليه لتدميره، فجوهر الإيمان معناه وحدة الخالق للكون هوالمتصرف فى كل شئونه وصاحب الحق الوحيد فى التشريع، وعلى البشر أن يسيروا وفق ما شرعه اللـه وإلا فهم كفار، وكل من نصب نفسه للتشريع فقد نصب نفسه إلها، وكل من رضى بهذه التشريعات فقد عبد ربا غير اللـه .
وثائق هذه التيارات تقسم المجتمعات إلى فئتين : المسلمين التابعين لهم فئة الحق وحزب اللـه، والخارجين عن إسلامهم وغير المؤمنين به فئة الباطل وحزب الشيطان، لا سبيل للمصالحة بينهما، ولا بقاء لأى منهما إلا بالقضاء على الآخر، من ثم فالمحور الأساسى المحرك للوجود الاجتماعى هو الصراع العقائدى، المسألة عندهم، كفر فى مقابل الإيمان، وجاهلية فى مقابل الإسلام، ولذا لزم بالضرورة إقامة حاكمية اللـه فى الأرض، فالدار التى يهيمن عليها الإسلام هى وحدها دار السلام، وغيرها تكون دار حرب، ويتبع ذلك إذا حال بين المسلمين وبين إقامة شرع اللـه، أى قوة أو حكم أو دولة، فالمسلمون مكلفون بتحطيم هذا الحائل ودفعه بالقوة والسلاح، مهمتنا تعبيد الناس لربهم، ومن أبى واستكبر وقفنا له مجاهدين، فإما أن يقبل ويخضع لشريعة اللـه، وأما يتركو الأرض لمن هو أهل لنصرة الدين وقتال المشركين (40) .

مرتكزات أساسية : تنطلق الجماعات الجهادية فى تعاملها مع الدولة والمجتمع على بعض المرتكزات الأساسية التى يمكن اختصارها فيما يلى : -
1. إقامةالخلافة الإسلامية باعتبارها من وجه نظرهم الحل الأوحد والأمثل للتخلص من الظلم والتردى الخلقى، فهو النظام السياسى الذى بإمكانه أن يضوى تحت لوائه كل شعوب الأرض، وطالما الجاهلية المعاصرة لا تتمثل فى نظريات، وأنما في تجمعات ودول ونظم، فإن إلغاء هذه الجاهلية لا يتحقق إلا بإقامة تجمع حركى يملك قوة تنظيمية ومادية، وإعداد سلاح لخلع الحكام العلمانين الكفار، لذلك فقد قر الأمر بين هذه التنظيمات على ضرورة قيام جماعات تواجه المجتمعات الجاهلية، وتفرض حكم الإسلام، وأصبح ذلك قاسما مشتركا لكل التيارات والفصائل في الحركة الإسلامية الجهادية .
2. الجهاد ضد إسرائيل : فى رأى هذه التيارات، يرتبط فى الأساس بوجود الدولة الإسلامية، إذ لا يمكن القيام بالجهاد ضد إسرائيل إلا تحت راية دولة تطبق شريعة الإسلام، وعليه فالجهاد ضدهم فى الوقت الحاضر أمر غير وارد، بل مؤجل لحين قيام الدولة الإسلامية، وعلى ذلك فقتال العدو القريب وهو النظام العلمانى الكافر مقدم على قتال العدو البعيد أى إسرائيل هذا ما دعى مرسى ليقوم بدعوة حماس لوقف المقاومة والرد على اعتداءات إسرائيل فوافقت حماس فورا .
3. الديمقراطية : من وجه نظرهم تسمح بوصول الضالين فكرياً أو العلمانيين للسلطة ويرون أن الديمقراطية تجعل البشرد يصدون عن أحكام الله ويرون أن نظام الحكم يجب أن يكون بالشورى للذين هم أهل العلم والأذكياء، وأهل العقد والحل، الحاكم الحقيقى هو الخليفة الذى يختار بالبيعة، الانتخابات الدورية، وتداول السلطة، لا وجود لها فى شرعهم، قد يدخلون الانتخابات لمرة واحدة لإستيلائهم على السلطة .
4. الولاء للأمير : العلاقة بين الأفراد فى الجماعات الجهادية تقوم على الولاء للأمير ، والسمع والطاعة، من الأعلى للأدنى، مما يلغى قدرة الأفراد على استعمال العقل، وحرية الأرادة، ويعطل المنهج العلمى والحوار، وإمكانية الوصول للحقيقة بمعناها النسبى .
5. تحويل الانتماء من الوطن إلى العقيدة الدينية : لا وجود عندهم لمعنى الوطن كأرض وشعب ونظام دولة، فالإنتماء للإسلام هو الأساس، المسلم الأيرانى والتركى أهم من أخوة الوطن، الأمر الذي يؤدي إلى احتقان العلاقة بين أبناء الديانات المتعددة في الوطن الواحد فتحل العصبية محل التسامح ويتحول الاحتقان إلى صراع دائم ومن ثم تكرار الفتن الطائفية، لا وجود لمبدأ المساواة وروح المواطنة، ولن يصبح الدين لله والوطن للجميع .
6. الموقف من المرأة : رغم الدعاوى المتسامحة التى ظهرت فى برامجهم الحزبية والانتخابية من المرأة وتقدير دورها والمطالبة بمساواتها مع الرجل فى العمل والأجر، إلا أن موقفهم الحقيقى يرى أن جسم المرأة عورة، وصوتها عورة، ومكانها الطبيعى تربية الأطفال بالمنزل، القدر المتاح لها من التعليم لا يتجاوز تعلم القرأءة والكتابة، لا يجوز لها الأشتغال بالأمور العامة أو تولى المناصب العليا، وبهذا يحرمون المجتمع من نصفه الذى يلعب الدور الأساسي فى تكوين مجتمع سليم ومتكامل .
7. الموقف من الدولة والمجتمع : أظهرت وثائقهم وكذلك ممارساتهم العملية أنهم يكفرون الدولة غير الإسلامية من وجه نظرهم، ويكفرون أفراد المجتمع غير المنتميين لهم، ويعملون بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة على هدم كل ذلك، ولكنهم يتخذون موقف الاستكانة والتخفى والتقية فى أوقات الضعف، والتمكين والأستحواز فى فترات القوة، هذا ما ظهر منهم بكل وضوح خلال السنوات الثلاث بعد ثورة 25 يناير، والذى تجسد فى موقفهم المعادى للتقدم والتنمية، وإمكانية المساهمة فى بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة .
لذلك فأننى اعتبرهم ظاهرة شاذة فى سياق التطور التاريخى العربى، فطوال مراحل التاريخ ظهرت جماعات ضد التقدم وتشكلت تنظيمات تحاول هدم الدولة والمجتمع، فالخوارج والقرامطة وثورة الزنج وحركة الحشاشين تم القضاء عليها، والتتار والمغول لم يعمروا فى التاريخ، والنازية والفاشية تم القضاء عليها وأصبحت مجرد وصمة عار يتخفى من يحاول الأشارة إليها .
الأمر أذن يحتاج لعديد من الدراسات والأبحاث للتصدى لظاهرة التوظيف السلبى للتراث، من خلال تركيز جهود العلماء والمفكرين فى كل التخصصات لدراسة أسباب ودوافع هذه التيارات وكيفية التعامل معها بالأساليب العلمية والقانونية كى نلحق بمسار التقدم والتنمية وتحقيق الأمن والأمان للمجتمع .

المراجع
(1) أمير اسكندر. مواقف من التراث أم من الصراع الاجتماعي ؟ مجلة المنار . العدد السابع يوليو 1985 .
(2) كارل بوبر . أسطورة الإطار.في دفاع عن العلم والعقلانية . ترجمة يمنى طريف الخولى . عالم المعرفة 292 الكويت أبريل/مايو 2003 صـ 10 .
(3) رفعت سلام.بحثا عن التراث. نظرة نقدية منهجية.الهيئة المصرية العامة للكتاب.مكتبة الأسرة 2006 صـ 19 .
(4) المصدر السابق صـ 22
(5) حسن حنفى.التراث والتجديد . المركز العربى للبحث والترجمة ز الطبعة الأولى1980 صـ177 .
(6) شوقى ضيف. فصول مجلة النقد الأدبى.العدد الأول.الهيئة المصرية العامة للكتاب 1980 صـ 9
(7) جورج طرابيشى. مذبحة التراث فى الثقافة العربية المعاصرة.دار الساقى.لندن 1993 . صـ 43 .
(8) مراد وهبه . جرثومة التخلف . الهيئة المصرية العامة للكتاب . مكتبة الأسرة 1998 صـ 96,95 .
(9) مرجع سابق . فصول صـ 45 .
(10) يوسف زيدان . لماذا التراث . الموقع الإلكترونى .
(11) شوقى ضيف . مرجع سابق . فصول . وحدة التراث صـ 14 .
(12) عزت قرنى . ليست الأعمال بالنيات . مرج سابق . فصول ً. صـ 268 .
(13) صلاح عبد الصبور . مجلة فصول . ندوة العدد صـ 41
(14) نصيرة مصابحية . موقع الكترونى "ديوان أصدقاء المغرب" موقف الجابرى وأركون وأبوزيد من التراث .
(15) مدونة زهير توفيق . نظرية التراث عند عابد الجابرى .
(16) رفعت سلام مرجع سابق صـ 291
(17) نصر حامد أبو زيد. مشروع النهضة بين التوفيق والتلفيق. مجلة القاهرة. العدد 119 اكتوبر 1992 صـ 18
(18,19) محمد جابر الأنصارى . الفكر العربي وصراع الأضداد . المؤسسة العربية للدراسات والنشر . الطبعة الأولي 1996 صـ16 و17 .
(20) جابر الأنصارى . مرجع سابق صـ 18
(21) أبو زيد مجلة القاهرة صـ 20
(22) رفعت سلام .مصدر سابق صـ 314
(23) رفعت سلام .مصدر سابق صـ 164 .
(24) علي القاسمي : مفهوم القطيعة مع التراث في فكر الجابري . صحيفة حريات موقع الكترونى .
(25) أدونيس : الثابت والمتحول 1. الأصول, الطبعة الأولى دار العودة، بيروت 1974 صـ 24
(26) حسن حنفى : التراث والتجديد.الطبعة الأولى المركز العربى للبحث والنشر 1980 صـ177
(27) المصدر السابق صـ 9
(28) رفعت سلام . مصدر سابق صـ 179
(29) المصدر السابق صـ 189
(30) مدونة زهير توفيق : نظرية التراث عند محمد عابد الجابرى .
(31) نصر حامد أبوزيد : مصدر سابق . مجلة القاهرة صـ 27
(32) مدونة زهير توفيق 25 مارس، 2012
(33) مدونة زهير توفيق 24 مارس، 2012
(34) د.عبد اللـه شلبى : الدين والصراع الاجتماعى فى مصر. كتاب الأهالى رقم 67 أغسطس 2000 صـ 148
(35) المصدر السابق صـ 149
(36) المصدر السابق ص
(37) المصدر السابق صـ 150
(38) المصدر السابق صـ 151
(39) نفس المصدر السابق صـ 152
40)) المصدر السابق صـ 154



#فتحى_سيد_فرج (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القواعد المنهجية للبحث في التراث 3 من 3
- القواعد المنهجية للبحث في التراث 2من 3
- القواعد المنهجية للبحث في التراث 1 من 3
- ظاهرة التحرش..انتكاك لجسد مصر
- العقل الأخلاقي العربي
- قراءة في تاريخ الأحزاب المصرية
- ذكري إنتفاضة 18/19 يناير 77
- كيفية اكتشاف ورعاية المبدعين؟
- استطلاع الرأي الثالث
- تقييم انتخابات حزب الجبهة الديمقراطية
- النانو تكنولوجيا .. علم وصناعة القرن الجديد
- وداعا محمد عابد الجابري
- رأس المال الاجتماعي مدخل حديث للتنمية
- المواطنة ممارسة
- العلم وشروط النهضة
- هدم العقارت كارثة للملاك الفقراء وإهدار للثروة القومية في مص ...
- العالم بدون كلود ليفي شتراوس
- الطرق إلى الحداثة
- لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 2 من 3
- لماذا لم يكتمل تشكل الدولة الحديثة في مصر ؟ 1 من 3


المزيد.....




- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- بسبب التحيز لإسرائيل.. محرر يهودي يستقيل من عمله في الإذاعة ...
- لوموند: المسلمون الفرنسيون وإكراهات الرحيل عن الوطن
- تُلّقب بـ-السلالم إلى الجنة-.. إزالة معلم جذب شهير في هاواي ...
- المقاومة الإسلامية تستهدف تحركات الاحتلال في موقعي المالكية ...
- مكتب التحقيقات الفيدرالي: جرائم الكراهية ضد اليهود تضاعفت ثل ...
- قناة أمريكية: إسرائيل لن توجه ضربتها الانتقامية لإيران قبل ع ...
- وفاة السوري مُطعم زوار المسجد النبوي بالمجان لـ40 عاما
- نزلها على جهازك.. استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 20 ...
- سلي أولادك وعلمهم دينهم.. تردد قناة طيور الجنة على نايل سات ...


المزيد.....

- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل
- جمل أم حبل وثقب إبرة أم باب / جدو جبريل
- سورة الكهف كلب أم ملاك / جدو دبريل
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ... / عبد المجيد حمدان
- جيوسياسة الانقسامات الدينية / مرزوق الحلالي
- خطة الله / ضو ابو السعود


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - فتحى سيد فرج - القواعد المنهجية للبحث في التراث (الدراسة كاملة بالمراجع)